"الحلقة ( 5 ) .. - مشوه ! - :
في تمام الثامنة و النصف صباحا ..
كانت ""هانيا"" تقف أمام المرآة ، تتحضر و تتهيأ إستعدادا لملاقاة عدوها
بعد أن تركت الفراش ، إستعادت حيويتها بحمام ساخن ، ثم إرتدت تنورة حمراء سميكة ، يعلوها قميص أبيض حريري ، ثم وضعت فوق كتفيها معطف ذا لون سماوي يتلاءم مع زرقة عينيها تماما ، و مع المظهر الذي أرادت أن تظهر به ..
ثم جلست فوق كرسي خشبي أمام المرآة و راحت تصفف خصيلات شعرها الأشقر ، فيما زمجرت بغيظ و هي تنظر إلي صورتها .. فهذا الصباح ستواجه محنة مقابلة ""عاصم الصباغ"" ..
كيف ستتحمل هذا اللقاء ؟ كيف ستتحمل النظر إليه دون أن تنقض عليه و تقتله إنتقاما لأبيها الراحل الذي تسبب هو في موته .. كيف ؟
و لكن فجأة ، و بعزيمة قوية ، أبعدت عن ذهنها صورة أبيها التي تعذبها ، مستعينة علي ذلك بتذكر الحرب التي ستبدأ عما قريب ، و لكن ذلك الأمر سوف يتحدد بعد اللقاء المنتظر ..
كانت فكرة الثأر كفيلة أن تجعلها دبلوماسية في المعاملة معه عندما تراه ، لهذا كانت تعمل علي تهدئة أعصابها طيلة الوقت
ألقت ""هانيا"" نظرة إلي ساعة يدها السوداء الجلدية ، لم يبق لها سوى عشرين دقيقة للوصول إلي مقر الشركة .. سوف تصل سيارة التاكسي التي طلبتها هاتفيا في أي لحظة الأن
و بعد ما نظرت مرة أخري إلي نفسها بالمرآة و تأكدت من حسن مظهرها ، حملت حقيبتها و علقتها بكتفها و هي ترسخ بأعماقها شعور العزة و الكبرياء ..
حمدت ""هانيا"" الله عندما تبين لها أن السيدة ""قوت القلوب"" لا تزال نائمة ، فهي ما كانت لتتركها تغادر دون أن تتناول الإفطار
هبطت ""هانيا"" السلالم المتعرجة بإحتراس و روية ، و لدى وصولها إلي عتبة الباب الرئيسي للبيت المتهالك ، وجدت سيارة التاكسي في إنتظارها ..
بعد ثلث ساعة .. أوصلها السائق أمام البوابة الرئيسية لمؤسسة - A T S - للإستيراد و التصدير .. و بعد أن دفعت له الأجرة ، ترجلت متوجهة إلي الداخل ، ثم ذهبت صوب مكتب الإستقبال و الإستعلامات برأس شامخة و خطى ثابتة ، إذ طلبت أن يصار إلي إعلام رئيس الشركة بحضورها ، بينما طلبت منها موظفة الإستقبال بدورها أن تدلى بأسمها و السبب الذي من أجله أتت لرؤية الرئيس ..
أدلت ""هانيا"" بأسمها الثلاثي ، و رفضت أن تصرح بأكثر من ذلك ، مشيرة بأن رب العمل هو من طلب رؤيتها و ليس هي ، و بناءاً علي ذلك رفعت الفتاة سماعة الهاتف ، و تحدثت لدقيقة بصوت خافت أقرب إلي الهمس ، ثم عادت تنظر إليها قائلة بإبتسامة خفيفة:
-مستر عاصم منتظر حضرتك فعلا.
ثم هتفت بإسم أحد العاملين في الإستقبال ، فجاء شاب يرتدي زي العمل الرسمي ، فطلبت منه أن يقود الزائرة إلي الطابق السادس من المبني الضخم حيث يقع مكتب المدير الرئيسي ..
أحني الشاب ذا البسمة الحلوة رأسه في أدب ، و طلب من ""هانيا"" أن تتبعه ، بينما شعرت الأخيرة بقدميها ترتخيان فجأة ، و لكنها إستعادت رباطة جأشها مسرعة و عادت تحصن نفسها بأسوار الشموخ و الكبرياء ..
تمكنت من عبور البهو المفروشة أرضه ببساط واسع مزين بألوان زاهية و رسوم فنية ، و لما إنفتح باب المصعد و خطت داخله ، خيل إليها أنها تغادر العالم المتزن الواضح ، لتدخل عالما أخر غير مألوف علي الإطلاق ، بينما كان الغم و الكدر يضغطان علي حنجرتها و هي تحاول جاهدة أن تنطق دون جدوى .. الطوابق تمر أمامها و هي عاجزة أن تطلب من الشاب الذي كلف بتوصيلها إلي مكتب المدير أن يعيدها إلي الأسفل ..
و بصورة مفاجأة ، توقف المصعد ، و خرج الشاب أمامها ، فتبعته و قدماها تدوسان البساط الأخضر السميك ، بينما كانا يتوجهان نحو صالة واسعة وضع بها مكتب صغير جلست خلفه السكرتيرة الخاصة بمكتب المدير ، و حالما رأت الزائرة المنتظرة ، راحت ترمقها في فضول ، و لكنها نهضت و توجهت نحوها مسرعة ..
رحبت بها في برود هادئ و علي فمها إبتسامة رقيقة باهتة ، ثم أصرفت الشاب و أخذتها إلي مكتب رب العمل .. طرقت الباب ، و فتحته عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها للدخول ، ثم إلتفتت إلي ""هانيا"" قائلة:
-حدودي لحد هنا .. اتفضلي ادخلي.
أومأت ""هانيا"" رأسها و تنفست بعمق ، ثم خطت إلي داخل المكتب الفسيح ..
أغلقت السكرتيرة الباب وراءها ، بينما ركزت "" هانيا"" بصرها نحو مركز الغرفة .. حيث إستقر ""عاصم الصباغ"" و قد ملأ مقعده الجلدي الوثير بكتفيه العريضتين
كان مستديرا بالمقعد نصف أستدارة ، حيث ظهر بالجانب الأيسر من جسده ، فيما كان متظاهرا بالإنهماك في إحدي مكالمته الهاتفية المهمة .. و من دون أن ينظر إليها ، أشار لها بيده أن تقترب ، ثم تجاهلها تماما ليستمع إلي محدثه الوهمي ..
بينما ظلت واقفة علي بعد مترين من مكتبه ، إلي أن تململت في ضيق و إنزعاج عندما إستغرق وقتا طويلا في مكالمته ، فيما كان هذا هدفه تماما ، أن يضجرها و يزعجها و قد نجح
و لما شعر بالكفاية ، أغلق هاتفهه ، و وضعه فوق سطح المكتب ، ثم إستدار لها بمقعده و بكامل جسده ، و نهض بطوله الفارع ليواجهها ..
الأن تستطيع ""هانيا"" أن تنظر إليه جيدا و تتبينه بوضوح عندما إحتوته بنظرها .. أحست بأن نفسها قد إحتبس برئتيها ، كما شعرت بالإرتباك و إختلطت عليها مشاعرها .. فالخصم الذي رسمت صورته في خيالها ، يختلف تماما عن هذا الرجل الواقف أمامها !
كانت ندبة عميقة ، خشنة طويلة فوق خده الأيمن أول ما لفت نظرها .. الأن عرفت لماذا لم تر له أية صورة علي مواقع الإنترنت ..
تابعت النظر إليه و هي تتفحصه بدقة ، كان ينتعل جزمة سوداء لماعة ، كما كان يرتدي بذلة من اللونين ، الأسود و الكحلي .. شعره أسود ناعم و غزير ، بدا ما بين الطول و القصر و هو مصفف بعناية إلي الوراء ، بينما بعض الخصيلات تموجت إلي جانبي وجهه لتضفي عليه لمسة وسامة ..
بينما إستطاعت ""هانيا"" أن تميز عبر المسافة الفاصلة بينهما ، حاجبين كثيفي السواد ، فوق عينين بمزيج من لون البندق و شذرات ذهبية ، و أنف مستقيم ، ينحدر إلي فم مغر بشفتين ممتلئتين شهوانيتي التأثير ، و جانب وجهه السليم المنحوت و الخالي من التشوهات ، أعطي وجهه شكلا كلاسيكيا فريدا ..
إنبهرت ""هانيا"" من ذلك التكوين المذهل وتساءلت .. هل يمكن أن يمتلك رجلا مثله كل هذا الكمال رغم عاهته ؟!!
أجفلت عابسة ، ثم أوقفت نفسها بسرعة عن الإسترسال في تأمل هيئته ، بينما ظهرت علي وجهه إبتسامة ساخرة و كأنه قرأ أفكارها و ما يختلج بنفسها من مشاعر متضاربة ، فيما هنأ نفسه بإنتصاره بالجولة الأولي ، فقد نجح في تطبيق عنصر المفاجأة عليها .. فهي بالطبع لم تكن تتوقع أن تر خصمها ذا وجه مشوه ..
شعرت ""هانيا"" بعينيه الثاقبتين تخترقانها إختراقا ، بينما بصوت عميق و أجش قال لها:
-صباح الخير يا انسة هانيا .. اهلا بيكي في شركتي ، نورتي.
ثم مد يده الكبيرة ليصافحها ، بينما لم تغب عن "" هانيا"" رنة الإستهزاء في صوته ، لكنها مدت يدها في بطء و ثبات و صافحته ، ثم سحبتها بسرعة و حزم و هي ترمقه بكل ثقة قائلة:
-صباح النور .. ميرسي لذوقك.
إبتسم بخفة و هو يقول:
-انا اسف لو كنت خليتك تنتظري كتير ، بس كان معايا مكالمة شغل مهمة.
ثم دعاها للجلوس في أحد المقعدين الواقعين قرب المكتب:
-اتفضلي اقعدي.
لبت ""هانيا"" دعوته ، إذ جلست إلي حيث أشار قبالته في المقعد الجلدي الوثير ، بينما قبل أن يجلس بدوره ، راح يعينها في إمعان دقيق ..
و بعد أن تفحصها من قدميها إلي رأسها ، إشتبكت نظراته بنظراتها ..
تمكنت ""هانيا"" من رؤية الإعجاب في عينيه الجرئيتين ، فتلون وجهها قليلا ، بينما جلس ""عاصم"" أخيرا و سألها بنعومة هادئة:
-تشربي ايه يا انسة ؟؟
أجابته بإبتسامة خفيفة:
-شكرا .. و لا اي حاجة.
-لأ ازاي ! لازم تشربي حاجة .. انتي بتزوريني في شركتي و لأول مرة مش هاينفع.
غمغمت ""هانيا"" برقة قائلة:
-مممم ، لو لازم يعني يبقي قهوة سادة.
-سادة !!
هتف ""عاصم"" في تعجب إستنكاري رافعا حاجبيه ، فأكدت له بإيماءة من رأسها ، فهز هو كتفيه بخفة ، ثم رفع السماعة و آمر بإحضار فنجانين من القهوة إلي مكتبه ، ثم عاد ينظر إليها باسما و هو يقول:
-قبل اي حاجة انا بقدم التعازي في والدك الله يرحمه .. ماتتصوريش اتضايقت اد ايه لما جالي الخبر.
في تلك اللحظة .. كانت عيناها الزرقاوان تنفثان الغضب ، لم تشعر من قبل بمثل تلك العصبية التي إعتملت بنفسها نتيجة كلماته ، و لكنها بقيت تحافظ علي برودة صوتها
لن تترك لهذا الرجل الفرصة ليشعر أنها لا تستطيع السيطرة علي هدوء أعصابها .. :
-استاذ عاصم !
هتفت في جمود هادئ ، ثم سألته بلهجة رسمية:
-حضرتك طلبت تقابلني .. و اديني اهو جتلك زي ما طلبت .. خير ؟؟
مط ""عاصم"" شفتيه مهمهما ، ثم أجابها ببطء متعمدا إستفزازها:
-طبعا زي ما انتي عارفة .. كل املاك والدك الله يرحمه .. بقت ملكي حاليا.
و توقف عن الكلام قليلا ، يراقب تعابير وجهها المتصلب متلذذا ، ثم عاد يقول:
-كل حاجة بقت ملكي .. ماعدا حاجة واحدة بس.
حدجته ""هانيا"" في حدة ، و قد فطنت بالبديهة أنه يقصد تلك الأرض التي تركها لها والدها قبل وفاته بخمسة أعوام ..
بينما رفعت وجهها ، و عقدت حاجبيها في إستغراب متكلف و هي تقول:
-مش فاهمة يا استاذ يا عاصم ! تقصد ايه ؟؟
إبتسم بإلتواء و قد إستشف فيها نزعة عنيدة و مغامرة تحت قناع وجهها الإرستقراطي الجميل ، ثم أجابها بلهجة هادئة مستمتعا باللعبة التي يمارسها معها:
-في حتة ارض صغيرة للاسف فلتت من تحت ايدي .. لما جيت افرز الاملاك اكتشفت ان والدك كتبهالك من كام سنة كده.
-طيب ! فين المشكلة ؟!
هتفت في خشونة متهكمة ، بينما أجابها بإبتسامة خفيفة:
-الارض دي علي وجه التحديد و لاسباب شخصية تهمني اوي .. انا عايزها ، هاشتريها منك و هاديلك المبلغ اللي تطلبيه.
رمقته بعبسة متجهمة ، ثم سألته في إهتمام مترقب:
-ايه مدى اهمية الارض دي بالنسبة لك يا استاذ عاصم ؟؟
هز كتفيه و كأنه يجد الأمر برمته مسليا ، ثم أجابها قائلا كمن يشرح درسا:
-هي موقعها حلو ، مساحتها كويسة ، و انا بصراحة نفسي ابني فوقيها بيت.
ثم أضاف برقة هازئة:
-طبعا ده بعد ما اهد المخزن اللي عليها الاول.
خضب كلامه وجنتيها بحمرة الغضب ، إذ كان واضحا من نبرة صوته الناعمة و كأنه تعمد أن يشعرها بالذل و الحسرة علي إرثها الذي نهبه و إستولي عليه بأساليب الإحتيال ..
فيما غالبت شعور الغضب الذي راح يتصاعد داخلها ، حيث أخذت نفسا عميقا ، و حاولت أن تبادله ذلاقته الهازئة نفسها و هي تقول:
-قبل ما اجي هنا .. كنت متوقعة ان حقوقي هترجعلي بعد المقابلة دي .. كنت متوقعة اعتذار م وندم علي التصرفات الاحتيالية اللي حضرتك لجأتلها عشان تنصب علي ابويا و تسرق منه كل حاجة.
عاد يرسم علي شفتيه تلك البسمة الساخرة ، و رفض منحها تأكيدا شافيا لكلامها ، بل قال و هو يسترخي فوق مقعده:
-طالما كشفنا ورقنا يبقي مافيش داعي للتظاهر بالبساطة و تزويق الكلام.
أردف بهدوء و قد بدا وجهه قريرا متألقا:
-الضرب تحت الحزام شيء مشروع في شغلنا جدا يا انسة .. و اذا كنت انا نصاب زي ما بتقولي .. يبقي والدك العزيز شيخ منصر.
إشتعلت حدقتيها الزرقاوين بغضب حارق ، فهبت واقفة و هدرت بشراسة تدافع عن أبيها:
-والدي اللي بتتكلم عنه ده كان راجل شريف .. كان صاحب شركات و بيزنس محترم ، مش رئيس عصابة و لا حرامي زيك .. و علي فكرة ، اوعي تفتكر اني هسكت علي اللي حصل ، انا مش ممكن اسيب حقي ، و مستحيل اسيب تار ابويا.
منحها نصف إبتسامة باهتة ، ثم سألها ساخرا و هو يعبث بقلما فوق مكتبه:
-و يا تري في ايدك ايه تعمليه يا انسة ؟ مافيش في ايدك غير شوية التهديدات الفارغة اللي بتستخدميها ضدي دلوقتي كسلاح فاسد .. انا معايا السلطة و النفوذ و الفلوس .. انما انتي.
و مسح جسدها بعينيه من الأسفل إلي الأعلي في تقييم ساخر ، و أضاف:
-انتي مش معاكي اي حاجة .. صوتك عالي بس ، لكن ده بردو انا اقدر اسكته بطريقتي.
في تلك اللحظة ، كان قادرا علي ملاحظة الحقد الوحشي يلمع بعينيها الواسعتين ، بينما أحست بموجة عارمة من الغضب في صدرها ، و بالنار تشتعل في عينيها ، فصاحت بعنف تكيل له الصاع صاعين:
-بكرة تعرف ان اللي قلته ماكنش مجرد تهديد .. مش هاسيبك تتهني بشقي ابويا ، و الارض مش هتاخدها ، بعينك ، و قريب اوي هرجعك من الصفر عشان تشحت من اول و جديد بعد ما اخد منك كل حقوقي هعمل معاك اللي عمله ابويا مع ابوك من عشرين سنة.
ثم أضفت إلي صوتها نبرة متعالية لتضعه في مكانه:
-هشتري شركتك دي و كل املاكك بتراب الفلوس .. و ساعتها هتبقي واقف متكتف ، مش هتقدر تعمل حاجة .. زي السيد الوالد.
قالت هذا و شمخت بذقنها متحدية ، فإتقدت عيناه ، و أسود مزاجه ، فأدركت للحال بأنها أخطأت في التكلم بهذه الطريقة عن والده ..
و لكن قد سبق السيف العزل .. إذ أنه رمى قلمه من يده فجأة ، فأجفلت لحركته المفاجأة ، و لكنه تأملها بقوة طويلا حتي أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم نهض واقفا بحركة خاطفة عنيفة
فتراجعت تلقائيا عندما رأته يتجه نحوها بخطي واسعة ، يدنو منها بجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة ..
توترت و هو يزيد من إقترابه منها ، لكنها تجمدت بمكانها متحدية بوجه متصلب ، بينما غمغم هو من بين أسنانه:
-مبدئيا .. الارض بتاعتي .. و هاخدها بأي طريقة ممكنة ، اما انتي بقي .. ففتحتي باب لسكة انتي مش ادها .. مش هحاسبك علي كلامك دلوقتي ، بس اوعدك انك في الايام الجاية ، هاتشوفي اللي عمرك ما شفتيه.
قطبت حاجبيها و هي تنظر إليه واجمة .. كان وجهه شاحبا ، و الندبة أشد إحمرارا عما رأتها لأول مرة ..
إنفتح باب المكتب في تلك اللحظة ، بعد أن طرقه الساعي الذي دلف بالقوة التي آمر بها رئيس العمل ، بينما تنهد ""عاصم"" بعمق ، ثم دعا ""هانيا""للجلوس مجددا بنبرة متكاسلة و كأن شيئا لم يكن:
-اتفضلي اقعدي عشان تشربي قهوتك.
فأجابته بجفاف:
-اشربها انت.
ثم أحضرت حقيبة يدها من فوق المقعد ، و غادرت مسرعة بخطوات واسعة أقرب إلي الركض ..
قطعت مسافة طويلة ، بعيدة عن مقر الشركة ، إلي أن ضاقت ذرعا بنفسها ، فتوقفت تستند إلي شجرة ، تتوق إلي قدر من رباطة الجأش ، خاصة و أنها شعرت بدوار شديد
حمدا لله علي أن لا أحد هنا يشهد ضياعها و وهنها ، فهي لم تشعر في حياتها بمثل هذا الذعر الذي إستبد بها من جراء تهديده ..
ترى ماذا سيفعل ؟ .. ربما ينوي معاقبتها علي مضايقتها له بكلماتها اللاذعة .. و لكن كيف ؟!!
أن ""عاصم"" هذا لن ينفك أبدا عن فعل أي شيء ليحصل علي ما يريد ، ذلك ما إستنتجته بعد ما فعله ، و ما تأكدت منه بعد أن قابلته ..
لا تستبعد أن ينفذ تهديده ، فعيناه كانتا تشعان نار ، كما أن صوته الهادئ عكس غضب عنيف لا ينذر بخير علي الإطلاق
إنها حاليا لن تستطيع التصرف وحدها ، ستذهب ألي عمها لتأخذ برأيه .. هذا ما ستفعله الأن ...
**************
-لأ يا عاصم !
هتف ""زين"" بقوة معترضا و هو يجلس قبالة صديقه بالمكتب ، ثم تابع منفعلا:
-لحد هنا و كفاية اوي .. انا اذا كنت وافقت اساعدك علي اللي عملته قبل كده فأنا عملت كده عشان كنت متفهم وضعك و عارف ان ماكنش في طريقة تانية ترجع بيها حقك غير الطريقة دي .. لكن كل اللي فات كوم و اللي انت عايز تعمله دلوقتي ده كوم تاني ، البنت مالهاش ذنب في اللي حصل ، خرجها من اللعبة يا عاصم و سيبها في حالها و كفاية اللي عملته فيها.
رمقه ""عاصم"" في برود ، ثم همهم بهدوء متسائلا:
-همم ! خلصت ؟؟
قطب ""زين"" مستاءاً ، بينما مد ""عاصم'' جسده إلي الأمام ، و سند مرفقيه فوق المكتب و هو يقول بلهجة آمرة:
-هتخرج من عندي دلوقتي ، و هتنفذ اللي قلتلك عليه.
كاد""زين"" يتكلم ، فقاطعه ""عاصم"" بصرامة قائلا:
-انا عارف انا بعمل ايه كويس اوي يا زين .. و اظن انت مش غريب عني ، انت معاشرني بقالك سنين و فاهم تصرفاتي.
-ايوه يا عاصم ، بس اللي انت عايزه يحصل ده خطر .. انت فاهم انت بتعمل ايه ؟ انت كده ممكن تضيع مستقبل البنت و تنهي حياتها.
لوى ""عاصم"" فمه القاسي بإبتسامة بالكاد ظهرت ، و قال:
-قلتلك انا عارف انا بعمل ايه يا زين.
زفر ""زين"" في كدر و هو يحدق بصديقه ، لقد كان ""عاصم"" طوال السنين التي مضت ، نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لتزويد ثروته
قد يتفهم دوافعه نظرا لنشأته الصعبة ، و لكن لا يمكن أن تصل الأمور إلي هذا الحد ، رغبته في الإنتقام أعمته ، قد يدمر حياة أشخاص ليس لهم أدني ذنب فيما حدث بالماضي .. و ""هانيا"" في نظر ""زين"" واحدة من هؤلاء الأشخاص ...
أفاق ""زين"" من شروده فجأة علي صوت صديقه ذا النبرة الحازمة:
-هتنفذ اللي قلتلك عليه.
أطرق ""زين"" رأسه مذعنا ، ثم قال بخفوت:
-حاضر يا عاصم.
***************
عندما ذهبت إلي مسكن عمها الجديد في ""حي الغورية""العريق ، قصت عليه تفاصيل لقاءها ب""عاصم الصباغ"" و أخبرته عن التهديدات المخيفة التي أفاض بها ..
كان "" توفيق"" يستمع إلي حديث إبنة شقيقه في إهتمام بالغ ، لم يقاطعها للحظة حتي إنتهت .. فتنحنح ثم قال بهدوء:
-انتي غلطتي يا هانيا لما اتهجمتي عليه بالكلام و لما اتكلمتي عن والده بإسلوب مهين .. ده اولا .. ثانيا بقي ، رفضتي عرضه ليه ؟ تقدري تقوليلي هتعملي ايه بحتة الارض اللي فوقيها مخزن فاضي ؟ لو كنتي قبلتي تبيعيله ساعتها كان ممكن تحطي الرقم اللي انتي عايزاه و كان هيدفع طالما طلب يقابلك مخصوص عشان يشتري الارض منك.
تنهدت ""هانيا"" بعمق ، و قالت بسأم:
-الطريقة اللي اتكلم بيها حسستني بالقهر و الذل يا انكل .. و بعدين ازاي كنت عايزني اوافق علي طلبه و ابيعله الارض بمنتهي السهولة ! الراجل ده هو اللي اتسبب في موت بابا ، و انا لا يمكن احط ايدي في ايده ، ده غير انه سرق مني كل حاجة كمان عايز ياخد الارض !!
هتفت أخر كلماتها بإستنكار إنفعالي ، ثم أضافت في عند صلب:
-مش هبيعهاله ، حتي لو كنت ناوية ابيعها بعد ما قابلته انهاردة مستحيل هبيعها حتي لو مت من الجوع.
و صمتت لثوان تستجمع أنفاسها .. و لكن فجأة غاض الدم من وجهها حين تذكرت تهديداته .. فعادت تقول بنبرة متهدجة و قلبها يخفق في وجل:
-تفتكر ممكن ينفذ تهديده يا انكل توفيق ؟ يا تري ممكن يعمل ايه ؟؟
مط ""توفيق"" شفتيه قائلا:
-ماعتقدش انه ممكن يعمل حاجة .. مافيش في ايده حاجة تانية يعملها.
ثم مد يده و أمسك بيدها الباردة ، و شد عليها مطمئنا بقوله:
-ماتقلقيش يا حبيبتي .. في كل الاحوال انا جمبك و في ضهرك .. و لا يمكن هسمح لمخلوق انه يمس شعرة منك.
أومأت رأسها مبتسمة في توتر ، فيما راح التورد يخبو في وجنتيها .. إذ عاد إليها الدوار ، و بالكاد أحست عمها ينهض ثم يعود و يضع بين أصابعها المرتجفة فنجانا و يآمرها بلطف أن تشربه:
-اشربي الشاي يا حبيبتي و هدي اعصابك خالص .. كفاية تفكير و حاولي تسترخي.
أحتست ""هانيا"" الشاي في عصبية .. فعاد لونها المفقود .. لكنها إستمرت تفكر خائفة ...
أفاقت ""هانيا"" من شرودها فجأة علي صوت سائق الحافلة الجهوري و هو يقول:
-يا انسة .. انتي يا انسة خلاص وصلنا الوراق.
طرفت ""هانيا"" مضطربة ، فجمعت شتات نفسها سريعا ، ثم تلفتت حولها ، و تنبهت إلي خلو الحافلة و وحدتها بها ، فغادرت بدورها ..
و لدي وصولها إلي منزل مربيتها .. فتحت لها باب المنزل الإبنة ""هنا"" بوجه قاتم سرعان ما إستحالت تعابيره إلي الإستغراب و الحيرة عندما شاهدت وجه ""هانيا"" الأبيض الشاحب ..
بينما عبرت السيدة ""قوت القلوب"" الصالة الصغيرة بخطوات واسعة نحوها و القلق باد علي ملامح وجهها ، و قبل أن تفكر ""هانيا"" في وسيلة للهرب ، وصلت إليها الأخيرة .. :
-هانيا !
هتافها المختصر جمدها بمكانها ، فإستدارت إليها متسائلة:
-نعم يا داده ؟؟
-كنتي فين ؟؟
سألتها بلطف قلق ، فأجابت ""هانيا"" بهدوء:
-انا مش قلتلك امبارح ان عندي ميعاد مهم ؟؟
-ايوه .. بس انتي نزلتي قبل ما اصحي ، و اتأخرتي اوي قلقتيني عليكي.
عللت ""هانيا"" سبب تأخرها بقولها:
-بعد ما خلصت المشوار اللي كنت فيه روحت ازور انكل توفيق عشان كده اتأخرت شوية.
أومأت ""قوت القلوب"" رأسها في تفهم ، بينما إستأذنت ""هانيا"" قائلة:
-عن اذنك يا داده هدخل انام.
إحتجت ""قوت القلوب"" بإستنكار قائلة:
-مش هتتعشي !!
منحتها ""هانيا"" أبتسامة رقيقة ، و شكرتها قائلة:
-شكرا يا داده .. بس انا مش قادرة آكل .. عايزة انام بس .. تصبحي علي خير.
تنهدت ""قوت القلوب"" بإشفاق علي حال الفتاة التي ربتها كإبنتها منذ نعومة أظافرها ، بينما دلفت ""هانيا"" إلي غرفتها و إستلقت علي الفراشة متهالكة بعد أن خلعت حذائها و نزعت معطفها و القميص الذي كبل حركتها ..
ثم تكومت علي جانبها الأيمن ، و ضمت ساقيها إلي صدرها آخذة وضعية الجنين في بطن أمه .. و ما هي إلا ثوان معدودة حتي غطت في نوم عميق من فرط إرهاقها ، و ما شهدته اليوم من خوف و إضطراب ...
****************
كانت مستغرقة في نوم سيطرت عليه الكوابيس التي نسيتها .. أحست ألما عنيفا يغزو رأسها .. حاولت أن تنهض و لكنها لم تستطع حتي تحريك أصبعها ..
ما سبب ثقل جسمها الغريب ؟ .. ربما لو حاولت التحامل علي نفسها لنهضت .. و لكن هناك صوت لم يصدر عنها سمعته فلسانها كان ثقيلا جدا و كأنه قطعة من حجر ..
أحست بأنها بالفعل ليست وحدها في الغرفة .. هناك من يتنفس في مكان قريب منها ..
حاولت إختراق الظلام بعينيها لتراه .. فلمحت خياله الأسود يقترب منها ببطء .. تسلل شعور الخوف و الذعر إلي داخلها عندما بدأت ملامحه تضح لها ..
التقاسيم الوسيمة المألوفة ذات التعبير الساخر المخيف .. إتسعت عيناها و زادت محاولاتها في الحركة و الهرب دون فائدة ..
و هنا قال الصوت الساخر ليجفف الدماء في عروقها:
-انتي ليا انا و بس يا رضوي .. اوعي تفتكري اننا خلصنا لحد كده لأ .. مسيرك ترجعي لحضن اكرم حبيبك .. و جوزك.
تدفقت دموعها و هي تراقبه يقترب منها و ملامحه الوسيمة تستحيل تدريجيا إلي أخري شيطانية ، و المخالب تبدأ بالظهور من أطراف أصابعه ..
في تلك اللحظة ، أطلقت ""رضوي"" صرختها المختنقة و هي تهب جالسة فوق السرير و قد تبلل جسدها تماما بالعرق رغم برودة الجو ، نظرت حولها لاهثة برعب .. كانت الغرفة غارقة في الظلام حتي إنفتح الباب بقوة ، و دلفت والدتها السيدة ""دينار"" مهرولة تجاه إبنتها .. :
-رضوي ! بسم الله الرحمن الرحيم مالك يا حبيبتي ؟؟
قالت ""دينار"" ذلك و هي تضم جسد إبنتها المنتفض ، و تمسد ظهرها في محاولة لتهدئتها .. بينما صاحت ""رضوي"" بهلع:
-ماما ، ماما خليه يمشي يا ماما .. خليه يمشي عشان خاطري.
-هو مين ده يا حبيبتي ؟؟
-اكرم .. اكرم يا ماما.
جابت ""دينار"" ببصرها أرجاء الغرفة ، فوجدتها خاوية تماما إلا منها و من إبنتها ، فعادت تقول لإبنتها بصوت هاديء ناعم:
-حبيبتي الاوضة فاضية .. مافيهاش حد غيري انا و انتي.
صرخت ""رضوي"" قائلة:
-لأ .. بقولك اكرم هنا .. كان واقف جمب السرير دلوقتي.
أضاءت ""دينار"" مصباحي الطاولتين اللتين حاصرتا الفراش العريض قائلة:
-بصي كده يا حبيبتي .. اهيه الاوضة فاضية قدامك .. اكرم مش هنا ، و مستحيل يدخل هنا ، انتي كنتي بتحلمي.
ثم عادت تهدئها بصوتها الدافيء:
-ماتخافيش يا رضوي .. انتي في وسطنا .. انا و اخوكي حواليكي ، محدش يقدر يهوب ناحيتك و لا يأذيكي.
إبتلعت ""رضوي"" ريقها بصعوبة ، و راحت تسمع صوت أمها يطمئنها ، كما شعرت بها تمددها علي الفراش ، و هي تربت علي شعرها بحنان ..
فإنحسرت الأحلام القاسية .. و إستغرقت ""رضوي"" في نوم هاديء و هي تشعر بالراحة و الأمان ، فيما والدتها تربت علي خدها ، ثم تنحني لتضع قبلة علي جبينها ...
****************
في صباح اليوم التالي ..
أستيقظت السيدة ""قوت القلوب"" علي صوت طرقات عنيفة علي باب المنزل ، فخرجت من غرفتها مسرعة ، و إتجهت صوب الباب مهرولة و هي تفرك بعينيها لتزيل عنهما أثر النعاس ، ثم صاحت:
-ايوه ايوه جاية اهو .. يا ساتر يا رب ، مين ده اللي بيخبط بالطريقة دي ؟؟
و فتحت الباب لتتفاجأ برجلان يرتديان الزي الرسمي الخاص بالشرطة ، فشهقت في فزع ، ثم قالت بشحوب تحدث القائد الذي يواجهها:
-صـ صباح الخير يا باشا .. خير ؟؟
رد الأخير بغلظة قائلا:
-هانيا مصطفي علام .. قاعدة هنا ؟؟
"الحلقة ( 6 ) - فراشة .. عالقة في شرك -:
إنضمت ""هنا"" في تلك اللحظة إلي أمها ، و تساءلت بوجه عابس:
-ماما ! في ايه ؟؟
تجاهلتها السيدة ""قوت القلوب"" و عادت تسأل الضابط في توجس:
-هي عملت ايه يابني ؟ عايزينها ليه ؟؟
صاح بها الضابط بفظاظة:
-مالكيش دعوة يا ست انتي ، جاوبي علي اد السؤال و بس ، هانيا مصطفي علام قاعدة عندك هنا ؟؟
و قبل أن تنطق ""قوت القلوب"" بحرف ، أتت ""هانيا"" من خلفها بخطي ثابتة و وجه متجهم متصلب ، ثم أجابته بصوت مرتج:
-انا هانيا مصطفي علام يا حضرة الظابط .. خير ؟؟
صوب الضابط ناظريه نحوها .. عاينها للحظات قبل أن يقول:
-مطلوب القبض عليكي يا انسة .. اتفضلي معايا بهدوء لو سمحتي.
علت نبرة ""قوت القلوب"" و هي تسأله مستنكرة:
-ليه يا باشا ؟ هي عملت ايه بس ؟؟
أجابها الضابط بإقتضاب حاد:
-و الله ماعرفش يا ست ، كل اللي اعرفه ان معايا امر بضبط و احضار الانسة و لازم انفذه.
-طب ممكن اغير هدومي الاول ؟؟
قالتها ""هانيا"" بجمود ، فأومأ الضابط رأسه قائلا:
-اتفضلي بس بسرعة.
إستدارت ""هانيا"" علي عقبيها ، و إتجهت إلي غرفتها ..
بدلت ملابسها بآلية و هي تفكر بقلب واجف .. تري ما طبيعة الفخ الذي نصبه لها ""عاصم الصباغ"" ؟؟
***************
كان ""عاصم"" يحتسي الشاي في ركنه المفضل بحديقة قصره ، عندما أقبل ""زين"" عليه بخطي واسعة ..
و بدا أن إحتقان وجهه غمر وجه ""عاصم"" بالرضا ، إذ أنه إبتسم بقوة ، و قال بعد أن جلس صديقه في مقعد قبالته:
-ها ! طمني ايه اللي حصل ؟؟
رد ""زين"" بإقتضاب حانق:
-حصل اللي انت عايزه بالظبط ، و زمانها في القسم دلوقتي.
إزدادت إبتسامة ""عاصم"" إتساعا ، و هو يرفع عينيه نحو سماء النهار مرددا بإنتصار:
-وقعت في المصيدة .. و محدش ممكن يحررها غيري .. دلوقتي هتنفذ اوامري كلها بالحرف ، و مش هتقدر ترفع عينها فيا حتي.
قطب ""زين"" متعجبا و هو يسأله:
-ليه بتعمل كده يا عاصم ؟ ذنبها ايه البنت في العداوة اللي كانت بينك و بين ابوها ؟؟
نظر له ""عاصم"" صامتا لبرهة ، ثم أجاب بصوت هادئ و ملامح عدوانية:
-ذنبها انها بنته .. بنت الراجل اللي دمرني و دمر عيلتي .. انا انتقمت لابويا منه خلاص و خدت تاره .. لكن حاسس اني لسا مارتحتش يا زين.
و أردف في شر مطلق ، و عيناه تقدحان نارا:
-بنته هي اللي هاتريحني .. هي اللي هتشفي غليلي ، هي اللي هاتبرد النار اللي قايدة جوايا من 20 سنة.
نظر إليه ""زين"" في ريبة ، و عاد يسأله:
-انت ناوي علي ايه تاني يا عاصم ؟؟
قست تعابير وجهه ، و هو يجيبه بصرامة:
-ناوي اخد بتاري.
هز ""زين"" رأسه في يأس ، بينما أتي فجأة أحد أفراد الحرس ، ثم قال بهدوء و هو يدنو من ""عاصم"":
-عاصم باشا ، في واحد جه برا بيقول انه صاحب شهاب بيه و عايز يدخلله.
سأله ""عاصم"" متجهما:
-فتشتوه ؟؟
-ايوه يا باشا و نضيف.
تغضن جبين ""عاصم"" بعبسة متململة ، لكنه أعطاه الأذن بإقتضاب:
-خليه يدخل.
أنحني الحارس لسيده ، و إنسحب في هدوء ..
فيما عاد ""عاصم"" يهتم بجلسته مع صديقه ، فقال له و هو يشير إلي وعاء الشاي البلوري:
-هعزم عليك بالشاي و لا ايه ؟ ما تصب لنفسك يا اخي !
**************
مال النهار إلي الإنتصاف ..
عندما وصلت ""هانيا"" إلي نقطة الشرطة برفقة الضابطين اللذين كُلفا بإحضارها ..
راحت تتلفت يمينا و يسارا متفحصة المكان و الجدران ذات الرائحة المقززة ، و تلك الطرقات التي تعج بالسارقين و المجرمين ، كان المكان وقتها كالطوق الذي يزيد ضيقه إختناقها ..
حتي إنحرف بها الضابط المسؤول يمينا ، و أدخلها حجرة مكتب السيد ""وكيل النيابة"" ..
كان رجلا في منتصف الثلاثينات ، يجلس خلف مكتبه مشغولا ببعض الأوراق ، إلي أن أنتشله صوت الضابط الشاب من أوج تركيزه:
-تمام يافندم ، هانيا مصطفي علام حضرتك.
رفع الأخير رأسه عن الأوراق ، و تبادل مع ""هانيا"" النظرات في صمت ، ثم قطع نظراتهما بقوله:
-ماشي يا احمد .. اتفضل انت دلوقتي و ابعتلي عادل عشان يكتب المحضر.
أدي الضابط ""أحمد"" التحية العسكرية أمام رئيسه الأعلي رتبة ، ثم إستدار علي أعقابه ، و غادر المكتب ..
بينما راحت ""هانيا"" تفرك بكفيها في عصبية قبل أن يأتيها صوت الضابط الهادئ:
-اتفضلي اقعدي يا انسة.
و أشار لها أن تجلس بمقعد قرب مكتبه ..
تقدمت ""هانيا"" بضع خطوات حتي وصلت إلي المقعد ، فجلست فوقه مرتعدة الأوصال ، ثم تطلعت إليه في ريبة متسائلة بنبرة مختلجة:
-اقدر اعرف انا هنا ليه يا حضرة الظابط ؟؟
كانت تحاول إستعجال الأمور ، فكلما تلقت المصائب تباعا بصورة سريعة ، كلما كانت الصدمات قليلة
قاطعهما فجأة دخول شاب عشريني نحيل ، يرتدي قميصا و سروالا لا ينتميان إلي زي الشرطة الرسمي ..
ألقي علي الضابط تحية الصباح ، ثم تقدم نحوه ، و أخذ مكانه في مقعد بجوار المكتب مباشرة ..
بينما نظر الضابط إلي ""هانيا"" صامتا لبضع دقائق ، يتأمل هيئتها الأرستقراطية ، ثم غرق في كرسيه ، و أخذ ينقر بقلمه فوق سطح مكتبه قائلا:
-قوليلي الاول يا انسة هانيا .. يا تري عندك علم بمخزن في المنصورية كان ملك لوالدك قبل ما يكتبه بإسمك ؟؟
إزدردت ريقها مرتابة ، و حاولت أن تبلل شفتيها اليابستين بلسان جاف و هي تقول بصوت خرج منها بصعوبة:
-ايوه .. يا تري في مشكلة ؟؟
إعتدل في جلسته و هو يجيبها:
-في بلاغ اتقدم فيكي انهاردة الصبح بإنك بتستعملي المخزن كوسيلة في تجارة و ترويج المخدرات.
هنا هبت ""هانيا"" واقفة غير قادرة علي الجلوس من هول ما سمعته ، فهذه التهمة كانت بعيدة تمام البعد عن تصورها .. فصاحت مذعورة:
-مخدرات ايه ؟ مستحيل ! ايه الكلام الفارغ ده ؟؟
هتف الضابط بصرامة:
-من فضلك يا انسة اقعدي ، انا لسا ماخلصتش كلامي.
و بدت ""هانيا"" و كأنها رفضت ، لكنها عاودت الجلوس محدقة فيه بقوة ، بينما فتح هو أحد أدراج المكتب ، و أخرج كيسا شفافا يحوي مادة بيضاء اللون ، ثم نظر إلي ""هانيا"" قائلا بهدوء:
-الكيس ده كان من ضمن مجموعة اكياس كتير جوا صناديق في المخزن بتاعك يا انسة هانيا .. و اعتقد انتي خمنتي ايه اللي جوا الكيس ده !
صمتت ""هانيا"" تحت تأثير الصدمة القاتلة ، فسألها الضابط:
-لو ليكي شركا اعترفي عليهم .. الكمية اللي لاقيناها كتيرة ، و لو اعترفتي ده هيكون في صالحك.
تابعت ""هانيا"" صمتها مكتفية بشعور الرعب الذي أخذ يتعاظم بداخلها ..
تنهد الضابط في تكاسل ، و وجه بصره إلي مساعده قائلا بعد أن فقد الأمل في إنتزاع الكلمات الدفاعية منها:
-اكتب يابني .. اُقفل المحضر في تاريخه .. عقب إثبات ما تقدم .. و قررنا نحن .. طارق الحُسيني .. وكيل النائب العام .. أولا .. حبس المتهمة .. هانيا مصطفي علام اربعة ايام علي ذمة التحقيق .. علي أن يراعي التجديد لها في الميعاد .. ثانيا .. يتم إستدعاء .. فريق مشكل من أعضاء هيئة الطب الشرعي لفحص المضبوطات .. قبل إتخاذ النيابة أيا من قراراتها .. و أخيرا .. يتم أخطارنا بمحضر الاجراءات.
في تلك اللحظة ، نطقت ""هانيا"" بصوت مبحوح بعد أن غص الريق في حلقها حتي كادت تختنق به:
-ممكن اعمل مكالمة ؟؟
**************
لم يصدق ""شهاب"" عينيه حين رأي صديقه يدلف إلي غرفته ..
فقفز من فوق فراشه ، و هرول نحوه ، بينما أغلق صديقه باب الغرفة مسرعا و هو يرتعد خوفا:
-شادي ! اتأخرت كده ليه ؟؟
هتف ""شهاب"" منفعلا بنبرة متهدجة و قد أصابه الرشح ، كما كان يتعرق بقوة رغم برودة الجو ، مما يوحي بأعراض إنسحاب المواد المخدرة من جسده ..
إلتفت ""شادي"" إليه ، و أجابه بصوت أقرب إلي الهمس:
-شششش يا عم هتفضحنا .. ده انا قبل ما ادخللك اتفتشت تفتيش ذاتي ، كان ناقص يقلعوني البوكسر.
قبض ""شهاب"" علي رسغه بقوة و هو يسأله بأضطراب شديد:
-يعني ايه ؟ ماجبتش اي حاجة ؟؟
إبتسم ""شادي"" و هو يتطلع إلي صديقه مستمتعا بحالته المزرية تلك ..
فقد إستحوذت عليه المخدرات بشكل كامل ، و قد إستولي عليه الضياع بعد أن كان نعم الشباب و أفضلهم في المستوي الإجتماعي و الثقافي ..
تنهد ""شادي"" مسرورا لتحقيق مآربه ، و هو إفساد واحدا من بنو الطبقة الرفيعة المترفة ، فعل ذلك إنتقاما للطبقة المعدمة التي ينحدر منها ، و حقدا علي شخص يحيا حياة لطالما كان يتمناها بلا أمل ..
بينما خلع ساعة يده ، و فك إطارها المعدني مخرجا منها لفافة بلاستيكية صغيرة .. لمعت عينا ""شهاب"" لمرأي تلك اللفافة ، فمد يده بسرعة البرق و خطفها من بين أصابع ""شادي"" الذي صاح مذعورا:
-بتعمل ايه يا محنون ؟ دول جرامين ، استني انا هاديك نص جرام علي ادك.
أحاط ""شهاب"" اللفافة بيديه مبتعدا عن صديقه و هو يقول بأنفاس متلاحقة:
-انا هاخد الجرامين يا شادي .. انا محتاجهم اوي ، انت ماتعرفش انا استنيتك تيجي و تجيبهملي اد ايه !
-يابني كده مش حلو .. الجرعة هتبقي شديدة اوي عليك ، و ممكن تموت Overdose بـ(جرعة مُفرطة).
-انا مش هاضرب التذكرة كلها.
حاول ""شهاب"" أن يقنع صديقه بلا جدوي ، فتوجه نحو أحد أدراج خزانته ، و عاد إليه من جديد ، ملوحا له بالمال الذي سال له لعابه ..
أخذ ""شادي"" المبلغ المالي من ""شهاب"" و نصحه للمرة الأخيرة بعدم الإفراط في التعاطي ، ثم رحل في حذر و توجس ..
بينما جلس ""شهاب"" خلف طاولة مستطيلة منخفضة توسطت غرفته الفخمة الواسعة ، و أفرغ محتوي اللفافة فوق اللوح الزجاجي للطاولة ، و بعد أن أعد كل الطقوس و الوسائل اللازمة ، دنا برأسه ، و راح يستنشق بشراهة تلك المادة البيضاء حتي أنهي الجرامين بالكامل ..
ثم عاد بجسده يسترخي متهالكا فوق الأريكة الجلدية البيضاء و قد بدا منتشيا إلي أقصي حد ..
**************
إنتابت "" توفيق"" حالة من الذعر و القلق الهستيري فور تلقيه مكالمة ""هانيا"" ..
لم تقل له هي سوي أنها محجوزة بقسم الشرطة لإتهامها بالإتجار في المخدرات ..
و في الحال قفزت صورة ""عاصم "" أمام أعينه ، و تذكر مخاوف إبنة شقيقه من تهديداته .. لم يعرف ""توفيق"" كيف إرتدي ملابسه بسرعة جنونية ، و كيف إنطلق كالسهم إلي القسم الذي أحتُجزت به ""هانيا"" منذ الصباح ..
توجه مسرعا إلي مكتب وكيل النيابة بعد أن سأل عنه أحد العساكر ، بينما إستوقفه بحدة ذاك العسكري الشاب الذي وقف أمام مكتب وكيل النائب العام ليحرسه:
-رايح فين يا استاذ انت ؟؟
أجابه ""توفيق"" بنبرة متوترة جراء المجهود الخرافي الذي بذله في المجيء إلي هنا بأقصي سرعة ممكنة:
-انا توفيق علام ، عايز اقابل وكيل النيابة ، بنت اخويا محجوزة عندكوا هنا من الصبح ، من فضلك ادخل اديله خبر اني عايز اقابله.
تغضن وجه العسكري و هو يقول بجفاف:
-طيب .. استني هنا و ماتتحركش من مكانك.
أومأ ""توفيق"" رأسه موافقا ، بينما طرق الأخير باب المكتب ..
دلف ، و غاب للحظات ، ثم عاد و سمح له بالدخول .. فإندفع ""توفيق"" إلي الداخل بسرعة
فيما بدا أن السيد ""طارق"" وكيل النائب العام كان جالسا في إنتظار قدومه ..
إذ أنه نهض واقفا علي قدميه ، و مد يده عبر المكتب الفاصل بينهما ليصافحه قائلا بلهجة رسمية مؤدبة:
-مساء الخير ، اهلا بيك يا توفيق بيه.
مد ""توفيق"" يده بدوره و صافحه قائلا بصوت مرتجف ممزوج بشيء من العصبية:
-مساء النور ، اهلا بحضرتك .. فين بنت اخويا يا باشا ؟؟
هز ""طارق"" رأسه و هو يقول بهدوء:
-اتفضل اقعد الاول يا توفيق بيه.
رمقه ""توفيق"" بعبسة متململة ، و جلس علي مضض ..
عاود المحقق ""طارق"" الجلوس بدوره ، و بدأ حديثه قائلا:
-اولا انا عايز حضرتك تعرف و تفهم كويس ان الموضوع مش بسيط نهائي .. انتوا عيلة معروفة و اشهر من نار عالعلم ، لكن بنت اخو سيادتك تهمتها مش بسيطة ابدا .. انهاردة الصبح جالنا بلاغ انها متحفظة علي كمية كبيرة من المخدرات في مخزنها اللي علي طريق المنصورية .. و لما بعتنا قوة تتحقق من الكلام ده اتضح انه مظبوط.
و أخرج ""طارق"" الكيس الذي أراه إلي ""هانيا"" ، و وضعه فوق سطح المكتب أمام ""توفيق"" متابعا بقوله:
-كيس البودرة ده جبناه من جوا المخزن يا توفيق بيه .. و للأسف في منه كتير جدا ، و دي قضية مش سهلة زي ما انت عارف ، اقل حكم فيها 25 سنة .. و جايز اعدام.
حدق ""توفيق"" فيه كالأخرس ، و بعد أن تدارك معني كلماته ، هتف منفعلا:
-مستحيل ، الكلام ده مش مظبوط ، هانيا دي لسا بنت صغيرة بتدرس ماتمتش 22 سنة ،و هي اصلا عمرها ما انضمت لشركة والدها و لا اشتغلت في البيزنس من اساسه ، ده غير انها حاليا افتقرت ماتحتكمش علي و لا مليم ، يبقي ازاي بتاجر في المخدرات و بالكمية الكبيرة اللي حضرتك قلت عليها دي ! مش معقول !!
هز الضابط ""طارق"" رأسه آسفا و هو يقول:
-للأسف يا توفيق بيه كلام حضرتك ده لا هيقدم و لا هيأخر .. المخدرات إتظبطت جوا المخزن ، و المخزن ملك الانسة هانيا ، يعني بأسمها و الضرر كله واقع عليها لوحدها مش علي حد تاني ، حضرتك مش هتقدر تعملها حاجة.
صر ""توفيق"" علي أسنانه غاضبا لشعوره بعجزه الذي لم يشعر به إلا الأن و هو يري إبنة شقيقه تكاد تسقط في هوة بلا قرار ، بينما لم يستطع هو أن يفعل لها شيئا ..:
-انا عايز اشوف بنت اخويا لو سمحت.
هتف ""توفيق"" بصلابة ، فأومأ الأخير رأسه مرارا ، و في هدوء رفع سماعة الهاتف و تحدث بالآتي:
-ايوه يا ماهر .. هاتلي الانسة هانيا علام علي مكتبي من فضلك .. بسرعة.
و لم تمر دقيقة إلا و دلف الضابط الأقل رتبة و معه ""هانيا"" التي ركضت صوب عمها فور رؤيتها إياه
بينما إنتصب ""توفيق"" واقفا ، و إحتوي إبنة شقيقه بين ذراعيه ..
إستأذن ""طارق"" و غادر المكتب ليعطيهما بعض الخصوصية
فيما تفجرت الدموع من عيني ""هانيا"" و هي تجهش بالبكاء المُر فوق صدر عمها .. فأخذ ""توفيق"" يربت علي شعرها بلطف ، و يمسد ظهرها في محاولة لتهدئتها دون فائدة .. فقال يطمئنها بصوته الدافئ:
-بس يا هانيا .. ماتخافيش يا حبيبتي انا مش هاسيبك ، هخرجك من هنا و الله ماتخافيش.
أصدرت ""هانيا"" أنينا متشنجا قبل أن ترد بصوت مخنوق من شدة البكاء:
-مش هتقدر تعملي حاجة يا انكل .. انا خلاص ضيعت .. هو دمرني زي ما دمر بابا .. ماكنتش متخيلة ابدا انه ممكن يعمل فيا كده ، ده مش بني ادم ، مستحيل يكون بني ادم.
أطلق ""توفيق"" لعنة مختنقة ، لكنه عاد يُطمئن ""هانيا"" بصوت أجش هذه المرة:
-ماتخافيش يا هانيا .. وثقي فيا .. ثقي في عمك ، مش هاسيبك تتحبسي في السجن و لا يوم صدقني.
صمت ""هانيا"" أذنيها عن كلمات عمها المطمئنة ، و تابعت نحيبها المرير ، فضاق ""توفيق"" ذرعا بذلك ، و أمسك بوجهها الصغير بين كفيه الكبيرين ، ثم رفعه لينظر إليها في قوة ، قائلا بعزم:
-و رحمة ابوكي .. و حياتك عندي لهخرجك من هنا.
سألته ""هانيا"" واهنة و هي تمسح دموعها بقبضة متقلصة:
-هتعمل ايه يا انكل ؟؟
إلتحفت عيناه بالغموض ، و تقلص فمه واجما حين لاحت صورة ""عاصم الصباغ"" بذهنه ، و ما نوي أن يفعله بعد خروجه من هنا ..
بينما رأت ""هانيا"" في عيني عمها وعود صادقة طمئنتها و أخافتها في آن ...
***************
قطع دوي رنين الهاتف حديث ""عاصم"" و ""زين"" ..
فإلتقط ""عاصم"" هاتفهه من فوق الطاولة أمامه ، و نظر إلي أسم المتصل ، و إبتسم ، ثم أجاب:
-الو .. اهلا يا طارق بيه ، ها طمني ، ايه الاخبار ؟؟
أجاب الطرف الأخر بقوله:
-كله تمام يا عاصم باشا .. ماشيين علي تعليمات حضرتك بالظبط ، و عمها لسا واصل من شوية و قاعد معها جوا في مكتبي دلوقت.
أومأ ""عاصم"" رأسه مهمهما ، ثم سأله و قد برقت عيناه بترقب:
-حالتها .. عاملة ازاي يا طارق بيه ؟؟
-بصراحة البنت منهارة عالأخر و أعصابها مدمرة.
إتسعت إبتسامة ""عاصم"" الخبيثة لسماع ذلك التصريح من الضابط المحقق الذي جنده للعمل لصالحه ، فيما عاد يقول منبها:
-مش هاوصيك يا حضرة الظابط .. المعاملة لازم تكون كويسة ، و الضيافة لازم تكون كريمة ، الموضوع كله مش هياخدله يومين زي ما الاستاذ زين فهمك.
-اه طبعا طبعا يا باشا انا فاهم .. احنا من اول ما جبناها و هي قاعدة عندنا معززة مكرمة ، ده انا حتي وصيت العساكر ينقلوا الستات القلق من الحجز لحد ما الموضوع يخلص عشان مايتعرضولهاش.
-حجز !!
صاح ""عاصم"" بغضب ، و تابع بصوت عنيف إستنكاري و كأنه يتوعده:
-انت نزلتها الحجز يا حضرة الظابط ؟؟!
تلعثم ""طارق"" مرتبكا و قد شعر بإضطراب شديد من لهجة ""عاصم"" السافرة ، فإن إثارة غضب واحدا مثل ""عاصم الصباغ"" لن تكون أبدا نقطة في صالحه
فهو يعلم جيدا إلي أي مدي نفوذه واسعة ، كما أن أمواله طائلة ، يستطيع أن يفعل من خلالها ما يحلو له عن طريقه أو عن طريق ممن سواه أيضا ..
لهذا إنطلق صوته المرتبك يقول ملطفا في حذر:
-يا باشا ننقلها في احسن حتة عندنا في القسم حالا و لوحدها ، و لا تضايق نفسك اوامر معاليك علي راسنا.
بوجوم و خشونة رد ""عاصم"":
-انا بنفسي هاجي اشوفها بكرة .. و يا ريت ألاقيها كويسة و مش متبهدلة.
-اكيد يا باشا ، انا تحت امرك.
و أغلق ""عاصم"" الخط معه متنهدا ، بينما سأله ""زين"" مترقبا:
-ها ! قالك ايه طارق الحسيني ؟؟
أجابه ""عاصم"" بترفع و إنتصار:
-عمها معاها في القسم دلوقتي.
ثم إشرق وجهه قريرا راضيا ، فقد حاكي جيدا رداء التهمة فوق جسد ""هانيا"" بحيث إستطاع بسلطته الطاغية ، و وسائله الملتوية أن يخلق لها مأزق وهمي ليجعلها ترضخ له و تنفذ كافة أوامره .. :
-طب وبعدين يعني ؟ ايه اللي هيحصل دلوقت ؟؟
وجه ""زين"" تلك التساؤلات إلي ""عاصم"" الذي صمت لبرهة ، ثم هز كتفيه بخفة و أجابه ببرود:
-و لا جاجة .. اكيد عمها هيشرفنا انهاردة في اي لحظة .. و انا مستعد للمقابلة دي اوي .. اما هي.
و أضاف متشفيا بعد تنهيدة عميقة:
-هاروحلها بكرة القسم زي ما سمعت من شوية .. و هشوف بقي دماغها هاتوديها علي فين !
و هنا آتي أحد أفراد الحرس مهرولا و هو يقول لاهثا بوجه شاحب:
-عاصم باشا ، الحق يا باشا شهاب بيه !
هب ""عاصم"" واقفا كما العاصفة و هو يهتف بقلق محتد:
-ماله شهاب ؟؟
في إرتباك و وجل أجاب الحارس:
-شـ شوقي دخل يوديله الغدا فـ فـ ..
-فـ ايه انطق ؟؟
صاح به ""عاصم"" في عنف أجاب الحارس علي إثره مرتعد الأوصال:
-فلاقاه مرمي عالأرض و قاطع النفس خالص يا باشا.
إتسعت حدقتاه في رعب مطلق ، و بسرعة البرق ، إجتاز ""عاصم"" حديقة قصره ركضا يتبعه ""زين"" و من ثم صعد الدرج المؤدي إلي العُلية الأولي إثنتين إثنتين قفزا حتي وصل إلي غرفة شقيقه ..
دفع باب الغرفة الموارب ، و ولج إلي الداخل ..
كان صدره يعلو و يهبط ، و يتسرب من بين شفتيه صوت لهاث و هو يبحث عن أخيه بعينيه .. إلي أن وجده ملقي فوق الأرض الرخامية بجوار فراشه ، و بجانبه لفافة بلاستيكية شفافة و ورق نحاسي صغير ..
علت الصدمة وجه ""عاصم"" و هو يري من موضعه لون بشرة شقيقه تزداد شحوبا و إصفرارا ، كما رأي تلك الرغوة البيضاء منبعثة من جوفه تسيل علي جانب فمه
فأسرع نحوه ، و جثا إلي جانبه ، ثم قام بجس نبضات معصمه .. فوجدها ضعيفة و بطيئة للغاية ..
شعر ""عاصم"" بخوف بارد يدب في قلبه ، و غمره إحساس مألوف بالفقد أثقل صدره بوطء مفزع لأمر لم يقع بعد و هو يري وجه أخيه و قد غارت الدماء منه حتي إعتراه الشحوب التام
إلتقط""عاصم"" اللفافة البلاستيكية و لوح بها في الهواء ، و هو يهدر بصوت كالرعد في وجوه حرس القصر الذين إجتمعوا دفعة واحدة داخل غرفة ""شهاب"" فور سماعهم بالكارثة التي وقعت:
-المخدرات دي دخلت لأخويا ازااي ؟ الزفت ده وصلله ازاااي ؟ انتوا كنتوا فين يا شوية *****
هدئه ""زين"" بصرامة قائلا:
-اهدا يا عاصم مش وقته التحقيق ده ، هنتصرف معاهم بعدين ، المهم دلوقت نلحق شهاب.
و بسرعة أخرج هاتفهه ليطلب سيارة إسعاف ، بينما تكلم أحد أفراد الحرس لإقصاء الذنب عن نفسه ، و مدافعا عن باقي زملاءه:
-يا عاصم باشا اكيد صاحب شهاب بيه اللي جه من شوية هو اللي اداله الحاجات دي ، مش ممكن احنا اللي هندخلهاله من ورا حضرتك يعني.
أكفهر وجه ""عاصم"" في تلك اللحظة و بدا قادرا علي القتل ، فقد كان عذر الحارس أقبح من ذنبه ، فهو من المتفرض أن يقوم بتفتيش كل من يدلف إلي القصر و إلي غرفة ""شهاب"" بالأخص تفتيشا دقيقا ، إذن كيف وصلت تلك السموم المخدرة إلي شقيقه ..
قال ""عاصم"" و هو يصدح بصوته العنيف:
-معني كده ان سيادتك خيال مآته ! اي حد ممكن يغفلك و يدخل القصر بأي حاجة.
كاد الحارس يتكلم ليدافع عن نفسه مجددا ، فقاطعه ""عاصم"" مزمجرا بشراسة:
-و ديني و ما اعبد لو اخويا حصله اي حاجة لهدفنكوا كلكوا بالحيا.
****
وصلت سيارة الأسعاف في وقت قصير ، و حُمل ""شهاب"" علي السرير النقال من غرفته إلي العربة ..
بينما إنضم ""عاصم"" إلي سيارة "" زين"" و إنطلقا بسرعة ليلحقا بسيارة الإسعاف المتجهة إلي المشفي العام بقلب المدينة ...
علي الطرف الأخر ..
ترجل ""توفيق"" من سيارة الأجرة التي أوصلته أمام قصر ""عاصم الصباغ"" ..
دفع الأجرة للسائق ، ثم إتجه صوب البوابة المفتوحة ، فإعترضا طريقه رجلان ضخمان الجثة ، و سأله أحدهم:
-علي فين يا استاذ انت ؟؟
رد ""توفيق"" بخشونة:
-عايز اقابل الاستاذ عاصم الصباغ.
أجابه الحارس الثاني:
-الباشا مش موجود ، خرج.
تجهم ""توفيق"" فصاح بهما محتدا بصوته الجهوري:
-يعني ايه خرج ! انا مش ماشي من هنا الا اما اقابله.
هتف الحارس في لطف حازم:
-يافندم بقول لحضرتك خرج ، لسا خارج حالا راح المستشفي ورا شهاب بيه اخوه عشان تعب فجأة.
أجفل ""توفيق"" غير مصدق أقوالهم ، لكنه إستدار علي عقبيه ليغادر ..
فأستوقفه صوت الحارس قائلا:
-لما يرجع الباشا .. اقوله مين سأل عليه يافندم ؟؟
وقف ""توفيق"" ثم أدار جانب وجهه الأيمن قائلا من فوق كتفه:
-انا هبقي اجيله تاني.
و غادر ""توفيق"" و نيران الغضب تتأجج بداخله ...
***************
إقتحمت سيارة الإسعاف فناء المشفي العام ، ثم توقفت بالساحة الرئيسية أمام بوابة الدخول الأمامية ..
بينما أسرع ""عاصم"" في أعقابه ""زين"" نحو ""شهاب"" المحمول علي السرير النقال ..
رافقاه حتي ولج إلي حجرة الكشف مع طبيب الإستقبال الجالس متأهبا للحالات الطارئة ..
هتف الطبيب الثلاثيني منفعلا بالممرضة التي إنضمت إليه لتساعده و هو يكمل فحصه لحدقة عين ""شهاب"" المسجي فوق الفراش الطبي:
-قيسيلي ضغط الدم بسرعة.
و بينما شرعت الممرضة في تنفيذ الأوامر .. كان ""عاصم"" يقف أمام باب حجرة الكشف و عضلات وجهه منقبضة بقوة ، فيما عيناه تلمعان بنزف حارق خائفا من أن يتجرع مرارة الفقد مرة أخري ..
و في تلك اللحظة ، إنطلقت بغتة الذكريات داخل رأسه و قد حالت دون إهتمام بما يحدث ..
أبيه يوم أن شب الحريق بمصنعه فإنتهي بموته متفحما .. تشوه جزء من معالم وجهه .. تشرده هو و أمه و أخيه الرضيع .. نضوجه المبكر .. تصميمه علي إعادة المجد له و لعائلته الصغيرة و لإسم والده أيضا .. جمعه الأموال الطائلة أولا بهدف تحقيق الإنتقام الذي عاش ينشده ، و ثانيا لتأمين حياة الرغد و الترف إلي شقيقه الذي رأي فيه نفسه .. شقيقه !!
عاد إلي أرض الواقع مجددا ، فأنتفض مذعورا لفكرة خسارته ..
فإن خسارة شقيقه الوحيد تعني نهاية المطاف بالنسبة له ، قد تتبدد آماله ، و تخبو أحلامه التي حُرم من تحقيقها إذا رحل ""شهاب"" ..
قد ينتهي كل شيء ..
قد يغدو الكد و الإجتهاد و الجهد الذي بذله بالحياة العملية بلا منفعة ..
الأن تلك الإمبراطورية الضخمة التي بناها مهددة بالإنهيار ..
إندفع ""عاصم"" صوب باب حجرة الكشف دون أن يتوقف إنفعاله لهنيهة و هو يبحث عن شقيقه بعينيه من خلال الزجاج الدائري الصغير المرفق بالباب المعدني ..
إقترب ""زين"" منه ، و مد يده و ربت علي كتفه بلطف مواسيا إياه بقوله:
-ماتقلفش يا عاصم .. ان شاء الله سليمة ، ماتخافش هيبقي كويس.
تجعدت قسمات وجه ""عاصم"" بألم عصبي و هو يحاول أن يري ما يجري بالداخل دون فائدة ، فتحرك في مكانه كالنمر الحبيس وضرب الحائط بقبضته مغمغما:
-غبي .. ليه بيعمل فيا كده لييييه ؟ نقصه ايه ؟ انا قصرت معاه في ايه ؟؟
وضع ""زين"" يديه علي كتفي ""عاصم"" و هو يقول مشفقا علي حالته:
-اهدا يا عاصم مش كده.
أغمض ""عاصم"" عينيه بقوة ، ثم أطلق تنهيدة حارة و قال بصوت متحشرج من فرط إنفعاله:
-ليه اخويا بيعمل فيا كده يا زين ؟ ليه ؟ .. ده هو مستقبلي .. هو احلامي و هو طموحي .. انا عملت كل ده عشانه .. من صغري و انا ماسبتش شغلانة متعبة و لا مهينة الا و اشتغلتها عشان اقدر اقف علي رجلي و احقق الثروة دي .. كل اللي معايا بتاعه و ملكه .. يبقي ليه بيعمل في نفسه كده ؟ ليه عايز يحرمني منه ؟؟!!
قطب ""زين"" متأثرا بكلمات صديقه ، و مط شفتيه متأسفا علي ذلك الوضع الصعب ..
خرج الطبيب أخيرا من حجرة الكشف و هو يتنفس الصعداء ، فأقترب منه ""عاصم"" متسائلا بصوته الخشن:
-اخويا عامل ايه يا دكتور ؟ جراله حاجة ؟؟
منحه الطبيب إبتسامة بسيطة ، و قال يطمئنه:
-الحمدلله بقي كويس.
زفر ""عاصم"" بإرتياح مستندا إلي الجدار البارد من خلفه ، بينما تابع الطبيب كلامه بجدية:
-لو كنتوا اتأخرتوا شوية كان وصل هنا متوفي ، لكن الحمدلله انكوا جبتوه بسرعة ، ظبطنا معدل ضغط الدم لكن للأسف في خراريج و إلتهابات في الكبد لو ماتعلجوش صمامات القلب هي كمان هتلتهب و هنا الخطر هيبقي اقوي.
فغر ""عاصم"" ثغره و قد تلقي صدمة أعنف هذه المرة ، بينما أضاف الطبيب متنحنحا:
-التحاليل كشفت انه اتعاطي جرعة هيروين مفرطة كانت كفيلة انها تموته في الحال .. بس واضح انه مش بيتعاطي من فترة طويلة اوي لان نسبة الهيروين في جسمه مش عالية بدرجة كبيرة ، و ده يبين انه بيزود الجرعة في كل مرة عشان يوصل لدرجة النشوة اللي حققها في اول مرة اتعاطي فيها .. انا انصحكوا انكوا تودوه مركز اعادة تأهيل للمدمنين ، هناك هيقدموله العلاج الصحيح و العلاج النفسي كمان هيبدأوا معاه من الاول خالص بس اهم حاجة دلوقتي اننا نعالجله الأعضاء المتضررة.
-اعمل اللازم يا دكتور .. و انا هاتصرف في الباقي.
قال ""عاصم"" هذه الجملة واجما ، بينما أومأ الطبيب رأسه موافقا ، ثم إستأذن منهما ليرحل ..
شكره ""عاصم"" قبل رحيله ، فيما نظر إليه ""زين"" و سأله بإهتمام:
-ناوي علي ايه يا عاصم ؟؟
أجاب ""عاصم"" بفم متقلص و ملامح ثائرة:
-شهاب هيرجع البيت و هيكمل علاجه بجد المرة دي .. و طقم الحراسة كله هيتغير بس بعد ما اعرف شغلي معاهم واح واحد و اعرفهم ان الغلطة معايا بفورة خصوصا لو كانت حاجة تخص اخويا.
ثم تابع بشراسة:
-اما الواد صاحبه ده اللي جاله انهاردة انا هاجيبه و هاوريه هو غلط مع مين.
-عمرك ما كنت مؤذي كده يا عاصم !
قالها ""زين"" ممتعضا ، فرمقه ""عاصم"" بنظرة ثاقبة و هو يهتف بقوة:
-ده اخويا يا زين .. اخويا اللي ماليش غيره.
و أضاف يتحدث بشراسة إلي ""زين"" أو ربما إلي نفسه:
-و يا ويله اللي يقرب منه او يمسه بالشر .. يا ويله.
***************
أمام قسم الشرطة ..
وقفت ""هنا"" تستجدي أمها بإسلوب إنفعالي قائلة:
-يا ماما احب علي راسك يلا بينا نرجع البيت ، احنا مالناش فيه ما تتحبس و لا تولع بجاز احنا مالنا !!
نهرتها ""قوت القلوب"" بقسوة قائلة:
-اخرسي يا بت انتي ، احترمي نفسك بقي و اياكي اسمع منك كلمة زيادة ، انا اصلا ماكنتش عايزاكي تيجي معايا انتي اللي شبطي فيا.
ردت ""هنا"" في سخط إستنكاري:
-كنتي عايزة تدخلي القسم لوحدك ؟؟!
-و ايه يعني ياختي هايكلوني و لا هايكلوني ! و بعدين اتهدي و اسكتي خليني ادخل اطمن عالبت ، ده انا اللي ربيتها من يوم ما امها اتوفت الله يرحمها و من كتر حبي فيها سميتك اسم مقارب لأسمها في الاول ماكنتش بعرف انطق اسم هانيا ده ، و الله ما كان هيغمدلي جفن لو ما كنتش عرفت فين اراضيها لولا اتصلت بعمها الاستاذ توفيق ماكنتش هعرف انها محجوزة هنا.
و نظرت إلي بوابة القسم الحديدية ، و هي تبتهل قائلة:
-منه لله اللي كان السبب.
ثم خطت إلي الداخل تتبعها ""هنا"" علي مضض ..
توجهت نحو أقرب مكتب بالرواق الأقل إزدحاما في تلك الساعة ، حيث غربت شمس النهار ليحل محلها الليل الحالك ..
ثم سألت بتلقائية ذلك الضابط صاحب رتبة - أمين الشرطة - :
-لو سمحت يابني ، في واحدة محجوزة عندكوا هنا من الصبح اسمها هانيا مصطفي علام .. اعمل معروف دخلها الاكل ده احسن دي ياعيني علي لحم بطنها من ساعة ماجبتوها هنا.
و رفعت سلة الطعام الصغيرة ، ثم وضعتها فوق سطح المكتب قائلة:
-و لو انها تقالة لو قدرت تخليني اشوفها و اطمن عليها يبقي كتر خيرك.
باغتها الأخير في عنف و هو يلوح بيده بقوة:
-شيلي الحاجات دي من قدامي يا ولية انتي ، انتي فاكرة نفسك فين !!
عند ذلك ، تدخلت ""هنا"" قائلة و قد إرتفعت نبرة صوتها بقدر جذب الإنتباه نحوها:
-ولية مين يا حتة نطع انت ؟ انشالله يولولو عليك ، ما تحترم نفسك و اتكلم بأدب.
إكتست ملامح الضابط بذهول إستحال إلي غضب متقد و هو يقول مستنكرا:
-انتي اتجننتي يا بت انتي ؟ بتكلمي مين كده ؟؟
إهتاجت ""هنا"" و هي تصب سبابها فوق رأسه:
-بت في عينك يا قليل الادب ، لم نفـ ...
كممت ""قوت القلوب"" فم إبنتها قبل أن تكمل عبارتها و هي تقول محاولة التمويه عن رعونة إسلوب ""هنا"" الدفاعي:
-معلش يابني سامحها هي ماتقصدش و الله.
حاولت ""هنا"" تخليص فمها من كف أمها المطبق عليه لتكمل سيل لعناتها دون فائدة ، بينما نظرت إليها ""قوت القلوب"" و زجرتها بغضب قائلة:
-اتأسفي للباشا يا هنا.
و بقوة أزاحت ""هنا"" يد أمها عن فمها قائلة بعصبية:
-مين اللي يتأسف لمين ؟ ده انا ممكن اعملله محضر دلوقتي و انزله من عالمكتب اللي فرحان بالقاعدة فوقيه ده.
إبتسم الضابط في تهكم ، و إسترخي فوق مقعده ، ثم صمت لثوان قبل أن يقول بهدوء خبيث:
-بمناسبة المحاضر .. انا عندي هنا في درج المكتب شريطين برشام محتار اوديهم فين ! .. تاخدي واحد ؟؟
شهقت أمها و همست لها متوسلة:
-يابنتي بالله عليكي انكتمي ليلبسك تهمة بجد و انتي واقفة.
إلتمعت عينا ""هنا"" بالغضب و هي تحدق بذلك البغيض عاجزة عن الرد عليه ، حتي شنف سمعها من خلفها صوت رجولي يقول:
-ايه الدوشة دي ؟ ايه اللي بيحصل هنا ؟؟
في تمام الثامنة و النصف صباحا ..
كانت ""هانيا"" تقف أمام المرآة ، تتحضر و تتهيأ إستعدادا لملاقاة عدوها
بعد أن تركت الفراش ، إستعادت حيويتها بحمام ساخن ، ثم إرتدت تنورة حمراء سميكة ، يعلوها قميص أبيض حريري ، ثم وضعت فوق كتفيها معطف ذا لون سماوي يتلاءم مع زرقة عينيها تماما ، و مع المظهر الذي أرادت أن تظهر به ..
ثم جلست فوق كرسي خشبي أمام المرآة و راحت تصفف خصيلات شعرها الأشقر ، فيما زمجرت بغيظ و هي تنظر إلي صورتها .. فهذا الصباح ستواجه محنة مقابلة ""عاصم الصباغ"" ..
كيف ستتحمل هذا اللقاء ؟ كيف ستتحمل النظر إليه دون أن تنقض عليه و تقتله إنتقاما لأبيها الراحل الذي تسبب هو في موته .. كيف ؟
و لكن فجأة ، و بعزيمة قوية ، أبعدت عن ذهنها صورة أبيها التي تعذبها ، مستعينة علي ذلك بتذكر الحرب التي ستبدأ عما قريب ، و لكن ذلك الأمر سوف يتحدد بعد اللقاء المنتظر ..
كانت فكرة الثأر كفيلة أن تجعلها دبلوماسية في المعاملة معه عندما تراه ، لهذا كانت تعمل علي تهدئة أعصابها طيلة الوقت
ألقت ""هانيا"" نظرة إلي ساعة يدها السوداء الجلدية ، لم يبق لها سوى عشرين دقيقة للوصول إلي مقر الشركة .. سوف تصل سيارة التاكسي التي طلبتها هاتفيا في أي لحظة الأن
و بعد ما نظرت مرة أخري إلي نفسها بالمرآة و تأكدت من حسن مظهرها ، حملت حقيبتها و علقتها بكتفها و هي ترسخ بأعماقها شعور العزة و الكبرياء ..
حمدت ""هانيا"" الله عندما تبين لها أن السيدة ""قوت القلوب"" لا تزال نائمة ، فهي ما كانت لتتركها تغادر دون أن تتناول الإفطار
هبطت ""هانيا"" السلالم المتعرجة بإحتراس و روية ، و لدى وصولها إلي عتبة الباب الرئيسي للبيت المتهالك ، وجدت سيارة التاكسي في إنتظارها ..
بعد ثلث ساعة .. أوصلها السائق أمام البوابة الرئيسية لمؤسسة - A T S - للإستيراد و التصدير .. و بعد أن دفعت له الأجرة ، ترجلت متوجهة إلي الداخل ، ثم ذهبت صوب مكتب الإستقبال و الإستعلامات برأس شامخة و خطى ثابتة ، إذ طلبت أن يصار إلي إعلام رئيس الشركة بحضورها ، بينما طلبت منها موظفة الإستقبال بدورها أن تدلى بأسمها و السبب الذي من أجله أتت لرؤية الرئيس ..
أدلت ""هانيا"" بأسمها الثلاثي ، و رفضت أن تصرح بأكثر من ذلك ، مشيرة بأن رب العمل هو من طلب رؤيتها و ليس هي ، و بناءاً علي ذلك رفعت الفتاة سماعة الهاتف ، و تحدثت لدقيقة بصوت خافت أقرب إلي الهمس ، ثم عادت تنظر إليها قائلة بإبتسامة خفيفة:
-مستر عاصم منتظر حضرتك فعلا.
ثم هتفت بإسم أحد العاملين في الإستقبال ، فجاء شاب يرتدي زي العمل الرسمي ، فطلبت منه أن يقود الزائرة إلي الطابق السادس من المبني الضخم حيث يقع مكتب المدير الرئيسي ..
أحني الشاب ذا البسمة الحلوة رأسه في أدب ، و طلب من ""هانيا"" أن تتبعه ، بينما شعرت الأخيرة بقدميها ترتخيان فجأة ، و لكنها إستعادت رباطة جأشها مسرعة و عادت تحصن نفسها بأسوار الشموخ و الكبرياء ..
تمكنت من عبور البهو المفروشة أرضه ببساط واسع مزين بألوان زاهية و رسوم فنية ، و لما إنفتح باب المصعد و خطت داخله ، خيل إليها أنها تغادر العالم المتزن الواضح ، لتدخل عالما أخر غير مألوف علي الإطلاق ، بينما كان الغم و الكدر يضغطان علي حنجرتها و هي تحاول جاهدة أن تنطق دون جدوى .. الطوابق تمر أمامها و هي عاجزة أن تطلب من الشاب الذي كلف بتوصيلها إلي مكتب المدير أن يعيدها إلي الأسفل ..
و بصورة مفاجأة ، توقف المصعد ، و خرج الشاب أمامها ، فتبعته و قدماها تدوسان البساط الأخضر السميك ، بينما كانا يتوجهان نحو صالة واسعة وضع بها مكتب صغير جلست خلفه السكرتيرة الخاصة بمكتب المدير ، و حالما رأت الزائرة المنتظرة ، راحت ترمقها في فضول ، و لكنها نهضت و توجهت نحوها مسرعة ..
رحبت بها في برود هادئ و علي فمها إبتسامة رقيقة باهتة ، ثم أصرفت الشاب و أخذتها إلي مكتب رب العمل .. طرقت الباب ، و فتحته عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها للدخول ، ثم إلتفتت إلي ""هانيا"" قائلة:
-حدودي لحد هنا .. اتفضلي ادخلي.
أومأت ""هانيا"" رأسها و تنفست بعمق ، ثم خطت إلي داخل المكتب الفسيح ..
أغلقت السكرتيرة الباب وراءها ، بينما ركزت "" هانيا"" بصرها نحو مركز الغرفة .. حيث إستقر ""عاصم الصباغ"" و قد ملأ مقعده الجلدي الوثير بكتفيه العريضتين
كان مستديرا بالمقعد نصف أستدارة ، حيث ظهر بالجانب الأيسر من جسده ، فيما كان متظاهرا بالإنهماك في إحدي مكالمته الهاتفية المهمة .. و من دون أن ينظر إليها ، أشار لها بيده أن تقترب ، ثم تجاهلها تماما ليستمع إلي محدثه الوهمي ..
بينما ظلت واقفة علي بعد مترين من مكتبه ، إلي أن تململت في ضيق و إنزعاج عندما إستغرق وقتا طويلا في مكالمته ، فيما كان هذا هدفه تماما ، أن يضجرها و يزعجها و قد نجح
و لما شعر بالكفاية ، أغلق هاتفهه ، و وضعه فوق سطح المكتب ، ثم إستدار لها بمقعده و بكامل جسده ، و نهض بطوله الفارع ليواجهها ..
الأن تستطيع ""هانيا"" أن تنظر إليه جيدا و تتبينه بوضوح عندما إحتوته بنظرها .. أحست بأن نفسها قد إحتبس برئتيها ، كما شعرت بالإرتباك و إختلطت عليها مشاعرها .. فالخصم الذي رسمت صورته في خيالها ، يختلف تماما عن هذا الرجل الواقف أمامها !
كانت ندبة عميقة ، خشنة طويلة فوق خده الأيمن أول ما لفت نظرها .. الأن عرفت لماذا لم تر له أية صورة علي مواقع الإنترنت ..
تابعت النظر إليه و هي تتفحصه بدقة ، كان ينتعل جزمة سوداء لماعة ، كما كان يرتدي بذلة من اللونين ، الأسود و الكحلي .. شعره أسود ناعم و غزير ، بدا ما بين الطول و القصر و هو مصفف بعناية إلي الوراء ، بينما بعض الخصيلات تموجت إلي جانبي وجهه لتضفي عليه لمسة وسامة ..
بينما إستطاعت ""هانيا"" أن تميز عبر المسافة الفاصلة بينهما ، حاجبين كثيفي السواد ، فوق عينين بمزيج من لون البندق و شذرات ذهبية ، و أنف مستقيم ، ينحدر إلي فم مغر بشفتين ممتلئتين شهوانيتي التأثير ، و جانب وجهه السليم المنحوت و الخالي من التشوهات ، أعطي وجهه شكلا كلاسيكيا فريدا ..
إنبهرت ""هانيا"" من ذلك التكوين المذهل وتساءلت .. هل يمكن أن يمتلك رجلا مثله كل هذا الكمال رغم عاهته ؟!!
أجفلت عابسة ، ثم أوقفت نفسها بسرعة عن الإسترسال في تأمل هيئته ، بينما ظهرت علي وجهه إبتسامة ساخرة و كأنه قرأ أفكارها و ما يختلج بنفسها من مشاعر متضاربة ، فيما هنأ نفسه بإنتصاره بالجولة الأولي ، فقد نجح في تطبيق عنصر المفاجأة عليها .. فهي بالطبع لم تكن تتوقع أن تر خصمها ذا وجه مشوه ..
شعرت ""هانيا"" بعينيه الثاقبتين تخترقانها إختراقا ، بينما بصوت عميق و أجش قال لها:
-صباح الخير يا انسة هانيا .. اهلا بيكي في شركتي ، نورتي.
ثم مد يده الكبيرة ليصافحها ، بينما لم تغب عن "" هانيا"" رنة الإستهزاء في صوته ، لكنها مدت يدها في بطء و ثبات و صافحته ، ثم سحبتها بسرعة و حزم و هي ترمقه بكل ثقة قائلة:
-صباح النور .. ميرسي لذوقك.
إبتسم بخفة و هو يقول:
-انا اسف لو كنت خليتك تنتظري كتير ، بس كان معايا مكالمة شغل مهمة.
ثم دعاها للجلوس في أحد المقعدين الواقعين قرب المكتب:
-اتفضلي اقعدي.
لبت ""هانيا"" دعوته ، إذ جلست إلي حيث أشار قبالته في المقعد الجلدي الوثير ، بينما قبل أن يجلس بدوره ، راح يعينها في إمعان دقيق ..
و بعد أن تفحصها من قدميها إلي رأسها ، إشتبكت نظراته بنظراتها ..
تمكنت ""هانيا"" من رؤية الإعجاب في عينيه الجرئيتين ، فتلون وجهها قليلا ، بينما جلس ""عاصم"" أخيرا و سألها بنعومة هادئة:
-تشربي ايه يا انسة ؟؟
أجابته بإبتسامة خفيفة:
-شكرا .. و لا اي حاجة.
-لأ ازاي ! لازم تشربي حاجة .. انتي بتزوريني في شركتي و لأول مرة مش هاينفع.
غمغمت ""هانيا"" برقة قائلة:
-مممم ، لو لازم يعني يبقي قهوة سادة.
-سادة !!
هتف ""عاصم"" في تعجب إستنكاري رافعا حاجبيه ، فأكدت له بإيماءة من رأسها ، فهز هو كتفيه بخفة ، ثم رفع السماعة و آمر بإحضار فنجانين من القهوة إلي مكتبه ، ثم عاد ينظر إليها باسما و هو يقول:
-قبل اي حاجة انا بقدم التعازي في والدك الله يرحمه .. ماتتصوريش اتضايقت اد ايه لما جالي الخبر.
في تلك اللحظة .. كانت عيناها الزرقاوان تنفثان الغضب ، لم تشعر من قبل بمثل تلك العصبية التي إعتملت بنفسها نتيجة كلماته ، و لكنها بقيت تحافظ علي برودة صوتها
لن تترك لهذا الرجل الفرصة ليشعر أنها لا تستطيع السيطرة علي هدوء أعصابها .. :
-استاذ عاصم !
هتفت في جمود هادئ ، ثم سألته بلهجة رسمية:
-حضرتك طلبت تقابلني .. و اديني اهو جتلك زي ما طلبت .. خير ؟؟
مط ""عاصم"" شفتيه مهمهما ، ثم أجابها ببطء متعمدا إستفزازها:
-طبعا زي ما انتي عارفة .. كل املاك والدك الله يرحمه .. بقت ملكي حاليا.
و توقف عن الكلام قليلا ، يراقب تعابير وجهها المتصلب متلذذا ، ثم عاد يقول:
-كل حاجة بقت ملكي .. ماعدا حاجة واحدة بس.
حدجته ""هانيا"" في حدة ، و قد فطنت بالبديهة أنه يقصد تلك الأرض التي تركها لها والدها قبل وفاته بخمسة أعوام ..
بينما رفعت وجهها ، و عقدت حاجبيها في إستغراب متكلف و هي تقول:
-مش فاهمة يا استاذ يا عاصم ! تقصد ايه ؟؟
إبتسم بإلتواء و قد إستشف فيها نزعة عنيدة و مغامرة تحت قناع وجهها الإرستقراطي الجميل ، ثم أجابها بلهجة هادئة مستمتعا باللعبة التي يمارسها معها:
-في حتة ارض صغيرة للاسف فلتت من تحت ايدي .. لما جيت افرز الاملاك اكتشفت ان والدك كتبهالك من كام سنة كده.
-طيب ! فين المشكلة ؟!
هتفت في خشونة متهكمة ، بينما أجابها بإبتسامة خفيفة:
-الارض دي علي وجه التحديد و لاسباب شخصية تهمني اوي .. انا عايزها ، هاشتريها منك و هاديلك المبلغ اللي تطلبيه.
رمقته بعبسة متجهمة ، ثم سألته في إهتمام مترقب:
-ايه مدى اهمية الارض دي بالنسبة لك يا استاذ عاصم ؟؟
هز كتفيه و كأنه يجد الأمر برمته مسليا ، ثم أجابها قائلا كمن يشرح درسا:
-هي موقعها حلو ، مساحتها كويسة ، و انا بصراحة نفسي ابني فوقيها بيت.
ثم أضاف برقة هازئة:
-طبعا ده بعد ما اهد المخزن اللي عليها الاول.
خضب كلامه وجنتيها بحمرة الغضب ، إذ كان واضحا من نبرة صوته الناعمة و كأنه تعمد أن يشعرها بالذل و الحسرة علي إرثها الذي نهبه و إستولي عليه بأساليب الإحتيال ..
فيما غالبت شعور الغضب الذي راح يتصاعد داخلها ، حيث أخذت نفسا عميقا ، و حاولت أن تبادله ذلاقته الهازئة نفسها و هي تقول:
-قبل ما اجي هنا .. كنت متوقعة ان حقوقي هترجعلي بعد المقابلة دي .. كنت متوقعة اعتذار م وندم علي التصرفات الاحتيالية اللي حضرتك لجأتلها عشان تنصب علي ابويا و تسرق منه كل حاجة.
عاد يرسم علي شفتيه تلك البسمة الساخرة ، و رفض منحها تأكيدا شافيا لكلامها ، بل قال و هو يسترخي فوق مقعده:
-طالما كشفنا ورقنا يبقي مافيش داعي للتظاهر بالبساطة و تزويق الكلام.
أردف بهدوء و قد بدا وجهه قريرا متألقا:
-الضرب تحت الحزام شيء مشروع في شغلنا جدا يا انسة .. و اذا كنت انا نصاب زي ما بتقولي .. يبقي والدك العزيز شيخ منصر.
إشتعلت حدقتيها الزرقاوين بغضب حارق ، فهبت واقفة و هدرت بشراسة تدافع عن أبيها:
-والدي اللي بتتكلم عنه ده كان راجل شريف .. كان صاحب شركات و بيزنس محترم ، مش رئيس عصابة و لا حرامي زيك .. و علي فكرة ، اوعي تفتكر اني هسكت علي اللي حصل ، انا مش ممكن اسيب حقي ، و مستحيل اسيب تار ابويا.
منحها نصف إبتسامة باهتة ، ثم سألها ساخرا و هو يعبث بقلما فوق مكتبه:
-و يا تري في ايدك ايه تعمليه يا انسة ؟ مافيش في ايدك غير شوية التهديدات الفارغة اللي بتستخدميها ضدي دلوقتي كسلاح فاسد .. انا معايا السلطة و النفوذ و الفلوس .. انما انتي.
و مسح جسدها بعينيه من الأسفل إلي الأعلي في تقييم ساخر ، و أضاف:
-انتي مش معاكي اي حاجة .. صوتك عالي بس ، لكن ده بردو انا اقدر اسكته بطريقتي.
في تلك اللحظة ، كان قادرا علي ملاحظة الحقد الوحشي يلمع بعينيها الواسعتين ، بينما أحست بموجة عارمة من الغضب في صدرها ، و بالنار تشتعل في عينيها ، فصاحت بعنف تكيل له الصاع صاعين:
-بكرة تعرف ان اللي قلته ماكنش مجرد تهديد .. مش هاسيبك تتهني بشقي ابويا ، و الارض مش هتاخدها ، بعينك ، و قريب اوي هرجعك من الصفر عشان تشحت من اول و جديد بعد ما اخد منك كل حقوقي هعمل معاك اللي عمله ابويا مع ابوك من عشرين سنة.
ثم أضفت إلي صوتها نبرة متعالية لتضعه في مكانه:
-هشتري شركتك دي و كل املاكك بتراب الفلوس .. و ساعتها هتبقي واقف متكتف ، مش هتقدر تعمل حاجة .. زي السيد الوالد.
قالت هذا و شمخت بذقنها متحدية ، فإتقدت عيناه ، و أسود مزاجه ، فأدركت للحال بأنها أخطأت في التكلم بهذه الطريقة عن والده ..
و لكن قد سبق السيف العزل .. إذ أنه رمى قلمه من يده فجأة ، فأجفلت لحركته المفاجأة ، و لكنه تأملها بقوة طويلا حتي أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم نهض واقفا بحركة خاطفة عنيفة
فتراجعت تلقائيا عندما رأته يتجه نحوها بخطي واسعة ، يدنو منها بجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة ..
توترت و هو يزيد من إقترابه منها ، لكنها تجمدت بمكانها متحدية بوجه متصلب ، بينما غمغم هو من بين أسنانه:
-مبدئيا .. الارض بتاعتي .. و هاخدها بأي طريقة ممكنة ، اما انتي بقي .. ففتحتي باب لسكة انتي مش ادها .. مش هحاسبك علي كلامك دلوقتي ، بس اوعدك انك في الايام الجاية ، هاتشوفي اللي عمرك ما شفتيه.
قطبت حاجبيها و هي تنظر إليه واجمة .. كان وجهه شاحبا ، و الندبة أشد إحمرارا عما رأتها لأول مرة ..
إنفتح باب المكتب في تلك اللحظة ، بعد أن طرقه الساعي الذي دلف بالقوة التي آمر بها رئيس العمل ، بينما تنهد ""عاصم"" بعمق ، ثم دعا ""هانيا""للجلوس مجددا بنبرة متكاسلة و كأن شيئا لم يكن:
-اتفضلي اقعدي عشان تشربي قهوتك.
فأجابته بجفاف:
-اشربها انت.
ثم أحضرت حقيبة يدها من فوق المقعد ، و غادرت مسرعة بخطوات واسعة أقرب إلي الركض ..
قطعت مسافة طويلة ، بعيدة عن مقر الشركة ، إلي أن ضاقت ذرعا بنفسها ، فتوقفت تستند إلي شجرة ، تتوق إلي قدر من رباطة الجأش ، خاصة و أنها شعرت بدوار شديد
حمدا لله علي أن لا أحد هنا يشهد ضياعها و وهنها ، فهي لم تشعر في حياتها بمثل هذا الذعر الذي إستبد بها من جراء تهديده ..
ترى ماذا سيفعل ؟ .. ربما ينوي معاقبتها علي مضايقتها له بكلماتها اللاذعة .. و لكن كيف ؟!!
أن ""عاصم"" هذا لن ينفك أبدا عن فعل أي شيء ليحصل علي ما يريد ، ذلك ما إستنتجته بعد ما فعله ، و ما تأكدت منه بعد أن قابلته ..
لا تستبعد أن ينفذ تهديده ، فعيناه كانتا تشعان نار ، كما أن صوته الهادئ عكس غضب عنيف لا ينذر بخير علي الإطلاق
إنها حاليا لن تستطيع التصرف وحدها ، ستذهب ألي عمها لتأخذ برأيه .. هذا ما ستفعله الأن ...
**************
-لأ يا عاصم !
هتف ""زين"" بقوة معترضا و هو يجلس قبالة صديقه بالمكتب ، ثم تابع منفعلا:
-لحد هنا و كفاية اوي .. انا اذا كنت وافقت اساعدك علي اللي عملته قبل كده فأنا عملت كده عشان كنت متفهم وضعك و عارف ان ماكنش في طريقة تانية ترجع بيها حقك غير الطريقة دي .. لكن كل اللي فات كوم و اللي انت عايز تعمله دلوقتي ده كوم تاني ، البنت مالهاش ذنب في اللي حصل ، خرجها من اللعبة يا عاصم و سيبها في حالها و كفاية اللي عملته فيها.
رمقه ""عاصم"" في برود ، ثم همهم بهدوء متسائلا:
-همم ! خلصت ؟؟
قطب ""زين"" مستاءاً ، بينما مد ""عاصم'' جسده إلي الأمام ، و سند مرفقيه فوق المكتب و هو يقول بلهجة آمرة:
-هتخرج من عندي دلوقتي ، و هتنفذ اللي قلتلك عليه.
كاد""زين"" يتكلم ، فقاطعه ""عاصم"" بصرامة قائلا:
-انا عارف انا بعمل ايه كويس اوي يا زين .. و اظن انت مش غريب عني ، انت معاشرني بقالك سنين و فاهم تصرفاتي.
-ايوه يا عاصم ، بس اللي انت عايزه يحصل ده خطر .. انت فاهم انت بتعمل ايه ؟ انت كده ممكن تضيع مستقبل البنت و تنهي حياتها.
لوى ""عاصم"" فمه القاسي بإبتسامة بالكاد ظهرت ، و قال:
-قلتلك انا عارف انا بعمل ايه يا زين.
زفر ""زين"" في كدر و هو يحدق بصديقه ، لقد كان ""عاصم"" طوال السنين التي مضت ، نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لتزويد ثروته
قد يتفهم دوافعه نظرا لنشأته الصعبة ، و لكن لا يمكن أن تصل الأمور إلي هذا الحد ، رغبته في الإنتقام أعمته ، قد يدمر حياة أشخاص ليس لهم أدني ذنب فيما حدث بالماضي .. و ""هانيا"" في نظر ""زين"" واحدة من هؤلاء الأشخاص ...
أفاق ""زين"" من شروده فجأة علي صوت صديقه ذا النبرة الحازمة:
-هتنفذ اللي قلتلك عليه.
أطرق ""زين"" رأسه مذعنا ، ثم قال بخفوت:
-حاضر يا عاصم.
***************
عندما ذهبت إلي مسكن عمها الجديد في ""حي الغورية""العريق ، قصت عليه تفاصيل لقاءها ب""عاصم الصباغ"" و أخبرته عن التهديدات المخيفة التي أفاض بها ..
كان "" توفيق"" يستمع إلي حديث إبنة شقيقه في إهتمام بالغ ، لم يقاطعها للحظة حتي إنتهت .. فتنحنح ثم قال بهدوء:
-انتي غلطتي يا هانيا لما اتهجمتي عليه بالكلام و لما اتكلمتي عن والده بإسلوب مهين .. ده اولا .. ثانيا بقي ، رفضتي عرضه ليه ؟ تقدري تقوليلي هتعملي ايه بحتة الارض اللي فوقيها مخزن فاضي ؟ لو كنتي قبلتي تبيعيله ساعتها كان ممكن تحطي الرقم اللي انتي عايزاه و كان هيدفع طالما طلب يقابلك مخصوص عشان يشتري الارض منك.
تنهدت ""هانيا"" بعمق ، و قالت بسأم:
-الطريقة اللي اتكلم بيها حسستني بالقهر و الذل يا انكل .. و بعدين ازاي كنت عايزني اوافق علي طلبه و ابيعله الارض بمنتهي السهولة ! الراجل ده هو اللي اتسبب في موت بابا ، و انا لا يمكن احط ايدي في ايده ، ده غير انه سرق مني كل حاجة كمان عايز ياخد الارض !!
هتفت أخر كلماتها بإستنكار إنفعالي ، ثم أضافت في عند صلب:
-مش هبيعهاله ، حتي لو كنت ناوية ابيعها بعد ما قابلته انهاردة مستحيل هبيعها حتي لو مت من الجوع.
و صمتت لثوان تستجمع أنفاسها .. و لكن فجأة غاض الدم من وجهها حين تذكرت تهديداته .. فعادت تقول بنبرة متهدجة و قلبها يخفق في وجل:
-تفتكر ممكن ينفذ تهديده يا انكل توفيق ؟ يا تري ممكن يعمل ايه ؟؟
مط ""توفيق"" شفتيه قائلا:
-ماعتقدش انه ممكن يعمل حاجة .. مافيش في ايده حاجة تانية يعملها.
ثم مد يده و أمسك بيدها الباردة ، و شد عليها مطمئنا بقوله:
-ماتقلقيش يا حبيبتي .. في كل الاحوال انا جمبك و في ضهرك .. و لا يمكن هسمح لمخلوق انه يمس شعرة منك.
أومأت رأسها مبتسمة في توتر ، فيما راح التورد يخبو في وجنتيها .. إذ عاد إليها الدوار ، و بالكاد أحست عمها ينهض ثم يعود و يضع بين أصابعها المرتجفة فنجانا و يآمرها بلطف أن تشربه:
-اشربي الشاي يا حبيبتي و هدي اعصابك خالص .. كفاية تفكير و حاولي تسترخي.
أحتست ""هانيا"" الشاي في عصبية .. فعاد لونها المفقود .. لكنها إستمرت تفكر خائفة ...
أفاقت ""هانيا"" من شرودها فجأة علي صوت سائق الحافلة الجهوري و هو يقول:
-يا انسة .. انتي يا انسة خلاص وصلنا الوراق.
طرفت ""هانيا"" مضطربة ، فجمعت شتات نفسها سريعا ، ثم تلفتت حولها ، و تنبهت إلي خلو الحافلة و وحدتها بها ، فغادرت بدورها ..
و لدي وصولها إلي منزل مربيتها .. فتحت لها باب المنزل الإبنة ""هنا"" بوجه قاتم سرعان ما إستحالت تعابيره إلي الإستغراب و الحيرة عندما شاهدت وجه ""هانيا"" الأبيض الشاحب ..
بينما عبرت السيدة ""قوت القلوب"" الصالة الصغيرة بخطوات واسعة نحوها و القلق باد علي ملامح وجهها ، و قبل أن تفكر ""هانيا"" في وسيلة للهرب ، وصلت إليها الأخيرة .. :
-هانيا !
هتافها المختصر جمدها بمكانها ، فإستدارت إليها متسائلة:
-نعم يا داده ؟؟
-كنتي فين ؟؟
سألتها بلطف قلق ، فأجابت ""هانيا"" بهدوء:
-انا مش قلتلك امبارح ان عندي ميعاد مهم ؟؟
-ايوه .. بس انتي نزلتي قبل ما اصحي ، و اتأخرتي اوي قلقتيني عليكي.
عللت ""هانيا"" سبب تأخرها بقولها:
-بعد ما خلصت المشوار اللي كنت فيه روحت ازور انكل توفيق عشان كده اتأخرت شوية.
أومأت ""قوت القلوب"" رأسها في تفهم ، بينما إستأذنت ""هانيا"" قائلة:
-عن اذنك يا داده هدخل انام.
إحتجت ""قوت القلوب"" بإستنكار قائلة:
-مش هتتعشي !!
منحتها ""هانيا"" أبتسامة رقيقة ، و شكرتها قائلة:
-شكرا يا داده .. بس انا مش قادرة آكل .. عايزة انام بس .. تصبحي علي خير.
تنهدت ""قوت القلوب"" بإشفاق علي حال الفتاة التي ربتها كإبنتها منذ نعومة أظافرها ، بينما دلفت ""هانيا"" إلي غرفتها و إستلقت علي الفراشة متهالكة بعد أن خلعت حذائها و نزعت معطفها و القميص الذي كبل حركتها ..
ثم تكومت علي جانبها الأيمن ، و ضمت ساقيها إلي صدرها آخذة وضعية الجنين في بطن أمه .. و ما هي إلا ثوان معدودة حتي غطت في نوم عميق من فرط إرهاقها ، و ما شهدته اليوم من خوف و إضطراب ...
****************
كانت مستغرقة في نوم سيطرت عليه الكوابيس التي نسيتها .. أحست ألما عنيفا يغزو رأسها .. حاولت أن تنهض و لكنها لم تستطع حتي تحريك أصبعها ..
ما سبب ثقل جسمها الغريب ؟ .. ربما لو حاولت التحامل علي نفسها لنهضت .. و لكن هناك صوت لم يصدر عنها سمعته فلسانها كان ثقيلا جدا و كأنه قطعة من حجر ..
أحست بأنها بالفعل ليست وحدها في الغرفة .. هناك من يتنفس في مكان قريب منها ..
حاولت إختراق الظلام بعينيها لتراه .. فلمحت خياله الأسود يقترب منها ببطء .. تسلل شعور الخوف و الذعر إلي داخلها عندما بدأت ملامحه تضح لها ..
التقاسيم الوسيمة المألوفة ذات التعبير الساخر المخيف .. إتسعت عيناها و زادت محاولاتها في الحركة و الهرب دون فائدة ..
و هنا قال الصوت الساخر ليجفف الدماء في عروقها:
-انتي ليا انا و بس يا رضوي .. اوعي تفتكري اننا خلصنا لحد كده لأ .. مسيرك ترجعي لحضن اكرم حبيبك .. و جوزك.
تدفقت دموعها و هي تراقبه يقترب منها و ملامحه الوسيمة تستحيل تدريجيا إلي أخري شيطانية ، و المخالب تبدأ بالظهور من أطراف أصابعه ..
في تلك اللحظة ، أطلقت ""رضوي"" صرختها المختنقة و هي تهب جالسة فوق السرير و قد تبلل جسدها تماما بالعرق رغم برودة الجو ، نظرت حولها لاهثة برعب .. كانت الغرفة غارقة في الظلام حتي إنفتح الباب بقوة ، و دلفت والدتها السيدة ""دينار"" مهرولة تجاه إبنتها .. :
-رضوي ! بسم الله الرحمن الرحيم مالك يا حبيبتي ؟؟
قالت ""دينار"" ذلك و هي تضم جسد إبنتها المنتفض ، و تمسد ظهرها في محاولة لتهدئتها .. بينما صاحت ""رضوي"" بهلع:
-ماما ، ماما خليه يمشي يا ماما .. خليه يمشي عشان خاطري.
-هو مين ده يا حبيبتي ؟؟
-اكرم .. اكرم يا ماما.
جابت ""دينار"" ببصرها أرجاء الغرفة ، فوجدتها خاوية تماما إلا منها و من إبنتها ، فعادت تقول لإبنتها بصوت هاديء ناعم:
-حبيبتي الاوضة فاضية .. مافيهاش حد غيري انا و انتي.
صرخت ""رضوي"" قائلة:
-لأ .. بقولك اكرم هنا .. كان واقف جمب السرير دلوقتي.
أضاءت ""دينار"" مصباحي الطاولتين اللتين حاصرتا الفراش العريض قائلة:
-بصي كده يا حبيبتي .. اهيه الاوضة فاضية قدامك .. اكرم مش هنا ، و مستحيل يدخل هنا ، انتي كنتي بتحلمي.
ثم عادت تهدئها بصوتها الدافيء:
-ماتخافيش يا رضوي .. انتي في وسطنا .. انا و اخوكي حواليكي ، محدش يقدر يهوب ناحيتك و لا يأذيكي.
إبتلعت ""رضوي"" ريقها بصعوبة ، و راحت تسمع صوت أمها يطمئنها ، كما شعرت بها تمددها علي الفراش ، و هي تربت علي شعرها بحنان ..
فإنحسرت الأحلام القاسية .. و إستغرقت ""رضوي"" في نوم هاديء و هي تشعر بالراحة و الأمان ، فيما والدتها تربت علي خدها ، ثم تنحني لتضع قبلة علي جبينها ...
****************
في صباح اليوم التالي ..
أستيقظت السيدة ""قوت القلوب"" علي صوت طرقات عنيفة علي باب المنزل ، فخرجت من غرفتها مسرعة ، و إتجهت صوب الباب مهرولة و هي تفرك بعينيها لتزيل عنهما أثر النعاس ، ثم صاحت:
-ايوه ايوه جاية اهو .. يا ساتر يا رب ، مين ده اللي بيخبط بالطريقة دي ؟؟
و فتحت الباب لتتفاجأ برجلان يرتديان الزي الرسمي الخاص بالشرطة ، فشهقت في فزع ، ثم قالت بشحوب تحدث القائد الذي يواجهها:
-صـ صباح الخير يا باشا .. خير ؟؟
رد الأخير بغلظة قائلا:
-هانيا مصطفي علام .. قاعدة هنا ؟؟
"الحلقة ( 6 ) - فراشة .. عالقة في شرك -:
إنضمت ""هنا"" في تلك اللحظة إلي أمها ، و تساءلت بوجه عابس:
-ماما ! في ايه ؟؟
تجاهلتها السيدة ""قوت القلوب"" و عادت تسأل الضابط في توجس:
-هي عملت ايه يابني ؟ عايزينها ليه ؟؟
صاح بها الضابط بفظاظة:
-مالكيش دعوة يا ست انتي ، جاوبي علي اد السؤال و بس ، هانيا مصطفي علام قاعدة عندك هنا ؟؟
و قبل أن تنطق ""قوت القلوب"" بحرف ، أتت ""هانيا"" من خلفها بخطي ثابتة و وجه متجهم متصلب ، ثم أجابته بصوت مرتج:
-انا هانيا مصطفي علام يا حضرة الظابط .. خير ؟؟
صوب الضابط ناظريه نحوها .. عاينها للحظات قبل أن يقول:
-مطلوب القبض عليكي يا انسة .. اتفضلي معايا بهدوء لو سمحتي.
علت نبرة ""قوت القلوب"" و هي تسأله مستنكرة:
-ليه يا باشا ؟ هي عملت ايه بس ؟؟
أجابها الضابط بإقتضاب حاد:
-و الله ماعرفش يا ست ، كل اللي اعرفه ان معايا امر بضبط و احضار الانسة و لازم انفذه.
-طب ممكن اغير هدومي الاول ؟؟
قالتها ""هانيا"" بجمود ، فأومأ الضابط رأسه قائلا:
-اتفضلي بس بسرعة.
إستدارت ""هانيا"" علي عقبيها ، و إتجهت إلي غرفتها ..
بدلت ملابسها بآلية و هي تفكر بقلب واجف .. تري ما طبيعة الفخ الذي نصبه لها ""عاصم الصباغ"" ؟؟
***************
كان ""عاصم"" يحتسي الشاي في ركنه المفضل بحديقة قصره ، عندما أقبل ""زين"" عليه بخطي واسعة ..
و بدا أن إحتقان وجهه غمر وجه ""عاصم"" بالرضا ، إذ أنه إبتسم بقوة ، و قال بعد أن جلس صديقه في مقعد قبالته:
-ها ! طمني ايه اللي حصل ؟؟
رد ""زين"" بإقتضاب حانق:
-حصل اللي انت عايزه بالظبط ، و زمانها في القسم دلوقتي.
إزدادت إبتسامة ""عاصم"" إتساعا ، و هو يرفع عينيه نحو سماء النهار مرددا بإنتصار:
-وقعت في المصيدة .. و محدش ممكن يحررها غيري .. دلوقتي هتنفذ اوامري كلها بالحرف ، و مش هتقدر ترفع عينها فيا حتي.
قطب ""زين"" متعجبا و هو يسأله:
-ليه بتعمل كده يا عاصم ؟ ذنبها ايه البنت في العداوة اللي كانت بينك و بين ابوها ؟؟
نظر له ""عاصم"" صامتا لبرهة ، ثم أجاب بصوت هادئ و ملامح عدوانية:
-ذنبها انها بنته .. بنت الراجل اللي دمرني و دمر عيلتي .. انا انتقمت لابويا منه خلاص و خدت تاره .. لكن حاسس اني لسا مارتحتش يا زين.
و أردف في شر مطلق ، و عيناه تقدحان نارا:
-بنته هي اللي هاتريحني .. هي اللي هتشفي غليلي ، هي اللي هاتبرد النار اللي قايدة جوايا من 20 سنة.
نظر إليه ""زين"" في ريبة ، و عاد يسأله:
-انت ناوي علي ايه تاني يا عاصم ؟؟
قست تعابير وجهه ، و هو يجيبه بصرامة:
-ناوي اخد بتاري.
هز ""زين"" رأسه في يأس ، بينما أتي فجأة أحد أفراد الحرس ، ثم قال بهدوء و هو يدنو من ""عاصم"":
-عاصم باشا ، في واحد جه برا بيقول انه صاحب شهاب بيه و عايز يدخلله.
سأله ""عاصم"" متجهما:
-فتشتوه ؟؟
-ايوه يا باشا و نضيف.
تغضن جبين ""عاصم"" بعبسة متململة ، لكنه أعطاه الأذن بإقتضاب:
-خليه يدخل.
أنحني الحارس لسيده ، و إنسحب في هدوء ..
فيما عاد ""عاصم"" يهتم بجلسته مع صديقه ، فقال له و هو يشير إلي وعاء الشاي البلوري:
-هعزم عليك بالشاي و لا ايه ؟ ما تصب لنفسك يا اخي !
**************
مال النهار إلي الإنتصاف ..
عندما وصلت ""هانيا"" إلي نقطة الشرطة برفقة الضابطين اللذين كُلفا بإحضارها ..
راحت تتلفت يمينا و يسارا متفحصة المكان و الجدران ذات الرائحة المقززة ، و تلك الطرقات التي تعج بالسارقين و المجرمين ، كان المكان وقتها كالطوق الذي يزيد ضيقه إختناقها ..
حتي إنحرف بها الضابط المسؤول يمينا ، و أدخلها حجرة مكتب السيد ""وكيل النيابة"" ..
كان رجلا في منتصف الثلاثينات ، يجلس خلف مكتبه مشغولا ببعض الأوراق ، إلي أن أنتشله صوت الضابط الشاب من أوج تركيزه:
-تمام يافندم ، هانيا مصطفي علام حضرتك.
رفع الأخير رأسه عن الأوراق ، و تبادل مع ""هانيا"" النظرات في صمت ، ثم قطع نظراتهما بقوله:
-ماشي يا احمد .. اتفضل انت دلوقتي و ابعتلي عادل عشان يكتب المحضر.
أدي الضابط ""أحمد"" التحية العسكرية أمام رئيسه الأعلي رتبة ، ثم إستدار علي أعقابه ، و غادر المكتب ..
بينما راحت ""هانيا"" تفرك بكفيها في عصبية قبل أن يأتيها صوت الضابط الهادئ:
-اتفضلي اقعدي يا انسة.
و أشار لها أن تجلس بمقعد قرب مكتبه ..
تقدمت ""هانيا"" بضع خطوات حتي وصلت إلي المقعد ، فجلست فوقه مرتعدة الأوصال ، ثم تطلعت إليه في ريبة متسائلة بنبرة مختلجة:
-اقدر اعرف انا هنا ليه يا حضرة الظابط ؟؟
كانت تحاول إستعجال الأمور ، فكلما تلقت المصائب تباعا بصورة سريعة ، كلما كانت الصدمات قليلة
قاطعهما فجأة دخول شاب عشريني نحيل ، يرتدي قميصا و سروالا لا ينتميان إلي زي الشرطة الرسمي ..
ألقي علي الضابط تحية الصباح ، ثم تقدم نحوه ، و أخذ مكانه في مقعد بجوار المكتب مباشرة ..
بينما نظر الضابط إلي ""هانيا"" صامتا لبضع دقائق ، يتأمل هيئتها الأرستقراطية ، ثم غرق في كرسيه ، و أخذ ينقر بقلمه فوق سطح مكتبه قائلا:
-قوليلي الاول يا انسة هانيا .. يا تري عندك علم بمخزن في المنصورية كان ملك لوالدك قبل ما يكتبه بإسمك ؟؟
إزدردت ريقها مرتابة ، و حاولت أن تبلل شفتيها اليابستين بلسان جاف و هي تقول بصوت خرج منها بصعوبة:
-ايوه .. يا تري في مشكلة ؟؟
إعتدل في جلسته و هو يجيبها:
-في بلاغ اتقدم فيكي انهاردة الصبح بإنك بتستعملي المخزن كوسيلة في تجارة و ترويج المخدرات.
هنا هبت ""هانيا"" واقفة غير قادرة علي الجلوس من هول ما سمعته ، فهذه التهمة كانت بعيدة تمام البعد عن تصورها .. فصاحت مذعورة:
-مخدرات ايه ؟ مستحيل ! ايه الكلام الفارغ ده ؟؟
هتف الضابط بصرامة:
-من فضلك يا انسة اقعدي ، انا لسا ماخلصتش كلامي.
و بدت ""هانيا"" و كأنها رفضت ، لكنها عاودت الجلوس محدقة فيه بقوة ، بينما فتح هو أحد أدراج المكتب ، و أخرج كيسا شفافا يحوي مادة بيضاء اللون ، ثم نظر إلي ""هانيا"" قائلا بهدوء:
-الكيس ده كان من ضمن مجموعة اكياس كتير جوا صناديق في المخزن بتاعك يا انسة هانيا .. و اعتقد انتي خمنتي ايه اللي جوا الكيس ده !
صمتت ""هانيا"" تحت تأثير الصدمة القاتلة ، فسألها الضابط:
-لو ليكي شركا اعترفي عليهم .. الكمية اللي لاقيناها كتيرة ، و لو اعترفتي ده هيكون في صالحك.
تابعت ""هانيا"" صمتها مكتفية بشعور الرعب الذي أخذ يتعاظم بداخلها ..
تنهد الضابط في تكاسل ، و وجه بصره إلي مساعده قائلا بعد أن فقد الأمل في إنتزاع الكلمات الدفاعية منها:
-اكتب يابني .. اُقفل المحضر في تاريخه .. عقب إثبات ما تقدم .. و قررنا نحن .. طارق الحُسيني .. وكيل النائب العام .. أولا .. حبس المتهمة .. هانيا مصطفي علام اربعة ايام علي ذمة التحقيق .. علي أن يراعي التجديد لها في الميعاد .. ثانيا .. يتم إستدعاء .. فريق مشكل من أعضاء هيئة الطب الشرعي لفحص المضبوطات .. قبل إتخاذ النيابة أيا من قراراتها .. و أخيرا .. يتم أخطارنا بمحضر الاجراءات.
في تلك اللحظة ، نطقت ""هانيا"" بصوت مبحوح بعد أن غص الريق في حلقها حتي كادت تختنق به:
-ممكن اعمل مكالمة ؟؟
**************
لم يصدق ""شهاب"" عينيه حين رأي صديقه يدلف إلي غرفته ..
فقفز من فوق فراشه ، و هرول نحوه ، بينما أغلق صديقه باب الغرفة مسرعا و هو يرتعد خوفا:
-شادي ! اتأخرت كده ليه ؟؟
هتف ""شهاب"" منفعلا بنبرة متهدجة و قد أصابه الرشح ، كما كان يتعرق بقوة رغم برودة الجو ، مما يوحي بأعراض إنسحاب المواد المخدرة من جسده ..
إلتفت ""شادي"" إليه ، و أجابه بصوت أقرب إلي الهمس:
-شششش يا عم هتفضحنا .. ده انا قبل ما ادخللك اتفتشت تفتيش ذاتي ، كان ناقص يقلعوني البوكسر.
قبض ""شهاب"" علي رسغه بقوة و هو يسأله بأضطراب شديد:
-يعني ايه ؟ ماجبتش اي حاجة ؟؟
إبتسم ""شادي"" و هو يتطلع إلي صديقه مستمتعا بحالته المزرية تلك ..
فقد إستحوذت عليه المخدرات بشكل كامل ، و قد إستولي عليه الضياع بعد أن كان نعم الشباب و أفضلهم في المستوي الإجتماعي و الثقافي ..
تنهد ""شادي"" مسرورا لتحقيق مآربه ، و هو إفساد واحدا من بنو الطبقة الرفيعة المترفة ، فعل ذلك إنتقاما للطبقة المعدمة التي ينحدر منها ، و حقدا علي شخص يحيا حياة لطالما كان يتمناها بلا أمل ..
بينما خلع ساعة يده ، و فك إطارها المعدني مخرجا منها لفافة بلاستيكية صغيرة .. لمعت عينا ""شهاب"" لمرأي تلك اللفافة ، فمد يده بسرعة البرق و خطفها من بين أصابع ""شادي"" الذي صاح مذعورا:
-بتعمل ايه يا محنون ؟ دول جرامين ، استني انا هاديك نص جرام علي ادك.
أحاط ""شهاب"" اللفافة بيديه مبتعدا عن صديقه و هو يقول بأنفاس متلاحقة:
-انا هاخد الجرامين يا شادي .. انا محتاجهم اوي ، انت ماتعرفش انا استنيتك تيجي و تجيبهملي اد ايه !
-يابني كده مش حلو .. الجرعة هتبقي شديدة اوي عليك ، و ممكن تموت Overdose بـ(جرعة مُفرطة).
-انا مش هاضرب التذكرة كلها.
حاول ""شهاب"" أن يقنع صديقه بلا جدوي ، فتوجه نحو أحد أدراج خزانته ، و عاد إليه من جديد ، ملوحا له بالمال الذي سال له لعابه ..
أخذ ""شادي"" المبلغ المالي من ""شهاب"" و نصحه للمرة الأخيرة بعدم الإفراط في التعاطي ، ثم رحل في حذر و توجس ..
بينما جلس ""شهاب"" خلف طاولة مستطيلة منخفضة توسطت غرفته الفخمة الواسعة ، و أفرغ محتوي اللفافة فوق اللوح الزجاجي للطاولة ، و بعد أن أعد كل الطقوس و الوسائل اللازمة ، دنا برأسه ، و راح يستنشق بشراهة تلك المادة البيضاء حتي أنهي الجرامين بالكامل ..
ثم عاد بجسده يسترخي متهالكا فوق الأريكة الجلدية البيضاء و قد بدا منتشيا إلي أقصي حد ..
**************
إنتابت "" توفيق"" حالة من الذعر و القلق الهستيري فور تلقيه مكالمة ""هانيا"" ..
لم تقل له هي سوي أنها محجوزة بقسم الشرطة لإتهامها بالإتجار في المخدرات ..
و في الحال قفزت صورة ""عاصم "" أمام أعينه ، و تذكر مخاوف إبنة شقيقه من تهديداته .. لم يعرف ""توفيق"" كيف إرتدي ملابسه بسرعة جنونية ، و كيف إنطلق كالسهم إلي القسم الذي أحتُجزت به ""هانيا"" منذ الصباح ..
توجه مسرعا إلي مكتب وكيل النيابة بعد أن سأل عنه أحد العساكر ، بينما إستوقفه بحدة ذاك العسكري الشاب الذي وقف أمام مكتب وكيل النائب العام ليحرسه:
-رايح فين يا استاذ انت ؟؟
أجابه ""توفيق"" بنبرة متوترة جراء المجهود الخرافي الذي بذله في المجيء إلي هنا بأقصي سرعة ممكنة:
-انا توفيق علام ، عايز اقابل وكيل النيابة ، بنت اخويا محجوزة عندكوا هنا من الصبح ، من فضلك ادخل اديله خبر اني عايز اقابله.
تغضن وجه العسكري و هو يقول بجفاف:
-طيب .. استني هنا و ماتتحركش من مكانك.
أومأ ""توفيق"" رأسه موافقا ، بينما طرق الأخير باب المكتب ..
دلف ، و غاب للحظات ، ثم عاد و سمح له بالدخول .. فإندفع ""توفيق"" إلي الداخل بسرعة
فيما بدا أن السيد ""طارق"" وكيل النائب العام كان جالسا في إنتظار قدومه ..
إذ أنه نهض واقفا علي قدميه ، و مد يده عبر المكتب الفاصل بينهما ليصافحه قائلا بلهجة رسمية مؤدبة:
-مساء الخير ، اهلا بيك يا توفيق بيه.
مد ""توفيق"" يده بدوره و صافحه قائلا بصوت مرتجف ممزوج بشيء من العصبية:
-مساء النور ، اهلا بحضرتك .. فين بنت اخويا يا باشا ؟؟
هز ""طارق"" رأسه و هو يقول بهدوء:
-اتفضل اقعد الاول يا توفيق بيه.
رمقه ""توفيق"" بعبسة متململة ، و جلس علي مضض ..
عاود المحقق ""طارق"" الجلوس بدوره ، و بدأ حديثه قائلا:
-اولا انا عايز حضرتك تعرف و تفهم كويس ان الموضوع مش بسيط نهائي .. انتوا عيلة معروفة و اشهر من نار عالعلم ، لكن بنت اخو سيادتك تهمتها مش بسيطة ابدا .. انهاردة الصبح جالنا بلاغ انها متحفظة علي كمية كبيرة من المخدرات في مخزنها اللي علي طريق المنصورية .. و لما بعتنا قوة تتحقق من الكلام ده اتضح انه مظبوط.
و أخرج ""طارق"" الكيس الذي أراه إلي ""هانيا"" ، و وضعه فوق سطح المكتب أمام ""توفيق"" متابعا بقوله:
-كيس البودرة ده جبناه من جوا المخزن يا توفيق بيه .. و للأسف في منه كتير جدا ، و دي قضية مش سهلة زي ما انت عارف ، اقل حكم فيها 25 سنة .. و جايز اعدام.
حدق ""توفيق"" فيه كالأخرس ، و بعد أن تدارك معني كلماته ، هتف منفعلا:
-مستحيل ، الكلام ده مش مظبوط ، هانيا دي لسا بنت صغيرة بتدرس ماتمتش 22 سنة ،و هي اصلا عمرها ما انضمت لشركة والدها و لا اشتغلت في البيزنس من اساسه ، ده غير انها حاليا افتقرت ماتحتكمش علي و لا مليم ، يبقي ازاي بتاجر في المخدرات و بالكمية الكبيرة اللي حضرتك قلت عليها دي ! مش معقول !!
هز الضابط ""طارق"" رأسه آسفا و هو يقول:
-للأسف يا توفيق بيه كلام حضرتك ده لا هيقدم و لا هيأخر .. المخدرات إتظبطت جوا المخزن ، و المخزن ملك الانسة هانيا ، يعني بأسمها و الضرر كله واقع عليها لوحدها مش علي حد تاني ، حضرتك مش هتقدر تعملها حاجة.
صر ""توفيق"" علي أسنانه غاضبا لشعوره بعجزه الذي لم يشعر به إلا الأن و هو يري إبنة شقيقه تكاد تسقط في هوة بلا قرار ، بينما لم يستطع هو أن يفعل لها شيئا ..:
-انا عايز اشوف بنت اخويا لو سمحت.
هتف ""توفيق"" بصلابة ، فأومأ الأخير رأسه مرارا ، و في هدوء رفع سماعة الهاتف و تحدث بالآتي:
-ايوه يا ماهر .. هاتلي الانسة هانيا علام علي مكتبي من فضلك .. بسرعة.
و لم تمر دقيقة إلا و دلف الضابط الأقل رتبة و معه ""هانيا"" التي ركضت صوب عمها فور رؤيتها إياه
بينما إنتصب ""توفيق"" واقفا ، و إحتوي إبنة شقيقه بين ذراعيه ..
إستأذن ""طارق"" و غادر المكتب ليعطيهما بعض الخصوصية
فيما تفجرت الدموع من عيني ""هانيا"" و هي تجهش بالبكاء المُر فوق صدر عمها .. فأخذ ""توفيق"" يربت علي شعرها بلطف ، و يمسد ظهرها في محاولة لتهدئتها دون فائدة .. فقال يطمئنها بصوته الدافئ:
-بس يا هانيا .. ماتخافيش يا حبيبتي انا مش هاسيبك ، هخرجك من هنا و الله ماتخافيش.
أصدرت ""هانيا"" أنينا متشنجا قبل أن ترد بصوت مخنوق من شدة البكاء:
-مش هتقدر تعملي حاجة يا انكل .. انا خلاص ضيعت .. هو دمرني زي ما دمر بابا .. ماكنتش متخيلة ابدا انه ممكن يعمل فيا كده ، ده مش بني ادم ، مستحيل يكون بني ادم.
أطلق ""توفيق"" لعنة مختنقة ، لكنه عاد يُطمئن ""هانيا"" بصوت أجش هذه المرة:
-ماتخافيش يا هانيا .. وثقي فيا .. ثقي في عمك ، مش هاسيبك تتحبسي في السجن و لا يوم صدقني.
صمت ""هانيا"" أذنيها عن كلمات عمها المطمئنة ، و تابعت نحيبها المرير ، فضاق ""توفيق"" ذرعا بذلك ، و أمسك بوجهها الصغير بين كفيه الكبيرين ، ثم رفعه لينظر إليها في قوة ، قائلا بعزم:
-و رحمة ابوكي .. و حياتك عندي لهخرجك من هنا.
سألته ""هانيا"" واهنة و هي تمسح دموعها بقبضة متقلصة:
-هتعمل ايه يا انكل ؟؟
إلتحفت عيناه بالغموض ، و تقلص فمه واجما حين لاحت صورة ""عاصم الصباغ"" بذهنه ، و ما نوي أن يفعله بعد خروجه من هنا ..
بينما رأت ""هانيا"" في عيني عمها وعود صادقة طمئنتها و أخافتها في آن ...
***************
قطع دوي رنين الهاتف حديث ""عاصم"" و ""زين"" ..
فإلتقط ""عاصم"" هاتفهه من فوق الطاولة أمامه ، و نظر إلي أسم المتصل ، و إبتسم ، ثم أجاب:
-الو .. اهلا يا طارق بيه ، ها طمني ، ايه الاخبار ؟؟
أجاب الطرف الأخر بقوله:
-كله تمام يا عاصم باشا .. ماشيين علي تعليمات حضرتك بالظبط ، و عمها لسا واصل من شوية و قاعد معها جوا في مكتبي دلوقت.
أومأ ""عاصم"" رأسه مهمهما ، ثم سأله و قد برقت عيناه بترقب:
-حالتها .. عاملة ازاي يا طارق بيه ؟؟
-بصراحة البنت منهارة عالأخر و أعصابها مدمرة.
إتسعت إبتسامة ""عاصم"" الخبيثة لسماع ذلك التصريح من الضابط المحقق الذي جنده للعمل لصالحه ، فيما عاد يقول منبها:
-مش هاوصيك يا حضرة الظابط .. المعاملة لازم تكون كويسة ، و الضيافة لازم تكون كريمة ، الموضوع كله مش هياخدله يومين زي ما الاستاذ زين فهمك.
-اه طبعا طبعا يا باشا انا فاهم .. احنا من اول ما جبناها و هي قاعدة عندنا معززة مكرمة ، ده انا حتي وصيت العساكر ينقلوا الستات القلق من الحجز لحد ما الموضوع يخلص عشان مايتعرضولهاش.
-حجز !!
صاح ""عاصم"" بغضب ، و تابع بصوت عنيف إستنكاري و كأنه يتوعده:
-انت نزلتها الحجز يا حضرة الظابط ؟؟!
تلعثم ""طارق"" مرتبكا و قد شعر بإضطراب شديد من لهجة ""عاصم"" السافرة ، فإن إثارة غضب واحدا مثل ""عاصم الصباغ"" لن تكون أبدا نقطة في صالحه
فهو يعلم جيدا إلي أي مدي نفوذه واسعة ، كما أن أمواله طائلة ، يستطيع أن يفعل من خلالها ما يحلو له عن طريقه أو عن طريق ممن سواه أيضا ..
لهذا إنطلق صوته المرتبك يقول ملطفا في حذر:
-يا باشا ننقلها في احسن حتة عندنا في القسم حالا و لوحدها ، و لا تضايق نفسك اوامر معاليك علي راسنا.
بوجوم و خشونة رد ""عاصم"":
-انا بنفسي هاجي اشوفها بكرة .. و يا ريت ألاقيها كويسة و مش متبهدلة.
-اكيد يا باشا ، انا تحت امرك.
و أغلق ""عاصم"" الخط معه متنهدا ، بينما سأله ""زين"" مترقبا:
-ها ! قالك ايه طارق الحسيني ؟؟
أجابه ""عاصم"" بترفع و إنتصار:
-عمها معاها في القسم دلوقتي.
ثم إشرق وجهه قريرا راضيا ، فقد حاكي جيدا رداء التهمة فوق جسد ""هانيا"" بحيث إستطاع بسلطته الطاغية ، و وسائله الملتوية أن يخلق لها مأزق وهمي ليجعلها ترضخ له و تنفذ كافة أوامره .. :
-طب وبعدين يعني ؟ ايه اللي هيحصل دلوقت ؟؟
وجه ""زين"" تلك التساؤلات إلي ""عاصم"" الذي صمت لبرهة ، ثم هز كتفيه بخفة و أجابه ببرود:
-و لا جاجة .. اكيد عمها هيشرفنا انهاردة في اي لحظة .. و انا مستعد للمقابلة دي اوي .. اما هي.
و أضاف متشفيا بعد تنهيدة عميقة:
-هاروحلها بكرة القسم زي ما سمعت من شوية .. و هشوف بقي دماغها هاتوديها علي فين !
و هنا آتي أحد أفراد الحرس مهرولا و هو يقول لاهثا بوجه شاحب:
-عاصم باشا ، الحق يا باشا شهاب بيه !
هب ""عاصم"" واقفا كما العاصفة و هو يهتف بقلق محتد:
-ماله شهاب ؟؟
في إرتباك و وجل أجاب الحارس:
-شـ شوقي دخل يوديله الغدا فـ فـ ..
-فـ ايه انطق ؟؟
صاح به ""عاصم"" في عنف أجاب الحارس علي إثره مرتعد الأوصال:
-فلاقاه مرمي عالأرض و قاطع النفس خالص يا باشا.
إتسعت حدقتاه في رعب مطلق ، و بسرعة البرق ، إجتاز ""عاصم"" حديقة قصره ركضا يتبعه ""زين"" و من ثم صعد الدرج المؤدي إلي العُلية الأولي إثنتين إثنتين قفزا حتي وصل إلي غرفة شقيقه ..
دفع باب الغرفة الموارب ، و ولج إلي الداخل ..
كان صدره يعلو و يهبط ، و يتسرب من بين شفتيه صوت لهاث و هو يبحث عن أخيه بعينيه .. إلي أن وجده ملقي فوق الأرض الرخامية بجوار فراشه ، و بجانبه لفافة بلاستيكية شفافة و ورق نحاسي صغير ..
علت الصدمة وجه ""عاصم"" و هو يري من موضعه لون بشرة شقيقه تزداد شحوبا و إصفرارا ، كما رأي تلك الرغوة البيضاء منبعثة من جوفه تسيل علي جانب فمه
فأسرع نحوه ، و جثا إلي جانبه ، ثم قام بجس نبضات معصمه .. فوجدها ضعيفة و بطيئة للغاية ..
شعر ""عاصم"" بخوف بارد يدب في قلبه ، و غمره إحساس مألوف بالفقد أثقل صدره بوطء مفزع لأمر لم يقع بعد و هو يري وجه أخيه و قد غارت الدماء منه حتي إعتراه الشحوب التام
إلتقط""عاصم"" اللفافة البلاستيكية و لوح بها في الهواء ، و هو يهدر بصوت كالرعد في وجوه حرس القصر الذين إجتمعوا دفعة واحدة داخل غرفة ""شهاب"" فور سماعهم بالكارثة التي وقعت:
-المخدرات دي دخلت لأخويا ازااي ؟ الزفت ده وصلله ازاااي ؟ انتوا كنتوا فين يا شوية *****
هدئه ""زين"" بصرامة قائلا:
-اهدا يا عاصم مش وقته التحقيق ده ، هنتصرف معاهم بعدين ، المهم دلوقت نلحق شهاب.
و بسرعة أخرج هاتفهه ليطلب سيارة إسعاف ، بينما تكلم أحد أفراد الحرس لإقصاء الذنب عن نفسه ، و مدافعا عن باقي زملاءه:
-يا عاصم باشا اكيد صاحب شهاب بيه اللي جه من شوية هو اللي اداله الحاجات دي ، مش ممكن احنا اللي هندخلهاله من ورا حضرتك يعني.
أكفهر وجه ""عاصم"" في تلك اللحظة و بدا قادرا علي القتل ، فقد كان عذر الحارس أقبح من ذنبه ، فهو من المتفرض أن يقوم بتفتيش كل من يدلف إلي القصر و إلي غرفة ""شهاب"" بالأخص تفتيشا دقيقا ، إذن كيف وصلت تلك السموم المخدرة إلي شقيقه ..
قال ""عاصم"" و هو يصدح بصوته العنيف:
-معني كده ان سيادتك خيال مآته ! اي حد ممكن يغفلك و يدخل القصر بأي حاجة.
كاد الحارس يتكلم ليدافع عن نفسه مجددا ، فقاطعه ""عاصم"" مزمجرا بشراسة:
-و ديني و ما اعبد لو اخويا حصله اي حاجة لهدفنكوا كلكوا بالحيا.
****
وصلت سيارة الأسعاف في وقت قصير ، و حُمل ""شهاب"" علي السرير النقال من غرفته إلي العربة ..
بينما إنضم ""عاصم"" إلي سيارة "" زين"" و إنطلقا بسرعة ليلحقا بسيارة الإسعاف المتجهة إلي المشفي العام بقلب المدينة ...
علي الطرف الأخر ..
ترجل ""توفيق"" من سيارة الأجرة التي أوصلته أمام قصر ""عاصم الصباغ"" ..
دفع الأجرة للسائق ، ثم إتجه صوب البوابة المفتوحة ، فإعترضا طريقه رجلان ضخمان الجثة ، و سأله أحدهم:
-علي فين يا استاذ انت ؟؟
رد ""توفيق"" بخشونة:
-عايز اقابل الاستاذ عاصم الصباغ.
أجابه الحارس الثاني:
-الباشا مش موجود ، خرج.
تجهم ""توفيق"" فصاح بهما محتدا بصوته الجهوري:
-يعني ايه خرج ! انا مش ماشي من هنا الا اما اقابله.
هتف الحارس في لطف حازم:
-يافندم بقول لحضرتك خرج ، لسا خارج حالا راح المستشفي ورا شهاب بيه اخوه عشان تعب فجأة.
أجفل ""توفيق"" غير مصدق أقوالهم ، لكنه إستدار علي عقبيه ليغادر ..
فأستوقفه صوت الحارس قائلا:
-لما يرجع الباشا .. اقوله مين سأل عليه يافندم ؟؟
وقف ""توفيق"" ثم أدار جانب وجهه الأيمن قائلا من فوق كتفه:
-انا هبقي اجيله تاني.
و غادر ""توفيق"" و نيران الغضب تتأجج بداخله ...
***************
إقتحمت سيارة الإسعاف فناء المشفي العام ، ثم توقفت بالساحة الرئيسية أمام بوابة الدخول الأمامية ..
بينما أسرع ""عاصم"" في أعقابه ""زين"" نحو ""شهاب"" المحمول علي السرير النقال ..
رافقاه حتي ولج إلي حجرة الكشف مع طبيب الإستقبال الجالس متأهبا للحالات الطارئة ..
هتف الطبيب الثلاثيني منفعلا بالممرضة التي إنضمت إليه لتساعده و هو يكمل فحصه لحدقة عين ""شهاب"" المسجي فوق الفراش الطبي:
-قيسيلي ضغط الدم بسرعة.
و بينما شرعت الممرضة في تنفيذ الأوامر .. كان ""عاصم"" يقف أمام باب حجرة الكشف و عضلات وجهه منقبضة بقوة ، فيما عيناه تلمعان بنزف حارق خائفا من أن يتجرع مرارة الفقد مرة أخري ..
و في تلك اللحظة ، إنطلقت بغتة الذكريات داخل رأسه و قد حالت دون إهتمام بما يحدث ..
أبيه يوم أن شب الحريق بمصنعه فإنتهي بموته متفحما .. تشوه جزء من معالم وجهه .. تشرده هو و أمه و أخيه الرضيع .. نضوجه المبكر .. تصميمه علي إعادة المجد له و لعائلته الصغيرة و لإسم والده أيضا .. جمعه الأموال الطائلة أولا بهدف تحقيق الإنتقام الذي عاش ينشده ، و ثانيا لتأمين حياة الرغد و الترف إلي شقيقه الذي رأي فيه نفسه .. شقيقه !!
عاد إلي أرض الواقع مجددا ، فأنتفض مذعورا لفكرة خسارته ..
فإن خسارة شقيقه الوحيد تعني نهاية المطاف بالنسبة له ، قد تتبدد آماله ، و تخبو أحلامه التي حُرم من تحقيقها إذا رحل ""شهاب"" ..
قد ينتهي كل شيء ..
قد يغدو الكد و الإجتهاد و الجهد الذي بذله بالحياة العملية بلا منفعة ..
الأن تلك الإمبراطورية الضخمة التي بناها مهددة بالإنهيار ..
إندفع ""عاصم"" صوب باب حجرة الكشف دون أن يتوقف إنفعاله لهنيهة و هو يبحث عن شقيقه بعينيه من خلال الزجاج الدائري الصغير المرفق بالباب المعدني ..
إقترب ""زين"" منه ، و مد يده و ربت علي كتفه بلطف مواسيا إياه بقوله:
-ماتقلفش يا عاصم .. ان شاء الله سليمة ، ماتخافش هيبقي كويس.
تجعدت قسمات وجه ""عاصم"" بألم عصبي و هو يحاول أن يري ما يجري بالداخل دون فائدة ، فتحرك في مكانه كالنمر الحبيس وضرب الحائط بقبضته مغمغما:
-غبي .. ليه بيعمل فيا كده لييييه ؟ نقصه ايه ؟ انا قصرت معاه في ايه ؟؟
وضع ""زين"" يديه علي كتفي ""عاصم"" و هو يقول مشفقا علي حالته:
-اهدا يا عاصم مش كده.
أغمض ""عاصم"" عينيه بقوة ، ثم أطلق تنهيدة حارة و قال بصوت متحشرج من فرط إنفعاله:
-ليه اخويا بيعمل فيا كده يا زين ؟ ليه ؟ .. ده هو مستقبلي .. هو احلامي و هو طموحي .. انا عملت كل ده عشانه .. من صغري و انا ماسبتش شغلانة متعبة و لا مهينة الا و اشتغلتها عشان اقدر اقف علي رجلي و احقق الثروة دي .. كل اللي معايا بتاعه و ملكه .. يبقي ليه بيعمل في نفسه كده ؟ ليه عايز يحرمني منه ؟؟!!
قطب ""زين"" متأثرا بكلمات صديقه ، و مط شفتيه متأسفا علي ذلك الوضع الصعب ..
خرج الطبيب أخيرا من حجرة الكشف و هو يتنفس الصعداء ، فأقترب منه ""عاصم"" متسائلا بصوته الخشن:
-اخويا عامل ايه يا دكتور ؟ جراله حاجة ؟؟
منحه الطبيب إبتسامة بسيطة ، و قال يطمئنه:
-الحمدلله بقي كويس.
زفر ""عاصم"" بإرتياح مستندا إلي الجدار البارد من خلفه ، بينما تابع الطبيب كلامه بجدية:
-لو كنتوا اتأخرتوا شوية كان وصل هنا متوفي ، لكن الحمدلله انكوا جبتوه بسرعة ، ظبطنا معدل ضغط الدم لكن للأسف في خراريج و إلتهابات في الكبد لو ماتعلجوش صمامات القلب هي كمان هتلتهب و هنا الخطر هيبقي اقوي.
فغر ""عاصم"" ثغره و قد تلقي صدمة أعنف هذه المرة ، بينما أضاف الطبيب متنحنحا:
-التحاليل كشفت انه اتعاطي جرعة هيروين مفرطة كانت كفيلة انها تموته في الحال .. بس واضح انه مش بيتعاطي من فترة طويلة اوي لان نسبة الهيروين في جسمه مش عالية بدرجة كبيرة ، و ده يبين انه بيزود الجرعة في كل مرة عشان يوصل لدرجة النشوة اللي حققها في اول مرة اتعاطي فيها .. انا انصحكوا انكوا تودوه مركز اعادة تأهيل للمدمنين ، هناك هيقدموله العلاج الصحيح و العلاج النفسي كمان هيبدأوا معاه من الاول خالص بس اهم حاجة دلوقتي اننا نعالجله الأعضاء المتضررة.
-اعمل اللازم يا دكتور .. و انا هاتصرف في الباقي.
قال ""عاصم"" هذه الجملة واجما ، بينما أومأ الطبيب رأسه موافقا ، ثم إستأذن منهما ليرحل ..
شكره ""عاصم"" قبل رحيله ، فيما نظر إليه ""زين"" و سأله بإهتمام:
-ناوي علي ايه يا عاصم ؟؟
أجاب ""عاصم"" بفم متقلص و ملامح ثائرة:
-شهاب هيرجع البيت و هيكمل علاجه بجد المرة دي .. و طقم الحراسة كله هيتغير بس بعد ما اعرف شغلي معاهم واح واحد و اعرفهم ان الغلطة معايا بفورة خصوصا لو كانت حاجة تخص اخويا.
ثم تابع بشراسة:
-اما الواد صاحبه ده اللي جاله انهاردة انا هاجيبه و هاوريه هو غلط مع مين.
-عمرك ما كنت مؤذي كده يا عاصم !
قالها ""زين"" ممتعضا ، فرمقه ""عاصم"" بنظرة ثاقبة و هو يهتف بقوة:
-ده اخويا يا زين .. اخويا اللي ماليش غيره.
و أضاف يتحدث بشراسة إلي ""زين"" أو ربما إلي نفسه:
-و يا ويله اللي يقرب منه او يمسه بالشر .. يا ويله.
***************
أمام قسم الشرطة ..
وقفت ""هنا"" تستجدي أمها بإسلوب إنفعالي قائلة:
-يا ماما احب علي راسك يلا بينا نرجع البيت ، احنا مالناش فيه ما تتحبس و لا تولع بجاز احنا مالنا !!
نهرتها ""قوت القلوب"" بقسوة قائلة:
-اخرسي يا بت انتي ، احترمي نفسك بقي و اياكي اسمع منك كلمة زيادة ، انا اصلا ماكنتش عايزاكي تيجي معايا انتي اللي شبطي فيا.
ردت ""هنا"" في سخط إستنكاري:
-كنتي عايزة تدخلي القسم لوحدك ؟؟!
-و ايه يعني ياختي هايكلوني و لا هايكلوني ! و بعدين اتهدي و اسكتي خليني ادخل اطمن عالبت ، ده انا اللي ربيتها من يوم ما امها اتوفت الله يرحمها و من كتر حبي فيها سميتك اسم مقارب لأسمها في الاول ماكنتش بعرف انطق اسم هانيا ده ، و الله ما كان هيغمدلي جفن لو ما كنتش عرفت فين اراضيها لولا اتصلت بعمها الاستاذ توفيق ماكنتش هعرف انها محجوزة هنا.
و نظرت إلي بوابة القسم الحديدية ، و هي تبتهل قائلة:
-منه لله اللي كان السبب.
ثم خطت إلي الداخل تتبعها ""هنا"" علي مضض ..
توجهت نحو أقرب مكتب بالرواق الأقل إزدحاما في تلك الساعة ، حيث غربت شمس النهار ليحل محلها الليل الحالك ..
ثم سألت بتلقائية ذلك الضابط صاحب رتبة - أمين الشرطة - :
-لو سمحت يابني ، في واحدة محجوزة عندكوا هنا من الصبح اسمها هانيا مصطفي علام .. اعمل معروف دخلها الاكل ده احسن دي ياعيني علي لحم بطنها من ساعة ماجبتوها هنا.
و رفعت سلة الطعام الصغيرة ، ثم وضعتها فوق سطح المكتب قائلة:
-و لو انها تقالة لو قدرت تخليني اشوفها و اطمن عليها يبقي كتر خيرك.
باغتها الأخير في عنف و هو يلوح بيده بقوة:
-شيلي الحاجات دي من قدامي يا ولية انتي ، انتي فاكرة نفسك فين !!
عند ذلك ، تدخلت ""هنا"" قائلة و قد إرتفعت نبرة صوتها بقدر جذب الإنتباه نحوها:
-ولية مين يا حتة نطع انت ؟ انشالله يولولو عليك ، ما تحترم نفسك و اتكلم بأدب.
إكتست ملامح الضابط بذهول إستحال إلي غضب متقد و هو يقول مستنكرا:
-انتي اتجننتي يا بت انتي ؟ بتكلمي مين كده ؟؟
إهتاجت ""هنا"" و هي تصب سبابها فوق رأسه:
-بت في عينك يا قليل الادب ، لم نفـ ...
كممت ""قوت القلوب"" فم إبنتها قبل أن تكمل عبارتها و هي تقول محاولة التمويه عن رعونة إسلوب ""هنا"" الدفاعي:
-معلش يابني سامحها هي ماتقصدش و الله.
حاولت ""هنا"" تخليص فمها من كف أمها المطبق عليه لتكمل سيل لعناتها دون فائدة ، بينما نظرت إليها ""قوت القلوب"" و زجرتها بغضب قائلة:
-اتأسفي للباشا يا هنا.
و بقوة أزاحت ""هنا"" يد أمها عن فمها قائلة بعصبية:
-مين اللي يتأسف لمين ؟ ده انا ممكن اعملله محضر دلوقتي و انزله من عالمكتب اللي فرحان بالقاعدة فوقيه ده.
إبتسم الضابط في تهكم ، و إسترخي فوق مقعده ، ثم صمت لثوان قبل أن يقول بهدوء خبيث:
-بمناسبة المحاضر .. انا عندي هنا في درج المكتب شريطين برشام محتار اوديهم فين ! .. تاخدي واحد ؟؟
شهقت أمها و همست لها متوسلة:
-يابنتي بالله عليكي انكتمي ليلبسك تهمة بجد و انتي واقفة.
إلتمعت عينا ""هنا"" بالغضب و هي تحدق بذلك البغيض عاجزة عن الرد عليه ، حتي شنف سمعها من خلفها صوت رجولي يقول:
-ايه الدوشة دي ؟ ايه اللي بيحصل هنا ؟؟
Blackjack Table | JTM Hub
ردحذفBlackjack Table 군산 출장샵 at JTM. Learn more about the new Blackjack table with JTM's live tables! Enjoy 여주 출장안마 great food, fun 전주 출장샵 and 바카라 게임 an 서산 출장안마 exciting card game!