لم يتم العثور على أي نتائج

    الجزء 21 - المظفار و الشرسة



    أشرق الصباح بحله جديده وآمال مرتقبه ، وأزال كل الوحشة في ظلام الأمس الغابر ، بألوان زاهية وأحلام لاتعرف نهايه .. بينما تحركت "هانيا" بقلق متأوهة بشدة .. إذ كان كل جسمها يؤلمها ، كما شعرت بثقل رأسها .. لم تكن قادرة حتي علي رفع جفنيها لتري أين هي ؟ و ما الذي حل بها ؟؟ و لكنها في تلك اللحظة .. أرادت أن تستسلم لكل شيء .. أرادت أن تستسلم لأنها تعبت من المقاومة ، تعبت كثيرا من التظاهر بالقوة لكي تحمي نفسها من بطش الأخرين ، و من نظراتهم المهينة الشامتة .. اليوم و لأول مرة إختنقت "هانيا" بحبل الذل و القهر الذي لطالما أمسكت بطرفيه حتي لا يلتف حول عنقها .. ضاعف ذلك الحبل حزنها و وهنها بقوة ، و صار مثل الأفعي التي تتأهب لتلتف حول جسد فريستها حتي تبتلعها في قضمة واحدة دون رحمة عيناها اللتان كانتا تتظاهران بإخفاء الدموع .. أسقطت اليوم حصون قلعتها الجفنية و هجم سيل جارف من الدموع علي وجنتيها الناعمتين .. كانت غيبوبتها قلقة .. أحست خلالها مرارا بوجود شخص يحوم حولها .. و في إحدي المرات .. خيل إليها أن هناك يدين تلمسان شعرها ، و أن هناك صوتا خفيضا عميقا يهمس لها برقة و رغم ذلك تملكها الرعب ، و حاولت الدفاع عن نفسها .. لكنها أدركت أن الهجوم مفاجئ و قوي ، و أنها صارت محاصرة من كل جهة ، و لا مفر من مصيرها المرير .. أنها النهاية .. و لكن السؤال الحقيقي هو .. هل هذه هي النهاية حقا ؟ .. أم أنها فقط البداية ؟ .. بداية عذابها .. إستيقظت "هانيا" أخيرا .. و تململت بتكاسل، و ببطء أزاحت جفنيها عن عينيها الزرقاوين .. سكنت بمكانها للحظات مقطبة و هي تجوب المكان بنظرها إنها في غرفة ،غرفة فسيحة للغاية ، علي سرير وثير و مريح .. تستطيع أن تستنشق رائحة زكية منعشة .. خلال تلك اللحظات كانت قد إستعادت بذاكرتها صورة أخر مشهد رأته قبل أن تفقد وعيها .. و في لمحة .. عادت إليها أحداث اليوم الماضي كله ، فقفزت من فوق الفراش مرتاعة ، متجاهلة آلام جسدها .. و هنا .. سمعت محاولة لفتح باب الغرفة المغلق ، و إستدارت لتسمع تكرار الصوت .. فشحب وجهها ، و بسرعة البرق إلتقطت من أحد الأركان تمثالا خزفيا صغيرا إستُخدم للزينة و تصدت به مستعدة إلي أن تقذفه في وجه أي شخص يريد الهجوم عليها .. فهي لا تعرف أحدا هنا ، و لا تعلم أين هي أصلا .. إنها وحيدة .. و ها هو موقف أخر يذكرها بوحدتها اللامتناهية .. بينما ضحكت بسخرية علي أفكارها و هي تتساءل .. و هل من المعقول أنه إذا فكر أحد في الإعتداء عليها أو إيذاءها ، سوف يمنعه ذاك التمثال الصغير الموجود في يدها ؟!! إنفتح الباب فجأة ، فتحفزت في وقفتها و أخذت وضعية الدفاع عن النفس و هي تبتلع ريقها بخوف و توتر .. رأت رجلا في ثياب سوداء يتقدم نحوها بخطي وئيدة بقامته الطويلة المهيبة .. و سرعان ما حلت الدهشة محل الخوف في نفسها عندما تعرفت عليه .. إنه هو .. "عاصم الصباغ" .. إذن فهي بمنزله الأن ! و لكن كيف ؟ أيعقل أن يكون هو من أنقذها من بين براثن "جاسر" و زملاءه ؟؟ إستمر "عاصم" في الإقتراب منها ببطء و ها هي النظرة الذاهلة قد تلاشت من عينيه البندقيتين ، لتحل محلها نظرة واثقة جذلة .. كان يفرد قامته بإعتداد و قد بات وجهه يحمل ملامح الخبرة التي إكتسبها طيلة سنواته الماضية و تجارب الأيام التي صنعت منه ما هو عليه الأن .. رجلا يصعب قهره .. رجلا دائما يحصل علي ما يريد .. إنتظرت "هانيا" حتي وقف أمامها مباشرة .. كانت تراقبه بعينين تلتمعان بشرارات الغضب و قد ظهرت علي وجهها علامات الشراسة المدمرة .. بينما إلتقت عيناه بعينيها في تحد ، فأدركت أن ساعة المواجهة قد حانت .. : -تقدر تفهمني انا جيت هنا ازاي ؟؟! قالتها بحدة شرسة ، فيما تجاهل "عاصم" كلامها و نظر إلي ساعة يده قائلا ببرود: -انتي نمتي كتير اوي يا هانيا .. عندك فكرة اننا بقينا في ضهر يوم الجمعة ! صعقت "هانيا" من عبارته .. إذ وفقا لذلك فقد مضي يوما كاملا و هي غائبة عن الوعي ! نامت أربع و عشرين ساعة متواصلة !! تظاهرت "هانيا" بعدم إكتراثها لذلك الأمر ، و قطبت قائلة و هي تجاهد كي تبقي صوتها خفيض: -ماجاوبتنيش علي سؤالي يا عاصم بيه ! .. انت بأي حق تجبني هنا ؟ في بيتك !! إبتسم بسخرية و هو يجيبها بجفاء: -احمدي ربنا اني وصلتلك في الوقت المناسب و جبتك هنا .. في بيتي .. انتي مش فاكرة اللي حصلك امبارح و لا ايه ؟؟ تعمد "عاصم" أن يصمت قليلا ، و كأنه يريدها أن تتذكر أحداث اليوم الماضي بكل تفاصيله .. ثم تابع بصوت ناعم: -بس ماتقلقيش .. انا خدتلك حقك و اديت الكلاب دول درس عمرهم ما هينسوه. حبست "هانيا" أنفاسها بغضب ، و تهدج صوتها بتوتر قبل أن تتمالك نفسها و تقول: -ماتفتكرش انك كسرت عيني .. انا بيك منغيرك كنت هبقي كويسة. -و الله !! رد بقسوة بينة و قد إتشح وجهه بالحنق الشديد ، لكن "هانيا" لم تكن تهتم لشيء و حدقت في عينيه مباشرة و هي تقول بتحد: -ايوه .. انا كنت اقدر ادافع عن نفسي ماكنتش محتاجة لمساعدة حد .. و حتي لو كنت محتاجة .. انت اخر واحد ممكن افكر استنجد بيه ، انت مش بني ادم اصلا ، انت واحد لا عندك شفقة و لا رحمة متعتك الوحيدة هي انك تذل الناس و تدوس عليهم و تضعفهم و ترهبهم. أفرغت جعبتها و أشبعت رغبتها في تسديد النعوت القاسية له ، ثم شمخت برأسها في كبرياء قائلة: -و دلوقتي و بالذوق كده .. خليني امشي من هنا حالا. كان وجهه متقلصا بغضب طوال فترة حديثها ، لكن صوته كان هادئا و ناعما حين رد عليها: -مش معقول تمشي منغير ما تنفذي اتفاقنا. ثم إقترب منها أكثر و حاول ملامسة وجهها ، لكنها إنتفضت و لطمت يده الممدوة و هي تصيح بقسوة: -اياك تلمسني .. اياك تفكر في كده اصلا ! ثم أضافت بهجوم أقسي: -و بعدين مافيش اتفاق بينا .. احنا ماتفقناش علي حاجة .. ماكنش و لا هيكون يا عاصم يا صباغ. و فجأة .. قفزت إلي الوراء بسرعة حتي إصطدمت بالحائط .. إذ رأته يتقدم نحوها بخطي واسعة غاضبة .. حاولت الفرار من إمامه ، لكنه إعترض طريقها بذراعيه مسندا إياها إلي الجدار .. فأطلقت شهقة مكتومة و إنكمشت علي نفسها محاولة حماية نفسها منه و هي تهتف بعصبية: -طب ايه اللي انت بتعمله دلوقتي ده ؟ ابعد عني لو سمحت ! لم يجيبها في الحال .. بل أحني رأسه ليجتذب بصرها ، ثم تمتم بصوت خشن: -طيب ليه انتي مش بتبصيلي و انتي بتكلميني ؟ مش بتحبي تبصي في وشي ؟ صح ؟ شكلي مضايقك ؟ .. عموما انا قلتلك قبل كده ان ابوكي هو السبب في اللي حصلي ، و من سوء حظك انك بنته و وقعتي في ايدي. عند ذلك .. حدقت إلي وجهه القاس ، و صاحت و قلبها يخفق بسرعة فائقة: -تقصد ايه ؟ انت بتهددني ؟ هتعمل ايه يعني ؟؟! إلا أن أنفاسها أخذت تتلاحق بقوة أثارته و جذبت عينيه إلى حركة صدرها السريعة .. رفع نظره الى وجهها ليتأمل تقاطيعه الناعمة والجميلة .. عينيها البريئتين و المشتعلتين في آن .. أنفها الدقيق وفمها الوردي المثير .. شعرت به يقترب منها أكثر ، فتراجعت بدورها أكثر حتي إلتصقت بالجدار و ضغطت عليه بجسدها و هي ترفع عينيها المذعورتين نحوه و قد إنتابها إحساس بالآسر .. بينما دنا منها و غمغم بخفوت: -كنت ناوي انفذ اتفاقنا الاولاني و اخليكي تقضي فترة قصيرة في قصري. ثم خفض بصره إلي صدرها النصف مكشوف و تمتم بصوت محموم: -بس بعد ما شفتك بقميص النوم ده .. غيرت رأيي و قررت اخليكي تقضي عمرك كله هنا ، هتجوزك ! تملكها الهلع من كلماته ، و بسرعة خفضت بصرها بدورها فأكتشفت أنها ترتدي فستانا مخمليا ، أزرق ليليا ، له حمالتان علي كتفيها ، و يبرز مفاتن جسدها بتفصيل كبير و مثير .. إرتفعت يديها بحركة دفاعية محضة و غطت صدرها محاولة إخفاء نفسها عنه ، فسقط التمثال الخزفي الصغير من قبضتها إلي الأرض محدثا صوت طرطقة خفيفة .. بينما هتفت و عيناها تتآججان وسط وجهها الصغير: -انت مجنون ! انا مستحيل اتجوزك ، و بعدين فين هدومي ؟ انا ازاي آاا .. -اهدي. قاطعها ساخرا ، ثم قال بمزيج من الهدوء و البرود: -عندي خدم كتير في القصر .. و في منهم ستات ، سلمتك ليهم اول ما جبتك هنا و هما اللي غيرولك هدومك .. يعني مش انا اطمني. ثم أشار لها برأسه دون أن يحيد بنظره عنها إلي تلة من الصناديق المصنوعة من الكرتون ، موضوعة بالأرض في وسط الغرفة ، ثم قال بليونة خبيثة: -انا اخترتلك بنفسي مجموعة هدوم و ميك اب و اي حاجة ممكن تحتاجيها من اكبر Store ( متجر تجاري ) في البلد .. عن الطريق النت ماليتلك دولاب الهدوم بكل الأصناف و الأنواع و الماركات .. انا واثق انهم هيعجبوكي ، بس يا ريت ذوقي انا يعجبك ! كادت تتكلم ، فسارع هو إلي القول بلهجة قوية قاطعة: -باقي علي الغدا ساعة بالظبط ، انا هخليهم تحت يطلعولك اكلك هنا ، اما العشا فبيتقدم الساعة 8 بالظبط ، يا ريت تجهزي في الميعاد عشان بعد ما نتعشا سوا هاخدك اعرفك علي امي. و لم ينتظر ردها و أولاها ظهره و غادر مسرعا بعد أن أغلق الباب من خلفه .. تسمرت "هانيا" مكانها دون أن تحدث أي حركة .. ظلت تحدق ذاهلة في أثره الفارغ للحظات ، ثم طرفت بعينيها و حاولت تدارك الأمر ، رغم غضبها الذي أعجزها عن ذلك .. فيما تنهدت بعمق ، ثم راحت تجوب أرجاء الغرفة بنظرها .. كانت الغرفة جميلة جدا .. لا تستطيع أنكار تلك الحقيقة .. عالية السقف و واسعة تماما ، و تطل علي مقدمة المنزل من خلال نافذتين عريضتين تكشفان الحديقة الخضراء المبهرة .. إتجهت "هانيا" إلي إحدي النافذتين لتتأمل المناظر البديعة الممتدة أمامها .. هذا المنزل المترف يذكرها بمنزلها القديم الذي كانت تتشاطر و والدها العيش فيه .. لبرهة وقفت "هانيا" صامتة أمام الستائر المخملية البيضاء .. ثم تركت النافذة لتتأمل أثاث الغرفة المصنوع كله من خشب السنديان المصقول بأناقة .. كان هناك مقعدان وثيران و آريكة صوفية حمراء .. و الفراش الذي إضطجعته منذ اليوم الماضي كان مفروش بأغطية بيضاء سميكة .. و في إحدي الزوايا ، إستقرت طاولة عليها مزهرية قديمة أثرية باهظة الثمن .. و وجدت حتي جهاز تلفزيون كبير الحجم إحتل الزاوية المقابلة للفراش .. إن أثاث الغرفة بأكمله يدل علي ذوق راق و إهتمام ملحوظ .. بينما فجأة .. قع بصر "هانيا" علي تلك التلة التي أشار إليها "عاصم" منذ قليل .. إقتربت ببطء و هي تدقق النظر .. كانت تلك الصناديق من مختلف الأحجام و كلها تحمل إسم الماركة العالمية الشهيرة ( Chanel ) محفورة أحرفها بالذهب .. توجهت "هانيا" نحو الخزانة الضخمة و فتحتها لتجدها مكتظة بالملابس النسائية أيضا ، و فوق بعض الرفوف وجدت الكثير من أدوات التجميل و العطور المختلفة عن بعضها و الفريدة من نوعها .. عادت "هانيا" مرة أخري إلي الصناديق و تناولت الصندوق الأول .. هزته بحذر ، فصدر عنه حفيف بالكاد سمعته ، أثار إهتمامها ففتحته .. أبعدت الشرائط الحريرية الحمراء عنه ، ثم شهقت بصدمة و خجل عندما شاهدت قميص نوم شفافا من الدانتيل الوردي الناعم .. إستشاطت غضبا و راحت تفتح باقي العلب الواحدة تلو الأخري .. ما هذا ؟ .. تساءلت في نفسها .. إن أكثر الأغراض و الألبسة من فصيلة ثياب النوم الحالمة ! فقط هناك مجموعة قليلة من الفساتين المحتشمة و السترات المغلقة التي تتناسب مع الإجتماعات الخارجية .. تساءلت مجددا بغضب جم .. ماذا يعني بذلك ؟ .. أن مخططاته ستتحقق و أنها سترتدي له تلك الثياب الليلية المثيرة ؟!! تفاقم بداخلها شعورها نحوه بالكراهية و العداوة و البغض .. لا .. لن تجعله يغزوها بهذه الطريقة الرخيصة .. سوف ترحل من هنا .. و اليوم .. لقد رفضت الزواج منه و ستمضي في رفضها .. و لن يضيره أن يتعذب و يتعلم معني التوق إلي المستحيل .. و لو لمرة واحدة .. ********************* علي الطرف الأخر .. أمام الورشة الصناعية الشهيرة بحي الغورية العريق .. أمسك "رشدي" برسغ "توفيق" في إلحاح قائلا: -يا توفيق استني بس .. اقعد كده و استهدا بالله ، هتروح فين طيب ؟؟ جاهد "توفيق" في جذب ذراعه من قبضة صديقه بلا جدوي ، فصاح به بعصبية: -سيبني يا رشدي ، البت مارجعتش من امبارح ، سيبني اروح ادور عليها. سايره "رشدي" قائلا بهدوء: -طب بس هتدور عليها فين ؟ انت عارف مكانها ؟؟ أجابه "توفيق" ثائرا: -لا ماعرفش .. بس لو حكمت هلف البلد كلها كعب داير لحد ما الاقيها. -طب تعالي .. تعالي بس اقعد هنا معايا. و أخذ يجره إلي طاولة صغيرة وضعت أمام الورشة غير آبه بتأففه ، ثم جلس إلي جواره و هو يقول بلهجة رزينة هادئة: -العصبية و الانفعال دول مش هيحلوا حاجة يا توفيق .. لازم تفكر كويس الاول عشان تعرف تتصرف صح. باغته "توفيق" منفعلا: -يعني عايزني اعمل ايه يا رشدي ؟ بقولك البت مارجعتش من امبارح !! صمت "رشدي" قليلا .. ثم قال في تردد: -طيب .. هي مش ممكن تكون عند اللي اسمه عاصم الصباغ ده ؟؟ حملق فيه "توفيق" بعينين متسعتين ، ثم صاح مصدوما و كأنه قد بوغت بقوة: -يانهار اسود ! .. صح يا رشدي .. صح ممكن يكون خطفها ! و سرعان ما إحتقن وجهه بغضب حارق ، ثم هب واقفا و هو يهتف بشراسة: -المرة دي مش هسيبه الكلب ده. و قبل أن يأخذ خطوة بعيدا ، أمسك به "رشدي" للمرة الثانية و قال: -استني بس ماتتهورش ، احنا اسلم حل نعمله دلوقتي اننا نروح نعمل محضر في القسم. -محضر !! قالها "توفيق" بإستخفاف ، و تابع هازئا: -انت ناسي اللي حكيتهولك قبل كده و لا ايه ؟ ده قدر يشتري الحكومة مرة .. مش هيقدر يشتريها مرة تانية يعني ! ثم أضاف بحسم و تصميم: -المرة دي هجيب حق بنت اخويا بنفسي .. و هرجعها انشالله يكون فيها موتي. ********************* كان يقف أمام مرآة توسطت غرفة نومه الفخمة ذات الألوان الغامقة .. فيما حدق بإنزعاج إلي تلك الرضوض و الكدمات التي ملأت قسمات وجهه ، و تذكر بغضب متقد ذلك الرجل الذي حرر "هانيا" من هجومه عليها .. ما زال يذكر جيدا كيف أنه إنتزعه من فوقها إنتزاعا و أمسك بتلابيبه و قد حوله الغضب إلي وحش مخيف لم يري له مثيل من قبل .. ما زال يذكر أيضا كيف لقنه الرجل و أفراد حراسته درسا قاسيا هو و صديقيه اللذين أرادا مشاركته رغبته المشينة المخزية .. أفاق من شروده و هو يقسم بأغلظ الإيمان أنه سوف يقاصصه علي ما فعله به .. أنه يعرفه تمام المعرفة .. إذ ان صوته لا زال يرن بأذنيه .. عندما كان يكيل له اللكمات بعنف .. إقترب بفمه من أذنه و همس بشراسة جلفة " محدش يقدر يحط ايده علي حاجة ملك عاصم الصباغ " .. "عاصم الصباغ" .. لقد سمع بذلك الإسم مرارا من أبيه ، السيد "كمال الطحان" رجل الأعمال الثري و الشهير بدوره .. علي حسب تقييم والده لـ"عاصم" أنه رجل مجتهد و حاد الذكاء ، و لكنه أفرض شخصه المنحط علي أصحاب الطبقات الإجتماعية الرفيعة ، بحيث تحول في ليلة وضحها من شاب فقير معدم إلي رجل أعمال ثريا مرموق .. و لكن مهما كان ذا شأن عظيم .. حتما سوف يضع خطة للإنتقام منه ، لن يترك الحادثة تمر دون رد إعتبار كرامة لكبرياءه المتغطرس .. إنتفض "جاسر الطحان" بشموخ ، و غادر غرفته بهدوء .. هبط الدرج بخفة و كاد يخرج من باب المنزل إلا أن صوت والده إستوقفه فجأة: -جاسر ! جمد "جاسر" بمكانه لوهلة ، ثم إستدار ليواجه والده الذي صُدم من مرآي وجه أبنه المتورم و المتضرج بمزيج من اللونين الأزرق و الأحمر .. : -ايه اللي عمل فيك كده ؟؟ صاح السيد "كمال" بصدمة ، بينما إقترب منه "جاسر" و هو يجيبه بفتور: -اتخانقت يا بابا. -اتخانقت يا بابا !! ردد "كمال" بنزق منفعل ، و عاد يسأله غاضبا: -و اتخانقت مع مين و ليه يا افندي ؟؟ زفر "جاسر" بضيق قائلا: -الموضوع انتهي خلاص يا بابا ، و بعدين ده شيء يخصني انا. -اتكلم معايا عدل يا ولد ! قالها " كمال" بخشونة ، فكبح "جاسر" عصبيته بقوله: -طيب حضرتك عايز مني ايه دلوقتي ؟؟ عاينه أبوه للحظات في تقييم مزدر ، ثم قال: -هيئتك هيئة راجل .. لكن عقلك و تفكيرك و تصرفاتك عيالي اوي. كز "جاسر" علي أسنانه بقوة حانقا من كلام أبيه ، بينما أشار له الأخير برأسه و هو يقول آمرا: -تعالي ورايا. تبعه "جاسر" علي مضض حتي وصلا إلي غرفة المكتب .. جلس "كمال" خلف مكتبه و دعا إبنه للجلوس في المقعد المقابل له .. و بعد صمت قصير .. هتف قائلا: -مبدئيا عايزك تعمل حسابك بكرة الصبح هتروح مع اختك و هي بتقدم في الجامعة. سأله "جاسر" بإهتمام: -و اختارت تدرس ايه بقي ؟؟ بصوت خال من الحماسة أجابه والده: -سينيما .. اختارت سينيما. -نعم !! هتف "جاسر" منفعلا ، و تابع: -ده مجموعها كويس و تقدر تدخل كلية كويسة .. انت موافق علي حوار السينيما ده ؟!! مط "كمال" شفتيه متآسفا علي عناد إبنته و قال: -انا ماتعودتش اغصبها علي حاجة من يوم ما امكوا اتوفت الله يرحمها .. هي حرة. صاح "جاسر" بفظاظة جلفة: -هي حرة يعني ايه ؟ انت عارف ايه هي السينيما ؟ عارف الوسط ده بيحصل في ايه ؟؟ أجابه "كمال" بلهجة حادة: -اختك مؤدبة يا جاسر .. و انا بثق فيها. و قبل أن يتفوه بحرف أخر قاطعه بصرامة: -خلاص انتهينا. صمت "جاسر" قاطبا في غضب ، بينما غير "كمال" مسار الحديث فسأله بإهتمام: -قولي بقي بصراحة .. مين اللي عمل فيك كده ؟؟ نظر له "جاسر" بتشكك ، فإبتسم والده بخفة و قال بلطف يحثه علي الكلام: -قولي يا جاسر ماتخبيش عليا .. انت ابني و انا عارف انك عنيد و متهور زيي و مابتسيبش حد غلط فيك .. بس انت ابني بردو و اللي يضرك كأنه ضرني بالظبط. إسترخت تعابير وجه "جاسر" فتنهد "كمال" بعمق و عاد يسأله: -ها بقي .. مش هتقولي اتخانقت مع مين ؟؟ بعد تردد .. قص عليه "جاسر" الأمر كله .. إتسعت عينا "كمال" في غضب و هو يصيح بإهتياج: -نهارك اسود .. انت ازاي فكرت تعمل كده ؟ انت اتجننت ؟ انت مش عارف دي تبقي مين يا متخلف !! أجاب "جاسر" بغلظة: -عارف يا بابا .. هانيا مصطفي علام .. بنت حلوة كانت غنية لحد ما ابوها فلس و انتحر و مابقاش حيلتها و لا مليم. ثم رفع يده إلي وجهه يتحسس صدغه الأيمن مغمغما بحنق: -و اول واحدة ترفضني و مش كده و بس لأ دي اتجرأت عليا و ضربتني بالقلم كمان .. كان لازم اخد حقي. صرخ "كمال" بإنفعال: -و لما عمها ياخد خبر بعملتك السودة دي ! ببرود و لامبالاة رد "جاسر": -هو انا لحقت اعمل حاجة .. و بعدين حتي لو عمها عرف ما هو كمان بردو فلس انت ماسمعتش اخر اخبارهم و لا ايه ؟ مش مروان ابنه رفع عليه قضية حجر و كسبها .. يعني هما الاتنين بقوا صفر عالشمال .. و لا ليهم اي لازمة ، مايقدروش يعملوا حاجة. ثم تمتم بغيظ: -هانيا دلوقتي ماتهمنيش اد ما يهمني اللي اسمه عاصم الصباغ ده .. لازم اربيه. أنذره والده محتدا: -انت مش هتعمل حاجة خالص .. الموضوع انتهي و مش عايز اسمع فيه كلمة زيادة لا من قريب و لا من بعيد .. فاهم ؟؟ -يعني عايزني اسيب حقي ؟!! هتف "جاسر" مستنكرا ، فباغته والده بلهجة قاطعة: -انت الغلطان في الحكاية كلها .. و اي بني ادم غيره لو كان شافك في الوضع ده كان هيتصرف زيه بالظبط .. فأعقل كده و بطل جنان .. انا مشغول الفترة دي في الشغل و مش فاضي الم وراك. ********************* عادت "هنا" من كليتها إلي المنزل مبكرا هذا اليوم علي غير العادة ، و دلفت إلي المطبخ متسللة علي أطراف أصابعها .. بينما كانت أمها تقف أمام الموقد تقلب الطعام بملعقة كبيرة ، فإنقضت "هنا" عليها و صاحت و هي تقبلها علي خدها: -يا قووت القلوووب يا جميييل .. وحشتيني يا بطة. أرتعدت "قوت القلوب" و صرخت من المفاجأة ، ثم إستدارت لتواجه إبنتها بوجه عابس و عاتبتها: -يا ينتي حرام عليكي فزعتيني ! ضحكت "هنا" بخفة ، ثم ربتت علي كتف أمها بلطف قائلة: -معلش يا قوت .. كنت بهزر معاكي عديها المرة دي. تنهدت "قوت القلوب" بثقل ، ثم عادت إلي عملها وهي تستوضحها بإهتمام: -رجعتي من الكلية انهاردة بدري يعني ! أجابتها "هنا" و هي تلهو بسلسلة مفاتيحها: -اخر محاضرة اتلغت عشان الدكتور ساب الجامعة و مشي فجأة. -ليه كده ؟؟ -و انا ايش عرفني ، بس اكيد حصلتله مصيبة يعني. وبختها أمها قائلة: -يادي لسانك المتبري منك ده .. نفسي اسمعك تقولي كلمة حلوة. قهقهت "هنا" بمرح و قالت: -بس كده ؟ عنيا انتي تؤمري يا بطة .. يلا بقي اما اروح اغير هدومي و اجي اشوفك طبخلنا ايه انهاردة. دلفت إلي غرفتها .. و بينما كانت تهم بتبديل ملابسها ، سمعت صوت رنين هاتفهها يتصاعد بنغمته الصاخبة .. إتجهت نحو فراشها الصغير و إلتقطته ، ثم أجابت علي المكالمة التي لم تتعرف علي مصدرها: -الو ! -الانسة هنا معايا ؟؟ تسارعت نبضات قلبها بصورة جنونية عندما جاءها ذلك الصوت الغريب و المألوف في آن .. فردت بإضطراب: -آ ايوه انا .. مـ مين اللي بيتكلم ؟؟ أجابها الطرف الأخر بنعومة: -انا اياد .. اياد راشد. مستحيل .. أنه هو .. نعم هو .. حدسها أكد لها ذلك منذ البداية .. أغمضت عينيها و هي تشتم نفسها بصمت .. ثم سألته بمزيج من الإرتباك و الحدة: -اياد راشد مين ؟ انا ماعرفش حد بالاسم ده !! و عندما مرت عدة لحظات من الصمت ، قال بلهجة غريبة: -بس انا اعرفك كويس اوي .. انتي اسمك هنا صلاح عبد الفتاح .. عمرك 20 سنة ، طالبة في تجارة انجلش ، وحيدة ، والدك متوفي ، عايشة مع والدتك في حي الوراق .. تحبي اقولك بيت و شقة رقم كام ؟؟ أجفلت "هنا" بذهول و سألته مشدوهة: -انت .. انت عرفت كل ده ازاي !! أجابها برقة: -انا ظابط يا انسة .. كمان رتبتي مش قليلة ، و من خلال مصادري جمعت معلومات عنك من يوم ما اتولدتي لحد اللحظة اللي بكلمك فيها دلوقتي. تمكنت من أن تقول أخيرا بجفاف: -و ليه عملت كده اصلا ؟؟ أجابها بصوته العميق: -لاني كنت متأكد انك مانسيتنيش ، و انك بتفكري فيا دايما .. زي ما انا بردو بفكر فيكي. في تلك اللحظة ، تهاوت "هنا" علي فراشها و هي تلهث إعياءً .. كانت قادرة علي الإحساس بإبتسامته الواثقة و كأنها تراه ، بينما قال فجأة: -عايز اشوفك .. ممكن ؟؟ عند ذلك .. عادت "هنا" إلي خشونتها فباغتته: -تشوفني ! تشوفني ازاي يعني ؟ لأ طبعا ماينفعش .. انا لا هاشوفك و لا انت هاتشوفني و رقمي ده يا ريت تنساه و ماتتصلش بيا تاني يا حضرة الظابط. رد بهدوء و ثقة: -هو اكيد الكلام علي التليفون مش مناسب اطلاقا .. عشان كده اوعدك المرة الجاية هنتكلم مع بعض انا و انتي وجها لوجه يا انسة هنا .. سلام مؤقت. إنتهت المكالمة فجأة .. فحدقت في الهاتف مذهولة .. أحست بمزيج من السعادة و الإثارة و التوتر .. و قد عادت القشعريرة تغزو كيانها من جديد ، بينما راحت تتساءل .. ماذا ينوي بها ذاك الغريب ؟ و لماذا هو مهتم بتفاصيل حياتها المتواضعة إلي ذلك الحد ! .. لماذا !! ******************** أصبح الليل أكثر حلكة .. بينما كان "عاصم" يقف أمام نافذة مكتبه ، متكئا بكتفه علي إطارها و متجها ببصره إلي السماء التي يضيئها نور القمر المتسلل من بين السحب الرمادية .. مشاعر كثيرة كانت تغوص بداخله ، تقتحم قلبه .. و عقله يدور بحلقة صراع كان الفائز فيه هي .. الحيرة و الألم ماض ينخر جسده بوجع مؤلم ، وجع يسري بأوصاله صقيعا .. يصيبه برعشة مؤلمة ، توخز قلبه .. لطالما كان غارقا حتي أذنيه بهذا العذاب .. لكن الأن .. و هي هنا معه .. أصبح قريبا جدا من تحقيق غايته .. قليلا و ستخمد ناره ... : -عاصم باشا ، في واحد جه برا طالب يقابل حضرتك. كان هذا صوت حارس البوابة الضخم ، الذي دلف إليه من خلال باب المكتب الموارب .. بينما إستدار "عاصم" و قد خرج من دائرة أفكاره .. ثم سأله قاطبا حاجبيه: -واحد مين ؟ ماقالش اسمه ايه ؟؟ أومأ الحارس رأسه و أجابه بصوت خفيض: -قال يا باشا.. اسمه توفيق علام. عند ذلك .. تحفزت حواس "عاصم" بقوة و هو يسأله بجمود: -هو فين ؟؟ -واقف عند البوابة يا باشا. أخذ "عاصم" نفسا عميق و شد قامته بإعتداد ، ثم خرج من مكتبه .. غادر منزله ، و تابع سيره حتي وصل إلي بوابة قصره .. حيث كان يقف "توفيق علام" هناك بإنتظاره ... كانت حديقة القصر مضاءة جزئيا بفوانيس صفراء منحت المكان طابعا خـياليا و قد إنعكست أضوائها علي النباتات الخضراء التي إصطفت بتناسق علي جانبي ممر حجري مؤدي إلي الباب الرئيسي .. بينما قطع "عاصم" ذلك الممر بخطي واسعة و ملامح متجهمة إلي أن وصل عند البوابة الحديدية الضخمة ، حيث كان "توفيق" يقف هناك بين مجموعة من الثيران البشرية - أفراد حراسة القصر - .. كان التحدي واضحا تماما في عيني "عاصم" حين قذفه "توفيق" بنظرة متقدة و عيناه مصوبتان مباشرة إلي عينيه المفعمتين بعدائية مكشوفة .. فيما وقف "عاصم" أمامه راسخ القدمين و إنطلق صوته الهادئ يقول مرحبا: -اهلا اهلا يا توفيق بيه .. خطوة عزيزة ، مش كنت حضرتك تديني خبر بزيارتك الكريمة ، كنت عملت احسابي و استقبلتك استقبال يليق بيك ! حدق "توفيق" في وجهه و هو يرمقه بغضب جليدي ، ثم قال وصوته يختلج بإنفعال: -فين هانيا ؟ فين بنت اخويا يا عاصم يا صباغ ؟؟ قطب "عاصم" و هو يتساءل متظاهرا بالجهل و الإستغراب: -حضرتك جاي تسأل علي بنت اخوك عندي هنا في بيتي ؟ .. ايه اللي هاجيبها عندي يا توفيق بيه ؟؟ صاح "توفيق" بثقة حادة: -انا متأكد انها عندك. و صمت لثوان ، ثم إستطرد بخشونة: -هانيا حكيتلي علي كل حاجة .. حكيتلي علي طلباتك و شروطك اللي عرضتها عليها مقابل انك تخرجها من تهمة انت لبستهلها اصلا ..بس اسمع مني انا بقي الكلام ده كويس اوي .. اذا كنت فاكر هانيا بقت مكسورة و لوحدها بعد موت ابوها تبقي غلطان ، انا لسا موجود ، و طول ما فيا روح و بتنفس مش هسمح لمخلوق يمس شعرة منها أو يأذيها .. هي بتكرهك و بتعتبرك عدوها ، عمر ما هيكون في تصالح بينكوا ، عمرها ما هتفكر تبص لواحد زيك اصلا و اظن انت فاهم قصدي كويس .. و دلوقتي هاتلي بنت اخويا يلا .. انا مش هتحرك من هنا الا بيها. وقف "عاصم" في مواجهته صامتا ، و قد تصلبت عيناه فجأة مع أن تعبير وجهه ظل محتفظا بليونته ، ثم رد بسكينة أدهشت "توفيق": -انا فاهم قصدك كويس اوي يا توفيق بيه .. و عارف ان الانسة هانيا بنت اخو حضرتك بتكرهني لمجرد اني رجعت حقي و حق ابويا اللي نهبه مصطفي بيه اخوك من عشرين سنة .. و عارف كمان انها جميلة .. و جميلة اوي كمان ، و ان الف راجل غني و من عيلة يتمناها رغم كل اللي حصل. ثم تمهل للحظات ، و تابع و في عمق عينيه بريق صارم: -بس حضرتك لازم تعرف حاجة مهمة اوي .. انا ماتعودتش احقق انتصار ناقص .. و الانسة هانيا هي اللي هتكمل الناقص في نظري. و بلهجة هادئة و حازمة جدا قال بصراحة مطلقة: -ايوه بنت اخوك عندي .. و هتفضل عندي لحد ما اقرر انا امتي تمشي. عند ذلك نفذ صبر "توفيق"و إنقطع الخيط الرفيع الذي كان يمسك أعصابه ، فصرخ فيه قائلا و هو يهم بالإنقضاض عليه لولا أجساد أفراد الحراسة الضخمة التي منعته: -مش هاسيبك ، و مش هاسيبهالك تعمل فيها ما بدالك .. هرجعها و لو لمست منها شعرة هقتلك .. قسما بالله هقتلك ، انا مابقاليش حاجة ابكي عليها. إرتسمت إبتسامة خافتة باردة علي وجه "عاصم" قبل أن يقول بلهجة مهذبة: -مع السلامة يا توفيق بيه .. حقيقي شرفتني بزيارتك. و بعد أن نطق بهذه الكلمات ، إستدار علي عقبيه و مشي عائدا إلي منزله مخلفا وراءه "توفيق"بصياحه الغاضب و الهستيري ... ****************************** إجتازت "حنة" ردهشة الشقة المترفة التي إستأجرها لهما "مروان" بخطوات واسعة أقرب إلي الركض .. دلفت إلي الغرف التي يتقاسماها و نظرت بلهفة و قلق نحو "مروان" الراقد بلا حراك فوق الفراش العريض .. كان متعبا و يشعر ببوادر حرارة آثار الإنفلونزا المنتشرة بين البعض في تلك الأيام الشتوية القارصة .. صدمها منظر العرق علي وجهه .. فالجو كان باردا جدا .. إقتربت منه و جلست إلي جواره .. وضعت كفها علي جبينه .. كان ملتهبا .. إرتعبت .. أعدت له كمادات الماء البارد و أحضرت له دواء مخفض للحرارة ، ثم وضعت يدها خلف عنقه و هي تحاول أن تجلسه .. و لكنها عجزت .. فجسده الضخم المكدس بالعضلات كان كجبل مثبت بأوتاد .. عضت علي شفتها السفلي بقوة و قربت فمها من أذنه هامسة: -حبيبي .. اصحي .. اصحي عشان خاطري عايزة اديك الدوا ! إستجاب "مروان" لندائها و فتح عينيه بتثاقل .. حاول أن يجلس و هو يشعر بدوار حاد ، فتهدل علي ظهره مجددا و هو يئن من آلم جسده .. بعد عدة محاولات و بمساعدة "حنة" له .. نجحت في جعله يبتلع الأقراص ، ثم بدأت تضع الكمادات علي جبينه و هو متمدد علي ظهره ، بينما تجلس بجواره .. كان يرتعش من البرودة .. لحوالي الثلث ساعة بقيت تغير "حنة" الكمادات حتي إنخفضت حرارته من تأثير العلاج و الكمادات الباردة .. كانت علي وشك القيام كي تجلب له مشروبا ساخنا ، إلا أنها فوجئت بيده القوية تطبق علي معصمها و تعيدها إلي جانبه مجددا .. كان مغمض عينيه عندما سألها بصوته العميق المتحشرج: -رايحة فين ؟؟ أجابته بهدوء: -هروح اجبلك حاجة سخنة تشربها ! هز رأسه هامسا بفتنة غير مقصودة: -لأ .. خليكي جمبي. إبتسمت بحب و تمددت إلي جانبه و هي تنعم بالدفء الذي نشره جسده ، بينما إحتج "مروان" قائلا بتعب: -انا قلتلك خليكي جمبي ، بس ماقلتش الزقي فيا كده .. قومي يا حبيبتي .. قومي اقعدي بعيد عني شوية احسن تتعدي مني. تجاهلت "حنة" أمره ، بل إنضمت إلي صدره و إلتصقت به ليغدق عليها مزيدا من حبه ، بينما صاح بها بضعف حاد: -حنة ! قلتلك قومي من جمبي. هزت رأسها برفض قائلة: -لأ .. مش هقوم .. انا معاك في اي حاجة يا حبيبي .. مش ممكن اسيبك ابدا. -ايوه بس انتي كده هتتعبي. قالت بإصرار: -انا هفضل جمبك و مش هتحرك .. مش هاسيبك. ضحكت عينا "مروان"و بتكاسل قال: -انا تعبان ، مش قادر اتكلم .. يلا قومي و اسمعي الكلام. بعناد قالت "حنة": -لأ .. مش هقوم. و لامست وجهه بحنان قائلة: -انا كنت هموت من خوفي عليك .. ربنا يخليك ليا .. مش عارفة انت تعبت اوي كده ازاي !! مد "مروان" يده بجهد و رفع خصلة شعر عن جبينها ، ثم ترك يده تنزلق تائهة علي وجنتها مداعبة حنجرتها ، ثم قال و هو يلهث إعياء: -بعد الشر عليكي يا حبيبتي .. انشالله انا. قطبت في قلق من تحول حالته ، فتهدجت أنفاسها و هي تسأله: -مالك يا حبيبي ؟ انت كويس ؟؟ كان مغمضا عينيه نصف إغماضة و هو يقول لها: -انا بحبك يا حنة ! أجفلت بقلق متفاقم و وضعت كفها علي صدره قائلة: -و انا كمان بحبك .. مالك يا حبيبي ؟ حاسس بإيه ؟؟ لامس بأنامله ذقنها و قال بصوت متقطع: -أ انا بـ بحـ بك .. و سقطت يده إلي جواره و أغمض عينيه و صار بلا حراك .. إتسعت حدقتيها في هلع و للفور راحت تصرخ باكية و هي تهزه بقوة: -لأاا .. مروااان .. مرواااان لأااااا .. عند ذلك إنفجر "مروان" ضاحكا ، فقد إنطلت عليها خدعته ، بينما أوقفت نحيبها لكنها لم تكف عن البكاء .. نظرت إليه بعتاب جم و أولته ظهرها و كادت تنهض من جانبه ، فسارع هو إلي جذبها نحوه فصرخت به: -اوعي سيبني .. اخس عليك بجد ازاي تعمل فيا كده ؟؟ كانت مقاومتها ركيكة ، فتغلب عليها بسهولة و هو يقول ضاحكا: -خلاص يا حنة .. خلاص يا حبيبتي كنت بهزر معاكي .. خلاص بقي. و أحاط خصرها بذراعه و شدها إليه .. فشعرت بأنفاسه تنتشر علي شكل مروحة عند رقبتها .. جمحت عاطفتها تحت هذا الغطاء الحميمي .. فزحف الكري إلي أجفانها و غطت في النوم بأحضانه ... ********************************** علي الطرف الأخر .. إستلقت "هانيا" بإسترخاء في المغطس المليء بالماء الساخن .. كان الحمام بمثل جمال غرفة النوم .. المرايا تغطي مغظم الجدران ، و الأرض رخامية بلون الزبدة ، و المغطس عاجي ذي حنفيتين مصممتين علي شكل ثعبان .. و الرفوف من حولها مكتظة بعلب البودرة و الكريمات المرطبة و سوائل الإستحمام و الصابون الفاخر ذا الرائحة النفاذة المنعشة .. فرغت "هانيا" من حمامها .. وغادرت المغطس .. تناولت منشفة من كدسات المناشف المخملية الدافئة بخزانة الحائط الصغيرة .. جففت جسدها جيدا و إرتدت برنس الإستحمام الذي وجدته من ضمن هداياه .. لفت المنشفة الصغيرة حول رأسها علي شكل عمامة و عادت إلي الغرفة مجددا و هي تحس بإنتعاش هانئ يملأ مسامها و يغمرها بالعافية و السعادة - رغم الثورة العنيفة التي تعتمل بداخلها تجاه الوضع برمته - .. نظرت "هانيا" إلي ساعة الحائط ، فوجدتها السابعة مساء .. ما زال أمامها الوقت الكافي لتهئ نفسها قبل موعد العشاء .. حافت من البرودة التي لاقتها في الغرفة بعد حمامها الساخن ، فإتجهت نحو الخزانة مسرعة .. توقفت تتفحص بعينيها الملابس و الفساتين .. جميع الأغراض مذهلة ، مبهرة الجمال .. و لكنها لا تتوافق مع ذوقها .. فهي برغم مستواها الإجتماعي الرفيع و المتحرر ، إلا أنها تفضل الملابس المحتشمة ، و هو إبتاع لها أغراضا تناسب ذوقه هو ! عاودها الغضب من جديد ، لكنها سرعان ما كبحته و عادت تتفحص الخزانة مجددا لعلها تجد ما يناسبها .. و بعد بحث طويل ، وجدت ضالتها أخيرا .. إختارت ثوبا بسيطا جدا مسترسل حتي الأرض في خطوط ملساء دون أي زركشة ، حريري ذي لون ناري براق ، أكمامه طويلة ، أما فتحة الرقبة فقد كانت مستديرة منخفضة الصدر و الظهر .. إرتدت "هانيا" الثوب و وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها داخله .. فوجدت أنه يليق بها تماما .. إذ أن قصته ذات فن رفيع ، كما أنه يظهر شكل جسمها النحيف و الممشوق .. إتجهت "هانيا" صوب منضدة الزينة ، فمساحيق التجميل و العطور كانت موجودة أيضا .. صففت شعرها أولا و تركته ينسدل أمواجا شقراء علي كتفيها ، ثم وضعت حمرة فاقعة علي شفتيها ، و كحلت عينيها و جفنيها ببراعة فائقة .. و أخيرا إختارت عطرا فرنسيا جذابا و نثرت منه حول عنقها و علي بعض خصلات شعرها .. وقفت بثبات تتأمل مظهرها برضا .. إنها صارخة الجمال ، و لكن جمالها كالعادة لم يكن مصدر سعادتها إطلاقا .. بل كثيرا ما سبب لها المشاكل ، و ها هي الأن وقعت بأخطر مشكلة في حياتها و كان لجمالها السبب الأكبر هنا .. تنهدت مطولا و هي ترسخ بأعماقها أنها في أزهي حالاتها لتحصل علي دفعة كبيرة من الثقة بالنفس هي بأمس الحاجة إليها .. خرجت "هانيا" أخيرا من الغرفة التي خصصت لها و مشت بحذر تجاه الدرج العريض الذي يربط الطابق العلوي بالطابق الأرضي .. نظرت حولها بإعجاب صادق .. فقد كان البيت كبيرا جدا و جيد الصيانة .. دلائل الثراء واضحة في كل مكان و زاوية .. الثريات اللامعة ، و التحف الفنية الثمينة ، و الديكور العاجي المصقول .. كل شيء رائع و متكامل هنا .. تعثرت "هانيا" و هي تهبط الدرجات ، فثقتها الجديدة في ذاتها وليدة التحدي ، تخلت عنها للحظات عندما رأت "عاصم" جالسا في البهو المقابل للدرج يحتسي القهوة و هو يتامل حديقة قصره القريبة من الشرفة الداخلية .. إنتبه "عاصم" إلي وقع خطواتها علي الدرج ، فإلتفت إليها و نهض واقفا عندما رآها تقترب منه ، بينما أحست "هانيا" بصدغيها تنبضان بفعل هذا التوتر المفاجئ الذ إحتلها .. و لكن عليها أن تضبط أعصابها أمامه قدر المستطاع .. لاحظت "هانيا" أنه كان يرتدي قميصا ناصع البياض ، يبرز لونه الأسمر البرونزي .. و كان شعره ممشطا بعناية و قد بدا لامعا ، أما عينيه البندقيتين فكانتا تراقبانها بتفحص و إعجاب .. أخذت "هانيا" نفسا عميقا ، ثم إبتلعت ريقها .. ها هي الأن مستعدة لمواجهته .. لكنها إندهشت عندما أمسك يدها بيده الغليظة و رفعها إلي فمه مقبلا إياه برقة بالغة ، ثم نظر إليها و قال في إعجاب: -دلوقتي مش ممكن يكون في حاجة في الدنيا تساوي جمالك .. ماكنتش متخيل إن الهدوم هتبقي حلوة عليكي اوي كده ! إغتصبت "هانيا" إبتسامة باردة و أجابته: -شكرا لذوقك و لكرم ضيافتك ليا .. و يا ريت تكمل جميلك و تسمحلي امشي بعد العشا ، انا خلاص بقيت كويسة خالص. تجهم وجهه فجأة ، لكنه عاد يقول بلهجة هادئة ناعمة: -شكلك جلو .. و انتي جميلة جدا كالعادة .. لكن في حاجة ناقصة. قطبت "هانيا" متعجبة ، لم تفهم من عبارته ماذا يعني ! ما الذي يدور خلف قناعه الأسود ؟ .. كانت عيناه تحدقان في فستانها المتوهج ، تحديدا كان ينظر بقوة إلي فتحة الفستان الصدرية .. أشعرها ذلك بأنه يتعمد أثارتها بجرأة لا مبالية ، بينما سحبها من يدها خلفه و مشي بها متجها إلي غرفة مكتبه .. حيث ذاك البساط البني الفاتح بفترش الأرض ، و علي الجدران رفوف بيضاء مليئة بالكتب الضخمة و المجلدة .. كانت هناك أيضا مدفأة ضخمة تلفت النظر من حجر الرخام تعلوها ظهرية نحاسية تعكس الوان النار الفاقعة و المتبدلة .. فتنها المنظر كليا ، بينما توجه "عاصم" نحو المكتب و فتح أحد أدراجه ، و أخرج علبة مخملية فاخرة و عاد إليها .. لم تتكلم "هانيا" .. كان نظرها مركز علي العلبة في يده .. و عندما فتحها "عاصم" ببطء ، رأت بريق الماس يشع تدريجيا حتي تبينت المحتويات كلها .. كان عقدا جميلا ثمينا يستقر علي قاعدة غلفت بقماش الساتان ، لم تكن قد رأت لذلك العقد مثيلا ، فقد كانت الأحجار التي زينته من الياقوت الأزرق النادر ، و حوله فصوص من الماس تشع ببريق يخلب الأبصار .. بالإضافة إلي قرطين مشابهين ، و محبس ذهبي بسيط مرفق بخاتم ثمين زينه صفا عريضا من الأحجار الكريمة المبهرة .. كان طقما كاملا متكاملا .. إقترب "عاصم" منها فجأة ، فتراجعت بسرعة إلي الوراء و هي تهتف بحدة: -ممكن افهم في ايه بالظبط ؟؟ بدأت شرارة تلمع في عينيه البندقيتين ، فحدجها بإبتسامة رقيقة قائلا: -قلتلك في حاجة ناقصاكي .. الفستان عليكي يجنن ، بس لما نلبسك الطقم ده. و أشار لها بعلبة المجوهرات متابعا بنعومة خبيثة: -كل حاجة هتبقي كاملة .. دي شبكتك علي فكرة .. انا اخترتلك الياقوت الازرق بلون عنيكي .. اتمني يكون ذوقي عجبك المرة دي كمـ آا .. -انت مجنون !! صاحت مقاطعة بعنف و قد غاض الدم من وجهها فجأة ، ثم قالت بصوت واهن مذعور: - انا مش هتجوزك .. انت مش عايز تفهم ليه ؟ انا مش هتجوزك .. مش هتجوزك ! و ساد صمت لم يتخلله سوي صوت أنفاسها العنيفة المثقلة بالغضب ، و هو كان يراقبها في صمت ملاحظا أقل رد فعل منها و كأنه يختبر ثباتها و إندفاعاتها .. ثم قال بهدوء وثقة: -هتتجوزيني يا هانيا .. انا عايزك ، بأي تمن ، ماتنسيش انك في بيتي ، يعني علي ارضي .. صحيح انا قلتلك قبل كده ان الشرف عندي خط احمر مقدرش اتخطاه ، لكن لو فضلتي رافضة عرضي ده هضطر اجبرك تقبليه بإرادتك الكاملة .. بس ما اتمناش اننا نوصل للنقطة دي .. صدقيني انا مش عايز آذيكي او اجرحك. قفز الإزدراء إلي ملامحها بلمح البصر ، و قالت بقسوة عنيفة: -احقر منك ماشفتش في حياتي و لا هشوف .. يعني بتهددني بصراحة و بعدين بتقولي مش عايز تجرحني و لا تأذيني ؟ .. انت جنسك ايه بالظبط ؟ انت مش بني ادم .. انت منافق اوي ! لفظت جملتها الأخيرة بصوت غاضب مختنق لفرط عصبيتها ، بينما إبتسم بسخرية مريرة قائلا: -انا عارف انك بتكرهيني .. دي حاجة ماعنديش شك فيها .. بس قدرك كده ، و مش هتعرفي تغيريه .. هنتجوز يا هانيا. قالت بشراسة و كأن شيطانا يدفعها لإثارة غضبه الساكن: -انا مستحيل اتجوزك .. فاهم يعني ايه مستحيل ! مستحيل اسمحلك تلمسني او تقرب مني اصلا ..انا عندي اموت و لا اني ارتبط بيك بأي شكل من الاشكال ، انا بكرهك ، بكره اللحظات الي بشوفك فيها و اي حاجة تخصك من قريب او من بعيد. إرتسم تعبير بشع علي وجهه ، و إشتعل الغضب كنيران بندقية في عينيه الحادتين مما جعلها تنكمش و تتراجع إلي الوراء بتوتر .. رمي علبة المجوهرات من يده بإهمال فسقطت و تناثرت القطع الثمينة فوق أرضية المكتب .. فيما قطع "عاصم" المسافة بينهما بخطوتين واسعتين و أمسك بذراعيها قبل حتي أن تفكر بالفرار ، فأحست بالألم عندما إنغرزت أصابعه القاسية في بشرتها و إنتابها ذعر شديد عندما أدركت خطورة موقفها .. وقع بصرها علي فمه القاسي و هو يقول: -للأسف انتي مضطرة تقبلي حقيقة اني هربطك بيا قريب اوي .. مضطرة تتحمليني كمان .. انا مش ناوي اسيبك ابدا ، انتي زي هدية او مكافأة كده كان لازم اخدها من زمان بعد اللي ابوكي عمله فيا. حاولت "هانيا" بشدة أن تتملص من قبضته الحديدية دون جدوي ، فقالت و صدرها يخفق بسرعة ملحوظة: -نجوم السما اقربلك مني .. عمي مش هيسكت زمانه بيدور عليا و هيلاقيـ آا .. قاطعها بضحكة خشنة قاسية ، ثم أمسك وجهها بإحدي يديه الكبيرتين و عن قصد أجبرها علي النظر إلي الندبة في وجهه ، بينما إختفت كل شجاعتها و أحست بالنفور من قربه ، من لمسة يديه ، بل و من النفور لإعتقادها السابق أن وجهه كان أجمل وجه رأته .. رغم خطوط التشوه الغائرة بالجانب الأيمن من وجهه .. نعم كان وسيما .. و قاسيا .. فيما قال بصوت جمد الدماء بعروقها: -عمك ! عمك كان هنا من شوية .. كان متأكد انك عندي و انا ماكدبتش عليه ، قولتله انك هنا .. لكن للأسف ماقدرش يعمل حاجة و لا هيقدر لا هو و لا غيره .. انتي بقيتي ملكي. صرخت به بعصبية: -انا مش ملك حد. مط شفتيه متأسفا علي عنادها و قال: -انا كنت بحاول اعاملك كويس عشان الحياة بينا تبقي سهلة .. لكن انتي اختارتي ماتتعاونيش معايا .. براحتك مافيش مشكلة بالنسبة لي طالما اللي انا عايزه في كل الاحوال هيحصل. إرتسم الذعر في عينيها و إنتفض جسدها بين ذراعيه بعنف ، و عبثا حاولت أن تحرر وجهها من قبضة يده القوية ، و بجهد تلوت بوجهها يمنة و يسرة حتي إستطاعت أن تنشب أسنانها اللؤلؤية بلحم كفه في قوة شرسة .. صرخ "عاصم" بألم و أرخي قبضته عنها مطلقا شتيمة مختنقة .. فهربت "هانيا" منه و راحت تتعثر علي الأرض الرخامية الملمعة .. أخذت ترتقي الدرج العريض الذي بدا لها بلا نهاية ، و لم تستطع أن تتأكد من مصدر الدوي في أذنيها .. أهي خفقات فلبها ؟ أم وقع قدميه خلفها ؟؟ وصلت إلي غرفتها متقطعة الأنفاس و أغلقت الباب من خلفها بإحكام ، ثم إستندت بظهرها إليه .. سرت قشعريرة من مفرق رأسها حتي قدميها و صارت ترتعش في كل أنحاء جسدها .. تحاملت علي نفسها حتي وصلت إلي الفراش .. فإستلقت فوقه و راحت تجهش بالبكاء المُر ... عندما إشتد ظلام الليل ، كانت العواصف الرعدية تزمجر في البعيد مع إنهمار المطر الغزير .. بينما إستمر "عاصم" في ذرع قاعة الجلوس ذهابا و إيابا لأكثر من ساعة .. ذهابا و إيابا كالنمر في قفصه و قد بدا عصبيا إلي أقصي درجة ، إذ أنه ألقي بسيكارته قبل أن يكملها ، و إتجه إلي مكتبه و هو ينظر إلي ساعة يده .. لقد تأخر "زين" كثيرا .. قال في نفسه .. و لم يلبث أن أحس بوقع خطوات فوق السجادة التي تغطي أرض الغرفة .. و شعر بوجود صديقه ، فإستدار بسرعة و صاح بضيق: -اتأخرت كده ليه يا زين ؟؟ تقدم "زين" من "عاصم" و هو يتطلع إليه بعينين متفحصتين ، ثم أجابه بهدوء: -الدنيا بتشتي برا و المطر نازل بتقله ، يدوب عرفت اوصل من البيت لهنا .. خير يا عاصم ؟؟ تخللت أصابع "عاصم" شعره الداكن و هو يقول محاولا السيطرة علي أعصابه: -خلاص يا زين .. خلاص مش قادر ! ضيق "زين" عينيه و هو يستوضحه: -مش قادر علي ايه ؟؟ إلتقط "عاصم" أنفاسه بصعوبة و قال: -انا عايزها .. عايزها اوي .. في كل مرة بشوفها رغبتي فيها بتزيد اكتر .. و كل ما بترفضني بتخليني اتمسك بيها اكتر و اكتر. و صمت لثوان ليقول فجأه: -انا عايز اتجوزها .. و في اسرع وقت يا زين. تجهم وجه "زين" للحظات ، ثم هز رأسه مهمهما و حدق فيه متسائلا: -طيب انت عرضت عليها رغبتك دي ؟ وافقت يعني علي فكرة الجواز ؟؟ رد "عاصم" بعصبية: -انت مابتهمش يا زين ؟ بقولك بترفضني يبقي هتوافق علي الجواز ؟؟! -يعني انت عايز تفهمني انك هتغصبها تتجوزك مثلا !! قالها "زين" مستنكرا ، فأولاه "عاصم" ظهره صائحا و هو يضرب سطح مكتبه الخشبي بقبضته في غضب: -انا لسا مش عارف انا هعمل ايه ! ثم إلتفت إليه مجددا و قال: -اومال انا كلمتك و جبتك هنا دلوقتي ليه ؟ مش عشان تشوفلي حل !! بضيق حانق رد "زين": -عايزني اعملك ايه يعني يا عاصم ؟ لما هي مش عايزاك زي ما قولتلي يبقي هتقتنع ازاي ؟ تحت تهديد السلاح ! و بشيء من العصبية أضاف: -انا مش فاهم انت عايز تعمل فيها ايه اكتر من اللي عملته ؟ اتقي الله يا عاصم و سيبها تروح لحال سبيلها كفاية عليها كده حرام عليك هي مالهاش ذنب. إحتقن وجه "عاصم" فصاح به: -انا كل ما اكلمك عنها لازم تسمعني الكلمتين دول ؟ ايه مش حافظ غيرهم ؟! أجابه "زين" بهدوء: -انت عارف رأيي في الموضوع من الاول .. البنت لازم تمشي من هنا و انت لازم تنساها و تسيبها في حالها ، انت خلاص عملت كل اللي انت عايزه ، و اللي انت عايز تعمله دلوقتي ده مالوش اي علاقة بتارك ، و ان ماكنش ظلم و افترا فأنا ماعرفلوش اسم تاني يا عاصم ! -ظلم و افترا ؟!! ردد "عاصم" مزمجرا ، ثم قال بعناد و هو يرتعد غضبا: -طيب مش هسيبها يا زين .. هتجوزها ، و من هنا و رايح عايزك توفر نصايحك دي لنفسك و انا من ناحيتي مش هادخلك في اي حاجة تخصني و هتولي اموري بنفسي بعد كده يا .. يا صاحبي. و بعد أن نطق "عاصم" بهذه الكلمات إستدار علي عقبيه و غادر غرفة المكتب مسرعا ، بينما كاد "زين" يوقفه و لكنه كان سريع الخطي .. فزفر "زين" في إنزعاج و هو محتارا من أمره .. فهل يعاون صديقه المقرب حتي يحصل علي مبتغاه ؟ .. أم ينصاع لنداء ضميره الذي يحتم عليه مساعدة "هانيا" و إخراجها من ذلك المأزق ؟؟ ****************************** كان ظهرا مشمسا و دافئا ، ليس كالأيام العاصفة التي سبقته ، فقد جفت الأرض من مياه المطر ، و ساد الدفء الغامر تدريجيا .. بينما إستيقظت "هانيا" علي إثر النور المنسكب من خلف ستائر غرفتها .. غادرت فراشها ، و إتجهت إلي النافذة التي لم يكن يفصلها عن العالم الخارجي سوي ذلك السور الضخم الذي بات يشكل لها حصنا مرصودا لتكن سجينة بداخله .. تنهدت بآسي و عادت إلي سريرها و إستلقت فوقه برهة .. في هذه الأثناء ، كان ضوء الشمس يشتد أكثر بالغرفة ، فأدركت "هانيا" أنها لن تستطيع العودة إلي النوم مجددا ، خاصة و أن عقلها مليء بالأفكار المتضاربة .. فقد مر إسبوعا كاملا و هي أسيرة بهذا القصر الكبير .. نهضت من فوق الفراش و راحت تتمشي ذهابا و إيابا نحو ساعة من الزمن و هي تفكر في الأمر بعقلانية لا يشوبها هاجس أو خوف .. فرأت أنه من الخير أن تستغل الحرية المحدودة التي وفرها "عاصم" لها ، كالتجول بكافة أنحاء القصر و التصرف فيه كما تشاء .. و لكن ماذا في وسعها أن تفعل ؟ فحتي لو خرجت من عزلتها تلك ، إمكانية فرارها من هنا لن تكون أكيدة مائة بالمائة .. ثم أن الهرب من هنا مستحيل ، و إذن فلا سبيل لذلك إلا بوصول نجدة لإنقاذها .. و كان عمها هو أقرب ما توصل إليه عقلها في تلك اللحظة .. عليها أن تجد وسيلة ، أي وسيلة و تتصل به .. قطبت "هانيا" حاجبيها و وقفت بجانب النافذة تحدق إلي ظلال الأشجار الخضراء و البنايات البعيدة و هي تفكر في كيفية تخطي حدود ذلك الحصن المدجج بالخدم و الحرس الذين و لا شك تلقوا آوامر بمراقبة حركاتها و سكناتها .. راحت "هانيا" تفكر و تفكر حتي أنتهت إلي وجوب القيام بمحاولة لإستعمال الهاتف في الليل .. لا في النهار ..حين يكون جميع ساكني القصر نائمون .. في تلك اللحظة .. سمعت فجأة طرق علي باب غرفتها ، فصاحت بجمود عصبي: -مين ؟؟ فجاءها الجواب الصارم: -عاصم. أغمضت "هانيا" عينيها ، و ضغطت علي فكيها في حنق ثم سألته بجفاف: -عايز ايه ؟؟ أجابها بلهجة مهذبة: -الفطار جاهز ! قالت بإصرار: -انا هفطر هنا في الاوضة زي كل يوم. فكان رده صلبا كالفولاذ: -لأ .. انتي هتلبسي هدومك و هتحصليني علي اوضة السفرة تحت .. قدامك عشر دقايق بالظبط ، لو مانزلتيش هطلع اجيبك بنفسي حتي لو بالغصب. إستشاطت غضبا من لهجته و طريقته الآمرة الوقحة ، فأقسمت ألا تلبي دعوته و ليكن ما يكون .. و بغضب منه و من نفسها إنتظرت حتي سمعت وقع خطواته تبتعد عن غرفتها و توجهت إلي الباب و أوصدته ، ثم مشت إلي المرحاض الملحق بالغرفة .. غسلت وجهها و نظفت أسنانها .. ثم عادت إلي الغرفة مجددا .. و بتردد فتحت خزانة الملابس ، و بعد تفكير طويل ، إختارت ثوبا وردي اللون ، يتمتع بالضيق الشديد و يدخله التطريز الإيطالي الفريد .. إرتدته و وقفت أمام المرآة تمشط شعرها و تضع القليل من مساحيق التجميل لكي تخفي شحوبها .. بينما سمعت فجأة خطوات في الردهة الخارجية ، فتركت ما كانت تفعله في الحال .. فيما توقفت الخطوات أمام باب غرفتها ، فتسمرت مذعورة ، فيما تحرك مقبض الباب ، فظلت "هانيا" صامتة و بلا جراك .. سمعت صوت "عاصم" الجاف يقول: -العشر دقايق خلصوا ! يا تري لسا بتجهزي ؟؟ -لأ .. انا مش هنزل ! صاحت بتهور ، فسمعت صوت "عاصم" يقول بإقتضاب غاضب: -افتحي الباب. ردت بعنف و العصبية ترجف صوتها: -لأ ! حذرها "عاصم" بقوله: -لو مافتحتيش دلوقتي هكسر الباب. و بعد قليل خلع الباب بالفعل و ولج إليها .. ذعرت "هانيا" من مظهره الغاضب و شعرت بإرتخاء قدميها و كادت تسقط ، لكنها تمكنت من القول بحدة شرسة: -انت مش بس مجنون ، انت حيوان .. ايه اللي عملته ده !! إقترب منها بسرعة غريبة ، فأطلقت شهقة مكتومة عندما إرتعش جسدها بعنف متأثرا بقربه ، إذ لفحتها قوة لا مرئية صدرت عن كل قطعة ثائرة في جسده الضخم .. أغمضت عينيها عندما تقلصت المسافة بينهما حتي أحست بأنفاسه تلفح وجهها ، بينما قال بعد لحظات بصوت أجش: -بقالي اسبوع ماشفتش الوش الحلو ده ! .. حرماني منك ليه ؟؟ لم تحرك ساكنا ، فقال آمرا: -فتحي عنيكي ، بوصيلي و انا بكلمك ! و عندما لم تستجب ، أسرع هو برفع وجهها بإصابعه القاسية التي خدشت جلدها الناعم .. بينما فتحت عينيها الزرقاوين علي وسعهما من المفاجأة و إشتبك نظرها بنظره .. كان غضبه قد إختفي ليحل محله شيء أخر .. ذلك الشيء الذي رأته دائما في عينيه دون أن تفهمه أو تحبه ، بينما تمتم بخفوت: -تستاهلي عقاب علي اللي بتعمليه فيا. إرتعد جسدها عندما تسلل همسه الحميمي إلي أذنها ليهز مشاعرها و يشل أطرافها ، فيما تابع و هو يجول بنظره عليها بوقاحة: -و تستاهلي بوسة كمان علي جمالك ده ! شهقت بذعر و أبعدت وجهها عنه ، ثم رفعت يدها لتسدد له صفعة عنيفة ، و لكن "عاصم" إستقبل الصفعة في راحة يده اليمني التي بدت كجدار من الصلب ، ثم قال بإبتسامة هازئة و هو يعتصر أصابعها الرقيقة بين أصابعه الغليظة: -حقيقي انتي بنت مصطفي علام .. شريرة زيه .. لكن متوحشة و شرسة اوي ، ماتتصوريش انا حبيت طباعك العدوانية دي اد ايه ! أطلقت آهة آلم ثم أشاحت بوجهها عن و هي تزمجر غاضبة: -ماتجيبش سيرة ابويا علي لسانك يا حيوان. إنتفضت بعنف عندما أمسك وجهها بين سبابته و إبهامه بقسوة ليجبرها علي النظر إليه ، إرتعبت عندما رأت عينيه تلتمعان بشرارات مخيفة ، فيما تشنجت عضلات وجهه و إستحال فمه إلي خط رفيع أبيض اللون .. تكلم أخيرا فكان صوته منخفضا و لكنه مختلف بفعل الغضب مما جعل جسدها يقشعر خوفا: -لحد امتي هتفضلي تدوري وشك كل ما تشوفيني عن قرب ؟ .. قلتلك كتير قبل كده ابوكي هو السبب في اللي حصلي .. هو غلط معايا ، و انتي اللي هتدفعي تمن غلطته. توهجت عيناها بغضب ملتهب ، فصرخت فيه بهستريا: -هقتلك .. قبل ما توصل للي انت عايزه ده ، مش ممكن هتلمسني الا و انا ميتة. قهقه بمرح ، ثم لف يده حول عنقها النحيل و قال بتسلية: -لو كان قدري اموت مقتول ، فأنا هبقي مبسوط جدا لو مت علي ايدك يا جميلتي. ثم جمدت أصابعه علي عرق عنقها النابض و قال ببطء و هو يحدجها بنظرة ثاقبة: -لكن طول ما انا لسا موجود مش ممكن اسمحلك تختفي من حياتي .. مش ممكن اسمح لأي حاجة تاخدك مني .. حتي الموت .. سامعة ؟ .. حتي الموت ! حدقت فيه صامتة .. إذ أحست أنها معزولة عن العالم للحظات بفعل بريق عينيه القوي الذي ينذر بالخطر .. بينما أطلق سراحها فجأة و هو يقول بفتور: -هخليهم يطلعولك الفطار هنا .. انا كنت عاوز اشوفك بس مش اكتر ، لكن ده مش معناه اني هاسيبك تقضي يومك كله في الاوضة .. انا كنت سايبك اليومين اللي فاتوا دول بس عشان تهدي اعصابك و تحاولي تأقلمي نفسك علي وضعك الجديد .. و من هنا و رايح هتفطري و تتغدي و تتعشي معايا. و تابع مشددا علي كلماته: -و اعملي حسابك بعد ما نتعشا سوا انهاردة هاخدك اعرفك علي امي .. هي مستنيا تشوفك الليلة دي. ثم إلتفت إلي الباب و أشار نحوه مضيفا: -هبعتلك حد يصلح الباب و ابقي اشوفك بليل زي ما اتفاقنا ، و حذاري اجي الاقيكي مش جاهزة او قافلة الباب بالمفتاح هكسره تاني و هدخل اجيبك بالعافية. و أخيرا إستقرت عيناه علي وجهها الشاحب قبل أن يستدير خارجا من الغرفة .. بينما تهدلت "هانيا" علي أقرب مقعد لفرط إعياءها ، و راحت تفكر .. إنه أقوي منها بمراحل ، غير أنها بمنطقة نفوذه .. لن تستطيع التغلب عليه بمفردها .. عليها أن تجد حلا و في أسرع وقت قبل أن تصل معه إلي نقطة اللارجوع .. و لكن عليها أيضا أن تكون حذرة جدا ، إذا ما لعبت بهذه النيران .. و إلا أحرقت أصابعها بنفسها ... ****************************** -يا اخي حرام عليك بقي اللي بتعمله في نفسك ! قالها "رشدي" بإنزعاج واضح يخاطب "توفيق" الذي جلس فوق الأريكة بحجرة الجلوس و قد بدا مهموما بائسا ، بينما تأفف "رشدي" بسأم قائلا: -ما اللي انت فيه ده مامنوش فايدة يا توفيق .. تقدر تقولي استسلامك ده هيفيد الموضوع بإيه ؟؟ عند ذلك ..نظر إليه "توفيق" بفتور قائلا: -طيب و انت عايزني اعمل ايه يا رشدي ؟ انا مافيش في ايدي حاجة اعملها .. كان بيني و بين بنت اخويا خطوتين و ماقدرتش انقذها من اللي هي فيه .. و الله اعلم حصلها ايه دلوقتي ! .. الله اعلم عمل فيها ايه و انا قاعد هنا متكتف مش قادر اعملها حاجة. ثم أضاف بمرارة و ضميره يعذبه في العمق: -ازاي هحط وشي في وش اخويا لما اقابله ؟ .. هقوله ايه ؟ .. هقوله ماعرفتش احافظ علي بنتك اللي سيبتها امانة في رقبتي ؟ هقوله إتاخدت من قدامي و انا كنت واقف ساكت ماعملتش حاجة ؟ هقوله ايه يا رشدي ؟ .. هقوله ايه ؟؟ تغضن جبين "رشدي" بعبسة متأثرة ، فمد يده و ربت علي كتف صديقه و قال مواسيا يمده بالصمود و قوة البأس: -اهدا يا توفيق .. اهدا ان شاء الله بنت اخوك لسا بخير و هنرجعها قبل ما ايده تتمد عليها بالسوء. -هنرجعها !! ردد "توفيق" مستوضحا ، فأومأ الأخير قائلا: -اه هنرجعها .. انا مش هاسيبك يا توفيق ، هقف جمبك لحد ما ترجع بنت اخوك و تطمن عليها. إبتسم "توفيق" بسخرية و قال: -و هنرجعها ازاي يا رشدي ؟ .. الجبان مالي قصره حراسة و بيتحامي فيهم .. محدش يقدر يدخل القصر بسهولة. ضربه "رشدي" بخفة علي ذراعه و هو يقول بثقة: -يابا علي نفسه هو و حراسته .. ده انا عندي رجالة تحت في الورشة لو فذيتهم علي قصره ده هيطربأوه فوق دماغه و يجيبوا عاليه واطيه ، ده غير رجالة الغورية كلها اللي نفسهم يخدموا رشدي مجالات .. قول امين انت بس و مالكش دعوة ، و ان ماكانتش بنت اخوك تبات في حضنك الليلة دي ابقي قول عليا مش راجل. صمت "توفيق" للحظات يفكر ، ثم قال بهدوء: -لأ يا رشدي .. انا عايز ارجعها بدون مشاكل ، مش عايزك تتآذي بسببي كمان .. انا في حاجة في دماغي لو تمت زي ما انا عايز هانيا هترجع قريب .. و لو ماتمتش ، هلجألك اكيد. وضع "رشدي" يده فوق يد "توفيق" و شد عليها قائلا: -و انا مش هتأخر عنك يا توفيق .. هتلاقيني واقف جمبك و في ضهرك. دق جرس الباب في تلك اللحظة .. فنهض "رشدي" و إتجه صوبه و فتحه ، ليصطدم بإمرأة حسناء ترتدي فستانا فضفاضا من الساتان البنفسجي السميك ، و شعرها النحاسي القصير ممشط بعناية .. إستطاع "رشدي" أن يخمن هويتها ، و لكنه تساءل بلهجة مهذبة: -ايوه يافندم ! اي خدمة ؟؟ بشيء من التوتر قالت المرأة: -توفيق .. موجود هنا ؟؟ -ايوه موجود .. حضرتك مدام دينار حرمه مش كده ؟؟ أومأت "دينار" رأسها ، فإبتسم "رشدي" ببساطة و تنحي جانبا و هو يدعوها للدخول قائلا: -اتفضلي ادخلي. خطت "دينار" داخل الشقة و هي تبحث بعينيها عن زوجها حتي وجدته جالسا في هدوء بالصالون المقابل للباب ، بينما حانت منه إلتفاتة نحو باب الشقة فوقع بصره علي زوجته .. نهض "توفيق" من مجلسه و هو يهتف قاطبا حاجبيه: -دينار ! .. انتي جيتي هنا ازاي ؟ عرفتي مكاني ازاي ؟؟ لوت فمها بإبتسامة ساخرة و أجابته: -اللي يسأل مايتوهش. بتهكم لاذع سألها "توفيق": -و سألتي مين بقي ؟؟ قطع "رشدي" حديثهما في تلك اللحظة بقوله: -طيب يا توفيق انا نازل الورشة ، لو عوزت حاجة كلمني. و غادر الشقة مسرعا ، بينما وقف "توفيق" في مواجهة "دينار" صامتا للحظات ، ثم سألها ببرود و هو يعاود الجلوس مجددا: -خير يا دينار ؟ .. جاية عايزة مني ايه ؟ ماعتقدش اني بقيت مفيد ليكي او للولاد زي زمان ! تنهدت "دينار" بثقل و تقدمت نحوه ، ثم جلست في مقعد قبالته و قالت بلهجة مفعمة بالحزن: -من ساعة ما سيبت البيت يا توفيق و كل حاجة بدأت تنهار .. انا ماعتش قادرة اشيل الحمل لوحدي .. محتاجاك جمبي. هز "توفيق" رأسه بسخرية و قال بإستخفاف: -و محتاجالي ليه يا دينار ؟ .. انا مابقتش نافع خلاص ، ربنا يخليه مروان بقي كبر و بقي راجل .. دلوقتي يقدر يشيل المسؤولية و اتتي تقدري تعتمدي عليه .. و لا انتي بتعتمدي عليه بس في امور تانية ! هزت رأسها في خزي قائلة: -مالوش لزوم الكلام ده لوقتي يا توفيق. بشيء من الإنفعال رد "توفيق": -لأ لي لزوم يا دينار .. ان كنتي نسيتي بالسرعة دي افكرك .. مش انتي اللي روحتي تشجعيه و هو بيرفع قضية الحجر عليا ؟ مش انتي اللي ساعدتيه ؟ .. جاية دلوقتي عايزه مني ايه ؟ .. احمدي ربنا اني ماطلقتكيش .. انتي علي ذمتي لحد دلوقتي بس كرامة لابوكي الله يرحمه .. انا وعدته اني مش هفرط فيكي.. بس مش هقدر ارجع اعيش معاكي زي الاول .. مش هقدر اسامحك. شعرت "دينار" و كأن خنجرا حادا يضرب صدرها مع كل كلمة أطلقها "توفيق" .. كانت عاجزة عن الرد ، خاصة و إنها تدرك في أعماقها أنه لا يقول سوي الحقيقة المجردة .. و لهذا إبتلعت غصتها المريرة ، و تطلعت إليه دامعة العينين و قالت: -انا بعترف اني غلطانة .. و مش جاية اطلب منك السماح .. انل بس جاية اطلب منك تلحق ابنك قبل ما يضيع يا توفيق ، لو مالحقتوش هيضيع مننا احنا الاتنين .. ده مهما كان ابنك بردو. عبس "توفيق" متسائلا بوجوم جاف: -ايه اللي حصل ؟؟ مسحت "دينار" الدموع التي فرت من مآقيها إلي وجنتيها بظهر يدها ، و نظرت إليه صامتة لثوان ، ثم راحت تقص عليه الأمر كله ... ****************************** قضت "رضوي" ساعات النهار الأولي في التسوق و إختيار الألبسة الجديدة التي تناسب إطلالة العصر .. و بعد أن فرغت أخيرا من رحلة البحث الشاقة و الدقيقة .. خرجت من بناية السوق التجاري الشهير ، و نزلت إلي الكراچ حيث صفت سيارتها هناك .. وصلت عند السيارة و فتحتها .. و لكنها لم تلبث أن تنبهت لصوت أفزعها يهمس من خلفها: -لو تعرفي وحشتيني اد ايه !! كان الصوت مألوفا لديها .. ذا لهجة ناعمة رقيقة لا تعكس حقيقة صاحبها قط .. لقد مضي علي سماعها ذلك الصوت ثلاث سنوات ، و ها قد قاربت علي نسيانه ، لكنها مع هذا لم تلتفت كليا نحوه .. فقد خشيت أن يكون موجودا بحق .. فهي تخافه بشدة ، تكرهه تمقته إلي أقصي حد .. لا تريد رؤيته أبدا .. لكن الصوت تساءل بتصميم: -يا تري وحشتك انا كمان يا رضوي ؟؟ مالت برأسها إلي الوراء قليلا .. فلمحت حذاءً جلديا أسود اللون ، و سروالا من القماش الأبيض ، يعلوه قميصا مرجانيا مكسوا بسترة سوداء جلدية .. رفعت وجهها قليلا ، فإصطدمت بوجهه .. لا .. انه هو يقف أمامها حقا .. لم تكن تتوهم وجوده أنه هو .. "أكرم" .. زوجها السابق .. لم تشعر "رضوي" بما حل به من تغيير ، فما زال عريض المنكبين ، رشيق ، و جذابا ، و لكن بعض التجاعيد ظهرت حول عينيه ، كما أنه ترك لحيته تنمو كثيرا ، أما شعره الأسود الكثيف الطويل ، ما زال منسجما مع عينيه شديدتي السواد .. كانت "رضوي" تقف في مواجهته هادئة ثابتة .. إلي أن تسللت رائحة عطره الثقيل النفاذ إلي أنفها .. ذلك العطر المفضل لديه و الذي يميزه ، ذكرها به و بما فعله بها .. إنتفضت مذعورة و تراجعت إلي الخلف حتي إلتصقت بباب سيارتها و هي تنظر إليه بعينين متسعتين منتظرة أن يقوم بأي حركة لكي تصرخ عاليا .. و بالفعل إقترب منها و هو ينظر إليها بشوق ، فصرخت فيه: -خليك مكانك .. اوعي تقرب مني. كان قلبها يخفق خفقانا شديدا ، و شعرت أن قدميها تخونانها ، فإستندت بمرفقيها إلي مقدمة سيارتها ، بينما مد "أكرم" يده لملامسة خدها الناعم ، ففتحت فمها بصورة تلقائية و همت بالصراخ .. فأسرع إليها "أكرم" و أحبط محاولتها مطبقا بيده علي فمها ، ثم لف ذراعه حول كتفها و شل حركتها العنيفة و هو يحاول أنه يهدئ من روعها .. بينما أخذت "رضوي" تغالبه بكل قواها ، و لكن عبثا .. كانت بين يديه كالدمية التي لا حول لها و لا قوة .. و فيما هي تحاول الفكاك من بين ذراعيه ، إقترب بفمه من أذنها و همس بدفء: -اهدي يا حبيبتي .. ماتخافيش انا مش هعملك حاجة .. انا جيت عشان اتكلم معاكي بس .. صدقيني وحياتك عندي انا مش جاي آذيكي .. انا بحبك يا رضوي. و لكن دون جدوي ، ظلت تقاومه بجنون و هي تصرخ بهستريا فيخرج صوتها أنينا مخنوقا من تحت كفه .. فما كان منه إلا أن أفلتها مرغما ، فأسقطت الأغراض التي كانت تحملها بكلتا يديها أرضا و إستقلت سيارتها ، ثم إنطلقت بأقصي سرعة ممكنة حتي تبعد نفسها عن متناوله ... *************************** -طب و انتي عايزاني اعمل ايه يعني ؟؟! قالها "توفيق" ببرود مزدر ، فرفعت "دينار" حاجبيها في دهشة قائلة: -عايزاك تعمل ايه ؟ .. عايزاك تلحق ابنك قبل ما يضيع. نظر "توفيق" أمامه و لم يقل شيئا للحظة ، ثم تكلم بهدوء و حزم: -انا ماليش دعوة يا دينار .. دي مش مشكلتي ، دي مشكلته هو ، و هو ادري بمصلحته مابقاش قاصر يعني. حدجته "دينا" في عدم تصديق ، ثم قالت بذهول: -ايه اللي انت بتقوله ده يا توفيق ؟؟ -اللي سمعتيه يا دينار. أجابها بقسوة متعمدة ، فعلت نبرة صوتها و هي تقول: -انا مش مصدقة اللي بسمعه منك ! انت هتتخلي عنه يعني ؟ هتسيبه يغرق ؟ ده ابنك يا توفيق .. احنا ماعندناش غيره .. معقول هتسيب مروان ؟؟! صاح بها "توفيق" في عنف و فد طغي صوته الهادر علي صوتها: -انتي السبب في كل ده .. انتي السبب في اللي وصله ابنك ، انتي اللي فسدتيه و من زمان ، دايما كنتي بتداري عليه و مدلعاه كنتي بتشجعيه علي الطيش و لما كنت بقولك اللي بتعمليه ده نتيجته هتبقي سليية مش ايجابية ، كنتي تردي و تقوليلي نفس الكلام اللي قولتيه دلوقتي .. ده وحيدنا ، خليه ينبسط ، احنا ماعندناش غيره .. اهو اشربي بقي. ثم رفع يده و هز بسبابته قائلا: -اوعي تلوميني علي اي حاجة .. لومي نفسك و بس يا دينار. عضت "دينار" علي شفتها السفلي بقوة ، ثم سألته بإيجاز كي لا تنفجر باكية: -يعني هتسيبه ؟؟ لم يجب "توفيق" .. بل إكتفي بنظرة قوية خرساء .. فهزت "دينار" رأسها قائلة بصوت متهدج: -ماشي يا توفيق .. سلام. و نهضت متجهة صوب باب الشقة .. إلتفتت تنظر إليه بخيبة أمل مريرة و دموعها تتلألأ علي وجنتيها ، ثم غادرت بعد أن أغلقت الباب من خلفها بهدوء .. بينما وضع "توفيق" رأسه بين كفيه و هو لا يدري من أين تأتي الكوارث تباعا ؟؟ **************************** بعد أن أخذ حماما ساخنا يستعيد به نشاطه و حيويته .. وقف يتأمل نفسه و ملابسه أمام المرآة .. لم يكن يرتدي بذلة أنيقة و ربطة عنق كالعادة .. بل قميصا أسود بسيطا و سروال أسود أظهر تفصيلته الرياضة الرشيقة و طول ساقيه ، و فوقهما إرتدي سترة كحلية مفتوحة فلم يفقد هيبته المعتادة ، أو وقاره ، بل إزداد شبابا و رجولة .. سمع طرق علي باب غرفته ، فإنطلق صوته الصارم يسمح بالدخول للطارق ، فدلفت إحدي الخادمات متوسطات العمر و قالت بخفوت: -عاصم بيه .. الاستاذ زين جه تحت حضرتك. تجهم وجه "عاصم" للحظات ، قبل أن يقول بجمود: -طيب .. قوليله نازل حالا. إنحنت الخادمة لسيدها بتهذيب ، ثم إنسحبت في هدوء .. بينما إلتقط "عاصم" قنينة عطره ، و نثر منها بغزارة فوق ملابسه و حول عنقه ، ثم وضعها بمكانها و غادر الغرفة إلي الطابق الأرضي .. كان "زين" يجلس هناك بقاعة الجلوس المضاءة بالثريات اللامعة و التي بعثت نورا ذهبيا خافتا ، أضفي علي المكان جوا من الدفء و الألفة الحميمية .. وقف "عاصم" أمام "زين" صامتا .. تبادلا نظرة متوترة ، و ظل لسان كل منهما مترددا في الكلام .. إلي أن قطع "زين" الصمت عندما نهض و تقدم من "عاصم" قائلا في عتاب بصوته الخفيض: -تعرف ان زعلك وحش اوي ؟ .. يعني عشان اختلفنا علي حاجة انا و انت و لأول مرة تقاطعني اسبوع بحاله ؟؟! تنهد "عاصم" بعمق ، ثم منحه إبتسامة بسيطة و قال: -ماقدرش اقاطعك .. انت اخويا يالا مش صاحبي و شريكي بس. ثم عانقه بعاطفة أخوية و ربت علي كتفه قائلا: -عمري ما اقدر ازعل منك اصلا. إبتسم له "زين" بخفة و قال: -و انا ماقدرش اضايقك يا عاصم .. شوف انت عايز تعمل ايه و انا معاك فيه. تصاعد رنين هاتف "عاصم" في تلك اللحظة ، فأخرجه من جيب سترته و نظر إلي الشاشة ليري هوية المتصل .. ثم نظر صديقه قائلا: -هرد علي المكالمة دي و راجعلك. أومأ "زين" رأسه ، فتواري "عاصم" عن ناظريه داخل غرفة مكتبه .. و بينما كان يعاود "زين" الجلوس مجددا ، لمح "هانيا" تهبط الدرج بخفة و هي تصوب نحوه نظرة متسائلة .. نهض "زين" مجددا ، و مد يده عندما إقتربت منه ليصافحها .. تجاهلت "هانيا" يده الممدودة و حدجته بنظرة متعالية ، فإبتسم "زين" برقة و قال بهدوء: -اعرفك بنفسي .. انا زين الرويعي .. الصديق الصدوق لعاصم الصباغ و بير اسراره و دراعه اليمين كمان. قفز الإزدراء بملامحها في لمح البصر ، فقهقه "زين" بخفة و قال: -انتي بقي مش محتاجة تعرفيني علي نفسك .. لاني عرفك كويس .. انتي هانيا مصطفي علام .. الضحية الجميلة في قصة الانتقام اللي تنفع تتعمل مسرحية او فيلم سينيمائي. إستشاطت غضبا من مزاحه الثقيل ، فإستدارت و همت بالرحيل ، إلا أنه قبض علي رسغها و أعادها إلي مكانها قائلا: -انا عارف انك هنا غصب عنك .. و صدقيني انا عايز اساعدك. و تلفت حوله في توجس يتأكد من عدم وجود "عاصم" بالقاعة ، ثم إقترب منها قليلا و قال بخفوت أقرب إلي الهمس: -انا مستعد امشيكي من هنا .. ممكن اهربك !

    إرسال تعليق

    أحدث أقدم

    نموذج الاتصال