لم يتم العثور على أي نتائج

    المظفار و الشرسة (4)

    "الحلقة (7) -كل عضلة تئن- :

    تسمرت ""هنا"" بمكانها لدي سماعها الصوت الرجولي الخشن المنبعث من خلفها ..
    و بفعل عصبيتها المشتعلة ، إستدارت بقوة ، و تدفقت منها كلمات الغضب ، فصرخت فيه:
    -نعم انت كمان ! سيادتك جاي تكمل حلقة الوصل القذرة مع زميلك الحيوان ؟ فرحانين انتوا الاتنين بالبدل اللي لابسينها و بتفتروا علي خلق الله ! بس اذا كانوا الغلابة بيسكتوا عليكوا عشان بترعبوهم فأنا مش هسكت و مش هتقدروا تعملولي حاجة ، امثالكوا اصلا مايستهلوش ينولوا شرف الوظيفة اللي هدفها حماية الناس و تأمينهم بدل ترهيبهم.
    كان طولها خمسة أقدام و سبع إنشات ، لكنها إضطرت لأن ترفع رأسها كي تنظر إلي وجه الضابط الذي كان طوله ينوف علي ستة أقدام و إنشين إثنين ..
    كانت تقاسيمه القوية مكسوة بتعبير جدي مذهول ، إلا أن عينيه العسليتين أعطتا إنطباعا بأنه كان يبتسم لها بإعجاب ..
    كان قلبها يخفق في إيقاع سريع جراء نظراته القوية المتفحصة التي أربكتها ، لكنها عادت ترسم علي ملامحها تعابير الغضب و الإنفعال ، بينما رفع أحد حاجبيه ساخرا و قال:
    -بعد الخطبة العنيفة دي ماعتقدش ان في حد هنا قدر يضايقك او يأذيكي !
    شمخت برأسها متحدية و هي تقول:
    -محدش اصلا يقدر يضايقني و لا يأذيني.
    إبتسم بنعومة قائلا:
    -لا واضح.
    صوته المنخفض و الأجش قليلا كان فيه رنة تبهج السمع ، لكنها لم تلحظها لشدة سخطها عليه ..
    و هنا هب أمين الشرطة من فوق مقعده ، ثم رحب بالضابط الواقف أمامه في حفاوة بالغة:
    -اهلا اهلا يا سيادة المقدم ، نورتنا يا إياد بيه.
    ""إياد راشد"" .. أحد أهم رجال - وزارة الدفاع العام - التابعة لجهاز مباحث أمن الدولة
    و هو أيضا واحد من أكفأ الضباط الحاصلين علي أعلي مستوي من التدريب و الإعداد نسبة لقيامه بعمليات مكافحة الإرهاب ، و توفير الحماية لكبار الشخصيات ..
    يُعد ""إياد راشد"" من أفضل رجال القوات الخاصة نظرا لذكاؤه و شجاعته و قدرته علي التعامل مع شتي التهديدات ، و قد إكتسب شهرة عالية بين كافة أجهزة الأمن بعد الكثير من العمليات الخاصة و السرية التي قام بها ، فمهمته الأساسية هي مكافحة الإرهاب ، و القيام بالعمليات الخاصة .. :
    -معلش يا باشا ، ماضيقش نفسك بالناس اللي هنا ، احنا بنعرف نتصرف معاهم كويس.
    قال أمين الشرطة تلك الجملة في إعتذار مرتبك ، فرمقه ""إياد"" بنظرة حادة قائلا:
    -يعني ايه مش فاهم ؟ بتتصرفوا معاهم كويس ازاي يعني ؟؟!
    تلعثم الأخير مضطربا ، فعاد يقول بتوتر:
    -يا باشا اقصد اقول اننا بنقدر نحل المشاكل البسيطة وديا ، و المشاكل الكبيرة مش من اختصاصنا زي ما حضرتك عارف ، احنا بنتحفظ علي المتهمين اللي هيترحلوا علي النيابة و مابنخليش حد لا يشوفهم و لا يقابلهم ، و الانسة دي و والدتها جايبين اكل لمتهمة محجوزة هنا و قال ايه عايزني ادخلهولها !
    -دخل الاكل.
    هتف ""إياد"" بصرامة ، فتمتم الأمين:
    -نعم !!
    أعاد ""إياد"" قوله مجددا و لكن بحدة زائدة:
    -قلت دخل الاكل ، المحبوسين هنا بني ادميين بردو ، و الخدمة هنا مش ( 7 Stars ) يعني لا في اكل و لا شرب كويسين .. نفذ الامر يا امين.
    لفظ جملته الأخيرة بلهجة قوية أدي الأمين علي إثرها مسرعا التحية العسكرية بآلية قائلا:
    -تمام يافندم .. حاضر هدخله بعد ما يتفتش.
    في تلك اللحظة ، نظرتا ""هنا"" و ""قوت القلوب"" إلي بعضهما البعض في دهشة بالغة ، بينما تجاهلهما ""إياد""بقوله للأمين:
    -انا جيت بقوة من الداخلية عشان اخد سعيد الغزولي المشتبه بيه في اخر عملية ارهابية.
    -عارف يافندم ، هو موجود عندنا تحت في الحجز من ساعة ما جه ، دقيقة هانزل بنفسي مع العساكر اجبهولك.
    و إنطلق الأمين يلبي أمر ""أياد"" بطواعية ..
    فيما تنحنحت ""قوت القلوب"" و توجهت نحو ""أياد"" و شكرته .. فمنحها إبتسامة هادئة .. خفضت ""قوت القلوب"" رأسها و هي تشق طريقها إلي خارج القسم ..
    مشت ""هنا"" في أعقاب أمها ، و بينما هي تمر إلي جوار ""إياد"" الذي رمقها بطرف عينه سرت بأوصالها رعشة طفيفة لم يسبق أن أعترتها من قبل قط ..
    تجاهلت تلك المشاعر الغريبة و أستمرت في تعقب خطوات أمها فعل كل لن تراه بعد الأن أبدا ..

    ***************

    غدت عينا ""دينار"" حزينتين منذ فترة ، تحديدا منذ غياب زوجها عن المنزل ..
    و بينما كانت تجلس فوق آريكة وثيرة بقاعة الجلوس الفسيحة المترفة تشتغل الدانتيلا قرب مدفأة حطب مصنوعة من الرخام ، ولج ""مروان"" فجأة و علي ثغره إبتسامة بسيطة ..
    رمقته أمه بنظرات محتقنة ، ثم عادت تركز إهتمامها علي ما تفعله .. كانت ""رضوي"" أيضا جالسة إلي جوار والدتها ، تمر بأصابعها في حذر علي الألوان الباهتة لذلك البساط الحريري القديم الذي زينته رسوم لطاووس مبهر الجمال ..
    و بمرح جلس ""مروان"" إلي جانب أمه واضعا ساق فوق الأخري قائلا:
    -مساء الفل يا دودي ، وحشتيني !
    لم تجب ""دينار"" علي عبارته التحببية ، و تابعت شغلها ، فعقد ""مروان"" حاجبيه في تذمر مصطنع و هو يقول:
    -الله ! مابترديش عليا يا دودي ؟ بقي كده ؟؟!
    ردت ""دينار"" في حدة قائلة:
    -مالكش دعوة بيا لو سمحت.
    إبتسم ""مروان"" بخفة ، ثم مال عليها و هو يقول مداعبا:
    -طب و لو ماسمحتش يعني هتعملي ايه ؟؟
    تأففت أمه في ضيق ، بينما صاحت ""رضوي"" تحدث أخيها:
    -بص يا مروان ، شوف ماما عملت ايه في الدانتيلا دي !
    و ناولته البساط الحريرب ، فتلمسه ""مروان"" و هو يتفحصه في تقييم معجب ، ثم قال:
    -وااو ! حاجة جميلة بجد.
    و حول نظره إلي أمه متابعا:
    -و الله انا مستعد افتحلك اتيليه ليكي مخصوص يا دودي عشان تعرضي فيه شغلك الحلو ده.
    قالت ""دينار"" بصلابة واجمة دون أن تنظر إليه:
    -مش عايزة منك حاجة.
    زال مرح ""مروان"" في تلك اللحظة و رد بشيء من الإنفعال:
    -و بعدين يا ماما ! لحد امتي هتفضلي واخدة مني موقف كده ؟؟!
    بنبرة باردة أجابته ""دينار"":
    -انت عارف لحد امتي.
    زاد إنفعاله و هو يهتف بعصبية:
    -سبق و قلتلك ان المحكمة حكمت خلاص و الثروة اتقسمت ، و سبق و قلتلك بردو ان بابا مشي بمزاجه محدش اجبره يمشي.
    عند ذلك نظرت إليه قائلة في ندم و سخط:
    -انا اكتشفت اني غلطت غلطت عمري لما وافقتك و مشيت وراك يا مروان .. كنت فرحانة بيك و قلت ابني كبر و اكيد اللي شايفه هو الصح ، لكن للأسف خيبت املي فيك.
    كان صوتها واضحا مقتضبا ، و لكنه يتسم بالصرامة ، و كانت تبدو و كأنها تتحدث إلي طفل متمرد ، ثم إستطردت قائلة بحنق:
    -يا تري فكرت ابوك عايش ازاي دلوقت ؟ تقدر تقولي هو فين ؟ بياكل ازاي ؟ بيشرب ازاي ؟ بينام ازاي ؟ ها يا مروان ! تقدر تقولي توفيق فين دلوقت ؟؟
    ببردو و نفاذ صبر أجابها ""مروان"":
    -ايوه يا ماما عارف هو فين دلوقتي.
    تصلبت ""دينار"" شاخصة عندما قال ذلك ، فبسرعة سألته:
    -طب هو فين ؟ هو فين يا مروان ؟؟
    حك ""مروان"" طرف ذقنه و هو يجيبها بهدوء مرهق:
    -قاعد في الغورية عند واحد صحبه اسمه رشدي هلباوي.
    قلبت ""دينار"" الإسم بين شفتيها محاولة تذكر هوية الشخص ، حتي نجحت في أستذكاره ، فهتفت:
    -ايوه ايوه رشدي هلباوي ده كان صاحب ابوك من زمان اوي.
    ثم أنبت نفسها قائلة:
    -بس ازاي انا مافكرتش انه ممكن يروحله ؟ ازاي ؟؟!
    -معقولة بابي قاعد في المنطقة دي دلوقتي ؟؟!!
    قالتها ""رضوي"" في إستنكار مزدر ، بينما باغتها ""مروان"" بجفاف:
    -محدش قاله يمشي و يسيب بيته.
    ثم قام بالتمويه عن الموضوع بقوله:
    -المهم انا كنت عايز اتكلم معاكوا انتوا الاتنين في موضوع مهم.
    أطل التساؤل من عيون كلا من ""دينار"" و ""رضوي"" فتابع ""مروان"" باسما:
    -انهاردة في الشركة جالي واحد .. طالب ايد رضوي.
    طرفت ""رضوي"" بعينيها في توتر ، بينما تساءلت ""دينار"":
    -و ده يبقي مين بقي ؟؟
    إتسعت إبتسامته و هو يردد:
    -مش هتصدقي .. اكرم الصواف.
    إرتعدت ""رضوي"" بهلع عندما تسلل إسم زوجها السابق إلي سمعها ، فيما صاحت ""دينار"" بغضب:
    -نعم ! ايه اللي بتقوله ده ؟ انت ازاي اصلا تسمح للبني ادم الحقير ده انه يدخل الشركة و يقابلك ؟ لأ و بمنتهي الوقاحة كمان يفاتحك في الموضوع ده كمان ! انت اتجننت ؟؟
    حاول ""مروان"" تهدئتها بطريقته الدبلوماسية:
    -اهدي بس يا ماما و خليكي منطقية عشان نعرف نتفاهم.
    بعصبية حارقة ردت ""دينار"":
    -نتفاهم في ايه يا ولد ؟ انت مش فاكر اللي حصل و لا ايه ؟ مش فاكر الحيوان ده عمل ايه في اختك ؟؟!
    -هو جالي ندمان جدا علي فكرة و مستعد يعمل اي حاجة عشان رضوي تسامحه و توافق ترجعله ، مستعد كمان لكل طلباتها.
    في تلك اللحظة ، لم تتحمل ""رضوي"" سماع المزيد ، فهبت واقفة علي قدميها ، و إنفجرت بعنف قائلة:
    -انا لا يمكن اوافق ارجع لأكرم يا مروان ، مستحيل ارجع للإنسان المقرف السافل ده ، و اللي انا مش قادرة استوعبه انت ازاي قبلت علي نفسك تقابله و تتكلم معاه بعد كل اللي حصل !!
    حدجها ""مروان"" في صمت هادئ للحظات قبل أن يقول:
    -انتي عارفة اكرم بقي ايه دلوقتي يا رضوي ؟!
    بحدة شرسة أجابت ""رضوي"":
    -مش عايزة اعرف عنه اي حاجة.
    تجاهل ""مروان"" تعليقها و تابع:
    -اكرم الصواف دلوقتي بقي من كبار رجال الاعمال في البلد .. بقي يحتكم علي ملايين و بقي راجل محترم مش حتة شاب كحيان زي زمان ، دلوقتي هو بقي من مستوانا فعلا و يقدر يعيشك ملكة.
    ظلت ""رضوي"" علي ذهولها و حنقها لا تستطيع أن تصدق كلام شقيقها ، خالت أنه فقد عقله كليا ، فهزت رأسها بعدم تصديق قائلة:
    -انا بجد مش مصدقة اللي بسمعه منك ! ده انت اخويا ، ازاي عايز ترميني بأيدك تاني في النار ؟؟!!
    هنا إشتعل غضب ""مروان"" فصاح ساخطا:
    -خلاص براحتك ، انتي ادري مني بمصلحتك.
    بدت عظام أصابع ""رضوي"" تتقلص ، و شعرت أنها ستنفجر بالتأكيد إذا لم تغادر قاعة الجلوس فورا ..
    و بالفعل إستدارت علي عقبيها و هرولت تجاه الدرج قاصدة غرفتها ..
    نظرت ""دينار"" إلي إبنها في لوم و عتاب ، فتململ ""مروان"" متأففا و هو يقول:
    -ماتبصليش كده يا ماما .. انا كنت عايز مصلحتها بس خلاص بقي .. مادامت مش راضية هي حرة .. اكيد مش هغصب عليها.
    -القهوة يا هانم !
    قالتها ""حنة"" بصوت متحشرج و هي تنحني لتضع الصينية الصغيرة فوق الطاولة الخشبية أمام ""دينار"" ..
    بينما لاحظ ""مروان"" نبرة صوتها الضعيفة ، فنظر إليها و هاله ما رأي ..
    ملامحها ذابلة ، كما بدت شاحبة للغاية و قد نقص وزنها بشكل ملحوظ أيضا ..
    لم يستطع ""مروان"" منع السؤال القلق الذي إنطلق من بين شفتيه:
    -مالك يا حنة ؟ شكلك عامل كده ليه ؟؟
    بصوت شبه متخدر أجابته ""حنة"":
    -بعافية شوية يا مروان بيه.
    أطل القلق من عيني ""مروان"" و هو يقول:
    -طب لما انتي تعبانة بتشتغلي ليه ؟ المفروض ترتاحي في سريرك ، يلا روحي و انا هطلب دكتور دلوقتي.
    و شرع في إخراج هاتفهه ، فباغتته أمه:
    -مافيش داعي يا مروان هي راحت المستشفي امبارح .. و بعدين انا قلتلها تستريح في السرير و ألحيت عليها لكن هي اللي رفضت.
    رد ""مروان"" في إستغراب شديد متجاهلا ملاحظة أمه عن إهتمامها براحة الخادمة:
    -راحت المستشفي امبارح ! ليه ؟؟
    إضطربت ""حنة"" كثيرا لطريقته المثيرة للشك ، فيما بدت ""دينار"" و كأنها لم تستشف أي أمر غامض بينهما ، إذ قالت بنبرة غير مبالية:
    -كانت حامل و للأسف سقطت .. ربنا يعوض عليها ان شاء الله.
    تصلبت ملامح ""مروان"" ثم إستحال التصلب إلي تشنج عندما نظر إليها في تساؤل غاضب ..
    بينما إستأذنت ""حنة"" و إنسحبت مسرعة لتنقذ الموقف لئلا ينكشف الأمر برمته ...

    ***************

    إصطحب ""زين"" و أعوانه من رجال الحراسة الجدد الشاب ""شادي"" صديق ""شهاب"" من أمام بيته حيث كانوا بإنتظاره إلي قصر ""عاصم الصباغ"" و من ثم أخذوا يجروه جرا في إتجاه حجرة مكتب ""عاصم"" فراح يسألهم في قلق و إضطراب:
    -انتوا واخدني علي فين ؟ انا ماعملتش حاجة !
    فتح ""زين"" الذي كان يترأسهم باب المكتب و دلف أولا ..
    كان ""عاصم"" واقفا أمام النافذة المطلة علي الساحة الداخلية للقصر و قد عقد يديه خلف ظهره .. إنتبه إلي صياح ""شادي"" القلِق المذعور ، فإستدار ببطء بقامته المهيبة ، و نظر إليه و كانت تبدو علي وجهه نصف المشوه ملامح الشراسة و التدمير ..
    دار حول مكتبه ، ثم أخذ يتقدم نحو ""شادي"" بخطوات ثابتة .. بينما إبتلع الأخير ريقه بتوتر و هو ينظر إليه بريبة شديدة و قد ثلجت أطرافه للشعور المرعب الذي عصف به في تلك اللحظة ..
    وقف ""عاصم"" أمامه مباشرة ، و راح يحدجه بتلك النظرات الشرسة المتوعدة لبرهة ، ثم هتف بصرامة موجها كلامه لـ""زين"" و لباقي أفراد الحراسة دون أن يحيد بنظره عن ""شادي"":
    -اطلعوا برا كلكوا .. و إستنوا قدام الباب.
    أطاع الجميع أمره بما فيهم ""زين"" الذي بدا ممتعضا من تصرفات صديقه الشريرة مؤخرا ..
    بينما سكن ""عاصم"" للحظات قبل أن يرفع يديه فجأة و يجتذب ""شادي"" من ياقة قميصه بقوة قائلا و هو يسحق الكلمات بغضب بين أسنانه:
    -مزقوق علي اخويا من مين ياض ؟ حد زقك عليه و لا انت اللي عملت كده من نفسك ؟؟
    إزدرد ""شادي"" ريقه بخوف قائلا:
    -مزقوق ايه بس يا باشا ؟ انا مش فاهم حاجة ! اكيد في سوء تفاهم و بعدين شهاب ده صحبي و انا آا آااااااه ..
    قاطعه ""عاصم"" بتسديد ركله عنيفة بركبته إلي منتصف معدته مباشرة ..
    أجبرته الضربة التي تلقاها علي الإنحناء .. لم يمنحه ""عاصم"" مجالا ليلتقط أنفاسه حتي و رفعه إليه ، ثم ضم قبضته بغضب و سدد له أول لكمة قوية أسفل فكه ، و ظل يكيل له اللكمات دون توقف فإنبثقت الدماء من بين أسنانه ، في حين كان يكافح السقوط علي الأرض مغشيا عليه ..
    أمسك ""عاصم"" بتلابيبه و قربه منه مزمجرا:
    -مشكلتي اني مابسيبش حقي .. و مابسامحش و لا برحم حد غلط معايا.
    رد ""شادي"" في وهن متأوها:
    -و الله ما عملت حاجة يا باشا .. انا ماليش ذنب ، شهاب هو اللي كان بيطلب مني اجبله البودرة ، انا ماكنتش بجبهاله من نفسي.
    تقلص فم ""عاصم"" بغضب و هو يهتف بصوت كدوي الرعد:
    -يعني كمان بتعترف انك انت اللي
    حطيت رجله عالطريق الوسخ ده يا كلب.
    تلعثم ""شادي"" و هو يردد بصوت متحشرج:
    -لـ لأ لأ يا بـ باشا آا ..
    -باشا !!
    قاطعه ""عاصم"" بتهكم لاذع ، ثم أردف بخشونة:
    -باشا مين يالا ؟ انا عاصم الصباغ .. مايغركش منظري و البيت اللي انت واقف في ده .. انا اتربيت في شوارع كفر الزيات و سيدي سالم قبل ما ابقي باشا.
    قال ""شادي"" بإعياء مضطرب محاولا تهديده:
    -علي فكرة بقي .. انا مش مقطوع من شجرة ، عندي اهل و عزوة و ناس .. يعني لو جرالي اي حاجة اهلي مش هيسكتوا.
    لكنه قد أخفق بتهديده المتهور الذي أثار ""عاصم"" بدل أن يردعه ، إذ إرتسمت علي وجهه ملامح وحشية ..
    و إذا بـ""شادي"" يطير فجأة عبر الحجرة ليصطدم بالمكتب و يسقط ما عليه بدوي قوي بعد أن لكمه ""عاصم"" غير قادر علي السيطرة علي غضبه ..
    تفجرت الدماء من أنف ""شادي"" بينما هدر صوت ""عاصم"" بعنف:
    -طب و رحمة ابويا لأخلي اهلك و ناسك دول يتحسروا عليك يابن الـ***
    ثم إندفع صوبه و عاجله بلكمة قوية هوت به أرضا .. أتبعها بركلات عنيفة من قدمه تعالي علي إثرها صوت صراخ ""شادي"" الذي راح ينزف دما غزيرا من وجهه و من بعض أجزاء جسده الهزيل ..
    بعد عدة دقائق ، خرج ""عاصم"" من مكتبه أخيرا مخلفا وراءه جسد ""شادي"" المطروح فوق أرضية المكتب ، و رغم برودة الجو ، كان العرق قد بدأ يتصبب بغزارة من وجه""عاصم"" و جسده ، و كان صدره يعلو و يهبط بسرعة و هو يقول بصوت لاهث خشن:
    -تكملوا عالكلب ده.
    و إلتفت بوجهه إليه نصف إلتفاتة و قد إكتست ملامحه و صوته و نظراته شراسة مخيفة و هو يضيف بصوت قذف الرعب في قلب ""شادي"":
    -كسروه .. عايزه يرجع لأهله مدغدغ .. مفهوم ؟؟
    هتف أحدهم بجدية و كان ضخما أصلع له شاربا و لحية كثان:
    -مفهوم ، اوامرك يا باشا !
    كان ""شادي"" يعاني آلاما شديدة في كافة أنحاء جسده جراء الضرب المبرح الذي تعرض له علي أيدي ""عاصم"" رغم ذلك عصر عينيه من شدة الآلم و جاهد حتي صرخ متوسلا بصوت ضعيف:
    -لأ يا عاصم باشا .. كفاية انا اسف سامحني .. سيبني امشي ابوس ايدك.
    لكن توسلاته لم تأت بنتيجة ، إذ تواري ""عاصم"" عن ناظريه بسرعة ، و أقتربوا منه الرجال الأربعة بأجسادهم الضخمة و التي تفوح منها رائحة العنف و الشر ..
    شرعوا في التناوب عليه بالضرب العنيف الوحشي ، بينما تكور ""شادي"" علي نفسه متألما و قد تعالت صيحاته و تأوهاته بصورة مخيفة ..
    فيما أغمض ""زين"" عينيه غير راض عن تلك التصرفات الهمجية التي يراها أمامه ، فغادر المكان بدوره متضايقا ...

    **************

    أمضت ""هانيا"" ساعات النهار في أحد الغرف المتهالكة بقسم الشرطة حتي زحف الليل ..
    كانت الغرفة خاوية و خالية من أي أثاث ، فقط هناك البرد الذي يكتنفها من كافة الجوانب ..
    و بينما كانت تجلس ""هانيا"" فوق الأسمنت البارد .. تنهدت بسأم و هي تستند برأسها إلي الجدار ، تتابع بعينيها الزرقاوين المروحة المعلقة بمنتصف السقف و التي إستحال بياضها رماديا لتراكم الأتربة فوقها تدور في رتابة ، بينما المصباح الصغير فوق رأسها و المهتزة إضاءته يصدر صوتا كأزيز نحلة لزجة تحوم حول أذنيها في إلحاح ..
    و خلال لحظات .. شردت ""هانيا"" بأفكارها ..
    كانت تعلم تماما أنها تواجه موتا محتوما - ما إذا إستطاع عمها إزاحة هذا المصير عنها كما وعدها - ..
    و لا شك أنه بحاجة إلي معجزة لكي يستطيع فعل هذا ، فتلك تهمة عقوبتها مشددة ..
    ترويج السموم التي تقتل الملايين كل يوم ، ليس هذا أمرا هينا أبدا ، و لكنها بريئة و تلك التهمة نصبت لها ، و لكن من سيصدقها ؟
    و من خلال هذا الموقف الذي عاشته حتي الأن ، مع هذا الصراع ، صراع البطل الذي يواجه أمرا لا يمكن تجنبه .. إسترجعت في مخيلتها كل ذكرياتها مع والديها ، و تصورت أيضا ردة فعل عمها عندما تفشل محاولته في إخراجها من تلك المِحنة ..
    و عندما يعلم بنبأ موتها .. بالتأكيد سوف يعاني الشعور بالذنب طوال حياته ، فهو المسؤول عنها بصورة مباشرة بعد وفاة والدها بإعتباره أخر من تبقي لها في الحياة كلها ..
    حتما لن يفيق من الصدمة .. و السيدة ""قوت القلوب"" ..
    ستحزن حزنا جما عليها ، لن تتوقف عن ذرف الدموع .. فهي من تولت تربيتها منذ أمد طويل ، و قد شهدت علي مراحل نموها بدءاً من الطفولة و حتي الصبا و الشباب ..
    أما زوجة عمها و أبنائه ! .. لا تتوقع منهم شيئا ..
    أفاقت ""هانيا"" من شرودها علي إثر أرتجافة قوية سرت بأوصالها نتيجة البرد القارص الذي إشتدت حدته مع حلول الليل .. فإحتضنت ساقيها بشدة و ضمتهما إلي صدرها طالبة الدفء و الأمان ، ثم خبأت وجهها بين ذراعيها و راحت تبكي في صمت و هدوء تاركة العنان لحزنها ..
    فقد صبرت كثيرا خلال الآونة الأخيرة و بات حزنها نهرا من الدموع ..
    القدر يتلذذ في تدميرها و تفتيت عزمها و أعصابها ..
    فحتي الأن جابهت الأمور بشجاعة ، لكنها اليوم تبوح بفشلها ..
    و بينما كانت تصارع مخاوفها و شعورها بالبرد .. إنفتح باب الغرفة ليدلف العسكري الشاب و يتقدم نحوها ، و يضع أطباق طعام أمامها ، ثم يخرج في صمت و هدوء كما آتي ..
    إشتمت ""هانيا"" الرائحة الشهية المنبعثة من أطباق الطعام المغطاة بالبلاستيك ، و فورا تعرفت علي مصدرها ..
    و إبتسمت حين لاحت أمام عينيها صورة مربيتها ، السيدة الحنون ""قوت القلوب"" .. فطعام بتلك الرائحة الشهية لابد و أن يكون من صنع يديها ..
    و رغم أنها جائعة ، و لم تأكل شيئا منذ الليلة الفائتة ، ألا أنها وضعت الطعام جانبا غير قادرة علي إلتقام و لو القليل منه ..
    لم تحسب الوقت الذي قضته قابعة في تلك الزاوية تلملم شظايا روحها قبل ان تستعيد شجاعتها و قوتها و تقف مكافحة ضعفها ، مقررة بأن الوقت ليس مناسبا بالمرة للإنهيار ...

    **************

    سمع ""توفيق"" طرقات علي باب حجرته ، فسارع بفتحه ليجد ""رشدي"" يلج إليه و هو يحمل بين يديه صحن صغير يتصاعد منه البخار ، و قال:
    -نزلت الصبح زي المسروع لا فطرت معايا و لا اتغديت ، قلت اجبلك طبق شوربة سخن يدفيك في التلج ده.
    فشل ""توفيق"" حتي في رسم إبتسامة مجاملة علي فمه ، فإستدار علي عقبيه و إتجه نحو أقرب مقعد بالحجرة و جلس فوقه متهالكا ..
    قطب ""رشدي"" مستغربا مزاج صديقه السئ ، فلحق به و جلس إلي مقعد بجواره ، و وضع الصحن فوق طاولة صغيرة فصلت بين مقعديهما ، ثم حدجه بإهتمام متسائلا:
    -ايه يا توفيق ؟ مالك في ايه ؟ و ايه اللي نزلك فجأة بدري انهاردة و منغير ما تقولي ! كنت فين ؟ قلقتني عليك !!
    بدا ""توفيق"" متعبا و هو يقول في تخاذل:
    -بنت اخويا واقعة في مشكلة كبيرة اوي يا رشدي ، كارثة لو ماقدرتش انقذها منها هتضيع.
    صاح ""رشدي"" بقلق:
    -كفا الله الشر ! مالها يا توفيق ؟ ايه الحكاية ؟؟
    تنهد ""توفيق"" بأسي ، ثم رمقه بنظرة مطولة ، و راح يقص عليه كل ما حدث .. :
    -لا حول و لا قوة الا بالله !
    هتف ""رشدي"" بإنفعال و هو يضرب كفيه ببعضهما ، ثم تابع بغضب:
    -اما الصباغ ده و لا ماعرفش اسمه ايه بني ادم و اطي و ابن *** .. انت متأكد ان هو اللي لبسها التهمة دي ؟؟
    هز ""توفيق"" رأسه قائلا و هو يشعر بصدره يضيق بقوة:
    -مافيش حد غيره يقدر يعمل كده.
    تقلص وجه ""رشدي"" بحنق مزدر و هو يتساءل:
    -طب هو بيعمل كده ليه ؟؟
    -ما انا قلتلك .. بينتقم لأبوه.
    -ايوه بس بنت اخوك ذنبها ايه ؟؟!
    هز ""توفيق"" كتفيه و هو يقول في مرارة:
    -افتري يا رشدي .. بس انا مش هسامح نفسي ابدا لو هانيا جرالها حاجة .. المفروض اني احميها بما اني عمها و اخر حد باقيلها في الدنيا .. انما انا لأول مرة و بعد كل اللي حصلي احس بعجزي .. انا عاجز عن حماية بنت اخويا يا رشدي.
    ثم وضع وجهه بين كفيه و قد إستولي عليه الهوان ، فمد ""رشدي"" يده و ربت علي كتفه قائلا بصوته الأجش:
    -بس يا توفيق .. وحد الله .. ان شاء الله سليمة و بنت اخوك هتطلع من المحنة دي بسرعة و علي خير .. و ربنا يجازي اللي كان السبب.
    -يا رب !
    ردد ""توفيق"" مكتئبا و هو يفكر في قلق بمصير إبنة شقيقه .. و تساءل للمرة العاشرة ..
    تري كيف حالها الأن ؟؟!

    ****************

    شعرت ""حنة"" برعشات متتالية تسري بأوصالها نتيجة البرد الذي إشتدت حدته في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، و بينما كانت تعد فراشها إستعدادا للنوم بعد أن سبقوها جميع سكان المنزل و لاذوا بالدفء تحت الأغطية السمكية ..
    أتي ""مروان"" خلسة من خلفها ، و قبض علي خصرها .. شهقت ""حنة"" فزعة جراء المفاجأة غير المتوقعة ، و إلتفتت وراءها لتصطدم بوجهه المتصلب ..
    و من خلال ضوء الغرفة الخافت ، إستطاعت أن تر الغضب يفترش محياه ، كانت عيناه الرماديتين تبعثان الشرر ، فيما إمتدت يده الأخري تمسك بذراعها ، ثم أدارها نحوه بعنف و دفعه بها للإمام حتي إجتازا الردهة الكبيرة ، و صعدا الدرج ، و من ثم إلي غرفته الخاصة ..
    أغلق الباب وراءهما بركلة من قدمه و هو لا يزال ممسكا بذراعها و قد غرز أصابعه في عظامها إلا أن الألم الجسماني لم يكن هو الذي بعث فيها رجفة الخوف ، بل الطريقة الخشنة العنيفة التي إستعملها معها هي التي أقلقتها ..
    بينما أوقفها ""مروان"" بمنتصف الغرفة و هو يمسك كتفيها بكلتا يديه مصوبا نظراته الثاقبة إلي عينيها ، ثم زأر من بين أسنانه قائلا:
    -الحمل اللي نزل ده .. نزل ازاي و ليه ؟؟
    صوته المهزوز بإنفعال ، و إرتجاف عضلات صدغيه شيئان أثارا خوفها إلي أقصي حد ، فشعرت بعدم قدرتها علي الكلام و لم تنبس ببنت شفة ..
    إرتجف جسده من الغضب ، فهزها بعنف مغمغما بشراسة:
    -انطقي ! اتكلمي نزلتي الحمل ازاي و ليه ؟؟
    هنا أخذت الدموع التي كانت تحبسها ""حنة"" طوال الأيام الماضية تتجمع بسرعة و تحجب عنها الرؤية ، فأغمضت عينيها بقوة لتطيح دموعها فوق خديها بغزارة ، فيما نطقت أخيرا أذ قالت بصوت ضعيف مرتعش:
    -اول ما عرفت اني حامل .. خوفت يكون اللي في بطني ده من عبيد .. انت عارف اني مابحبوش و اني لا يمكن اخلف منه عشان كده روحت نزلت الحمل امبارح.
    إحتقن وجه ""مروان"" و هو يسألها بخشونة:
    -و جبتي الفلوس منين ؟ عملية زي دي بتتكلف فلوس كتير.
    عضت ""حنة"" علي شفتها السفلي واهنة ، ثم أجابته:
    -الفلوس اللي كنت دايما بتديهالي كل فترة كنت بشيلها ، ماصرفتش منها و لا مليم.
    ضغط علي شفتيه بقوة محاولا كبح جماح غضبه ، و عاد يسألها:
    -و افرضي كان اللي في بطنك ده ابني انا ! قتلتي ابني يا حنة ؟؟
    بصوت أبح ردت عليه:
    -ماكنتش اعرف ده من مين فيكوا ! و بعدين انت عايز تفهمني انك زعلان علي العيل اللي كان في بطني ؟ ده انا قلت انت هتتبسط مني لما تعرف اني عملت كده.
    و لم تستطع مواجهة نظراته القاسية أكثر ، و أحنت رأسها ، فإستقرت عيناها علي حذاءه اللامع ..
    حاولت ""حنة"" أن تواجهه بشجاعة مؤكدة له أنها قامت بالأمر الصائب ، و أنها أنقذته من طفل الخطيئة ، لكنها شعرت في تلك اللحظة و كأنها حشرة صغيرة لا فائدة منها ..
    و للأسف لم يعد هناك مجال للمغالطة و التصليح ، فقد سلكت طريق الذهاب بلا رجعة ..
    أفاقت من أفكارها المتضاربة و رفعت وجهها الغارق بالدموع إليه ، ثم قالت في إنكسار:
    -انا عملت كل ده عشان بحبك .. ماقدرش اعمل اي حاجة تضايقك فتبعد عني .. انا اسفة.
    و قبل أن تتم عبارتها خفضت رأسها لتنظر إلي الأرض ..
    إنتظرت أن يرفض ""مروان"" إعتذارها ، و أن يلقي به في وجهها قائلا لها أن فرصة إصلاح ما فسد قد ولت ..
    و بدلا من أن يفعل ذلك ، إمتدت يده إلي وجهها و راح يمسح دموعها بكفه الغليظ ، ثم رفع ذقنها بإبهامه حتي إضطرت ""حنة"" للنظر إلي وجهه ..
    كان يبتسم تلك الإبتسامة الهادئة الساحرة التي يحتفظ بها دائما لها ، فحبست أنفاسها من قوة سحر جاذبيته ، بينما قال بخفوت أقرب إلي الهمس:
    -انا ماقدرش ابعد عنك يا حنة .. انا بحبك و انتي عارفة كده كويس .. ماعرفش انا حبيتك ازاي و ليه ! لكن اهو بقي اللي حصل ، انا عمري ما برتاح الا و انامعاكي ، انتي الوحيدة اللي بتفهميني منغير ما اتكلم .. حبك ليا و حنيتك و خوفك عليا دول حاجات مخليا حبك يزيد في قلبي كل يوم عن اليوم اللي قبله.
    هدأت ثورتها تحت تأثير سحر كلامه و إبتسامته التي لا تقاوم ، و تألقت عينيها بإبتسامة رقيقة نابعة من أعماق أعماقها ، فوضعت يديها علي صدره و هي تقول بعذوبة:
    -انا كمان بحبك اوي اوي و الله .. ماقدرش استغني عنك ابدا.
    أمسك إحدي يديها المسنودتين فوق صدره ، و رفعها إلي فمه مقبلا أياها بحرارة ..
    لكنه عاد يقول بصرامة و قد إختفت البسمة من علي وجهه:
    -بس مش معني كده انك ماغلطيش .. كان لازم تقوليلي انك حامل .. عرضتي حياتك للخطر و قتلتي الطفل ! مش ممكن كنت اوفق انك تخليه !!
    -قلتلك ماكنتش اعرف اذا كان الطفل ده منك و لا لأ ، و بعدين انا خدمتك يا مروان بيه .. طلعت و لا نزلت هفضل حتة خدامة في بيتك .. مش معقول خيالي يشطح بيا اوي و اتخيل يعني ان يبقي ليا ولاد منك رغم ان دي امنية حياتي ، اني انا اللي اجبلك ولادك.
    شد ""مروان"" علي يدها بقوة ألمتها و هو يقول بحدة:
    -اولا 100 مرة قلتلك لما نكون لوحدنا اسمي مروان بس منغير بيه ، ثانيا ماتقوليش خدامة تاني مش عايز اسمعك بتقولي الكلمة دي تاني ابدا فاهمة ؟؟
    لم تستطع أن تمنع رجفة الفرح التي إعترتها علي إثر كلماته ، و مع هذا قالت بشيء من الحزن:
    -هي دي الحقيقة .. انا خدمتك ، عشان اقدر اكون جمبك طول عمري لازم ابقي خدامة.
    قال ""مروان"" بغضب مزمجرا:
    -قلتلك ماتقوليش الكلمة دي !
    إبتسمت ""حنة"" بخفة و قالت:
    -حاضر .. مش هقولها.
    و ساد الصمت المكهرب للحظات ، ذلك الصمت الذي أثار مشاعرهما و رغبتهما في الحب ..
    فقام ""مروان"" بالمبادرة و إقترب منها و طبع قبلة حارة علي وجنتها ، ثم تعددت القبل و توزعت حول وجهها و ما بين عنقها و صدرها إلي شفتيها ..
    كانت ""حنة"" تتلوي شبقا مثل أفعي جائعة تنتظر فريستها ، فإستجاب ""مروان"" لطلبها دون أن يسمعه و حملها إلي فراشه ليتلطخا معا بطين الرذيلة ...

    ***************

    في صباح اليوم التالي ..
    أضاءت الشمس الأرض بنورها ، و حتي تلك الغرفة الصغيرة في قسم الشرطة التي توسدت ""هانيا"" بلاطها الأسمنتي البارد طوال و هي نائمة ..
    إستيقظت ""هانيا"" علي إثر ضوء الشمس الذي تسلل عبر النافذة الصغيرة للغرفة ..
    فتحت عينيها تدريجيا متأوهة ، فقد كانت كل عضلة بجسدها تئن من الآلم نتيجة موجة الإنهاك الجارفة التي غمرتها منذ صباح اليوم الماضي ..
    إستوت ""هانيا"" جالسة فوق الأرض و هي تري ضوء الشمس من النافذة يستمر في التسلل ، و بدخوله جاء العسكري هذه المرة ليصطحبها إلي مكتب ""وكيل النيابة"" ..
    رافقته ""هانيا"" في صمت و هدوء و هي تشعر بتصلب حاد في عمودها الفقري ، مما جعل علامات الآلم ترتسم علي وجهها شيئا فشئ .. رغم ذلك إستطاعت أن تحفز جميع حواسها إستعدادا لملاقاة الضابط المحقق ..
    تركها العسكري تلج وحدها إلي المكتب ، فتجاوزت عتبته بقامتها المتوسطة ، بينما حياها الضابط الجالس وراء مكتبه ببشاشة قائلا:
    -صباح الخير يا انسة هانيا.
    ردت التحية بهدوء واجم:
    -صباح الخير يا حضرة الظابط.
    -عندك زيارة يا انسة .. في حد مهم اوي جه مخصوص عشان يشوفك.
    قطبت ""هانيا"" مستغربة و هي تردد:
    -حد مهم جاي يشوفني انا ! مين ده ؟؟
    -أنا يا أنسة هانيا.
    و هنا شعرت بأصابع جليدية تعتصر أحشاءها ، إذ تلك النبرة ليست بغريبة علي سمعها !
    فإستدارت مسرعة نحو مصدر الصوت لتصطدم بالوحش ..
    تراجعت خطوة إلي الوراء كالمصعوقة ، و إنتفضت كل ذرة من كيانها في عنف ..
    فقد كان ذلك الواقف أمامها هو ألد أعداءها ..
    كان ""عاصم"" .. ""عاصم الصباغ"" شخصيا ... !!!

    *****************

    علي الطرف الأخر ..
    إستيقظت ""دينار"" باكرا كعادتها و أعدت مائدة الأفطار في إنتظار إنضمام ""رضوي"" و ""مروان"" إليها ..
    إلا أن ""رضوي"" فقط هي التي وافتها إلي حجرة الطعام ، فتساءلت بحيرة:
    -الله ! اومال مروان مانزلش ليه عشان يفطر ؟!
    -تلاقيه لسا نايم.
    قالتها ""رضوي"" في لامبالاة و هي تسحب لنفسها كرسي و تجلس فوقه ثم تبدأ في تناول طعامها غير آبهة لقلق أمها علي شقيقها المدلل ..
    بينما هزت ""دينار"" رأسها قائلة:
    -لأ ، ده اول مرة يتأخر في النوم كده ! الساعة تسعة و نص .. و كمان ده اتأخر اوي عالشركة.
    ثم هتفت بحماسة عفوية:
    -انا هطلع اصحيه.
    و صعدت ""دينار"" إلي غرفة إبنها ..
    أدارت مقبض الباب .. و ولجت إلي الداخل .. لتتسع حدقيتها في صدمة بالغة و لتتجمد بمكانها ذاهلة ، لا تستطيع أن تصدق ما تراه الأن بأم عينيها !
    إبنها .. و الخادمة .. في سرير واحد عاريان !
    يطوقها ""مروان"" بذراعا قوية و لا يسترهما شيئا سوي ملاءة الفراش البيضاء .... !!!!"
    "الحلقة (8) - و هربت من قبضته - :

    لدقيقة كاملة تقريبا ، ظلت ""هانيا"" تحدق ذاهلة في ""عاصم"" الذي وقف أمامها هادئا واثقا واضعا كلتا يديه في جيبي سرواله ..
    كان يبتسم إبتسامة إستفزت كل ذرة من مشاعرها ، بينما لمح إهتزاز طفيفا في عينيها الزرقاوين ، و كأن رؤيته المفاجأة قد مست شيئا من دفاعتها مما جعل إبتسامته المستفزة تتسع أكثر ..
    قطع الضابط هذا الجو المشحون بالتوتر و العداء عندما نهض قائلا:
    -طيب انا هسيبكوا شوية مع بعض .. عن اذنكوا.
    و غادر المكتب ليتيح لهما فرصة الكلام بحرية ..
    فيما ظلا لثوان كل واحد منهما يقف في مواجهة الأخر ، كالنار .. كانت تشتعل ""هانيا"" .. و كالجليد .. كان ""عاصم"" هادئا و باردا ..
    إلي أن قالت ""هانيا"" بصوت مختنق لفرط حنقها:
    -ليك عين تواجهني يا حقير ؟ جاي لحد عندي هنا عايز ايه ؟ عايز تشمت و تتشفي فيا ؟ اشمت براحتك .. بس يكون في علمك ، انا هخرج من هنا ، عمي هايخرجني و انت لوحدك اللي هتترمي مكاني في السجن.
    فشلت محاولتها الدفاعية الشرسة حين قهقه ""عاصم"" بسخرية أجفلتها بتوتر ثم قال في رقة هازئة:
    -انتي ماتعرفيش طريقتك العدوانية دي عاملة فيا ايه ! من زمان اوي محدش اتحداني و وقف قصادي كده !!
    تألقت أسنانه الناصعة وسط بشرته البرونزية ، فيما إستدار و خفض جسمه الصلب جالسا برشاقة فوق الآريكة الجلدية السوداء ..
    ثم تنفس بعمق و هو يبتسم متجاهلا تلك النظرة النارية التي رمته بها ، ثم تأملها في هدوء من رأسها إلي أخمص قدميها قائلا بصوت عذب:
    -انا جاي اعرض عليكي اتفاق.
    أزعجتها نظراته المتفحصة لها و المفعمة بالجرأة ، و شعرت أنه مسرور بتلك الهيئة المزرية التي ظهرت عليها ، لكنها هزت رأسها في عصبية و قلصت قبضتيها في غضب قائلة بصرامة:
    -انا و انت مش ممكن نتفق علي حاجة يا .. يا عاصم بيه .. مستحيل.
    تجاهل عبارتها اللاذعة و قال في تكاسل:
    -انا اقدر اخرجك من هنا بمنتهي السهولة يا هانيا.
    رفعت ""هانيا"" حاجبيها في دهشة ، و إندفعت تسأله حائرة:
    -ازاي ؟ و ليه ؟ بعد ما رمتني هنا بإيدك هطلعني تاني ! ليه ؟؟
    بدا قريرا و هو يتنهد مبتسما في إنتصار ، ثم أجابها بنعومة خبيثة:
    -اوعدك .. هخرجك من هنا ، لو نفذتي شروطي اللي هقولك عليها دلوقتي.
    و هنا تجمدت ""هانيا"" بمكانها .. إتضح لها الأن السبب الذي من أجله جاء إليها ، و سينطق بالكلمة في أي لحظة ...

    ********************

    إنكشف أمرهما ، وضبطا عرايا ..
    ظلت ""دينار"" لعدة دقائق علي حالة الصدمة المصحوبة بالذهول و عدم التصديق و هي تحدق بذلك المنظر المخزي و المشين بكل المقاييس ، حيث كان إبنها و خادمتها فوق الفراش المبعثر بفوضوية مما يفسر مدي شراسة المعركة التي خاضاها معا ليلة أمس ..
    أفاقت ""دينار"" من صدمتها بصعوبة بالغة ، ثم ركضت صوب إبنها صارخة و هي تضرب ظهره بقضبتيها بقوة عندما وصلت إليه:
    -يا سافل يا حيواان ، عملت ايه ؟ الله يلعنك يا كلب.
    بدون مقدمات فتح ""مروان"" عينيه فجأة علي إثر صراخ أمه الهستيري ، لهنيهة أستغرب ما يدور حوله ، ثم هب جالسا كالمصعوق و هو يحاوط جسد ""حنة"" العاري بذراعيه و حاول تغطيتها بالملاءة ، فيما أدار رأسه لمواجهة أمه ، و قال بتوتر متلعثما:
    -مـ ما ماما ! خـ خليني افهمك انا آاا ...
    -تفهمني ايه ؟؟
    و هنا إستيقظت ""حنة"" فجأة بدورها علي إثر صياح ""دينار"" المجلجل ، فإنتفضت مذعورة و شدت الملاءة محاولة إخفاء ما ظهر منها ترتجف خوفا و رعبا في جميع أنحاء جسدها ..
    لقد إنكشف المستور ..بسبب إنغماسها في النوم المغر بأحضان ""مروان"" أسوأ ما كانت تخشي حدوثه وقع الأن علي حين غرة دون سابق إنذار ، و لا شك أن زوجها سيعرف و الأن بوجودها طوال الليل في غرفة ""مروان"" و عندها لن يتورع أبدا عن قصف عنقها و لن يقوي علي ردعه أي مخلوقا كان ..
    لا شعوريا راحت ""حنة"" تلطم خديها باكية و هي تحدق بـ""دينار"" التي لا تزداد إلا غضبا و إنفعالا ..
    بينما صرخت ""دينار"" بوجه إبنها في عنف:
    -عايز تفهمني ايه يا كلب ؟ ابني في اوضة نومه علي سريره مع الخدامة و عريانين ! عايز تفهمني ايه اكتر من كده ؟؟!
    تساقط الغطاء حتي أسفل خصر ""مروان"" مكشفا عن صدره العاري النامي العضلات ، فيما حاول تكوين جملة مفيدة في أوج إرتباكه المتفاقم فقال بنبرة مرتعشة:
    -انا و حنة بنحب بعض يا ماما !
    لوهلة أصيبت ""دينار"" بالخرس التام .. فلو قال أنه يحب فتاة علي سطح القمر لما بدت أكثر دهشة !
    لكنها عادت تصرخ فيه و قد تحول وجهها إلي لون قرمزي ، كما كانت عيناها تتوهجان بلهيب الغضب:
    -حب ايه يا سافل يا قذر ؟ وصل بيك الاستهتار للدرجة دي ؟ و مع مين ؟ مع الخدامة يا حيوان ؟؟!
    ثم زاغت بعينيها و قالت بشحوب و هي تغطي فمها المرتعش بكفيها:
    -ده لو جوزها عرف ! هايقتلك و يقتلها .. الله يلعنك ، الله يلعنك.
    ثم دارت حول الفراش راكضة نحو ""حنة"" و بمنتهي القسوة و القوة ، مدت يدها و قبضت علي خصيلات شعرها المشعث ، ثم إنتزعتها إنتزاعا من فوق الفراش و راحت تموج بها في الهواء بوحشية و هي تهتف بإهتياج وسط صراخ ""حنة"" الحاد:
    -اه يا حقيرة يا سافلة .. سلمتيله نفسك ، مرغتي شرفك في التراب يا واطية ، فضحتي نفسك و ضعتي ! و يا ريتك ضعتي لوحدك انما ضايعتي ابني معاكي يا ****.
    ثم سددت لها صفعة عنيفة صرخت ""حنة"" بألم علي إثرها ، فصاح ""مروان"" غاضبا و هو يرتدي سرواله الداخلي من تحت الغطاء ليستر عريه ، ثم ينهض متجها نحوهما:
    -ايه اللي بتعمليه ده يا ماما ! سيبيها.
    و إلتقط الملاءة من فوق الفراش ، و إجتذب ""حنة"" من معصمها بقوة ، ثم لف جسدها العارٍ بالملاءة ، و أوقفها خلف ظهره ليحميها من بطش أمه العنيف ، ثم قال بصرامة و دون أن يطرف له جفن:
    -اوعي تاني مرة تمدي ايدك علي الست اللي هتبقي مراتي.
    تلقت "" دينار"" صدمة أعنف بكثير هذه المرة ، فلم تشعر بنفسها إلا و هي تصفع ""مروان"" بعنف هو الأخر ، ثم تنشب أظافرها الحادة في صدره صارخة بهسترية:
    -انت اتجننت يا كلب ! يا حيواان ، ربنا ياخدك و يريحني منك ، عملنا فيك ايه عشان تعمل فينا كلنا كده ؟ عملنا ايييه ؟؟!
    في تلك اللحظة ، أتت ""رضوي"" مهرولة بعد أن تناهي ألي سمعها أصوات عالية تنبعث من العلية الأولي ..
    تطلعت لاهثة في الوجوه الثلاثة ، محاولة إستيعاب ذلك المنظر الغريب علي الإطلاق ، ثم شهقت مرتعدة و حبست أنفاسها برئتيها عندما إستطاعت تفسير الأمر ..

    ********************

    -شروط !!
    هتفت ""هانيا"" مستنكرة و تابعت بصوت غاضب محتد:
    -و انت بقي جاي متوقع مني اقبل بشروطك ! ماتفتكرش انك كسرتني ، و الله لو لفوا حبل المشنقة حوالين راقبتي عمري ما هاوطيلك راسي.
    و هنا قفز قلبها حين فوجئت بشرارة خطرة تندلع في عمق عينيه ..
    لكنها بقيت تحافظ علي ثباتها ، بينما نهض من مكانه فجأة و تقدم نحوها ببطء و علي وجهه تعابير الجمود ..
    كتمت ""هانيا"" رجفة الذعر التي إعترتها .. و تساءلت عن نوع الإنتقام الذي سيلحقه بها هذه المرة ؟ .. لكنها سرعان ما إنذهلت من إبتسامته العريضة التي أعقبها بضحة عالية و هتاف مرح:
    -انتي قطة متوحشة فعلا.
    ثم أضاف و هو يتفرس في ملامحها الرقيقة الغاضبة:
    -عنيدة .. و جميلة كمان !
    تعجبت من سلوكه المعقد ، فإرتجفت من الحيرة و قطبت في غضب متحفز ..
    بينما أخرج من الجيب الداخلي لسترته السوداء الفاخرة علبة سكائره المصنوعة من البلاتين ، و عندما قدم لها سيكارة هزت رأسها بأباء صارم قائلة:
    -مابدخنش.
    و تابعت مستهجنة:
    -انا مش هنفذ و لا شرط من شروطك يا عاصم بيه .. امشي احسنلك و بلاش تضيع وقتك.
    راقبته و هو يشعل سيكارته من الولاعة الذهبية التي أضاءت جانب وجهه المشوه ، فبدا الجانب الأخر أكثر سمرة و صرامة ..
    فيما سحب نفسا عميقا من السيكارة و نفثه عموديا صوب وجهها ..
    فسعلت في غضب و هي تسمعه يقول بصوت عميق و ناعم:
    -هتنفذي كل شروطي يا هانيا ، ماعندكيش اختيار تاني .. انتي محتاجالي .. رقبتك تحت رجلي.
    إشتعلت بالغضب بفعل الطريقة التي أطلق فيها الكلمة الأخيرة ، و خرج من فمها الكلام قويا عنيفا:
    -يعني بتعترف انك ورا كل اللي انا فيه ده ! حقيقي انك بني ادم بجح و حقير و جبان ، يا ريت ترجع للحواري اللي اتربيت فيها احسن مش لايق عليك المظهر الاجتماعي المحترم يا .. يا عاصم بيه.
    أهداها إبتسامة بسيطة لا تخلو من البرود ، لكنها أحست بغضب شديد يتعاظم بداخله و هو يحاول السيطرة علي نفسه ..
    بينما قال بنبرات حادة مشذبة لسعتها كرياح باردة:
    -ماتتصوريش انتي بتشجعيني أد ايه بإسلوبك ده علي تنفيذ كل اللي في دماغي .. في يوم هتندمي علي كل كلمة قولتيهالي دلوقتي .. لكن انا مش هندم علي اي حاجة عملتها .. او لسا هعملها فيكي !
    إنكمشت داخليا ، و كانت مرتاعة من هول كلماته ، لكنها أدركت أنه من الخطر إظهار رعبها خشية أن يستضعف موقفها أكثر ..
    تابع كلامه قائلا بإقتضاب بارد:
    -عندي شرطين .. لو قبلتي تنفذيهم هخرجك من هنا حالا.
    -هتخرجني ازاي ؟؟
    -بنفس الطريقة اللي جبتك بيها هنا.
    بدا شديد الثقة و هو يتكلم ، كما بدا أنه يعي معني كلامه جيدا ..
    فيما إستجمعت ""هانيا"" قوتها لتتبدل نظراتها المتوترة بنظرات حادة و هي ترجع خصلات شعرها للخلف و ترفع ذقنها بشموخ محاولة أن تبدو كإمرأة قوية ، و بلهجة خشنة سألته:
    -و ايه هما الشرطين ؟؟
    تألقت عينا ""عاصم"" في ظفر و تنهد بعمق و هو ينظر إليها من أعلي إلي أسفل بتسلية ..
    بينما تأهبت بقلب واجف و أطراف باردة لسماع شرطيه .. !

    *******************

    أدارت ""رضوي"" مقبض باب غرفة والدتها و ولجت دون إستئذان .. فوجدتها تجلس متهدلة فوق مقعد أثري مذهب ساندة رأسها المحنية بين يديها المرتعشتين و تبكي بحرارة ..
    طغت علي ""رضوي"" موجة من العطف المتأثر ، فركضت تركع عند قدمي أمها و تواسيها قائلة:
    -ماما .. بس كفاية عشان خاطري .. كفاية ماتعمليش في نفسك كده ، ما انتي عارفة مروان و تصرفاته الطايشة.
    ثم تابعت بلهجة غاضبة محتدة:
    -هو صحيح غلط غلطة كبيرة و مقرفة كمان ، لكن اللوم هنا يقع الاول علي السافلة اللي طاوعته و رضيت توسخ شرفها و تخون جوزها.
    صدمت ""رضوي"" حين رفعت أمها رأسها و رأت الأنهيار يهدل تقاسيم وجهها ..
    بينما كانت ""دينار"" خائرة العزيمة و غارقة في التعاسة إلي أقصي درجة و هي تقول بصوت متحشرج ممزوج ببكائها المرير:
    -خلاص .. خلاص البيت اتخرب من يوم ما توفيق سابه .. اخوكي ضاع ، و الدور هايجي عليكي انتي كمان ، و انا ربنا ياخدني و يريحني من اللي انا فيه ده بقي ، ماعدتش قادرة استحمل خلاص.
    ثم راحت تهز رأسها للجانبين بلا وعي ، فوضعت ""رضوي"" ذراعها علي كتفها و هي تقول بلطف محاولة تهدئتها:
    -يا ماما عشان خاطري اهدي .. مافيش حاجة ضاعت ، احنا بس بنمر بمحنة صعبة ، لكن كل جاجة هترجع زي الاول و احسن .. هو مـروان دلوقتي ساب البيت اه لكن مسيره يرجع و بابا كمان اكـيد هيرجـع.
    عند ذلك ، أوقفت ""دينار"" نحيبها ، و إلتفتت تنظر إلي إبنتها بإهتمام ، ثم شخصت بعينيها و هي تسألها متوجسة:
    -مروان ساب البيت ؟؟
    أومأت ""رضوي"" رأسها و هي تقول في إرتياب متعثر:
    -ايوه .. مـ مشي !
    صاحت ""دينار"" برعب:
    -مشي لوحده ؟؟
    فأجابتها ""رضوي"" بتردد:
    -لأ ... خد حنة معاه.
    إزداد وجه ""دينار"" شحوبا في تلك اللحظة و إنهارت باكية من جديد و هي تردد:
    -يادي المصيبة ، يادي المصيبة .. خدها معاه ! ده جوزها لو عرف هيقتلها و هيقتله .. هيقتلهم هما الاتنين ، و لو ماعملهاش هو اهلها مش هيسكتوا .. يادي المصيبة .. ليه يا ربي بيحصل فيا ده كله ؟ انا عملت ايه لكل ده ؟! .. جوزي يسيبلي البيت و يمشي لا يعرفني عنه حاجة و لا يسأل عليا ، و ابني طايش طول عمره و اخرتها يغلط مع الخدامة ! ليه كده يا رب ؟؟!!
    إكتأبت ""رضوي"" لمرأي والدتها علي تلك الحالة ، فراحت تربت علي كتفها لعلها تنجح في التخفيف عنها و لو قليلا ...

    ********************

    كان الجو داخل سيارة ""مروان"" متورما بنبضات خافقة ثقيلة لا علاقة لها إطلاقا بهدير المحرك ..
    بينما كانت ""حنة"" تجلس في المقعد الأمامي إلي جانبه تفرك كفيها الباردين في توتر و عصبية ..
    لقد قطعا أميال بين شوارع القسم الغربي للمدينة الحديثة في صمت مطبق ، إلي إندفعت ""حنة"" علي الرغم منها و كسرت التوتر الرهيب ، فسألته بصوت مرتجف:
    -هنعمل ايه دلوقتي بقي ؟؟
    -في ايه ؟؟
    قالها ""مروان"" بهدوء بارد ، فإستوت ""حنة"" في مقعدها و هي تهتف بإستنكار:
    -في المصيبة اللي وقعنا فيها .. دينار هانم شافتنا مع بعض ، و الست رضوي كمان ، يعني خلاص سرنا انكشف و اتفضحنا و اكيد عبيد زمانه عرف هو كمان و هنروح فيها !
    ركن ""مروان"" سيارته إلي جانب الطريق ، ثم تنهد بعمق و إلتفت لينظر إليها ، ثم قال بجدية:
    -ماما و رضوي مافيش قلق من ناحيتهم .. مش ممكن يفتحوا بؤهم بكلمة فماتقلقيش .. و حتي لو جوزك الزفت ده عرف كل حاجة .. مش هيقدر يمس شعرة منك طول مانتي معايا.
    هزت ""حنة"" رأسها بحركة منفعلة و هي تقول بجزع:
    -انا مش خايفة علي نفسي .. انا خايفة عليك انت.
    بان الصدق في عينيها و هي تستطرد:
    -انت عارف ان انا دلوقتي بقيت خطر عليك ؟ .. و انت لو جرالك اي حاجة انا هموت .. ماقدرش اعيش منغيرك.
    إبتسم لها بدفء ، ثم قال بلطف:
    -متخافيش يا حنة .. اطمني خالص ، كويس اصلا ان كل ده حصل.
    علقت ""حنة"" بدهشة مفغرة فمها:
    -كويس ان كل ده حصل !!
    أومأ رأسه مبتسما ، ثم أجابها بصرامة:
    -انا هتجوزك .. هخلي عبيد يطلقك و هتجوزك يا حنة .. هتبقي مراتي قدام الناس كلها و هايعيشك ملكة وسطهم .. مش هتبقي خدامة خلاص بعد انهاردة .. هخلي الكل يحكي و يتحاكي عليكي ، هخليهم يقولوا هي دي حنة هانم اللي وقعت مروان علام في شباكها و خليته تابع ليها و غرقان في حبها.
    نظرت إليه بإنفاس مبهورة .. كانت مأخوذة بسحر كلماته ..
    كما شعرت بشعور لذيذ إنتشت له جوارحها ، و تفتحت نفسها ، و ذاب الهم في صدرها ، و نسيت الوجود بمشاغله و أحزانه و فكرت فيه هو فقط
    و هو جالسا بالقرب منها يخبرها عن خططه المستقبلية لهما .. و تساءلت .. أيعقل هذا ؟ أيعقل ان تتحول من خادمة نكرة إلي سيدة راقية ؟
    و أن يتخذها ""مروان"" سليل الحسب و النسب زوجة له ؟ ..
    تأملت لبرهة الصورة الإجتماعية المرموقة التي لاحت بذهنها للتو حيث رأت نفسها داخلها معه بعد عدة أعوام زوجين سعيدين ..
    لهما أولادا كُثر يزقزقون بفرحٍ حولهم ، بينما يراقبان هما مراحل نموهم بشغفٍ و حب ..
    أفاقت من تأملاتها فجأة ، و عادت تنظر إليه مشدوهة ..
    ترقرقت الدموع بعينيها و هي تقول بصوت مبحوح:
    -امنية حياتي اني ابقي مراتك .. و اعيش اللي باقي من عمري جمبك و اشيل جوايا ولادك .. ده حلم ياما حلمت بيه .. بس خايفة ! .. لأ مرعوبة ليقلب بكابوس و تروح انت مني .. انا خايفة عليك اوي.
    تناول ""مروان"" يدها و رفعها إلي فمه ليقبلها ، فكاد قلبها يقفز سرورا من ملمس شفتيه الدافئه لباطن كفها ..
    منحته إبتسامة خجولة ، مهتزة و مرتبكة ، فيما قال لها برقة يطمئنها:
    -متخافيش يا قلبي .. احنا لبعض و محدش هيقدر يفرقنا ابدا ، كل حاجة هتبقي كويسة ، اوعدك.
    ثم ضغط علي يدها بحنان قبل أن يضعها علي المقود تحت يده و ينطلق بسيارته مجددا و هو يقول في مرح باسما:
    -دقايق و هنوصل البيت يا حبيبتي .. بيتنا.

    *********************

    دخلا إلي القسم كلا من ""توفيق"" و السيد ""شركس ناصف"" المحامي ، و إتخذا طريقهما إلي مكتب وكيل النائب العام ..
    دلفا إلي المكتب بعد أن حصلا علي أذن الدخول ..
    إستقبلهم ""طارق الحسيني"" بإبتسامة ودودة .. و بعد تبادل التحيات ، جلسوا جميعهم في شبه مثلث ، إذ كان ""طارق"" جالسا مترأس مكتبه ، بينما ""توفيق"" و ""شركس"" يجلسان في المقعدين المقابلين لمقعده ..
    بدأ السيد ""شركس"" الحديث قائلا و هو يمد يده عبر المكتب لـ""طارق"" ببعض الأوراق:
    -ده توكيل محتاجين عليه امضة الانسة هانيا مصطفي علام يا طارق باشا .. عشان اقدر اترافع في القضية بشكل رسمي.
    تناول ""طارق"" التوكيل من يد المحامي و تفحصه لهنيهة ، ثم ألقاه فوق المكتب بحركة هزيلة قائلا:
    -قضية ايه يا استاذ شركس ؟؟
    قطب ""شركس"" مستغربا و أجابه:
    -قضية المخدرات اللي ظبطوها في مخزن المنصورية بتاع الانسة هانيا !
    بصوت متكاسل و إبتسامة باهتة أجابه ""طارق"":
    -خلاص يا متر .. ما عادش في قضية.
    و هنا تجهم وجه ""توفيق"" الذي إندفع يقول بنزق:
    -مافيش قضية ! يعني ايه مافيش قضية مش فاهم ؟؟!!
    حول ""طارق"" بصره تجاهه و أجابه بهدوء:
    -قسم تحاليل المعمل الجنائي بعت تقريره انهاردة الصبح .. العينة اللي اخدناها من المضبوطات ماطلعتش هيروين و لا طلعت ايه حاجة ليها علاقة بالمواد المخدرة.
    -اومال طلعت ايه ؟؟
    سأله ""توفيق"" مستهجنا ، فأجابه ""طارق"" ببساطة:
    -طلعة عينة سكر .. الاكياس اللي ظبطناها ماكنتش غير سكر بودرة.
    إتسعت عينا ""توفيق"" في حنق ، و هتف منفعلا:
    -سكر بودرة ! يعني ايه ؟؟
    هز ""طارق"" رأسه في بلاهة قائلا:
    -سكر بوردة يا توفيق بيه .. يعني سكر مطحون.
    ثم أضاف بإبتسامة مصطنعة:
    -احنا طبعا بنعتذر عن الملابسات اللي حصلت لكن زي ما انت اكيد عارف دي اجراءات امنية و الشبهة الجنائية في المواقف اللي زي دي محظورة و كان لازم نأدي واجبنا .. و عموما احنا اعتذرنا للانسة هانيا و فهمناها اننا كنا مضطرين نتصرف بالطريقة دي علي الاقل لحد ما تقرير المعمل الجنائي يقول كلمته.
    صر ""توفيق"" علي أسنانه بغضب مكتوم ، ثم رفع رأسه و عاد يسأله بجمود مقتضب:
    -طب فين هانيا يا حضرة الظابط ؟ اقدر اخدها معايا امتي ؟؟
    -الانسة هانيا مشيت من حوالي ساعة و نص تقريبا.
    هب ""توفيق"" واقفا و هو يهتف بعصبية:
    -مشيت ! مشيت ازاي منغير ما تكلمني !!
    هز ""طارق"" كتفيه بلا إكتراث قائلا:
    -ماعرفش و الله .. كل اللي اعرفه انها مشيت بعد اما افرجنا عنها ، اكيد مش هنحجزها عندنا بعد ما ثبتت براءتها.
    إهتز جسد ""توفيق"" غضبا و إنفعالا ، فضرب بقبضته بقوة علي المكتب و هو يصيح:
    -انا مش مصدق الكلام ده ! و مش هتحرك من هنا الا و بنت اخويا في ايدي و الا مش هيحصل طيب !
    مد ""طارق"" جسده إلي الأمامه ، و أشار له بسبابته محذرا بلهجة حادة:
    -حاسب علي كلامك يا توفيق بيه و اعرف انت بتقول ايه ، بنت اخوك احنا افرجنا عنها بعد ما اتأكدنا من براءتها و اكيد مش هنمشي وراها مخبربن يرصدوا كل تحركاتها !!
    نهض المحامي ""شركس"" بدوره و إقترب من ""توفيق"" ثم وضع يده علي كتفه و ضغط عليه برفق و هو يقول بلطف حازم:
    -خلاص يا توفيق بيه اهدا .. طارق باشا معاه حق و اكيد الانسة هانيا هتكلمك انهاردة و هتقولك هي فين ماتقلقش.
    زمجر ""توفيق"" من بين أسنانه:
    -في حاجة مش مظبوطة يا متر .. انا حاسس ان هانيا جرالها حاجة.
    طمئنه ""شركس"" بإبتسامة هادئة و هو يقول:
    -ماتقلقش .. هتبقي بخير ان شاء الله و في اي لحظة هتلاقي موبايلك بيرن و هتكون هي بتكملك عشان تطمنك عليها.

    *********************

    إسترخي ""عاصم"" في المغطس الممتليء بالماء الدافيء و سائل الإستحمام المُركز ..
    تنهد بعمق مغمضا عينيه و هو يمني نفسه بنوما عميقا بعد أن يفرغ من حمامه ، يعوض به متاعب الأيام الماضية كلها ..
    فقد حقق إنجازات عديدة في الآونة الأخيرة و قد جاء وقت الراحة الأن ..
    فيما لاحت فجأة إبتسامة هادئة علي شفتيه و هو يفكر بهذه الفتاة المتقلبة التي تقف أمامه و تتحداه و لا يستطيع أن يفهم إلي أي شخصية تنتمي ؟
    للفتاة الناعمة البريئة كشكلها الجميل ؟!
    أم الفتاة المرتجفة الضعيفة ؟ أم الفتاة التي تجاهد أمامه كي تظهر له أنها قوية ؟؟!!
    منذ فترة طويلة ، بقيت صورتها ماثلة أمام نظره أينما راح و غدي و حل ، بقيت كما شاهدها أول مرة ، والأبتسامة الخفيفة الشاحبة تخطف على شفتيها كما يخطف البرق فى ظلام الليل ..
    وضع إبهامه علي شفته السفلي .. يفكر ما هي حقيقيتها ! و من بالضبط هذه الفتاة التي إحتلت كل تفكيره ؟
    و ما هي نهاية مشاعره الراغبة بها ؟!
    في تلك اللحظة تخيلها أمامه مباشرة ، و تركزت كل حواسه علي شفتيها الوردية الممتلئة .. ليتخيل بلحظة واحدة أنه يلثمها بين شفتيه ..
    الأن يمتصها بقوة .. و يداعب خصلات شعرها بأصابعه في الوقت ذاته .. كم هي جميلة .. همس بداخله .. ليشعر بحرارة قوية تنشب بجسده ، و خيالاته تذهب به لأشياء أخري يطمع بها ، و يريد أن يفعلها معها منذ أن وقعت عينه علي صورتها ..
    هز رأسه بعنف ليخرج هذه الأفكار التي تحتل رأسه .. هذا ليس مناسبا الأن ، خاصة و أنها لا زالت تعانده و ترفض تنفيذ شرطيه ، و لكن لا مناص لها من الإذعان .. ستوافق لا محالة و في أقرب وقت .. ليس إمامها خيارات أخري ..
    و بينما كان يمرر ""عاصم"" الصابون علي جسده ، سمع صوت رنين هاتفهه ينبعث من الحجرة ..
    تردد في الرد علي الهاتف ، لكنه خشي أن يكون هناك امرا عاجلا يستدعي الإتصال به ..
    فغادر المغطس و هو يجفف جسده سريعا بالمنشفة البيضاء القطنية ، ثم يلفها حول خصره ، و يلج إلي حجرته بخطي واسعة و مبتلة ..
    تناول هاتفهه من فوق فراشه ، و أجاب بسرعة دون أن يعرف هوية المتصل:
    -الو !
    علي الطرف الأخر ، أتاه صوت ""طارق الحسيني"" قائلا:
    -مساء الخير يا عاصم باشا .. معاك طارق الحسيني.
    رد ""عاصم"" بذهن نصف حاضر و هو يبعد بيده قطرات الماء التي ما زالت تتساقط من شعره المتهدل علي جبينه إلي وجهه:
    -اهلا يا طارق بيه .. خير في حاجة ؟؟
    -طبعا في كل خير يا باشا .. الانسة هانيا مضت الاوراق اللي حضرتك سيبتها عندي.
    إبتسم ""عاصم"" بإنتصار متهالك و قال:
    -طب كويس.
    -و ماتقلقش يا باشا كله تمام ، الورق انا شايله عندي في الخزنة و الانسة لسا خارجة من عندنا من حوالي ساعتين كده.
    و هنا جحظ ""عاصم"" بعينيه ثم هدر بعنف ناسيا أرقه و إرهاقه بالكامل:
    -بتقول ايه ؟ خرجت ؟ خرجت يعني ايه ؟؟
    شعر ""طارق"" بالخطر من نبرة ""عاصم"" العنيفة ، فرد متلعثما:
    -هي خرجت بعد ما مضت الورق .. مش سيادتك اتفقت معايا علي كده ؟!!
    صاح به ""عاصم"" بغضب حارق:
    -انت بتتصرف من دماغك يا حضرة الظابط ! انا قلتلك مشيها !!
    أجابه ""طارق"" بتوتر:
    -يا باشا و حضرتك كمان ماقلتليش خليها ، كل اللي قولته انك عاوزها تمضي الورق و بس ، و فعلا ده اللي حصل ، الورق اتمضي فسيبتها تمشي !
    كان رد ""عاصم"" الوحيد عليه ، هو انه أغلق الخط بوجهه و نيران الغضب تتأجج بصدره ..
    ثم سارع بإرتداء ملابسه و هو يسب و يلعن و يتوعد و يتساءل .. أين هي الأن ؟ .. لا يمكن أن تهرب منه بهذه السهولة ...

    ********************

    لم تعرف ""هانيا"" كيف نجت من دمارها المحتوم بمثل هذه السهولة ! لم تعرف كيف إستطاعت التنصل من قبضة ""عاصم"" الحديدية ! ..
    جل ما تعرفه أنها كانت بحاجة و لو لفرصة ضئيلة تستطيع من خلالها أن تنتزع نفسها بعيدا عن متناوله و تفر كالعمياء لتختفي عن بصره كما تفعل الأن ..
    كان الليل قد أرخي سدوله ، لكن القمر الساطع أضاء لها مواطئ قدميها علي الدرب
    و هكذا مضت تعدو راكضة بين الشوارع المظلمة خشية أن يلحق بها أحدا من أعوانه و يعيدها إليه كي تنفذ شرطه الثاني الذي عرضه عليها صباح اليوم ..
    و فجأة لم تستطع مقاومة وجهه المرعب و هي تركض عندما طغي علي أفكارها ، و الصورة التي عادت إلي ذهنها .. هي صورة لقاؤهما في الصباح .. عندما أجفلها بشرطيه .. إذ قال بنبرة مفعمة بالإنتصار و هو يبتسم بهدوء:
    -اول شرط انتي عارفاه .. هتكتبيلي تنازل رسمي عن المخزن بتاعك .. مع العلم اني سحبت المبلغ اللي عرضته عليكي قبل كده و رفضتيه ، يعني في مقابل التنازل اللي هتكتبيه .. مش هدفعلك و لا مليم.
    نظرت إليه ملتهبة العنين و الوجنتين ، ثم غمغمت من بين أسنانها:
    -و ايه الشرط التاني ؟؟
    ران الصمت بينهما للحظات قبل أن يقول بلهجة قوية ثابتة:
    -هتتنقلي للإقامة في بيتي لفترة قصيرة ، مش طويلة.
    إلتهب محياها غضبا ، و إجتاحتها رغبة شرسة في الرد بعنف علي جملته المبطنة الوقحة ، لكن وضعها جعلها تتمالك نفسها و تقول مستوضحة بحدة:
    -مش فاهمة ! اتنقل للإقامة في بيتك ليه و بأي صفة ؟؟
    كان كالأسطورة بشعره الأسود المتفحم الكث و الناعم ، و عينيه البندقيتين و سمرة بشرته
    هذا المزيج من المتناقضات يلفت نظرها مرة بعد مرة .. تارة تشعر بالنفور و الإشمئزاز من رؤية وجهه المشوه .. و تارة تري أن تلك الندبة لا تشوهه ، بل ربما تزيده وسامة !
    شكله الأن يشبه شكل القراصنة الأشرار .. يحتاج فقط لإبتسامة شيطانية ماكرة و ستكتمل صورة القرصان ..
    لم يخيب ""عاصم"" ظنها ، إذ إبتسم بخبث و هو يجيبها:
    -ماتقلقيش .. اوعدك هتكوني في امان ، انا اه احيانا ببقي شرير و مابرحمش ، لكن العِرض و الشرف عندي خطوط حمرا ، مقدرش اتخطاهم.
    تعجبت ، لم تتوقع أن تسمع منه كلاما كهذا !
    رمته بنظرة حادة ، و ظلت للحظات عاجزة عن الكلام ، ثم اطلقت لسانها:
    -بردو لسا مش فاهمة ! ايه لازمة كده يعني ؟؟!
    أجابها بلهجة قاتمة:
    -انا مش ناسي اهانتك ليا .. و لا ناسي كلمة واحدة قولتيهالي .. و قلتلك قبل كده اني هدفعك التمن.
    عاود ""هانيا"" ذلك الشعور العنيف بإنها علي وشك أن تفقد السيطرة علي نفسها ، لكنها هي التي بدأت المعركة و عليها أن تستمر فيها ، فكبحت إنفعالها و أستوضحته بخشونة:
    -و هدفعني التمن ازاي بقي ؟ هيكون علي صورة ايه يعني ؟؟
    حك مؤخرة رأسه ، ثم قال بوجوم دون أن ينظر إليها:
    -امي ست مريضة .. و مُقعدة .. بقالها سنين طويلة مش بتقدر تتحرك من السرير.
    كان صوته لينا و مترددا ، كأنه لا يرغب في التحدث عما حصل معه بالماضي ..
    فيما قطبت ""هانيا"" متأثرة و سالته بلطف:
    -تقصد مشلولة يعني ؟؟
    حدجها بنظرة حادة غير متوقعة ، فهزت كتفيها و هي تقول معتذرة:
    -انا اسفة .. ماقصدش اقول حاجة علي مامتك ، انت اللي اتكلمت الاول.
    أحس بلدغة قوية من كلامها ، و بدت عيناه مليئتين بالحزن و الغضب و هو يجيب علي سؤالها بشيء من الانفعال:
    -ايوه مشلولة .. لكن الشلل تأثيره نفسي مش عضوي .. من عشرين سنة و امي بتتصدم صدمات محدش يقدر يتحملها ، اولهم موت ابويا ، و بعدين اللي حصلي.
    و رفع يده إلي خده الأيمن حيث الندبة المجعدة ، ثم تابع:
    -و بعدين البهدلة اللي اتبهدلناها و الذل اللي شوفناه و كل ده بسبب ابوكي.
    أشاحت بوجهها عنه و هي تقول بأرتباك حاد:
    -طيب انت عايز مني ايه بالظبط يعني ؟؟
    -عايز اتجوزك.
    سمعت عبارته ، و أحست كل مقطع فيها يسقط عليها كما الصدمة ..
    قلصها خوف لا يوصف ، فرفعت بصرها إليه و تمتمت ذاهلة:
    -عايز تتجوزني ؟ .. انت مجنون ؟ بقي انا اتجوزك انت ! .. انت اللي خليت ابويا ينتحر و يموت نفسه بعد ما خدت منه شقي عمره ! و بعدين بهدلتني و جبتني هنا ظلم ! .. ده انت لو اخر راجل في العالم مستحيل اتجوزك او ارتبط بيك بأي شكل من الاشكال.
    تجاهل تعليقها اللاذع المنفعل ، و قال بفتور ساخر:
    -انا ماقلتش اننا هنتجوز بجد .. جوازنا هيبقي مجرد تمثيلية حتي مش هكتب عليكي ، هتعيشي تحت سقف بيتي كام شهر ، بالكتير سنة علي انك مراتي و بعد كده هاسيبك تمشي و مش هاتعرضلك تاني ابدا و لا هتشوفي وشي ، بشرط تتعاوني معايا و تقبلي تديني فترة قصيرة من عمرك ، بعد كده هتبقي حرة تماما زي ما قلتلك و انا هخرج من حياتك للأبد.
    قطبت بحيرة ، ثم سألته:
    -و ايه غرضك من التمثيلية دي ؟؟
    أجابها بصلابة متجهما:
    -الدكتور قال ان حالة امي النفسية هتتحسن لو حصلت حاجات تفرحها و تحفزها علي الرجوع لحياتها الطبيعية من تاني .. و انا لما فكرت لاقيت انها مش هتتحسن الا اذا اتجوزت و فهمتها اني نويت استقر و اجيبلها الاحفاد اللي نفسها فيهم .. انتي دورك في الحكاية دي انك هتكوني مراتي قدامها بس لحد ما تخف.
    نظرت إليه في تشكك و تمتمت:
    -و انا ايه اللي يضمنلي انك مش بتكتدب عليا ! ممكن تكون ألفت القصة دي كلها عشان اجيلك برجليا .. و يا عالم ممكن تعمل فيا ايه لما ابقي في بيتك .. ساعتها هبقي تحت رحمتك !
    غامت عيناه خلف سحابة غامضة ، و لم تستطع ""هانيا"" أن تفهم تعابير وجهه ..
    ظلا للحظات ثقيلة صامتين في مواجهة بعضهما البعض قبل أن يقول ""عاصم"" بصرامة و حزم:
    -ماعنديش ضمانات .. انا قلت كل اللي عندي خلاص .. هاسيبك انهاردة تفكري و هاجيبلك تاني بكرة .. و انتي عليكي تختاري بقي .. يا تتسجني .. يا تنفذي شروطي و تطلعي من القصة دي كلها بأقل خسارة ممكنة.
    تفحصها بنظره مطولة للمرة الأخيرة ، ثم أولاها ظهره الذي بدا لها غاضبا و غادر المكتب مسرعا دون أن يتفوه بحرف زائد ..
    و أخيرا أصبحت ""هانيا"" بمفردها .. ظلت واقفة مكانها لعدة ثوان .. فالصدمات المتوالية منعتها عن الحراك ، و في الوقت ذاته جعلت ساقيها ترتخيان بشدة ..
    إستعادت روعها بصعوبة بالغة ، ثم رمت بنفسها فوق أقرب مقعد ..
    دقائق و آتي العسكري ليعيدها إلي زنزاتها ..
    و بعد صراع عنيف بين المنطق الذي يجبرها علي قبول شروط عاصم كي تخلص نفسها من الوقوع في بئر بلا قرار ، و بين عاطفتها تجاه والدها و التي تحتم عليها عدم التعاون مع الرجل الذي إحتال عليه ثم كان سببا في موته ..
    إستطاعت تحديد موقفها .. فطلبت العودة إلي مكتب الضابط مقررة بكل خنوع و إنكسار قبول الشرطين الذي عرضهما عليها ""عاصم"" ..
    و بعد أن مضت التنازل ، أشرق وجه ""طارق"" و هو يقول لها برقة:
    -بجد انا بعتذرلك اوي يا انسة هانيا .. و عايز اقولك اني كنت مجبور اعمل كده لان اللي حصل ده بيا او منغيري كان هيحصل .. ارجو تكوني متفهمة الموقف !
    حدجته ""هانيا"" في إزدراء جم و لم ترد عليه ، فتنحنح بحرج ثم قال مشيحا عنها بوجهه:
    -تقدري تمشي دلوقتي.
    إتسعت عينيها الزرقاوين في ذهول ، و حركت فمها تكاد تسأله .. ماذا عن الشرط الأخر ؟
    لكنها تراجعت بسرعة و إختبرت الأمر بوقوفها .. ثم مشت بحذر تجاه باب غرفة المكتب و الغريب ، لم يعترض ""طارق"" أبدا و تركها ترحل .. !!
    عادت ""هانيا"" إلي أرض الواقع مجددا و قد تسارع وجيب قلبها بشدة لفرط توترها و إنفعالها ..
    بينما أخذت تركض بجنون لتهرب من ذلك الرجل المفعم بثقة مخيفة و سطوة مهيبة ، و الذي يبدو عازما بقوة و إصرار علي قلب ميزان حياتها بأي ثمن ... !!!!!
    "الحلقة ( 9 ) - الكابوس -:

    راح ""توفيق"" يذرع نطاق حجرة الجلوس جيئة وذهابا ، و هو في حالة نرفزة و إضطراب بينة ، كأن شيئا ما ينقصه ..
    بينما تفجر سيل من الأفكار السوداء داخل رأسه دفعة واحدة .. إذ أين إبنة شقيقه الأن ؟ .. أهي بحوزة ""عاصم الصباغ"" ؟ أم قصدت مكانا أخر ؟ أم أن مكروها أصابها و هي لا زالت داخل القسم أصلا !
    برزت أوردته و أحمرت أذنيه غضبا ، بينما نهض ""رشدي"" من مجلسه و تقدم صوبه قائلا بإعتراض متبرم:
    -و بعدين يا توفيق ؟ هتفضل تهري و تنكت في نفسك طول الليل كده و لا ايه ؟ اهدا شوية امال.
    قطب ""توفيق"" في إنفعال قائلا و هو لا يزال مستمر في المشي طولا و عرضا:
    -اهدا ! اهدا ازاي يا رشدي ؟ اهدا ازاي و انا مش عارف بنت اخويا فين و لا ايه اللي حصلها ؟ انا هتجنن !
    -مش الظابط قالك انها خرجت ؟ خلاص بقي بطل قلق و عصبية هي اكيد هتكلمك.
    أجابه ""توفيق"" و أعصابه الثائرة ترجف صوته:
    -و انا ايش عرفني اذا كانت خرجت و لا لأ ! مش يمكن حصلها حاجة و الظابط بيكدب عليا ؟؟!
    -يا اخي ماتقدرش البلا قبل وقوعه ان شاء الله خير.
    و هنا دق جرس الباب ، فإلتفتا الأثنان في نفس اللحظة ينظران إلي الباب لثوان دون حراك ..
    حتي سارع ""رشدي"" بفتحه .. ليتسمر بمكانه لبرهة ..
    فالطارق الواقف أمامه بوجه شاحب و أنفاس لاهثة .. لم يكن سوي ""هانيا"" ..
    تهلل وجه ""رشدي"" و هو يهتف دون أن يحيد بنظره عنها:
    -حمدلله علي السلامة يا ست البنات .. توفيق ، يا توفيق تعالي بسرعة.
    آتي ""توفيق"" مهرولا .. و جمد بمكانه عندما رآها أمام عينيه ..
    بينما تحطم ثباتها في تلك اللحظة و فرت الدموع الحبيسة من مقلتيها الزرقاوين و هي تقطع المسافة الفاصلة بينها و بين عمها ، لترتمي بأحضانه منفجرة بالبكاء ..
    إحتواها ""توفيق"" بين ذراعيه بعاطفة أبوية دافئة ، و راح يمسد ظهرها بيديه ..
    لم يتفوه بحرف ، فقط تركها تبكي علي سجيتها مكتفيا بتأرجحها في لطف بين ذراعيه و فمه فوق شعرها الأشقر ..
    فيما تعالي صوت نشيجها المكتوم بمرارة حارقة فتتت قلب ""رشدي"" الذي وقف يراقبهما في صمت تام ..

    ********************

    كانت غرفة مكتب ""عاصم"" مظلمة .. لا يضيئها سوي نور خافت منبعث من ثريات بأعلي السقف المنحوت من الخشب و الذي أضفي علي الجدران البيضاء جوا من الهدوء لم يكن له صدي لدي الرجل الذي كان يذرع الأرض ذهابا و إيابا كالنمر الهائج ، بينما صاح و قد ألهب الغضب عينيه:
    -وكيل النيابة الغبي .. سابها تمشي .. مستحيل تهرب مني .. مستحييل.
    باغته ""زين"" منفعلا بقوله:
    -انا عايز اعرف انت ايه اللي مضايقك دلوقتي ؟ انت مش خلاص عملت كل اللي انت عايزه و خدت منها المخزن و منغير ما تدفعلها و لا مليم كمان ! عايز منها ايه تاني بقي يا عاصم ؟؟!
    عند ذلك ، إستدار ""عاصم"" إليه بوجه مظلم غاضب ، أضاءه نور المصباح الرابض فوق المكتب فألقي ظلالا من زاوية غريبة علي وجهه أظهرت شموخ وجنتيه ، و كانت الندبة الغائرة بجانب وجهه الأيمن داكنة وحدودها واضحة و محتقنة ، فيما رد بوحشية:
    -عايزها .. عايزها هي يا زين .. و هجيبها هنا ، مافيش قوة هتمنعني عنها ، مش ممكن اسيبها تفلت من بين ايديا بالسهولة دي.
    إستوضحه ""زين"" بلهجة صلبة:
    -يعني ايه مش فاهمك ! قصدك ايه ؟؟
    ثم رفع يده و هز بسبابته و هو يقول له محذرا:
    -انا مش هسمحلك ابدا تأذي البنت دي .. انت صاحبي اه ، لأ و اخويا كمان .. لكن لو وصلت بيك افكارك الانتقامية لدرجة انك بتفكر تأذي واحدة مالهاش اي ذنب في اللي حصل .. بدل ما اكون معاك هبقي ضدك يا عاصم.
    -انا مش هأذيها !
    هتف ""عاصم"" بنزق منفعل ، ثم زمجر قائلا:
    -انا عايزها جمبي بس .. عايزها تبقي تحت عنيا.
    تغضن جبين ""زين"" بعبسة حائرة ، فسأله:
    -و هتستفاد ايه من ده كله يعني ؟؟!
    أجاب ""عاصم"" بصرامة و عيناه تتوهجان بعاطفة غامضة:
    -انا عايزها جمبي و بس .. بعدين بقي ابقي اشوف هتصرف معاها ازاي.
    ثم سأله بضيق و خشونة:
    -هتساعدني و لا لأ ؟؟
    حدجه ""زين"" في صمت ممتعض ، ثم تنهد بثقل و أطرق رأسه مذعنا ...

    *********************

    علي الطرف الأخر ..
    تناولت ""هانيا"" فنجان الشاي من يدا ""رشدي"" بيدين مرتعشتين ، بينما مد ""توفيق"" يده و ربت علي شعرها بحنان ..
    ثم إنتظر حتي إرتشفت القليل من المشروب الساخن و سألها بلطف و هدوء:
    -طيب ماتصلتيش بيا ليه بعد ما خرجتي ؟ قلقتيني عليكي اوي يا حبيبتي .. كنت هنزل ادور عليكي في الشوارع.
    بلهجة مرتجفة ردت ""هانيا"":
    -كنت خايفة يا انكل .. و انا جاية في السكة كنت مرعوبة و جسمي كله بيتنفض .. متخيلة في اي لحظة هايوصلي و ياخدني لبيته بالعافية .. انا مش مصدقة اني قدرت اهرب منه بالسهولة دي ! طلع انسان مش سهل ابدا .. بس الحمدلله ربنا حماني منه و ان شاء الله هينساني و يحل عني.
    إحتقن وجه ""توفيق"" بشدة لسماع ذلك ، فقال و أسنانه تصطك من الغضب:
    -خليه يقرب منك الجبان ده تاني و انا و شرفي لهقتله .. علي جثتي انه يمس شعرة منك .. هو فاكرك مالكيش حد و لا ايه ؟؟!
    -ماتقولش كده يا انكل .. انا محتاجاك دلوقتي اكتر من اي وقت تاني .. و ان شاء الله البني ادم القذر ده هيبعد عني.
    ثم أعادت الفنجان إلي الصينية فوق الطاولة أمامها ، و نظرت إلي ""رشدي"" تشكره بإبتسامة بسيطة قائلة:
    -شكرا يا انكل رشدي علي الشاي.
    منحها ""رشدي"" البسمة عينها و قال:
    -العفو يا ست البنات .. و لو اني كنت حابب اقدملك الشاي بعد العشا ، ده انا بعت صبي من صبياني اللي تحت في الورشة يجبلنا شوية مشويات وصاية من شارع الحاكم ، احلي اكل تاكليه من هناك و المحلات في الشارع ده مشهورة في الحسين كلها.
    إبتسمت له ""هانيا"" بإمتنان قائلة:
    -ميرسي اوي لذوق حضرتك .. بس انا للاسف مش هقدر اتعشا معاكوا لاني مجهدة جدا و عايزة انام.
    هز ""رشدي"" رأسه و هو يقول برفض قاطع:
    -لا لا لا مافيش الكلام ده .. هتتعشي معانا الاول و بعدين ابقي نامي براحتك.
    -صدقني مش هقدر اكل لقمة و انا في الحالة دي .. كل اللي انا محتاجاه دلوقتي اني انام عشان اصحي بدري و اعمل شوية مشاوير مهمة.
    تدخل عمها قائلا بإهتمام:
    -هتروحي فين يا هانيا ؟؟
    حولت ""هانيا"" بصرها نحوه و أجابته:
    -هروح الجامعة و بعد كده هعدي علي داده قوت عشان اجيب من عندها شنطة هدومي.
    -و هتروحي الجامعة ليه ؟ ريحي كام يوم و ابقي روحي براحتك.
    ضحكت ""هانيا"" في آسي ، ثم قالت بفتور:
    -انا مش رايحة ادرس يا انكل.
    قطب ""توفيق"" و سألها حائرا:
    -اومال رايحة تعملي ايه ؟؟
    قالت بآسف:
    -بما اني بقيت عالحديدة زي ما انت عارف يا انكل .. مش هقدر استمر في الدراسة ، فـهروح الجامعة بكرة الصبح و اسحب ورقي و بـ3 سنين اللي درستهم في الكلية ممكن ادور علي اي وظيفة و اشتغل عشان اقدر اصرف علي نفسي.
    هز ""توفيق"" رأسه عابسا و هو يقول:
    -و انتي تسيبي دراستك ليه ؟ ده انتي فاضلك سنة كمان و تتخرجي !!
    -ما انا مش هقدر اكمل اساسا يا انكل .. هاجيب منين مصاريف السنة دي و السنة اللي بعدها ؟ ما انت عارف مصاريف الجامعات الخاصة عاملة ازاي.
    -خلاص حولي.
    أطرقت ""هانيا"" رأسها في خزي قائلة:
    -مش هاينفع يا انكل .. بعد كل الفضايح اللي اتفضحتها مش هينفع اظهر وسط الناس تاني.
    رفع ""توفيق"" أحد حاجبيه في دهشة مرددا:
    -طب ما انتي كده كده هتظهري .. مش قولتي هتدوري علي وظيفة ؟؟
    تطلعت إليه باسمة في مرارة و هي تقول:
    -ما انت تدعيلي بقي يا انكل لما اروح اقدم محدش ياخد باله من شكلي و يتعرف عليا بعد ما صوري اكيد اتنشرت في الجرايد و سيرتي بقت علي كل لسان.
    تنهد ""توفيق"" آسفا علي حالها ، ثم قال بلهجة لطيفة:
    -خلاص يا حبيبتي .. اعملي اللي انتي شايفاه صح و انا معاكي .. مش هاسيبك ابدا.
    أهدته ""هانيا"" إبتسامة رقيقة و قد عاد شعور الأمل يغزو كيانها ..
    و خلال بقية الحديث .. شعرت ""هانيا"" تجاه ""رشدي"" بنوع من عرفان الجميل للإهتمام الذي يحمله إلي عمها و إليها ..
    بينما كان يستعمل هو سحره بسعادة أشعرتها بإسترخاء الدفء العائلي الممتع ، كأنها تشاطر عمها المهتم بمشاكلها و الذي يدير لها آذانا صاغية .. كان هذا شعورها نحو ""رشدي"" ..
    دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، فتثاءبت ""هانيا"" بتهذيب و سألت علي إستحياء عن مكان نومها ..
    فنهض ""توفيق"" و قادها إلي غرفته كي تنام فيها وحدها ، بينما يتدبر هو حاله بأي وسيلة أخري ...

    *********************

    -يعني ايه مش موجودة في الفيلا من الصبح ؟ هتكون راحت فين يعني ؟؟
    قالها ""عبيد"" هادرا بصوت عصبي ، فأجابته ""دينا"" بمزيج من الإرتباك و الحدة:
    -و انا هعرف منين هي راحت فين ؟ انت جوزها و انت اللي المفروض عارف عنها كل حاجة .. و بعدين وطي صوتك و انت بتتكلم معايا ماتنساش نفسك.
    أجفل ""عبيد"" مضطربا ، و أعتذر منها بلهجة هادئة قليلا:
    -انا اسف يا هانم .. ماقصدش سامحيني .. بس انا هتجنن .. هتكون خرجت راحت فين لحد الساعة دي ؟؟!
    ردت ""دينار"" بخشونة حازمة:
    -و الله ماعرفش حاجة زي كده .. كل اللي اعرفه قولتهولك .. هي خرجت من الصبح و لحد دلوقتي مارجعتش اكتر من كده ماعنديش كلام تاني اقوله.
    هز ""عبيد"" رأسه مغمغا:
    -هتكون راحت فين بس ؟ .. راحت فين ؟؟!
    تنهدت ""دينار"" بتوتر ناقض صوتها الثابت الصلب عندما إنطلقت تسأله:
    -طيب انتوا مالكوش قرايب هنا في القاهرة ؟ ممكن تكون راحت تزور حد منهم !
    أجابها عابسا:
    -مالناش اي حد هنا .. كل ناسنا و اهلنا في البلد.
    عند ذلك .. دلفت ""رضوي"" إلي حجرة الجلوس ، و وقفت تتنقل ببصرها بين ""عبيد"" المتخشب و أمها المتوترة ..
    ثم تقدمت ببطء صوبهما و هي تتساءل بقلق:
    -ماما ! خير في حاجة حصلت ؟؟
    زجرتها ""دينار"" بنظرة محذرة و قالت:
    -مافيش حاجة يا رضوي .. عبيد بس عنده مشكلة كبيرة شوية.
    ثم إلتفتت إلي ""عبيد"" و سألته بشيء من الإضطراب:
    -انت ناوي علي ايه دلوقتي بقي ؟؟
    بنصف ذهن حاضر أجابها ""عبيد"" و هو يفكر:
    -لو مارجعتش بكرة الصبح هروح اعمل بلاغ في القسم.
    إبتلعت ""دينار"" غصة في حلقها كادت تخنقها ، بينما إستأذن ""عبيد"" و أولاها ظهره و إنسحب في هدوء ..
    بينما تهاوهت ""دينار"" علي أقرب مقعد و هي تلهث إعياءاً ، فسألتها ""رضوي"" بترقب:
    -ايه اللي حصل يا ماما ؟؟
    لم تجبها في الحال .. صمتت لثوان ، ثم قالت في شحوب شاخصة بعينيها:
    -هيحصل .. هيحصل يا رضوي .. المصايب و الكوارث واقفة علي بابنا .. اخوكي هيضيع.
    هتفت جملتها الأخيرة بصوت متحشرج ، ثم غطت وجهها بكفيها و راحت تنتحب بمرارة ..
    تأففت ""رضوي"" بضيق ، ثم قالت منفعلة:
    -انا نفسي اعرف انتي بتضغطي اوي كده ليه علي اعصابك ؟ روحي لبابا و خليه يتصرف معاه .. محدش هيعرف يحل الموضوع ده غير بابا.
    أوقفت ""دينار"" نحيبها و تطلعت إلي إبنتها في صمت للحظات ، ثم أومأت رأسها قائلة بصوت خفيض:
    -هروحله .. فعلا لازم اروحله.

    *********************

    في صباح اليوم التالي ..
    أوت ""هانيا"" إلي الفراش ليلة أمس منهكة و قد أحست بخشونة الأغطية حين إندست بينها ..
    و لكن كان ذلك الفراش أكثر دفئا و راحة مقارنة بالفراش الذي كانت تضطجعه بمنزل مربيتها البسيط ..
    و هكذا عندما غاصت أكثر في عمق الفراش و أثقل النعاس جفنيها .. إنتابها إحساس بأنها تطير في الفضاء محمولة علي سحابة طرية ..
    نامت ملء جفونها لفرط إرهاقها و تعبها .. و عندما إستفاقت في الصباح ، كان شعاع الشمس يغمر الغرفة الصغيرة النظيفة ذات الأثاث العريق بنور ذهبي ..
    و فوجئت ""هانيا"" بعمها يقف بجانب فراشها و يحمل بين يديه صينية كبيرة .. :
    -انكل توفيق !
    قالتها ""هانيا"" بصوت متخدر بعض الشيء إثر حالة النعاس التي لا زالت مسيطرة عليها ..
    بينما تغضن وجه ""توفيق"" بإبتسامة عريضة ، ثم قال و هو يجلس أمامها علي حافة الفراش:
    -صباح الخير يا حبيبتي .. يلا قومي بقي عشان تفطري.
    -هي الساعة كام دلوقتي يا انكل ؟؟
    سألته ""هانيا"" و هي تتثاءب و تتمطأ بالفراش كقطة رقيقة ناعمة ، فأجابها ""توفيق"" و هو يضع الصينية بجوارها:
    -الساعة داخلة علي عشرة تقريبا يا حبيبتي.
    هتفت بتكاسل و هي تغمض عينيها نصف إغماضة بطريقة عفوية مثيرة:
    -يا خبر ! ده يا دوب اقوم بسرعة عشان الحق مكتب شئون الطلبة.
    باغتها ""توفيق"" بلهجة قاطعة:
    -مش هتتحركي من هنا الا اما تفطري .. انتي ما اكلتيش حاجة من امبارح.
    لم تكن ""هانيا"" شديدة الحماس لملاقاة ذاك النهار ..
    و لكن برغم كل ما كان يخالجها من شعور بالقلق .. وجدت الخبز الساخن الذي أحضره عمها لذيذ المذاق و تناولته بشهية ..
    بينما نهض ""توفيق"" و سألها بإهتمام و هو يحوم حولها:
    -بعد ما تسحبي ورقك من الجامعة .. قررتي هتشتغلي فين بالظبط ؟؟
    إرتشفت ""هانيا"" بعض القهوة ، ثم أجابته و هي ترجع الفنجان إلي الصينية:
    -هادور يا انكل .. هلف علي الشركات و المكاتب لحد ما الاقي وظيفة مناسبة لمؤهلاتي.
    و ظلت ساكنة لبرهة ، ثم دفعت صينية الطعام جانبا و شكرته ..
    إحتج ""توفيق"" قائلا و هو ينظر إلي الطعام الذي لا يزال كما هو تقريبا:
    -مأكلتيش حاجة !
    -الحمدلله شبعت يا انكل ، و بعدين قلتلك لازم انزل حالا عشان الحق شئون الطلبة.
    خضع ""توفيق"" لرغبتها و أخذ صينية الطعام و خرج من الغرفة ..
    نهضت ""هانيا"" من الفراش متجهة إلي المرآة الصغيرة و المرتكزة فوق منضدة الزينة ..
    راحت تتفحص ملامحها و ملابسها عابسة ..
    لقد نامت طوال الليل بثوبها الذي لم تغيره منذ يومين ..
    هزت رأسها بقوة و هي تنظر إلي نفسها بإنزعاج .. فكيف ستخرج بتلك الهيئة المزرية ؟ كيف ستذهب إلي جامعتها التي تعج بمن هم ينحدرون من عائلات رفيعة الطبقة ؟؟
    قررت في النهاية أنها ستتسلح بالثقة .. نعم ، فإن كانت واثقة من نفسها حتي و لو إرتدت ثيابا بالية أو إنتعلت حذاءً رثا ، ستجبر الجميع ان ينظروا لها بإحترام و تقدير ..
    و في تلك اللحظة .. تساءلت بمرارة:
    -و هو معقول محدش هيبصلي بإحتقار و شماتة بعد كل اللي حصلي ؟؟!
    نفضت ""هانيا"" كل الأفكار عن رأسها و إلتقطت منشفة كانت ملقاة فوق كرسي صغير بزاوية الغرفة ، ثم توجهت إلي الحمام ، إذ وجدته بسهولة حيث كان أمام باب الغرفة مباشرة ..
    ولجت إليه و غسلت وجهها جيدا ، و راحت تهندم ملابسها قدر المستطاع ، ثم خرجت و أحضرت حقيبة يدها من الغرفة ، و غادرت المنزل بعد أن ودعت عمها الذي أصر أن يعطيها بعض النقود التي بالتأكيد ستحتاج إليها طوال غيبتها في الخارج ..
    وصلت ""هانيا"" إلي الطريق الرئيسي ، و إستوقفت سيارة أجرة .. إستقلت في المقعد الخلفي و هي تخبر السائق الوجهة التي تقصدها ..
    كانت فارغة الصبر ، لكن السائق لم يكن مسرعا في الإقلاع .. لسوء حظها وقعت في سائق بطيء !
    و أقلع أخيرا .. فإسترخت ""هانيا"" نوعا ما و إختفت التجاعيد عن جبينها ..
    بعد نصف ساعة تقريبا ، وجدت نفسها في بهو الجامعة الذي يعج بالطلبة ..
    فيما إنتبهت ""هانيا"" أثناء سيرها أنها إستقطبت أنظار جميع الطلاب مما أزعجها ، و لكنها نجحت في تجاهل نظراتهم مرتدية قناع الكبرياء و الثقة بالنفس ..
    كانت علي وشك الدخول إلي مكتب شئون الطلبة .. حين سمعت فجأة صوتا مألوفا يناديها ..
    تسمرت بمكانها للحظة .. ثم إستدارت لتجد أمامها ""جاسر"" .. نعم هو ""جاسر"" ..
    الشاب الوسيم بشعره الأسود الفاحم و عينيه الخضراوين ..
    كان زميلها بالصف ، و كان يفتنها أيضا رغم انه مغرور و بدون اخلاق و لا نفع منه ..
    لقد لاحقها بدوره منذ أول لقاء لهما ، و قد نجح في إذكاء جذوة الحب بينهما .. وقتها لم تستطع ""هانيا"" مقاومة كلامه المعسول ، لم تحاول منع نفسها من الوقوع في حبه ..
    إلي أن صدمها ذات مرة بطلب مشين منافي للعرف و التقاليد و الأخلاق !
    عندما طلب منها إقامة علاقة غير شرعية بينهما .. لم تصدقه في باديء الأمر ، ظنت انه يمازحها ..
    لكنه اكد لها بجدية صدق قوله .. فما كان بها إلا أن صفعته بكل ما أوتيت من قوة و أنهت علاقتها به بعد ذلك .. :
    -جاسر !
    كانت تتمتم بغيظ .. فالمفاجأة غير سارة بالنسبة إليها ، لم تتوقع أن تلتقيه اليوم ، فهو كان أبعد ما يكون عن تفكيرها ، غير أنها لم تكن لتفضل أن يراها و هي علي تلك الحالة ..
    فيما إقترب منها بخطي وئيدة و هو ينظر إليها نظرة إعتداد بالنفس و قد بدا مغرورا أكثر منه وسيما ، و وقف أمامها مباشرة ، ثم قال بنعومة ماكرة:
    -لسا فاكراني ! هايل بجد.
    تطلعت إليه بترفع و تحد قائلة:
    -في ناس كده بيبقوا امثلة ، للخير او للشر .. او للقذارة و قلة الادب .. و انت مثال حي و قوي لحاجة من دول يا جاسر.
    ضحك ضحكة مجلجة هازئة ، و عاد يقول بجفاف ساخر:
    -و انتي بقي اي مثال في دول يا هني ؟؟
    إغتصبت إبتسامة باهتة و أجابته بكبرياء:
    -عديت بمواقف كتير اوي في اليومين اللي فاتوا .. و من خلال كل موقف .. تقدر تحطني في المثال اللي يعجبك .. باي يا جاسر.
    دارت علي عقبيها ، و قصدت مكتب شئون الطلبة بوجه متجهم غاضب جراء حوارها الثقيل مع ""جاسر"" ..
    أنهت مهمتها سريعا و غادرت الحرم الجامعي بأكمله أخيرا ..
    إستوقفت سيارة أجري للمرة الثانية و أرشدت السائق إلي وجهتها الجديدة ..
    قبل أن تذهب إلي بيت السيدة ""قوت القلوب"" لكي تحضر حقيبة ملابسها و باقي أغراضها ، عليها أن تذهب إلي مكان أخر أولا ..
    بعد بضع دقائق .. أنزلها السائق أمام طريق ساكن و خاوي .. لا حركة فيه و لا صوت .. فقط الصمت المميت ..
    إنها المقابر .. المنازل الأخيرة للبشر .. ذات السكون الموحش ، و رائحة الموت الذي يقترب من صاحبه اكثر يوما بعد يوم ..
    مال ميزان النهار إلي الإنتصاف عندما شقت ""هانيا"" طريقها وسط المقابر حتي توقفت أمام مقبرة والدها ..
    راحت تنظر إلي اللوح الرخامي الذي كُتب عليه أسمه و تاريخ وفاته ..
    ثم بدأت تتكلم و كأنها تراه أمامها و تخاطبه:
    -ليه يا بابا ؟ ليه سيبتني لوحدي ؟؟
    قالتها بوهن جم و قد غشت الدموع عينيها الزرقاوين ، ثم تابعت منتحبة بصوت متحشرج:
    -محدش رحمني .. كلهم داسوا عليا و ذلوني من بعدك .. اتبهدلت و اتفضحت .. سيرتي بقت علي كل لسان .. مابقتش قادرة ارفع عيني في اي حد زي زمان .. نفسي انكسرت يا بابا .. كل حاجة ضاعت مننا و انت اخترت تسيبني لوحدي و ارتحت من كل ده .. ليه يا بابا ؟ ليه مافكرتش فيا قبل ما تعمل كده ؟ ليه ؟؟
    و اخذت تنشج بقوة و قد أصبحت علي شفير الإنهيار .. لم تستطع أن تتوقف عن البكاء أبدا ..
    إلا عندما سمعت صوت محرك سيارة منبعث من خلفها ..
    مسحت دموعها بظهر يدها و أستدارت لتجد سيارة ""لكسز"" فارهة تقف أمامها ، بينما ترجل من السيارة ثلاثة رجال و تقدموا نحوها في بطء ..
    فيما تمكنت ""هانيا"" من خلال موجة الغبار الشديدة التي أحدثتها إطارات السيارة أن تتبين ملامح احدهم و الذي كان يسير في المقدمة ..
    لقد كان ""جاسر"" ..
    بصورة تلقائية .. تراجعت ""هانيا"" خطوة إلي الوراء و هي تهتف بريبة محتدة:
    -جاسر ! ايه اللي جابك هنا ؟ انت ماشي ورايا ؟ بتراقبني ؟؟
    إستمر ""جاسر"" وحده في الإقتراب منها بوجه عابس مظلم ، و أدركت ""هانيا"" من البريق الغامض في عينيه أنه ينوي بها شرا ..
    فتراجعت عدة خطوات أخري للوراء و هي تقول بحدة أكثر إذ كانت خائفة .. حقا خائفة:
    -عايز مني ايه يا جاسر ؟؟
    قال ""جاسر"" و هو يجتاز المسافة بينهما بخطوات واسعة:
    -عايز منك ايه ؟ .. اللي انا عايزه منك مايتقلش يا هانيا ..حالا هتعرفي انا عايز منك ايه !!
    في تلك اللحظة إستدارت ""هانيا"" محاولة الفرار بعيدا ، إلا أنه لحق بها ..
    أمسك بخصرها بقوة بذراعيه .. فأخذت تصرخ بذعر و هي تضرب الهواء بقدميها ، بينما قهقه عاليا ، ثم قال شامتا:
    -صرخي زي ما انتي عايزة يا هني .. مين هنا هيسمعك غير الميتين ؟ و احنا اصلا في حتة مقطوعة.
    ثم ادارها في مواجهة مقبرة أبيها و هي لا تزال سجينة بين ذراعيه و قال بتهكم لاذع:
    -او اقولك .. خلي ابوكي المحترم مصطفي بيه علام يطلع من التربة و ينقذك .. لكن في كل الاحوال عايزك تعرفي ان لو الجن الازرق طلعلي هنا انا مش ممكن هسيبك الا اما اخد حقي منك تالت و متلت.
    قاومته بشراسة و هي تصيح:
    -مالكش حقوق عندي يا جاسر .. و سيبني احسنلك و الا آا ..
    قاطعها ساخرا بقوله:
    -و الا ايه ؟ هتعملي ايه يا حبيبتي ؟ خلاص زمنك عدا و راح .. دلوقتي بقيتي و لا حاجة ، علي حسب ما سمعت ابوكي انتحر بعد ما فلس و انتي اتشردتي من بعده لأ و كمان طلعتي مش سهلة و بتاجري في المخدرات .. دلوقتي مش هتقدري تعملي اي حاجة .. خلاص انهارت نفوذك و مابقالكيش ضهر و لا كبير ، لا هتقدري ترجعي مجدك تاني و تبقي هانيا علام الانسة الجميلة المغرورة ، و لا هتقدري ترفعي عينك فيا اصلا بعد اللي هعمله فيكي دلوقتي حالا انا و الشباب.
    و إلتفت ينظر بخبث إلي صديقيه قائلا:
    -ماحبتش اتمتع بيكي لوحدي فجبت الشباب معايا و هنعمل حفلة عليكي و هنا .. قدام قبر ابوكي.
    تلوت ""هانيا"" بعنف بين ذراعيه و هي تصرخ كالمجنونة:
    -اياك حد يلمسني او يقرب مني يا حيوانات يا كلاب.
    رد عليها بضحكة كبيرة ساخرة و هو يجرها جرا نحو صديقيه .. فلم تلبث ""هانيا"" أن إستردت وعيها مدركة معني ما يجري ..
    فتحت فمها مرة أخري تهم بالصراخ ، و لكنه أسرع بخنق صوتها بقبضته العنيفة ..
    قاومته ""هانيا"" بكل قواها .. راحت تلكم بيديها و ترفس بقدميها دون فائدة ..
    بينما امسك ""جاسر"" اطرافها بإحكام و ألقي بها أرضا كخرقة ممزقة ..
    حاولت ""هانيا"" النهوض لكنه لم يسمح لها و لو بالحركة البيسطة و أنقض عليها ..
    امسك شعرها بيد و مزق ثيابها العلوية باليد الأخري .. ضربته بعصبية و رفسته بغضب ، و لكنه بدا قويا جدا و غير آبه بما تفعله ..
    عندما تأكدت ""هانيا"" من عدم قدرتها علي الخلاص منه ، توسلته بوهن:
    -جاسر .. ارجوك كفاية .. ماتعملش فيا كده.
    قهقه ""جاسر"" بخشونة و قال بقسوة:
    -مش رفضتيني قبل كده و عملتي فيها خضرة الشريفة ؟ هتشوفي بقي دلوقتي ايه اللي هيحصلك يا مزة.
    ثم لكمها بقوة علي فمها مما أدي إلي جرح شفتها ، و صرخ فيها بوحشية:
    -ده عشان القلم اللي اديتهولي قبل كده ..
    و سدد لها لكمة عنيفة اخري صائحا:
    -و ده مني انا فوق البيعة .. احسنلك بقي تتعاوني معانا بدل ما تتآذي اكتر من كده و جمالك ده يتشوه.
    دارت الدنيا حول ""هانيا"" و تشوشت رؤيتها علي إثر لكماته لها ..
    لم تكن تعي ما يقوله حتي .. كانت تسمع صوته بعيدا و هي تعجز عن رؤيته من خلال عينيها اللتين أغشتهما الدموع ، أدركت ""هانيا"" في تلك اللحظة و هي تذرف دموع القهر و الذل بأن حياتها شارفت علي الإنتهاء .. فبعد لحظات سينتزعوا منها روحها و يتركوها حطاما ..
    و لكنها سمعت بعد قليل أصوات ضجيج ، ثم توالت الأصوات المختلفة .. إلي أن ساد الصمت فجأة .. و أحست بيدين قويتين تمسكان بها ..
    شهقت بذعر و وجدت القوة لتصرخ:
    -سيبووني .. محدش يلمسني .. سيبوووني حرام عليكوا.
    سمعت صوتا مالوفا يقول لها بدفء:
    -ماتخافيش .. انتي رجعتيلي خلاص و بقيتي معايا .. محدش هيقدر يقربلك تاني .. اطمني.
    تنازعت قلبها مشاعر مضادة متناقضة .. فمن ناحية كانت خائفة مذعورة لأن الصدمة التي خلفتها محاولة ""جاسر"" الشريرة كانت لا تزال قوية في نفسها ..
    و من ناحية أخري ، أرادت أن تنجو من المصير المؤلم ، لذا تراخت و تركت نفسها لتشعر بقوة محدثها و حمايته التي تحتاج إليها الأن بصورة يائسة ..
    ثم غابت عن وعيها تدريجيا و هي تشعر به يحملها بلطف صارم بين ذراعيه ...

    يتبع ..."

    إرسال تعليق

    أحدث أقدم

    نموذج الاتصال