لم يتم العثور على أي نتائج

    غزالـة في صحراء الذئـاب (الجزء الاول) \قصص مصرية



    الفصـل الأول : 

    علي صوت زقزقة العصافير، وطلوع الشمس لتسطـع بنورها الذى ينير الاجواء، ليبث الطمأنينـة في روح كل شخص وبالأسفل أصوات اناس هادئة تعم المنطقة، تحديدًا في منطقة المعادى، تنـام علي فراشهـا الوتـير بشكل عشوائى، في غرفة صغيرة ضيقـة متهالكة، جدرانها قديمة جدًا، تكاد تهدم، مكونة من فراش صغير، ومكتب صغير، شعرها الأسـود الحريرى يتناثـر علي الوسـادة بجوارها كأنها رسمةعلي ورق، ورموشهـا الكثيفـة تغطي جفن عينيها الرمادية التي يملؤوها اليأس، وحاجبيها السوداودين يشكلان شكلاً رائعــًا، ذات جسـد ممشوق متوسط، ملامحها البريئة تجذب كل من يراها من اول وهلة، بشرتها بيضـاء، ترتدى شورت قصير وتيشـرت دون حملات، الاصوات المتداخلة العالية بعض الشيئ ، افاقتها من سباتها العميق الذى تهـرب فيه من ذاك العالم، فتحت عيونها بتثاقـل، لتشـرق عينيها الرمـاديـة الجذابـة، وتتململ في الفراش بكسـل، أمسكت بهاتفها الصغير الموضوع علي المكتب، لتنظر في الساعة تجدها الثانية عشر ظهرًا، تأففت بضيق ثم نهضت وهي تجوب الغرفة بعينيها، لتجدها فارغـة، اتجهت للخارج بتنهيـدة لتجد والدتها تجلس علي الكرسي امام المنضدة لتحضر الطعام، نظرت لها والدتها " كريمة " ذات وجه بشوش، وجسد ممتلئ، ترتدى جلبـاب من اللون الأسود وطرحة صغيرة علي شعرهـا القصير الاسود، تمتـاز بالحنـان، وحبها الأبدى لأبنتها الوحيدة وزوجهـا، ونظرت لها ثم هتفت بهدوء : 
    _ انتِ صحيتي يا شمس، تعالي افطرى 
    إقتـربت منها " شمس " ثم هـزت رأسهـا نافيـة، ونظرت لها بحـزن قبل ان تهمس بألم تجسـد في نبرتها : 
    _ لا مش عايزة، انا هأروح ازور بابا، واخدله اكل معايا 
    هوت " كريمة " علي الكرسي الخشبي بثقل جسدها حتي اصدر صوتًا، نظراتها مثبتة علي شمس، تقول الف كلمة واولهم الي متي ستظهـر القوة وبداخلها يتآكل كالصدئ في الحديد، الي متي ستتحمل نظرات الجميع الموجهة نحوها بأتهـام شنيـع، وكأنها عليها وصمة عـار ابديـة، تشنـج وجهها وهي تجيبهـا بخفـوت :
    _ ايوة تعالي وانا رايحة معاكِ بس بأخلص الأكل، انتِ عارفة اكل السجن ازاى 
    امـاءت بهدوء افتعلته بصعوبة لتسير متجهة للمرحـاض قبل إنهيـار حصونهـا الهادئـة، قبل ان تمتـزج بألم والدتها ويكونـا إعصَار قوى يدمـر كل من يقف امامهم، هي لا ترغب بذلك حتي لا تؤكد كلامهم ..
    دلفت الي المرحـاض الصغير الذى يكمن بجوار الصالة تمامًا، فتحت الباب الخشبي المتهالك بقبضة يدها الصغيرة، واغلقته خلفهـا، تتنهـد بقـوة، تمنـع دموعها من الهطول بصعوبـة، اغتسلت ثم توضـأت بسرعة وخرجـت، ارتـدت ملابسهـا المكونة من بنطـال اسود طويل واسـع، وتيشرت اعلاه طويل الي حدًا ما ذو اكمام، تخفي كل جزء من جسدهـا الابيض، ابتسمـت بسخرية مريرة، فهذا كل ما تملكـه، هذا يعـد كل ممتلكاتـها في هذه الحياه التي سلبت منها كل شيئ، ارتـدت طرحتها الزرقـاء، ثم بدأت تؤدى فريضتها بخشـوع، وبالطبع لا تخلو من دعاءها لوالدها المسجـون، تقريبًا منذ ان كانت في الرابعة عشر من عمرهـا، وهي الان في الثانية والعشرون من عمرها، اخر سنة بكلية الحقـوق، خرجـت لتجـد والدتها قد ارتدت ملابسها ايضًا، نظـرت لها بتفحـص، ثم اقتربت منها وهي تقول متساءلة : 
    _ خلصتى يا امى ولا لسة ؟ 
    اومـأت " كريمة " لتؤكد انها مازالت محتفظة بهدوءها وصبرهـا، تقدمت " شمس " ثم حملت الطعام، واتجهت للخارج بجوار والدتها، ثم اخرجت المفتاح من حقيبتـها، ألقـت نظرة اخيـرة على منزلها الضيق الصغير، وكأنها تبحث عن طيف سعادة كانت بـه يومًا، ولكن الان صار كالسجـن يخنق كل من يدخلـه .. 
    سـاروا متجهين للخارج من العمـارة الواسعـة، والتي يقطنون بها في الدور الارضي، تشعـر بالإنكـسار يجتاحها كلما تذكـرت جملة شخصًا ما عنه " ده بيت البـواب " لا شك انها تفتخـر بوالدها دائمًا، ولكن كم الضغوطات من حولها تفوق قدرة اى بشـر، تنهـدت بضيق استعدادًا وتهيئـة نفسية لأذنيـهـا للنصـوص التوبيخية التي ستـرن علي اذنيهـا كالطـبول الصاعقـة، بـدأ ما توقعتـه بقـول جارتهـم التي ما إن رأتهـم بسخريتها المعتادة : 
    _ ياعيني هو لسة ماخرجش من السجن 
    جـزت شمس علي شفتيهـا بغبطة، في حين والدتهـا ضغطت علي يدهـا بهدوء، تكتفهـا بضغطتها لتصمت كعادتهـا، تتحمل وتصبر، ولكن الي متـي ؟! 
    اكمـلت الاخرى وقد كانت نبراتها تحمل الشماتـة المكبوتـة بداخلها : 
    _ واحد قتال قتلة، اكيد مش هيطلع منها
    آآه من كلماتهم التي كانـت كالسهام السامة تنغرز في قلب كلاهما بلا رحمة، تتشنـج جميـع اجزاء جسدهـا بمجرد سماعها لكلماتهـم اليوميـة، حاولت ان تعتادهـا، و دائمًا كان حبها لوالدها يصبح كالمطهـر سرعان ما يمحى كل كلماتهم القاسيـة، ليطبـع وشمًا ابديًا .. وهو الصبـر . 

    **********

    في غرفـة متوسطـة المعيشـة، معظمها من اللون الاحمـر، تطل علي الشـارع، وبها دولاب متوسط من اللون الأسـود، ومكتبة معلقة علي الحائـط مرص بها العديد من الكتـب، هبت جالسة علي الفـراش الصغير بشهقـة عاليـة، تضـع يدهـا علي صدرها لتهدأ انفاسهـا اللاهثـة، تضغـط بقوة عليـه وكأنها رسالة تخبـره فيها ان يهدأ فهذه ليست المرة الأولي، وانما كل مرة يصبح الحلم اسوء وابشـع، الدمـوع متحجرة في عينيها، لا ولن تسمح لها بالحرية ابدًا، اصـدرت انينًا خافتًا متألمًا ليعبر عن مدى الحزن الذى يجيش بصدرها حتى كاد يقتلها مع الوقت، اطبقـت علي شفتيها الورديـة بقوة تعتصرهم لتمنع دموعها من الهطول، فتحت والدتها الباب بسرعة دون ان تقرعـه، واقتربت منها متساءلة بفزع بعدما رأت شحوب وجهها الأسمر وحالتهت المتجمدة تلك : 
    _ خلـوود، مالك يا حبيبتي 
    ظلت صامتـة، ثانية .. اثنان.. ثلاثـة، تزج الهدوء بداخلها لتخفي ذاك الحزن الذى كـاد يفترش علي قسمـات وجهها، ثم قالت بصوت مغلف بالوهن الذى اكتسحهـا : 
    _ نفس الحلم بشخص تانى، انا زهقت 
    زمـت شفتيهـا بعدم رضـا، تعترض وبشدة علي هذه الاحلام التي تقلق نومتها كل ليلة، تنهـدت بعمق قبل ان تردف بهدوء : 
    _ معلش يا حبيبتي معلش، حاسه بيكِ 
    كـان هدوءها عبارة عن قشـرة رقيقـة، من مجرد لمسها ينزاح ليظهر مدى الألم والصـراخ المكبـوت بداخلها، صراخ لو خرج منها لأصـاب اذن كل من سمعه من شدته، هـزت رأسها نافيـة ولم تنظـر لوالدتها، اكتفـت بالهمس المسموع بصعوبة : 
    _ لا، محدش حاسس بيا يا امى حتى انتِ 
    عضـت " كريمة " علي شفتهـا السفلية بحـزن، ابنتهـا وزهرتهـا المتفتحة تراها تذبل كل يومًا عن ذى قبل، الي متي ستنتظـر، حتي تراها ذبلت كليًا وتصبح جسـد يزجـه القدر بلا روح ولا هدف !! 
    نظـرت لعينيها السوداء التي كسـتها الدموع حتي اعطتها لمعة ملتهبة زادت من سوادها المظلـم كحلكة الليل، ثم استطردت بلـوم : 
    _ ياما قولتلك نروح للشيخ حافظ يمكن يكون فيكِ حاجة وانتِ مش عايزة تسمعى كلامى ابدًا 
    كلماتـها عادت تجـرح فيها دون قصد من جديـد، من كثرة النقاش في هذا الموضوع اصبحت تشعر ان قواهـا خارت، تكفيها للعيش فقط، أعلنت قسمـات وجهها ما يدور بخواطـرها، لتتـابع والدتها بحنان : 
    _ ربنا يريح قلبك ويهديكِ يا حبيبتي 
    لم ترفـع ناظريها عن الأرضية وكأنها تبحث عن شيئً ما وردد لسانها تلقائيًا : 
    _ يااارب يا امي، انا محتاجة الدعوة دى اوى اوى 
    أقتـربت منها تحتضنـها بين ذراعيهـا، تطوقها بقـوة، لتختبئ زهرتها في حصـن منيـع لحمايتهـا، تريـد التقلص لتتوغل لداخلها وتمحو كل الأحلام هذه !! 
    فجأة ابتعدت خلود وسرعان ما تبدلت نظراتهـا للهلـع، ومن ثم قالت بقلق : 
    _ انا لازم اروح الحقــه 
    حالتها تلك ونظراتها تكفلت بإيصـال مقصدها علي الفور لوالدتها التي هبت واقفـة وأجفلـت وهي تهز رأسها بأعتراض شديـد، ثم قالت بجدية : 
    _ مستحييل اسيبك تروحـي 
    نهضـت متجهة لدولابها وبدأت تخـرج ملابسهـا بسرعة، كالتي توقف عقلها عن التفكيـر في اى شيئ سوى انقـاذ الضحية القادمـة، وجههـا واجـم، تكاد تختلع الرف بيدها وهي تخرج منه الملابس بسرعة، تقلص شعورها بالخجل من والدتهـا، وبدأت تبـدل ملابسها، انتهت ثم رمقـت والدتها بجدية يشوبها الحدة بهدف تغيير موقف والدتها الصارم : 
    _ محدش هيمنعني يا أمي 
    كـانت والدتها تطالعهـا بذهـول، وكأنها ليست ابنتهـا بتاتًا بل جزء منفصل عنها، جزء مختلف بكل جوانبـه، عينيها السوداء توحـي بأنذار الخطـر الذى سيهب بوجه خلود حتمًا، أستـدركت نفسها وعادت تنظر لها بحدة وقالت : 
    _ وانا مش هأنزلك غير علي جثتـي .. ! 

    **********

    كـانـت تقـف امام الشرفـة المطلة علي الحديقـة الخضراء، تتطلع علي الاوراق اللامعة بفعل اشعة الشمـس، يُوضـح إنعكاس اشعتها في عينيها الزيتونيـة، عقصـت خصلاتهـا خلف اذنـها التي تطايـرت مع نسمات الهواء الهادئـة، تمتلىء ملابسها الضيقـة بجسدها الثميـن، تعطيه ظهرها بقامتها القصيرة، من يراها لا يصدق انها في الخمسـون من عمرها، عادت تتأفف بملل وهي تستمـع لمحاضرة زوجهـا التهذيبية اليوميـة، اعتادتها وملت منها، ألم يشعر ان مفعولها اصبح معدوم لديها ؟! .. ام انه يكابـر بمحاولات عديدة علها يكن لها تأثير واضح في مرة من المـرات من اجـل الوصول لمسعـاه، اولاده فقط، مالك .. زينة، قرة عينـه، قالت بضجر ولم تنظر له : 
    _ يوووه، انا زهقت يا جمال، كل يوم محاضرة، انا ملييييت 
    بالفعل استنفذت كل الفـرص لديـه، خطواتـه شبه الراكضة نحوها عبرت عن غضبـه الجامح الذى اجتاحـه، شعرت كما لو انه ثـور هائـج يركض باتجاهها، قبضتـه القوية علي ذراعها الأبيض جعلتها تتأوه بألم : 
    _ آآآه ايدى يا جمال سيبني 
    لم يتركـها وانما ظل يضغط اكثـر، كلماتها التي من المفترض ان تهدأ من روعـه تجعله يثور ويثور اكثر، الي متي سيظل هكذا؟ الي متي سيحاول ترميم علاقتهـا بولديهـا هكذا ؟! 
    زمجـر فيه بغضب وحدة رغم قوتهم إلا انهم لم يعبـروا عن ولو ربع ما يجيش بصـدره من عواصف : 
    _ هتفضلي كدة لحد امتي فهميني، انتِ استحالة تكونى ام استحالة 
    استطـاعت بمهـارة انتشـال الألم من خلجات وجهها، لترسـم السخرية التي باتت معتـادة منها، وغمغمت بتهكم : 
    _ اية ده بجد، وده اكتشفته امتي ؟ 
    سمعت فقط صـوت انفاسـه اللاهثـة، تعلم بمقـدار جهده للسيطرة علي نفسـه حتى لا يرتكب جريمـة، ولكنها تستغل ذلك .. 
    باتت الحدة تزداد جلية في نبرتها اللوامة :
    _ قولتلك ماتجيش تلومني بعد كل السنين دى، انت اكتر واحد عارف انك السبب 
    اصـدر انينًا خافتًا، يعلم انه السبب الرئيسي في انقطـاع حبال الأمومة والحنان بينها وبين ابناؤوه، ولكن كل متهم يُجازى بفترة ويعود للحرية، ولكنه من الواضح ان فترته كالسراب لا نهاية لها ابدًا !! 
    قال بصوت اشبـه للهمس : 
    _ ارحمينى بقا انا تعبت، لحد امتى هدفع التمن، طب بلاش عشانى عشان ولادنا، ذنبهم اية يدفعوا التمن 
    هى نفسها لا تعلم اجابـة هذا السؤال، ولكن ما هى متيقنـة منه بعض الشيئ انها تنتقم من نفسها قبل اى شخص .. 
    _ بردو خنـاق !! ربنا يجيرنـا بصراحة 
    هتـف بها شـاب في العشرينـات من عمره، قوامـه العريض يعطيه مظهر رجولى جذاب، بجوار ملامحـه التي باتت كالطريق المسحور تسحر كل من يسير ويدقق فيها، عينـاه البنيـة تخفي وميض ألم يصعب علي عالم في قراءة العيون معرفته، ينـزل علي درجـات السلم بخطى متاهفته، بعينيه نظـرات يفترض أن تؤلمهم، زفـر " جمال " بقوة قبل ان يجيبـه بأبتسامة صفراء امل ان تخفـي الغضب : 
    _ لا يا مالك يا حبيبي، احنا كنا بنتكلم عادى بنتناقش يعني 
    زم شفتـاه بسخريـة، يـرى بوضوح ما يحاولوا هم اخفـاؤوه، تتكفل اصواتهم العالية بفهـمه لكل شيئ، واحيانًا يفقدوا السيطرة علي اعصابهم فيزول ذاك الغطـاء الهادئ، ليحل محلـه شرارات غاضبـة كارهة، بمجـرد رؤيتهم يـرى صمتهم، وكأنه اتفـاق بينهم، ولكن.. يرى تصرفـات والدته التي باتت واضحة كعيـن الشمـس، اقترب منهم اكثر حتى اصبح امامهم يطالعهم بهيئتـه الساخرة، ثم جلي الجمود في نبراتـه : 
    _ انا رايـح شقة المعادى، مابقتش قادر اقعد هنا اكتـر 
    لمـس ولده لهجة الامر في نبرتـه، وكأن الأدوار تبدلت ليفعل ما شاء ويخبرهـم فقط، وهم يخشونـه كطفل مرتعد من والـده، ولكن يختتم تفكيره بالنهايـة بأنـه من فعل ذلك لا غيـره، وبصرامـة حاول جعلها تتوغـل لهجتـه : 
    _ بس ياريت مايبقاش فيها صحابك الصيع دول وخمرة وبنـات ! 
    ضحـك بسخريـة، كلماتـه يلقيها بصرامة وكأنه يخشي سقوطه من حافـة الهاويـة، ولكن .. يظل فاقد الشيئ لا يعطيـه، كيف يريـده ان يصبح هكذا وهو من الاساس لم يكن هكذا .. !؟ 
    اومـأ ثم استـدار وغادر علي عقبيـه تاركًا اياهم يعضـوا علي شفتيـهم ندمًا . 

    ********

    تحـت اضـواء الشمـس الحـارقة، تقريبًا في الصحراء، منطقـة مهجورة، اذا القـيت بسن رفيـع تسمـع صوتـه، او نبيـح الكلاب ولو صباحًا، امام سيـارة سـوداء كبيـرة فـي اخر المنطقـة، صـدح صوتـه المتساءل بأختنـاق : 
    _ يعني ملاقتش غير المكان ده 
    سألـها بنبـرة ظهر فيها الجـزع والملل، بجسـد لم يعتـاد علي هذه الشمس فربما تأكـل من كثرتهـا، وبدلتـه السوداء التي يرتديها تمتص الشمس وكأنها قاصدة تعذيبـه ليس إلا !! 
    نظـر له الواقـف بجواره امام السيارة وهو يرمقـه بنظرات حانقـة مستهانـة، لم يستطـع اخفاؤوها من عينيه السوداء ولو انه يعلم بمقدار خطورة ذلك، ثم قال بنـزق : 
    _ ما انت الي قولت لى مكان مقطوع يا ريس
    اومـأ الاخـر، ثم ارتكـز بيداه علي السيـارة، ولاحت بعينـاه سحابـة غامضـة، قبل ان يستطـرد بجديـة معتادة منه : 
    _ انت عارف طبعًا انا جايبك هنا لية ؟ 
    اومـأ بتأكيـد، فقد أصبح هذا الموضوع محور حياتهـم، مهما يتلفتـوا يعودوا له من جديـد، اصبح كالسلاسل الحديدة الخانقة تختنقهم كلما ارادوا الأرتيـاح .. ! 
    تنـهد تنهيـدة خرجـت من اعماقه ثم تـابع بهدوء حذر : 
    _ لسة معرفتوش مكانها ؟ 
    هـز رأسه نافيًا، هـزة جعلت الاخـر يرغب في الاطاحـة برأسه في نفس اللحظة من شـدة غضبـه، تطـايرت شرارات سوداء غاضبة مشتعلة من عينيه وهمس بنبرة اشبه لفحيح الافعـي : 
    _ لحد امتى !! 
    عقد حاجبيـه بعدم فهم ونظـر له مستفهمًا، مما دفعـه لإلقـاء اوامـره الحادة : 
    _ لحد امتى يا معتز، انت عارف دى مهمة لينا ازاى، دى الي هتودينا حبل المشنقة او تبعدنا عنه، انت لازم تلاقيها 
    ابتعد عن السيـارة يطالعه بغضب وحنـق حقيقي اظهرتـه ملامحـه التي اشتـدت وتشنجـت، ومن ثم صرخ فيه من دون وعى : 
    _ يعني اعمل اية ياريس، انا مابنامش الليل، لكن بردو مش لاقي حاجة 
    قـال بتحذيـر ألقي الرعـب فى قلبـه بلحظتها : 
    _ في خلال يومين تكون لاقيتها احسنلك 
    صمـت الاخـر بعجـز يتملكه، إن كان يبحث لمدة سنـوات ولم يجدهـا وكأنها اختفـت من الوجـود، يبحث عنها كالقشة في كومة قمح، بينما اعطـاه الاخر طفيف اخر امل بقولـه الخبيث : 
    _ ولو ملاقتهاش يبقي مفيش غير حل واحد بس.... !؟ 

    ************ 

    كـانـت تجـلس "شمس" علي احدى المقاعـد الخشبيـة الصغيرة، بجوار والدتها التى كـانت تكبـح دموعها بصعوبة تعلم هي وحدها مقدارها، تطـالع زوجها الحبيب بهيئتـه المرزية تلك، ذقنـه الطويلة وشعره الذى تختلط به بعض الشعيرات البيضاء، جسده النحيف يوحى بمدى ضعفه وألمـه في هذا المكان القـاتم، اما عنها هى فلا حاجـة لسؤال تعلم اجابتـه بأتقـان، توغلها الألم بكثرة حتي اعتادتـه، فما المانع ان ازداد قليلاً وهى ترى اعز شخص لديها هكذا !؟ 
    _ ازيـك يا ابو شمـس عامل اية ؟ 
    سـؤال احمق حقًا، يشوبـه الاستنكـار، أنفلت لسانها ليسأله دون الاذن منها، كيف تسأله حـقًا وهي ترى الاجابـة المريرة بعينيها !؟ 
    ابتسامة تعتبر متهكمـة ولكن راضيـة بعض الشيئ شقت وجهه، واجابها بخفوت : 
    _ الحمدلله 
    سرعـان ما قالت شمـس بأشتيـاق حقيقى : 
    _ وحشتنى اوى يا بابا، اوى اوى 
    قالتـها بأشتيـاق لا تعلم تأثيـره علي والدها، الأشتيـاق انتقل اليه في صـورة كسرة وألم، تعذبـه بكلماتها كل مرة دون أن تشعر، قال بهدوء يعكس ما يكمن بداخله : 
    _ وانتِ اكتر يا حبيبة بابا 
    تنهـدت كريمـة بقوة قبل أن تسألـه سؤال كل زيارة حمقـاء : 
    _ بردو مش عايزنا نقول للمحامى يرفع النقد في الحكم ؟ 
    هـز رأسه نافيًا ببساطة، بأبتسامة كاذبة لم يصعب عليهم تفسيرهـا، هو بعلم سوء حالتهم الماديـة، سيأتى بملأ ارادتـه ويزيد من مشكلاتهم وهو ليس معهم !!؟ 
    _ بابا ارجوك طب حتى قولنا اية الي حصل، احكى لنا ماتسيبناش كدة
    قالتهـا شمس برجـاء حقيقي حـار، ولكن اعماقهـا هى من تطلبته وبشدة، ترغـب في المعرفة لتمدها بالطاقة اللازمة للمواجهـة، ولكن بالطبـع كالعادة لم تلقي سوى الرد بجديـة : 
    _ قولت لك يا شمس مش هأقول لحد حاجة، مش هاعرضكم للخطر بأيدى، لو ربنا كتب لى اخرج واتكلم ساعتها بس هتكلم وبقوة 
    تنهدت تنهيدة طويلة حارة تحمل بطياتها الكثير والكثير، كانـت تعلم انه لن يخبرهم بأى شيئ كما قال، ولكنه شعورها انه يتحمل ذنب لم يرتكبـه يخنقها كل فترة اكثر من ذى قبل، كلما تريد تفكك الخيوط لتبدأ بحلها تشعر بها تزداد تعقدًا اكثر وكأنها تعانـدها.. ! 
    _ يلا الزيارة انتهـت يا اساتذة 
    جملة قالها العسكرى بجدية وبعض من الهدوء ولكنها كان لها اثر كبير في واقعهم الملموس، قطـع اخر امل لهم فى المعرفة من دون شعور بذلك .. 

    **********

    بعد فتـرة كـانت "شمس" تسيـر بمفردهـا تحمل الحقائـب الثقيلة التي يملؤوها الطعام و التي تركـت اثرًا واضحًا على اصابـع يدها البيضـاء، تناثرت خصلاتها السوداء من اسفل حجابهـا من دون ارادةً منها، كانت تسير بخطوات مسرعة قدر الإمكان، جبينهـا مصبب بالعرق، لا ترغـب في سمـاع اى كلمة من اى شخص قد تجعله ينـدم لأنه قالها، بالرغم من انها قطـة، ولكن قطة شرسـة وجدًا، اسمها يتناقض تمامًا مع الشمس الحقيقية، كم تشعر انها تكره اسمها !! 
    ربمـا لأن هذه الشمس لا ترغب ان تأتي فى جوف حياتها وتنيـره ولو لمدة قصيرة 
    دلفـت الي باب العمارة الكبيرة، وما إن خطت قدمها داخلها حتي وجـدت يدًا قويـة تطـبق علي خصرها بقوة جعلتها تصرخ من الألم قبـل الفـزع و ..... 

    **********


    الفصل الثانى : 

    صرخـة مدوية أطلقتهـا من بين شفتيها المرتعشتيـن بهلـع وألم من قبضتـه الحديديـة حول خصرهـا، رائحتـه المقـززة التى تكرهها تكفلـت بمعرفتهـا من هو، إلتفتت بسرعة تجاهد فى إبعـاده عنها، وكأنها تجاهد للحصول على الحريـة من قاضى فاسـد .. ظالـم .. متجبر، ظـلت تلهـث لدقيقتـان تحـاول السيطـرة علي حالة الهلع التـى سيطـرت عليها حتى لا تفتح له الطريق لما اراد، وصاحت فيه بجـزع حقيقي :
    _ انت مجنـون، كم مرة اقولك بطل حركاتك دى بقا انت مابتزهـقش 
    كـان يقف بهدوء مفتعـل، وكل خلية من جسـده ترتعـش من إقتـرابه منها لهذا الحـد، لا يـدرى ماذا يجيش بصدره تحديدًا عندما يراهـا، ولكن ماهو متأكد منه ان قلبـه يتقافـز حماسًا للحصول عليها، ثـبت ناظريـه علي عينيها الرماديـة بنظرات ذائبـة، ثم اجابـها بمحاولة للهدوء : 
    _ مجنون بيكِ يا شمس، مش عارف امتـى هتحسي بيا بقا 
    حديثـه يخنقهـا رويدًا رويدًا، يكبلها بعشق لم ترغب به يومًا، ظهـرت اشباح التقـزز علي قسمَات وجههـا الأبيض، ومن ثم غمغمت بضيق : 
    _ مش هحس ومش عايزة أحس، قولتلك ارحمنـى بقا انت ابن خالتى وبس 
    أختـفي بريـق عينـاه اللامـع المشتـاق، ليجتاحها نظرات مشتعلة بفعل كلماتهـا الحادة، التى باتت تؤلمه وتنغزه في قلبه دون رحمة، ثم نظـر في المرآة الموضوعة على الحائـط الكبير، ينظر علي جسـده المتوسط، يطالـع هيئتـه الرجولية بنظرات متحسرة، ينظر لملامحـه الهادئة والحادة في آنٍ واحد وكأنه يسألها بجنون 
    " لما لا تجذبيهـا انـتِ لما !؟ " 
    الأجابـة كانت من شمـس، التي باتت تعيـد له نفس الكلمـة وكأن لسانها اصبح آلي يردد تلك الجملة : 
    _ انا مش رفضـاك لشكلك او مش هقبل بيك بردو لشكلك، بس انا عمرى ما هحبك، انت مجرد ابن خالتـى بس 
    إلتفتت لها في لمح البصر يمسـك بيدها التي ارتعشت من مسكتـه المقززة كالوبـاء، وراح يترجاهـا وهو محدق بها : 
    _ طب ادينـي فرصة وانا هتغير، هبطل اى حاجة بتضايقك، خمرة او بنات او اى حاجة، بس كونى ليـا 
    جهـر القلـب بأعتـراض شديد، اعتراض علي حاكم مستبد يرغب في افتراض نفسـه جبرًا عليه، هـزة نافية صارخـة من رأسهـا جعلتـه يحدجـها بقوة وكأنما لا يرى الرفض، فقالـت بجدية : 
    _ صعب اوى يا يحيى الي انت بتقوله ده، انا مش بأفكـر فى اى حاجة من دى دلوقتِ، ياريت نفضل ولاد خالة بس 
    ولا يسمـع ايضًا الرفـض، أقتـرب منها متعمدًا اثـارة توترهـا، يثيـره هيئتها الحمراء من الخجل، وإنتفاضة جسدهـا كالثعبان الذى لدغهـا، ولما لا يذقيهـا من نفس الكأس ألا وهو التوتر قليلاً، ثم قال بهمسـات حطمت جديتها لأشـلاء صغيرة : 
    _ بس هتفكـرى، اوعـدك يا شمس هتفكـرى وهتفكرى كتيير، وهتجيلي بأرادتـك 
    اختفـت الدماء هربًا بهلع من وجههـا، وتمنت الهرب كحبـات الدماء بسرعة، تحاملت علي نفسها وهى تسأله بخوف : 
    _ قصدك اية يا يحيى ؟ 
    إبتعـد عنها " يحيى" وقد أصاب سهمه ما اراد تمامًا، لينظر لهيئتها المبعثرة بأستمتـاع يتشبعـه بجدارة : 
    _ انتِ فاهمـة قصدى كويس ولو مش فاهمة يبقي خليها مفاجأة 
    إبتلعـت ريقهـا الذى جف، وحاولت جمـع شتـات شجعاتها التي بعثـرت بفعل ريـاح تهديده وهى تقول : 
    _ انت متقدرش تعملى حاجة اصلاً 
    تقـوس فمـه بأبتسامة ساخرة مستفـزة، تعبر لها عن مدى عراهـا امامـه، ثم اومأ بتهكم : 
    _ هنشوف يا بنت خالتى 
    ثم استـدار وغادر على عقبيـه، مهما تبنى جدار امام جدار، بثقب خبثـه ولؤمـه يراها على الفـور، ليهد كل ما بنتـه في ثوانٍ معدودة .. 

    ******

    يتجسـد كل شخـص امامهـا كحبـة لؤلؤ رقيقـة هادئـة، لتقترب عاصفـة قويـة وتهدمهـا، لتصبح قطع صغيرة متناثـرة، وتركض هى لمحاولة لعودتهم كما كانـوا، ولكن من الممكن ان نقل للماضي .. هيـا عـد ؟! ، ام انه لا يعود بأكملـه بل شظايا مؤلمـة منه فقط ليس إلا !! 
    نظراتـها وحدها لا تكفـي للتعبير عن مدى عجزهـا.. وحزنهـا، ليس كل من يراها يستطيع إبعـاد ذاك الغلاف الهادئ عنها، أخفـت دموعها بصعوبـة، تكاد تشعر بنهر من الدموع الساخنة يتناثر علي وجنتيها من شدتـه، وقالت بصوت مهزوز : 
    _ حرام عليكِ يا أمى، كان ممكن أنقـذه 
    هـزت رأسهـا بأعتراض شديد تلقائيًا، عاطفة الأمومة هى المسيطرة الان فقط، ثم اردفـت بحزم : 
    _ مش هتروحى يا خلود، انا مش مستغنية عنك يا حبيبتي 
    خـارت قواهـا بأكملها وحان وقـت الاستسلام، فتحت الابـواب وأعلنـت راية الأستسلام، لتقع امام "عبير" فتاة هزيلة اهلكها ماضي مؤلم، وصرخت فيها من دون وعى : 
    _ انا مش هنتحررر يا امى افهمى 
    من يغفر لها وكان مثل الجدار الذى يعزل نار غضبها عنها ما هو إلا معرفتها بحالتها النفسية، تجـز على اسنانـها بقوة لتكبح غضبها بداخلها، ثم تابعت بصوت آمـر :
    _ قولت مش هتنـزلى، هى كلمة واحدة 
    إبتلعت ريقهـا بإزدراء، وتابعت دموعها الهطـول بغزارة، نظـرت لها نظرة تفهم مقصدهـا جيدًا، نظرة دائمًا ما تلعب دورهـا بأتقـان، ثم تابعت مترجيـة : 
    _ ارجوكِ يا امى سيبني اعمل حاجة واحدة أقف بيها في وش النـاس واقول لهم ده مش ذنبـي انهم بيموتوا .. ! 
    تأففت والدتهـا وابتعدت بعينيها عن مفعول عينيها السحرى الذى يخدرها في كل مرة، ثم قـالت هادئـة : 
    _ عشان تنقذيـه أفرض بعيد الشر حصل لك انتِ حاجة، انا هعمل اية ساعتها ؟! 
    اهتـزت رأسها نافيـة تلقائيًا بأعتراض شديد، وراحـت دموعها الساخنة تنهار من جـوف خنقتها داخل عينيها البنية لتتحرر واخيرًا لتحاول التعبير عما يجيش بصدرها من معانـاة بدت ابديـة .. ! 
    ثم سقطـت منهارة علي الأرض، لتستطـرد وسط شهقاتها المميتـة لوالدتها : 
    _ كل ما أروح احاول ألحـق حد، يفتكر إنى انا الي فيا حاجة، الناس بقت بتخاف تقـرب منى لأصحـى تانى يوم اقولهم انتم هيجرالكم حاجة، كل واحد بيرمى كلمة براحتـه ومش واخد باله إنى انسـانة بتحس، انسانة اترمت وسط ذئـاب بتنهش فيها وبس 
    أقتـربت منها تحتضنـها بحنـان، تمنـع دموعها من الهطـول حتى لا تكسر ذاك الجزع الذى تستنـد عليه خلود، أطبقت عليها برفـق وقالت بمرح : 
    _ يلا يا ستي الأستـاذ اخوكِ عايز ياكل مش هيستنى كتير 
    ابتسمـت بخفة من بين دموعهـا ثم نهضت مبتعدة عن والدتها بهدوء، ليتجهوا سويًا للخارج، حيث وجدوا شاب في اوائل الثلاثينـات من عمره، يضـع يده اسفل خده، يجلس علي الكرسي المواجه " للسفرة " وما إن رأهـم حتى قال بملل وضيق مصطنع : 
    _ شكلنا مش هناكل النهاردة عشان ست خلود بقاا 
    ضحكت خلود ومن ثم إقتـربت منها واجابته بهدوء : 
    _ هناكل يا طفس بس اهدى عشان حاسه إنك شوية وهتاكلنا احنا شخصيًا 
    غمغم بضيق مصطنـع : 
    _ اما نشووف بقاا . 
    تنتقـل حياتها دومًا كالأمواج، هادئة حزينة غاضبة، متقلبة غير مستقـرة ابدًا، دائمًا ما تشعر انها ليست المتحكمة في حياتها، ولكن ما يرطب ويهدأ صفو حياتها ولو قليلاً هو اخاها الأكبر الوحيد ووالدتها من بعد والدهـا الراحل " على " .. 

    ********

    كـانت تتوسـط أصدقائهـا السـوء، الحلقة السوداء، في احـدى الملاهى الليلية الشهيـرة، تضع قدم فوق الأخـرى، لتظهر نصف قدمهـا البيضـاء أسفل الشورت القصير الذى ترتديــه، وبالأعلي تيشرت احمر نصف كم،وبالطبـع ملامحها الهادئـة لا تخلو من بعض مساحيق التجميل، وتترك شعرها الأسود ينسـدل علي ظهرهـا، ومن حولها حلقة دائريـة يشكلها بعض الشبـاب والبنات، كـان الضجـر يظهر علي ملامحها ويتشبعها بقوة، اقتـرب منها احد الشبـاب، ذو جسد هزيل، وملابس لا تليق بشيئ للشباب، وشعره يصففه بشكل مضحك، وتنحنح قائلاً بهـدوء : 
    _ مالك يا " زيــنـة " ؟! 
    هـزت رأسهـا نافيـة، مثبتـة عينيها علي اللاشيئ، ثم همست بصوت قاتم : 
    _ مفيش حاجة يا زياد 
    نظـر لها بطـرف عينيـه، ثم أمسـك يدها بقبضتَه السمراء، يعلم بكل ما يجيش بصدرها الان، يحفظ كل مراحلها، ولكن بكل مرحلة يخطط لأستغلالها اسوء استغلال، كل ما يريـده هو أن يتوغل بداخلها بقوة، ليصبح كالدماء التي تسير في شرايينها .. ! 
    مط شفتيـه وقال بضيق مصطنع : 
    _ كدة مش عايزة تحكى لزيزو صديقك ؟ 
    تأففت بملل، سماء ذهنهـا ممتلئة بما يكفيهـا، لا ينقصها ثرثرته هذه الان ! 
    ثم أجابتـه بهدوء حذر بعكس ما بداخلها : 
    _ قرفانـة من كل حاجـة 
    قـرب فمه من أذنيهـا، ليهمس بصوت أشبه لفحيح الأفعـي : 
    _ طب والي يروقلك مزاجك ده 
    _ يروقـه ازاى يعنى !؟ 
    سألتـه مستفهمة بعد أن قطبت جبينها، ليجيبهـا بخبث : 
    _ استنى دقيقة 
    نهض بخفـة متجهًا لمكان ما، وبالطبع سمعت الهمهمـات بسهولة، تعتقـد أن كل من ينظر له نظرة ذات مغزى حقـود وكاره، ولكن .. لتكن نظرتها هى المغلفة بقنـاع الغرور ليس إلا .. 
    تقـدم "زياد " منها يحمل بيـده سيجـارة، ولكن ليست بسيجار عادى، وإنما من يجعلك تغيب بكامل عقلك عن هذه الدنيـا .. 
    مد يـده لها بهدوء، لتعقـد حاجبيها ثم تقول متساءلة بعدم فهم حقيقي :
    _ اية ده بقا، انت عارف إنى بطلتها 
    تنهـد بقـوة قبل أن يتابع بنبرة كسـاها الخبث والاغراء : 
    _ دى هتريـحك من وجع دماغك وهتخليكِ تنسي أهلك شخصيًا 
    نظـرت له بطرف عينيهـا، جزءً ما بداخلها يحذرهـا وجزءً يشجعها على اخذها، ولكن الحبـال المتينة تزجهـا نحو السوء، لتمد يدهـا وتأخذ منه تلك السيجـارة، ثم وضعتها بين شفتيها الحمراء واخذت نفسًا عميقًا غير مبالية بالغـد ابدًا .. 

    *********

    وصل " مالك " امام البنايـة الكبيرة بالمعادى التي بها منزلـه المتوسط، ترجـل من سيارتـه السوداء الكبيـرة، ثم أبعد النظارة عن عينيه البنـية، لتظهر تلك الجوفتين العميقتين الغامضتيـن، تنظران نحو ملجأها الوحيد الذى لم تلمحه منذ فترة كبيرة، سار بخطوات واثقة حتى دلف من باب البنايـة، ثم إتجـه نحو الحارس الذى يجـلس على احدى الكراسي الخشبية وهب منتصبًا حين رأه، وقال بجدية وحذر : 
    _ اهلاً اهلاً يا مالك بيـه 
    عقـد مالك حاجبيـه السوداويـن، ثم قال متساءلاً بحيـرة : 
    _ اية ده امال فين عم صابر ؟! 
    نظـر الحارس للأسفـل، ثم حك ذقنـه بطرف يده، يفكـر في حلاً ما لتلك الأجابـة، نظر له مرة اخرى واجابه بهدوء حذر : 
    _ اصله ساب الشغل يا بيه 
    سأله " مالك " دون تردد : 
    _ لية ساب الشغل يعنـي ؟! 
    توتـر بشـدة، يخشـي سقوطـه في حفـرة ما عميقـة تسلب منه كل شيئ، عمله.. مكانته .. ولربمـا أسرتـه الصغيرة، نظر له بهدوء مصطنـع ومن ثم قال متلعثمًا : 
    _ اصل آآ اصله دخل السجن يا بيه 
    حـدق مالك به بصدمـة، ثم اردف فاغرًا شفتيـه : 
    _ ازاى يعني، ده راجل قمة 
    رفـع كتفيـه بمعنى لا اعلم، ثم غمغم بعدم معرفة مصطنعة : 
    _ منا كنت بقول كدة، بس الله هو اعلم بخلقـه بقا يا ساعت البيه 
    اومـأ مالك بلامبالاة، ثم استـدار وغادر علي عقبيـه، توقف للحظة وإلتفت له يطالعه بنصف عيـن قائلاً : 
    _ ابقي ابعتلي اى حد ينضف الشقة يا عم محمد لو سمحت
    اومـأ موافقـــًا بسرعة، ليغادر مالك بهدوء، في حيـن تنهـد هو بقوة وقال في خواطـره بلوم لشخصـه : 
    _ ربنا يكون معاك يا "صابر" .. ويسامحنى
    أستـدار هو الأخـر وإتجـه نحو الداخـل بهو البنايـة الكبير، ليصل امام منزل شمس الصغير، ثم طرق الباب بهدوء، وبعد ثوانى فتحت والدة شمـس وعلى رأسها حجابها الصغير، لتسأله في هدوء : 
    _ ايوة يا عم محمد خير ؟ 
    اجابـها بهدوء مماثل بل زائـد، مغلف ببعض الأسـف : 
    _ الاستـاذ مالك صاحب الشقة الي فوق عايز حد يطلع ينضف له الشقة، وزى ما انتِ عارفة يا ست كريمة، استاذ محمود صاحب العمارة قال واحدة منكم تبقي تطلع عشان الايجـار وكدة 
    أطـرقت رأسهـا بحـزن، تشعـر بقلبها يتمـزق بمجرد ذكر انها او ابنتهـا سيعملـوا كـ خدم، تشعر انها بداخل غابـة مليئـة بالذئـاب، وبمجرد ان ذهب راعيـهم إلتفـوا حولهم ليهاجموهـم، حتى انحصروا في زاويـة صغيـرة.. وما لبث أن مرت فترة وجيـزة هاجموهم مرة اخرى !! 
    تمتمت بنـبرة حملـت الحزن والأسف والألم معًا في طياتهـا :
    _ حاضر .. حاضر يا عم محمد 
    استـدار ليغــادر محمل شعوره بالأسف نحوهـا، أما كانـت تلك السيدة الفاضلة التي يحترمها كل شخص، الان ستعمل وابنتهـا كخادمـة فقط !! .. يا الهـي كم تدور هذه الدنيـا وتدور حتى تسقطـك في نفس الحفرة التي تخشاها دومًا .. الان نظراتهـا تجعلك تشعر بالشفقـة، نظرة لو ظلت تنظرهـا لشخص ما يعذبها لأسقط من يده كل مقاليـد تعذيبهـا ليتركهـا حـرة !! 
    دلـفـت لأبنتـها الوحيدة، لتجـدها تجلس على الكرسي الخشبي الصغير، تعد الطعـام، نظرت لها دون ظهور اى تعابير، ثم هتفت بهدوء اصطنعته بمهارة : 
    _ شمس، انـا طالعـة انضف شقة الاستاذ الي لسة جاى 
    رفعـت شمس ناظريها لها تطالعهـا بدهشة، وسرعان ما قالت بجدية تلقائيـة : 
    _ لا طبعًا، انتِ عارفة إن انا الي هأطلع مش انتِ يا أمـي
    تنهـدت تنهيـدة حـارة تحمل الكثير والكثـير، ثم اردفـت بقلة حيلة : 
    _ لأ يا شمس مينفعش يا حبيبتي 
    نهضـت مسرعة، ظهـر بريـق لامع في عينيها الرماديـة، بريق ما إن لمحتـه والدتها حتى علمت أن موجـه العنـد لن تـزول إلا أن تفعل ما ارادتـه، فاستطـردت شمس بتصميم : 
    _ لأ انا طالعة، الشقة الي ف اول دور مش كدة ؟ 
    اومأت والدتها مؤكـدة، فتقدمـت شمس وامسكت بحجابها الصغير ترتديـه ومن ثم اتجهت للخارج، لتتجه لمنزل مالك بهدوء دون بت كلمة اخرى .. 

    *******

    في السجـن كـان "صابر" يجلس علي الفراش الصغير الحديدى الموضوع علي الجانـب، بجوار الحائط المتهالك بعض الشيئ، يمدد جسـده الهزيـل عليه وينظر للأعلي بشــرود، نظرات لطالما حاول من حوله أن يفهموهـا ولكن فشلـوا، منذ دخوله السجن وهو كذلك، لم يتفـوه بما يجيش بصدره ولو للحظـات، لدرجة أنه يشعر أن ذات يوم سينفجـر من كثـرة البراكيـن المشتعلة بصدره .. وكثرة الألم الذى بـات لا يشعر به، بمعنى اوضـح قد اعتـاده وانتهى الأمر .. ولكن ليس بسلام اطلاقـــًا .. 
    أقتـرب منه أحد الاشخـاص، في منتصف عمره، ذو وجه هادئ ولكن عليه بعض الندبـات، ينظر له بهدوء، ثم تنحنح قائلاً : 
    _ اية يا عم صابر عامل اية ؟ 
    لم ينظـر له ثم اجابـه بصوت أقـرب للهمس :
    _ الحمدلله رب العالميـن 
    تنهـد الرجـل، ورمقـه بنظرات يعرفهـا جيدًا دون أن يراهـا، يشعر بها تختـرقه لتستكشفه بفضول قاتـل، ولكنه يوقفها عن الحد المناسـب دائمـًا، ثم سألـه الرجل بصوت أجـش : 
    _ انت محكوم عليك كام سنة يا عم صابر 
    _ مؤبــد 
    كلمـة نطـق بها بسهولة، ولكن بعدها شعر أت لسانـه شُـل عن الحركـة، كلمة كلما تذكرهـا كانـت حروفها تقطعه ببرود، تعيـد عليه ما مر منذ سنـوات، تذكره بقيـده الأبدى الذى قيـد به من دون ذنـب، الحديدى .. القاتل الذى لن يتحرر منه ولا يريـد أن يحاول التحرر منه.. قيد علمـه الأستسلام .. والصبر ..
    بينمـا إتسعت حدقتـا عينا الرجل، الذى قال بصدمـة شابت بالتعجب : 
    _ مؤبد وقاعد كدة عادى يا عم صابر ؟ 
    تابـع مبتسمًا ابتسامة منكسرة : 
    _ اديك جاوبت نفسك، " يا عم صابر " يعني انا صابر وراضى بقضـاء ربنا 
    يتعجـب اكثر واكثـر، يتوغل بداخله شعور أنه شخص تافـه .. متعجرف، غير راضٍ بقضـاء حكم عليه لشيئً فعله، بينما الأخر يرضي بحكم علي شيئ من المفترض أنه لم يفعله اسـاسًا، اى بشر هذا ؟! 
    عاد يسألـه بصوت قاتـم : 
    _ انت عملـت اية اصلاً يا حاج ؟ 
    تنهـد صابـر بقوة، ثم نظـر له بنصف عيـن، ثم قـال مشاكسًا برغم كل ما بداخله من همـوم : 
    _ انت هنا ف سجن اية ؟ 
    تنحنح بحـرج واجابه بهدوء : 
    _ قتل 
    رفـع كتفيـه بهدوء بمعنى هذا، حائـط أمـن بناه لحماية ابنته الوحيدة وزوجتـه ولن يهدمه مهما حدث، وإن حاول الجميع كسره سيقاوم كل عضو بداخله بقوة قبل ان يتحرك هو .. 
    بينما استطرد الرجل قاطبًا جبينه : 
    _ طب ازاى قتلت يا عم صابر وانت راجل باينلك عارف ربنا 
    _ الزمـن يابنـي 
    قالهـا بلجهـة امتلأت بالحزن والألم، تجسدوا في هاتان الكلمتـان بكل معانيهم، وكأن هذا الزمن عدوًا له ليهلكه هكذا دون ذنـب مفتعـل !! ، بداخله يحترق بمجرد التذكرة فقط.. لو كان الغضب والحزن لهم رائحـة لكانت فاحت الرائحة منذ زمن .. 
    راح يسأله الرجـل كالقاضي مستفسرًا في قضية ما : 
    _ طب لية ما تدافعش عن نفسك وتعمل نقض وتحكى كل الي حصل يا عم صابر 
    صمت برهه، وإنزلـق لسانه بعفـوية : 
    _ اصل انا سمعت إنك ماقولتش حاجة غير انك ماقتلتش، لكن ما حكيتش اى تفاصيل، ومستغرب بما انك مفروض برئ يبقي ده عبط كدة 
    ابتسـم بخفة علي عفويتـه، ولكن سرعان ما تحطمـت بقولـه الغامض : 
    _ لو اتكلمت هأذيهم، وانا مليش غيرهم، يا إما اخرج انا واتكلم، يا إما اسكت، لكن مش هحاول أأذيهم عشان اطلع انا 
    عقـد حاجبيه ثم اردف بتفكير : 
    _ يااه، هى مشكلة عويصة للدرجة ! 
    اومـأ صابـر بهدوء، ثم نهض قائلاً بصوت هادئ : 
    _ تعالي بقا نساعدهم عشان كدة مش هيأكلونا .. 

    *******

    طـرقـت شمس البـاب عدة مرات بهـدوء، تفــرك يدها بتوتر شديد لمعرفتها أنـه شـاب في اوائـل عمره، عدلت من وضعية طرحتها الصغيرة لتخفـي الشعيرات السوداء المتناثرة اسفل حجابها، مرت ثوانٍ وفتح مالك البـاب، أُصيـب بالدهشة قليلاً لمعرفته أن زوجة الحارس السابق هى من ستقوم بالتنظيف، وليست فتـاة كهذه !؟ .. صمت برهه وظل هكذا يطالعها بأعيـن حادة كالصقـر، إلتمعت بوميض غامض، ولكن سرعـان ما تسللت الأبتسامة له، وانفرج ثغـره ليصبح في شكل خطوط متعرجة حوله، وتحولت نظراته لنظرات لم تفهمها شمس بسبب نظرها للأرضية الرخامية، ليقـول مالك بصوت هادئ ولكن يحمل الخبث في طياتـه : 
    _ هو انتِ بقا الي بعتـك 
    اومـأت شمس مسرعة دون تفكيـر بما ستجلبه لها هذه الهزة الصغيرة، لتنقلب حياتها رأسـًا على عقـب !! 
    رفع الهاتف الذى كان في يـده ليضعه على اذنـه ليتابع بصوت رجولى خشن اثار الرجفة في انحاء جسدها المرهق : 
    _ خلاص يابنى اهى جات
    _ .......... 
    _ اه مع انى مستغرب بس .. 
    صمت برهه ينظر لشمس من اعلاها الي امحص قدميهـا ولم يستطـع إخفـاء نظرات الاعجـاب واللمعة تلك من عينيه ليستطرد بصوت قاتم :
    _ بس اشطا .. يلا سلام انت 
    اغلق ينظر لها ثم تنحنح قائلاً بأبتسامة زادت من القلق الذى كان يتوغل بداخلها رويدًا رويدًا : 
    _ اتفضلي اتفضلي واقفة لية هنا 
    ما إن مدت شمـس قدمها للداخـل حتى وجـدت من يضربهـا بقوة على رأسهـا، جعلتها تسقطت فاقـدة الوعى من دون أن تصرخ حتى، بين ذراعى مالك الذى التقطها علي الفور و....... 

    *********


    الفصل الثـالث : 

    حـدق بالثـلاث اشخـاص الذيـن كانـوا يقفون أمامـه بهيئتـهم الرجولية الضخمة بصدمة دامـت لثوانى فقط، وسرعان ما ابعد شمس عنه لترتطـم بالأرضيـة بقوة، لو كانت متيقظة لكانت صرخت من الألم، وفى لمح البصر كان يخطف العصـا من يد احدهم ويلكمه بقوة، قبل أن يضربه هو على رأسه مثل شمس، ساعدته قواه الجسامنيـة بالطـبع، ظل يتبادل اللكمات والضرب مع الرجليـن، بينما الاخر فـر هاربًا بسرعة لينجـو بنفسه الأهم من اى شيئ الان، سقطـت الاثنين علي الأرضين متأوهيـن من الألم، هبط مالك لمستواهم وامسك برقبـة احدهم، يرمقـه بنظرات دبت الرعب في اوصاله ليرتعد من هيئتـه الغاضبـة وعينيه الحمراوتيـن مثل وجهه من كثرة الإنفعـال، ثم سأله بأنفاس لاهثـة : 
    _ انت ميييين 
    كاد يختنـق، وحاول إبعـاد يده عنه وهو يجيبـه بتعب حقيقي : 
    _ عـ عبد آآ عبدالحميـد 
    حدقـه بقوة وبرقت عينـاه، وراح يسأله مرة اخرى وهو يهـزه : 
    _ عايز منها اييية انطق انت تعرفها اصلاً 
    _ مـ معـرفش معرفهـاش معرفهاش 
    إلتفـت للحظـة للأخـر الذى استغل الفرصة التى قُـدمت له على طـبق من ذهب وركض مسرعًا ليفر من امامهم، نهض مالك ليراه بغضب، في حيـن تحامل الأخر على نفسـه ونهض مسرعًا قدر الامكـان ثم دفع مالك بقوة وركض هو الاخـر .. 
    لم يبالـي مالك واستـدار لشمس التي مازالت فاقــدة الوعى، هبط لمستواها ثم وضـع يــده أسفـل ركبتيهـا والاخرى اسفـل ظهرهـا، ثم إتجـه لداخل المنزل واغلق الباب بقدمـه، وضعها علي الأريكـة المتوسطة الموضوعة في الصالة، ثم نهض واتجه للمطبـخ واخرج الماء من الثلاجـة ثم عاد لها مرة اخرى، سكب بعض قطرات الماء على وجهها وظل يضربها برفق علي وجنتهـا وهو يقول بصوت قلق بعض الشيئ : 
    _ يا انسة ولا يا مدام، فوقي يا انتِ 
    بدأت شمس تفتح جفنيهـا بتثاقل لتشرق شمس عينيها الرماديـة الجذابـة، تشعر بثقل في انحـاء جسدهـا الضعيف، بدأت الصورة توضح امامها الان، في منزل ما، وامامها شـاب .. وبمفردهم !! 
    ما إن وصلتها تلك الكلمة حتى هبت منتصبة بفـزع، اصبح جسدها يرتعش غير مبالية لألم رأسهـا الذى تشعـر به، كل جـزء فيها يرتعد لمجرد التفكير فيما قد حدث او يحدث، رأى الذعـر في عينيها الساحرة بوضـوح، كان ينظر لها بدهشـة، هو لم يفعل شيئ لكل هذا الفـزع، ولكن كيف تفـزع اساسًا وهى .. 
    قطعـت شمس حبل تفكيـره الشارد وهي تتأوه بألم لم تستطع اخفـاؤوه اكثر : 
    _ آآآه انا فين !! 
    رفـع حاجبـه الأيسـر، ثم نظر لها بنصف عين، ونهض فجأة يقول بجدية : 
    _ اية انتِ فقدتى الذاكرة ولا اية ؟! 
    ظلـت تعود للخلف شيئ فشيئ، تشربـت ملامحهَا الخوف .. والجزع، ظل يراقبها بهدوء مخيـف كالفهد الذى يراقـب فريستـه، إبتلعت ريقها بإزدراء، ثم قالت متلعثمة : 
    _ آآ افتـ افتكرت، انا آآ انا .. 
    توقـف يسألها برزانـة : 
    _ انتِ اية ؟ 
    كانـت دقـات قلبها تتسـارع، الى متى ستظل هكذا ترتعد، من كثرة خوفها لا تتذكر انها كانت هادئة سعيدة يومًا، يجتاحها الان شعور بالرغبة في الغثيـان، تشنجـت قسمـات وجهـها قبل أن تجيبه بصوت هامس : 
    _ أنـا شـمـس 
    ضحـك على ارتباكهـا واجابتها، كانت ابتسامتـه جذابة ولكن .. مخيفـة، وكانت تسيطر عليه حالة تعجب لا نهائيـة، كيف تتلعثم وتخجل هكذا !؟ 
    سألها بابتسامة لعــوب : 
    _ مالك يا شمس فيكِ اية خايفة كدة لية، متخافيش بطلت أكل النـاس 
    نظراتـه الغامضـة وكلماته اللعوبـة نشرت الخـوف اكثر بداخلهـا، وكأنها في بحر عميق من الخوف، تحتاج لنجدة ما، ولكنه بأفعاله يدفعها بداخله اكثر واكثر، استدارت بسرعة لتسير بخطوات سريعة، ثم قالت مصطنعة الهدوء: 
    _ انا ماشية، هبقي ابعت لحضرتك حد غيرى 
    أمسـكها من معصمهـا، ليشعر بالقشعريرة التي سارت في جسدهـا، تحت انظاره وجهها يشحب شيئً فشيئ، لمعة عيناها إنذار لأعلان بدأ اندلاع ثورة غاضبة وباكيـة، قربها منه قليلاً، ثم نظـر في عينيها الرمادية، ذاك البحر العميق، الأزرق الرمادى، نظرات اذابـت تماسكها المتبقي في لمح البصـر، لتنغمس هى في عينيه السوداء، و قال بصوت رجولى هامس، ليلعب على اوتارها الحساسة : 
    _ بس انا عايـزك انتِ مش عايز حد تانى 
    أستفاقـت على جملتـه تلك، جملتـه التى حملت الرغبة في طياتهـا، كرهت كلمة " الرغبـة " بسبب ذاك، دموعها على وشك الانهمار، لن تتماسك بعد الان .. ! 
    نقطـة ومن بداية السطر .. مقاومة، كل خلية بداخلها نهرتها لتقاوم سريعًا، وجدت نفسها تدفعه بكامل قواها، شعرت بطاقة تخترقها لا اراديــًا .. 
    بينما جـز هو على اسنانـه بغيظ، تحاول الفرار من الامتزاج بتلك الامواج وهى منها اساسًا، تحولت نظرات الهائمـة لنظرات جعلتها تشعر انها ستفقـد وعيها الان !! 
    أمسكهـا من معصمهـا بقوة، ولم يبالي بأعتراضها، ثم زمجر فيها بحدة : 
    _ فيه اية، انتِ مش جاية هنا عشان شغلك، ماتشتغلي بقا يلا
    تنسـات خوفها، وتلاشي مع الريـاح، ليتجسـد امامها معاناة والدتهـا، لتقـف امامه وكأنها بلا روح، إما الغرق .. او التمزق لأشـلاء يصعب اعادتها !؟ 
    قالـت بصوت مهزوز لم يراعيه ابدًا : 
    _ ماشي، عن اذنك 
    استـدارت لتتجـه للداخـل ولكن وجـدت ايدى من حديد قاتل امسكت بيدها البيضاء الصغيرة ليمتزج لونهما سويــًا، أجفلت وهى تغمغم بتوتر : 
    _ لو سمحت سيب ايدى، هأدخل اشوف شغلى 
    عقد حاجبيه متساءلاً، ثم بدأ الانذار مرة اخرى بأقترابـه، ليستطرد بخبث ظهر بوضوح فى نبراته : 
    _ ماهو انا شغلك .. صح 
    هـزت رأسهـا نافيـة بسرعة ثم استدارت وفي لمح البصر كانت تركض للخارج بخطوات متلعثمة، بقلب ظنته يدق بصوت عالٍ مسموع، بأعيـن تعاهدت ألا تسمح للانهار بالانهمار علي تلك الوجنتين الساخنتيـن.. 
    بينما وقـف هو مدهوشـًا لما يحدث، رعشتهـا .. خوفها .. توترها وتلعثمها، اشياء توحى وتدفعه للظـن انها لا تفهم او انه ليس كذلك، هناك حلقة مفقـودة !! 
    قال ذلك لنفسـه قبل أن يستدير ويمسك بهاتفه من جيبـه ثم اتصل بشخص ما وما ان اتاه صوته الرجولى حتى قال جادًا : 
    _ انت فين ؟ 
    _ ف الكافيه الي بنقعد عليه دايمًا 
    _ معاك حد ؟ 
    _ لا لوحدى 
    _ طب انا جايلك مسافة السكة 
    _ في حاجة ولا اية 
    _ اما اجي لك هتفهم 
    _ ماشي مستنيك 
    _ سلام 
    _ سلام 
    اغلق الهاتـف ووضعه في جيبـه مرة اخرى، لم يتـركه التفكير .. والشك ولو للحظـة، يداهمـه بقوة جعلته يضع يداه علي رأسها ويضغط بقوة عله يستطيع ايقاف سيل التفكير ليهـدأ قليلاً .. 

    *********

    هـروب .. كلمة من اربـع حروف كلما تذكرتها يجتاحها شعور بالضـعف والخزى من نفسها، نعم .. تهرب وتخشي المواجهة، تخشي الظهور امام اى شخص يخترقها بنظراته فتنهـار، كالزهرة التي ان خرجت للشمس الحارة ستذبل .. وتموت !! 
    اغلقـت اهدابهـا الكثيفـة السـوداء، تهدأ نفسها من كم المشاعر التى اجتاحتها وتجتاحها يوميًا بلا رحمة للراحة !! 
    ثم نهضـت ووقفـت امام الدولاب لتختار ما سترتديـه، اخرجت بنطال جينز واسع الي حدًا ما وتيشرت كم أصفر، وطرحة صغيرة من اللون الاصفر والبرتقالي المشجّر .. 
    ارتـدت ملابسها على عجلة، واستعدت للذهاب لعملهـا، حيث تعمل كـمهندسة ديكـور فى احدى الشركات الخاصة، انتهـت ثم خرجـت متجهة للبَاب، لتقابل والدتها التى خرجت من المطبـخ لتوها، وما إن رأتها حتى قـالت بريـبة : 
    _ رايحة فين يا حبيبتي 
    تنهـدت خلود بقوة، ثم نظرت لها بهدوء، ومن ثم اجابتـه بنبرة تحمل بعض التهكم :
    _ رايحة شغلى يا ماما، ولا انا خلاص هأقعد فى البيت 
    هـز رأسهـا نافيـة بسرعة، هى تخشـي عليها من اى شخص قد يجعلها تموت بالبطيئ بفعل كلماتـه المميتة، ثم هتفت مبررة : 
    _ لا ابدًا يا حبيبتي، انا بس آآ 
    تقـوس فمها بأبتسامة ساخرة، قد فهمت كل شيئ من نظراتها، تـوّد حبسها خلف جدار عازل لتمنـع تلك الهتافات السوداء من إطالتهـا، ولكنها قد قررت التصدى لها ومواجتها، وإن كانت ستجرحها بأشواكهـا، قاطعتهـا قائلة بحزم : 
    _ انا هنزل يا امى وهعيش حياتى عادى 
    ارتسـم ثغرهـا بأبتسامة باهتـة تعبر عن كم المخاوف التى تساورها، ثم تمتمت بخفـوت : 
    _ ربنا يحفـظك يا حبيبتي 
    بادلتهـا الابتسامـة الهادئة مرددة : 
    _ يارب 
    استـدارت واتجهـت للخـارج، ثم استقلت احدى سيارات الاجـرة متجهة للشركـة، أفكَارها متخبطة بالكثير وسماء ذهنها ممتلئة بشكل متعب، تحاول إعداد وجمع شتات نفسها لتقبل اى كلمة ستسمعها بعد قليل .. 
    وصلـت الشركـة، كبيرة فاهرة، الحارس امام الباب، ذات طابـع جديد ثرى، اخذت نفسًا عميقــًا ثم دلفت متجهة لمكتبهـا، ما إن دلفت الي الحجرة الكبيرة الموضوع بها اكثر من مكتب للموظفيـن حتى بدأت الهمهـات تعلو رويدًا رويدًا .. 
    لم تعطيها اى اهتمام، بل اقتربت وجلست على كرسيها الجلدى الكبير لتملأ نصفه بكتفيها الصغيريـن، سمعت احدى الكلمات من شخص تعرفه جيدًا تقصدها هى : 
    _ رجعت تانى، احنا شكلنا مش هانخلص من اللعنة دى خالص 
    لتتابعها الاخرى متهكمة : 
    _ اه، ربنا يستر بقا مايجراش لنا حاجة 
    عـادت ترمقهـا بنظرات كارهه وبخوف مصطنع : 
    _ اه ياختى احسن تيجى بكرة تقول لى انتِ هيحصلك حاجة وفعلاً يحصل لى، انا مُش ناقصة بصراحة 
    ظـنت انها ستنهـض وتكيل لهم الكلمات اطنانًا، ولكنها صمتت، جـزت على اسنانهـا بغيـظ تكبـح دموعها بصعوبـة، تغلق ابوابهـا وتمنـع الرد من الطلوع، ولكن .. السبب مجهـول .. 
    بعد ثـوان اتـي لها المنقـذ في صورة زميل لها، يطالعها بنظرات تود إختلاعها من عيناه السوداء .. الشفقـة، تكرهها وبشدة، نظراتـه تنغر في جرحها بقوة، تشعر بالألم يتراكم ويتراكم حتى اصبح صعب عليها تجاوزه، بينما قال هو هادئ : 
    _ مستر درويش عايزك يا انسة خلود 
    صدرت منها ايماءة صغيرة اكدت له انها مازالت على قيد الحيـاة، لتنهض بخطوات متعثـرة، تخشـي السقوط امامهم فيتأكدوا من سقوطها الابدى في الحياة .. 
    وصـلت امام مكتـب " المدير " اخذت نفسًا عميقــًا تملأ رئتيها بالهواء النقـي، ثم طرقت الباب ودلفـت بهدوء، لتراه يوليها ظهره، بهيئتـه السمينة، وبدلته المهندمة، تعبر عن الوقـار والهيبـة، تنحنحت قائلة بهدوء حذر : 
    _ احم ، مستر درويش حضرتك طلبتنى ؟ 
    اومـأ دون أن ينظـر لها، ثم بعد ثوان استدار لها عاقدًا ساعديه امام صدره العريض، ينظر لها نظرات منعكسة على مرآتهـا المكسورة بالجمود .. والشفقـة، ثم تفـوه بجملة واحدة كان لها اثرًا واضحًا علي تلك المسكينة : 
    _ الناس اشتكت منك، إما تروحى للدكتور النفسي الخاص بالشركة، إما تعتبرى نفسك مرفودة يا استاذة !!! 

    ******** 

    كـان يقفـوا أمامـه في شارع خالٍ من السكـان كبير، جسـدهم يرتعش ببعض الخوف من حكم ذاك القاضي المتجبر، يطرقوا رأسهم في الأرض بخزى، بينمـا هو صدره يعلو ويهبط من فرط إنفعالـه، يحدق بهم بشرارات غاضبة حارقة تجتاح عينيه السواوتيـن، هيئتـه العريضـة تجعل من يراه يخشـاه دون سبب محدد، في الثلاثـون من عمره، ملابسه انيقـة مهندمة، رفـع يـده السمراء الخشنة عاليًا لتسقط علي جسـد احدهـم الذى صرخ متأوهًا من الألم، نظر له بشماتـه وقال بحدة : 
    _ اية يا بهايم حتت واد يعمل فيكوا كدة !
    غمغم بضيق واضح ولم ينظر له : 
    _ ده مش اى واد يا باشا 
    زاد احمرار وجهه غضبًا، شعر ان خلاياه ستنفجر من الغضب، لا يقبل التحدى من اى شخص، ما ان كان تحداه وتخطاه وفاز عليه بكل سهولة، ليس علي شخصًا مثل القبول والصمت هكذا، بل سيدلف حرب بملئ ارادتـه .. وحربه الفوز فقط هو المباح فيهـا وليس غيره ! 
    زجـره بعينـاه وتابع بسخرية : 
    _ وانتم تلاتة وماقدرتوش عليه، جاتكم نيلة يا بهايـم 
    تهدجـت انفاسـه المتلاحقة، واجابه لاهثًا وهو يتحسس انفـه التي تنزف : 
    _ ده انا كنت هموت فـ ايده يا باشا، ده شكله بيلعب مصارعة 
    لم يرد عليه وانما اتـاه صوته متساءلاً بخشونة : 
    _ اية الي ودااا البت عنده اصلاً ؟ 
    رفـع كتفه كعلامة معبرة عن جهلـه، ليصدح صوته محذرًا : 
    _ ف خلال 24 ساعة عايز اعرف كل حاجة عن الواد ده واية علاقته بالبت، والا نهايتكوا هتكون علي ايـدى 
    صمت لبرهه يتفرس ملامحهم المذعورة، ليتشـدق بما اثار الرجفة في اوصالهم : 
    _ وانتم عارفين .. انا ماعنديش ياما ارحمينى !! 
    اومـأوا مسرعين، ليتابع قوله الامر : 
    _ عايز البت بأى طريقة، بس ابقوا خدوا رجالة بجد معاكم 
    _ حاضر ..حاضر يا طه بيه بس اهدى انت 
    قالهـا احدهم محاولاً تهدأتـه، بينما افتـرش الشر على ملامحه الصارمة، ثم قـال بتوعد شرس لنفسـه : 
    _ هوصل للى انا عاوزه، مش على اخر الزمن حتت واد زى ده هيقف ف وشي 
    أشـار لهم ان يذهبـوا، لينطلقوا من امامه مسرعين يتنفسوا الصعداء حمدًا لله انهم مازالوا بخير، بينما انطلق هو الاخر كالسهم من احدى الأقـواس متجهـًا لمنزله لسببًا ما ..

    ********

    في احدى الكافيهـات الكبيرة, والمشهورة، جلس هو على احدى المنضدات، وعلى احدى الكراسي البلاستيكية، يملأه بمنكبيـه العريضين، ينعـش نفسه بالهواء الطلق الذى يشعر انه يجتاحها لينظـفه داخليًا ويذكره بما مضـي، تحديدًا تحت اضواء القمر المبهجـة، تتعالي الهمهمات العشوائيـة، يجلس هو على الكرسي، شـارد الذهن، وجه واجم وملامحـه هادئة بشكل غريـب يصعب فهمـه، كان يضـع يده أسفل ذقنـه وينظر للاشيئ بسرحان، حتى قطع خلوته بنفسه صوت صديقه المرح وهو يقترب منه : 
    _ اية يا ملوكه طلبتنى ليية ؟ 
    جـز على أسنانـه بغيظ، ثم نظر له محذرًا :
    _ قولت لك ماسميش خرة، اسمى مالك.. مالك مش ملوكة !!
    أوقـف ابتسامتـه من التسلل لثغره بصعوبة، وسأله بجدية مصطنعة : 
    _ خلاص خلاص، قولى بقا في اية يستاهل انك تقطع قعدتى الجميلة 
    تقـوس فمه بأبتسامة ساخرة وقال متهكمًا:
    _ لية ان شاء الله، كنت بتختم القرءان !؟ 
    هـز رأسـه نافيًا، دائمـًا ما يخسر هو في نهاية الجدال، فاليصمت من البداية افضـل من ينفجر بوجهه ذات مرة !! 
    هتف بنفـاذ صبـر : 
    _ لا ياعم كنت بأشوف الاجنبى اية اخباره 
    لم يستطـع منع الضحـك، يحب مرحه وعفويـته بشدة، توقـف فمه كما هو بصدمه عندما طرقت جملة صعبة التصديق على اذنيـه : 
    _ ولا انت عشان البت ماجتلكش والليلة اتضربت يعنى تتعبنى انا !! 
    حملـق به متسع الحدقتيـن، ليعقد "مروان" حاجبيـه متعجبًا : 
    _ اية يابنى في اية مالك 
    اخيرًا استطاع إخراج الكلمات بصعوبة من بين شفتيـه الثابتتيـن بصدمة : 
    _ يعني اية البت ماجتليش ؟ 
    رفـع كتفيه وقال بلامبالاة : 
    _ يعنى انا عرفت عشان البت اتصلت بيا وقالت لى انها مش هتقدر تيجي، ف قولت زمانك بتدعى عليا 
    هـز رأسـه غير مصدقًا، إن لم تكـن هى الفتاة التي ارسلها صديقه، اذًا من تكـون، من التى اثار الرعب في قلبهـا وفرشه براحتـه دون ادنـي شفقة!! 
    ملابسها وحجابهـا الصغير .. و ملامحها البريئة الجذابة لا توحى انها كذلك اطلاقــًا بل هو من وضع غشـاوة رغبته امام عينيه ليمنعها من التدقيق وامر العقل بالتفكير !
    فغر فاهه مندهشًا : 
    _ يعنى البت كانت عشان تنضف مش بت من ايـاهم !! 
    مروان بعدم فهم : 
    _ لا ده انت تشرح لى واحدة واحدة كدة، بت مين واية الي حصل 
    تنهـد مالك تنهيدة تحمل الكثير، ثم بدأ يقص عليه ما حدث بهدوء شديد، يستقبل مروان الكلام بدهشـة اكبر، ما إن انتهـي مالك من حديثه حتى صاح فيه مروان بجدية : 
    _ الله يخربيتك يا مالك 
    زم مالك شفتيـه بعدم رضا، ثم قال ساخرًا :
    _ يخربيت لسانك السكر 
    زفـر مروان بقوة، ثم تابـع بلوم : 
    _ حرام عليك يا مالك، انت ماتعرفش البت اية الي جرالها وهى مين اصلاً
    ثم تجلى صوتـه واردف بجدية : 
    _ لازم تعتذرلها ع طول 
    هـز مالك رأسـه نافيًا، وافترش الخبث على ملامحه بأريحية، ليركض القلق لمروان من الابتسامة التي تسللت لثغر صديقه واحتلته بلا منـازع .. 
    نظر له يحاول فهم ما يدور برأسه ثم سأله بتوجـس : 
    _ انت ناوى ع اية يا مالك ؟ 
    همس بشرود وصوته يكاد يسمع : 
    _ هتشوف .. 

    *********

    تجـلس على الأريكة بالخـارج، تضـع يدها أسفل ذقنهـا وتنظـر على الشارع الخارجى بشـرود إرتسم على ملامحهـا، ذاك العالم الذى لم ولن يرحمهم ابدًا، عالم تعلمت فيه أن تتناسي ألمهـا حتى اصبحت تشعر انها بلا احسـاس !! 
    كانت والدتهـا تقـف خلفهـا، منذ ان وصلت وهى تسألها عما حدث جعلها هكذا، إنتفض جسدها بقلق من شحـوب وجهها الأبيض وكأنها خرجت من معركة ما خاسـرة، ولما لا .. بالفعل لم تنتصر وتواجهه، بل ارتعدت، كـانت الدموع متحجرة في لؤلؤتيها الرماديتيـن، تكبحهـم بصعوبة شديدة، ويظهر جهادها في ذلك عن طريق تنفسها الغير منتظـم، وسؤال والدتها يضعف من مقاومتها الشنيعة للبكـاء الحاد !! 
    _ يابنتى ما تريحيني وتقولى لى مالك، اية الى حصل فوق خلاكِ كدة !؟ 
    سألتها والدتهـا "كريمة" بنبرة ظهر فيها نفاذ الصبر، لتغمغم شمس بتشنـج : 
    _ مفيش يا ماما محصلش 
    اقتـربت منها تنتزعها من جوار الشباك، لتنظر لعينيها وتشير اليها بأصبعها، وهى تصيح فيها ببعض الحدة : 
    _ امال اية الدموع الى فـ عينيكِ دى !
    حاولـت شمـس الابتعـاد عن نظراتها خوفًا من افتضـاح الأمر، فهى كالمرآة بالنسبة لوالدتها، أمر سهل كشفـه بالطبع .. 
    هـزت رأسها نافيـة، واستطردت بهدوء مفتعل : 
    _ لأ متهيألك، انا متضايقة شوية بس 
    سألتهـا مستفهمة، وراحت تعيد نفس الجملة : 
    _ متضايقة من اية، حصل اية انطقي 
    نظـرت للأرضية بأسف حقيقى، ثم تمتمت بكسـرة ألمـت " كريمة " بشدة : 
    _ بابا وحشنى اوى بس، احنا من غيره مانسواش حاجة 
    احتضنتـها في ثوانٍ، بالرغم من صدق عبارتها إلا انها لن تستسلم وتسقط معها، ستقـاوم وتقـاوم حتى .. الموت !! 
    قـالت بصوت ينـزف ألمًا : 
    _ ان شاء الله هيرجع لنا قريـب 
    رددت خلفهـا بفتور 
    _ ان شاء الله .. ياارب 
    إبتعـدت والدتهـا قليلاً، واخذت نفسًا طويلًا تستعد للقـادم، تحصـن نفسها من التهـاون امام ابنتهـا الوحيدة، تنحنحت قائلة وهي تنظر للجهة المعاكسة : 
    _ شمس انا عايزة أقولك على حاجة 
    قطبت جبينها ثم قالت متساءلة : 
    _ خير يا ماما حاجة اية ؟ 
    اجابتها بصوت قاتم هز كيانـها : 
    _ يحيى ابن خالتك اتقدم لك وانا موافقة وهيجوا زيارة نتفق ع كل حاجة !!! 

    *******


    غزالة فى صحراء الذئـاب 

    الفصل الرابــع : 

    جحظـت عينـاها بصدمة جليـة على ملامحهـا وجسدها الذى تبلـد من الصدمة، لم تعى أهى بحلم ام علم !؟ 
    ولكـن ماهى متأكدة منه أنها لن ولم تصبح زوجتـه ابدًا، كان قلبها يدق بصخب، يود الخروج ونهر والدتها بشدة، دقائق مرت عليها كالدهر وهى محملقة بوالدتها، وأعجزتها الصدمة عن الـرد، عليهـا أن تعيد بناء كل شيئ رويدًا رويدًا، وأولهم حياتها والأستقلال فيهـا !! .. 
    اخيـرًا استطاعـت تحريك لسانها الذى قُـيد بسلاسل الصدمة منذ قليل قائلة : 
    _ مستحيييل 
    حاولـت بث جميـع مخاوفها ورفضها التـام في هذه الكلمة، ولكن يبدو أنها لم تؤثر بوالدتها الصامدة ولو لثوانى لتعيد التفكير حيث سألتها بجدية بالغة : 
    _ مستحيل لية ان شاء الله، ماله يحيى ؟ 
    هـزت رأسهـا نافيـة وسارعت مبررة : 
    _ ملهوش بس مش هو الشاب الى بأحلم بيه طول عمرى 
    رفـعت والدتها حاجبها مستنكرة ثم قالت بسخرية واضحة : 
    _ لا والله، وحضرتك عايزة واحد ازاى 
    اجابتها بصوت سُلب منه جميـع المشاعر :
    _ مش عايزة، لكن يحيى لا 
    سألتها "كريمة" مرة اخرى متأففـة : 
    _ لييييية قولى اسباب حتى اعرف اقنعه بيها او اقنعك انتِ ؟ 
    هـدوء غريب سكنهـا فجأة، لتجوب بعينيها فى ارجاء المكان، ثم صرحت بقوة : 
    _ يحيى مابيصليش، مابيدخلش الجامع غير ف المناسبـات، احتمال مايعرفش المصحف كام جزء اصلاً، عايز الحاجة الي تعجبه تبقي ليه على طول ومستعد يعمل اى حاجة عشان يوصلها، يحيى مابيحبنيش، يحيى عايز يمتلكنى بس !! 
    مصمصت شفتـاها بغـلب، تبحث وتبحث بين جنبات عقلها عن إجابـة مقنعة ولكن .. أين تجد ؟! فهي محقة بكل حرف قالتـه، وكأنهـا كانت ترمم هذه الاجابة سابقـــًا حتى تكون غير قابلة للنقـاش !! 
    إستطاعت القول لتقطع الصمت بتفكير : 
    _ الصلاة وهنخليه يلتزم بيهـا، ويعرف ربنا وان شاء المولى يهديـه، اما انه عايز يمتلكك ف ده اكيد عشان بيحبك يا هبلة 
    تنهـدت تنهيدة طويلـة، الملل يجتاحها رويدًا رويدًا كلما شعرت بقبضة عشقه المزيـف تزداد ضغطًا عليها يوم بعد يوم، نظرت لها نظـرات اربكتها قليلاً ثم اردفت متساءلة بهدوء حذر : 
    _ انتِ عايزة اية بالظبط يا أمـي 
    إبتعـدت عن حرب عينيـها، عن ذاك السحـر، لتتهته متلعثمـة : 
    _ عايزة مصلحتك اكيد 
    هـزت رأسهـا نافيـة، ثم قالت هادئة : 
    _ ولو قولت انى مش عايزاه، هتجبرينى ؟
    سـؤال يجيب على نفسـه، تتحدث معها بكل هدوء وتطرح الاسئلة بينما بداخلـها بركان ثائـر يحثها على النهوض والركـض أبعد ما يمكـن عن مجرد هذه الفكرة الجوفاء التي تشعرها بالتقـزز من نفسها مستقبلاً .. 
    تنهـدت والدتها تنهيدة حملت الحيرة في طياتهـا، ولكن تخطتهـا بمهارة وهي تصطنع الحدة : 
    _ ايوة هجبرك لأنى مش شايفة فيه عيب 
    هدرت فيه غاضبة : 
    _ لكن انا شايفاه كله عيوب ! 
    زفـير عالى سمعتـه لتسكن منتظرة حكم القاضـي عليهـا، ولكنها تفاجئت بجلاد قاسى يهبط بسوطه عليها دون رحمة : 
    _ انتِ عارفة كويس إن ممكن محدش يتقدم لك عشان موضوع ابوكِ 
    آآه من الكلمات المميتـة تلك، شعرت بأمعائها تتقلص من الجزع والحزن، وإنخرط قلبها قبل عينيها في البكاء الحاد الذى كان سبيله الوحيد للتهوين عن نفسه، ثم همسـت بصوت امتلأ بالرهبة : 
    _ يعنى ايييية، بردو مش هاتجوز يحيى 
    إستـدارت رافعة كتفيهـا ببرود ومن ثم استطردت بلامبالاة : 
    _ أنا قولت الى عندى وخلاص 
    ثم اتجهـت لغرفتها الصغيرة غير مباليـة بأبنتها الوحيدة الذى تنقسـم لأشـلاء متباعدة كل البعد عن بعضهم.. كل جزء يرغب في ماسة مختلفـة وكل ماسة ترغب بجزء اخـر .. عقلها مشتت بكيفية جمع الاثنـان .. رغبتها و .. والدتها !! 

    ********

    كانـت تقف مدهوشـة، تبلـد جسدها بثبـات ولمعت عينيها ببريق مهدد بالأنفجـار، أقل ما يُقـال عنها في هذه اللحظة أنها صـنم حجرى ثابت، حاولت تحريـك شفتيهـا المزمومتـين ببلاهة لتطلق سهمًا ما ترده له ليشعر بما تعانيـه، ولكن لم تنطـق، ثـُبتت قدماها بالأرض وكأنهما قُيـدا بقيــود معتـادة ولكن من الواضح أنها اشتـدت مع مرور الوقـت، شعـر بما تعانيـه لوهلة، اخبرته عينـاه التى لمحـت أطياف الحزن بعينـاها ولكنه لم يبالى و قـال بكل برود كأنه يخبرها عن طلب بسيط : 
    _ ها هتسيبي الشغل ولا تروحى للدكتور ؟
    همست ببلاهـة فاغرةً شفتيهـا : 
    _ هــآآه !! 
    _ هآآه اية انجزى انا مش فاضي لك 
    صرختـه الرجولية الحادة أرعشـت جسدها وكأنها رسالة للعقـل بالتحرك والتفكير على الفـور، لتسأله ببلاهة : 
    _ طب لية ؟
    اجابـها بنفـاذ صبر : 
    _ يووه، هو احنا الي هنعيـده هنزيده !!
    خرجـت منها همسة منكسرة : 
    _ معلهش !
    أعـاد قوله عليها بمـلل : 
    _ الناس بدأت تشتكـي منك، وزمايلك بقوا خايفين منك جدًا ! 
    حدقـت به غير مصدقـة، ما الذنب التى ارتكتبـه ؟! ، تُعاقـب وتُـدس وسط خياريـن من أشـواك مؤلمـةً تجرحها دون رحمة او مُهلـة، على شيئً لم يكن بأرادتها يومًا، أسبلت اهدابهـا وهى تغمغم بألم : 
    _ بس انا ما اذيتـش حد 
    تحولـت عيناه لجمرتين من النـار فى ثوانى معدودة، ليتابع مفتعلاً : 
    _ قصدك إن انا بكذب ولا اية ؟ 
    سارعت مبررة بهزة من رأسها مستنكرة : 
    _ لأ انا ماقولتش كدة، لكن آآ 
    قاطعها بصـوت سَاخـط خالٍ من اى شفقة : 
    _ مليش فيه، يظهر انك قررتى تسيبي الشغل ؟
    لم تهـز رأسهـا نافيـة .. لم تنهـره على اتخاذ قرارات بدلاً منهـا، لم تصيح فيه بحدة أنا لستُ مجنونة !! .. بل صمتت، وما اصعب ذاك الصمت الذى يلجمها، الحزن يدميهـا منذ أن اصبحت تحلم بتلك الأحلام، حتى كادت تشعر انها تستشعر الثقل في نطق تلك الكلمة مرة اخرى !! 
    بينما ظل هو يراقبهـا بأعين متلهفة، فهو من الأساس لم يتقبلهـا يومًا، وليكن كلام اصدقائها ما هو سوى عصا يزجها بها دون أن يلومه اى شخص .. 
    عاد يقـول بتهكم وكأنه منتظر اجابتها من الأصل : 
    _ اممم، شايفك ساكتة، القطة أكلت لسانك ولا اية ؟! 
    خرجـت همسـة هادئـة بعكس ما يجيش بصدرها من اهتيـاج حاد : 
    _ الي اشوفه حضرتك يا فندم 
    سألها بلهفة : 
    _ يعني اية هتعملي اية ؟! 
    نظـرت له بقوة ثم قالت بثبـات زائـف : 
    _ يعنى هأسيب الشغل !!!! 
    انفـجر ثغـره بأبتسامة مشعة وكأنه حصل على ترقيـة ما، حاولت إخفاؤوها وهو يستطرد بأسف مصطنع : 
    _ لية كدة ده انا كان نفسي تكملى معانا 
    _ النصيب بقا يا فندم 
    هتفت بها وهى تستـدير متجهة للخارج بأقدام هائمـة ودموع مهددة بالأنفجـار ! 

    *******

    تجـلس في سيارتهـا السوداء الفارهة، عيناها التي لطالما طُبـع عنهم مظهر الجمال والجاذبية الان تذبـل لتصبح مصدر للشفقـة، لم تضـع اى مساحيـق تجميل، كانت ترتدى بنطـال جينـز من اللون الأسود وتيشتـرت نصف كم احمـر، خصلاتها الناعمة تتناثر بشكل عشوائى لتعطيها مظهر جذاب بعض الشيئ، اصبح وجهها شاحب كأنسحـاب القمر من الكرة الأرضية ليعلـن عن إنطفاء نوره، تكونت الهالات تحت عينيها بكثـرة، اصبحت كالعجوز فى سـن الشبـاب !! 
    يدها تدب على السيارة تلقائيًا من فرط التوتـر، لم تكـن تلك "زينـة" الجميلة يومًا !! 
    واخيـرًا جاء ما كانت تنتظـره ليفتح الباب ويستقل زياد السيارة بجوارها ببرود متعمد، ما إن التفت لها حتى سارعت بقولها متلهفة : 
    _ كل ده تأخير يا زياد ؟! 
    رفَع كتفيـه ثم زم شفتيه قائلاً ببرود : 
    _ سورى يا بيبي الطريق كان زحمة 
    جـزت على اسنانهـا ساخرة : 
    _ والله ! 
    _ اه وحياتـك 
    اجابها بسخريـة اكثـر، شعرت بنفسهـا تحلق في سمـاء ممتلئـة بالأوهام والكأبة والحـزن، كـان الجميـع ينتظر منها نظرة ليروى عطشه منها، ولكنها الان هى من تتلهف لرؤيتـه، هى من تركض له، وبالطبع هو يستمتـع بذلك ببرود، يتردد بعقلها سؤال واحد " لم يحدث معى كل هذا " ؟! .. 
    لم تهتـم لكل تلك الأفكار التى تداهمها وسألته مسرعة : 
    _ جبت لى الحاجة ولا لا ؟ 
    تنهـد ببطئ، ثم سألها متفهمًا بعدم فهم مصطنع : 
    _ حاجات اية ؟ 
    جاهدت للتحكم في اعصابها واخراج صوتها هادئًا : 
    _ يعنى انت مش عارف، المخدرات يا زياد 
    أطلـق صفيرًا بصوت عالى، يشعر بكبرياؤوه يتغـذى ويتشبع عندما يستمـع لتوسلاتها عبر الهاتف حتى يلقاها ويجلب لها الهيرويـن، تزيـن ثغره بأبتسامة ساخرة واردف بلوم مفتعل : 
    _ تؤ تؤ، كدة جاية تشوفينى عشان كدة بس يا زينة ؟ 
    لم تعـد تحتمل، تشعر برأسها تكاد تنفجـر، ستصرخ من شدة الألم، وضعت يدها تضغط على رأسها بقوة علها تهدأ، ولكن من دون جدوى، صرخت فيه من دون وعى لصوتها العالى :
    _ قولت لك هات يا زياد خلصنـى 
    تنحنح ببرود وهو يقول : 
    _ هاتى الفلوس الأول 
    مدت يدهـا ممسكة بحقيبتها بسرعة ثم اخرجـت الأموال منها وألقتها له ليمسكها يتفحصها ويعّدها، ثم نظر لها شزرًا وقال ببجاحة : 
    _ اية الهلاهيل دول !! 
    حدقـت به بغيظ، ثم هتفت متساءلة بتهكم : 
    _ دول 10 الاف، هلاهيل، امال حضرتك عايز كام ؟ 
    _ قولت لك 15 الف مش اقـل ابدًا 
    اجابها وهو يعـود برأسـه للخلف، بينما رمقتـه هى بنظرة كارهه حانقة، لو كان يشعر بها لكانت قتلته توًا، اللمعة البارقة تزيـد عينيها شراسة وخطورة، كادت تمزق الحقيبة وهى تمسكها بقوة لتخرج منها باقى الأموال، ثم ألقتها في حجره وقالت آمـرة :
    _ انجز بقا وخلصنـي يلا !! 
    أخرج كيس المخدرات من جيب بنطاله بهدوء مستفـز، وما إن اخرجه حتى اختطفته بسرعة، ثم فتحته وبدأت تشمـه وهى مغلقة العينين والراحة تجتاحها رويدًا رويدًا، تتابعها أعين زياد المتشفية 

    ********

    كـانت شمس بغرفتهـا، متسطحـة على فراشهـا الصغير كالحضن الممتلئ بالحنـان، تحتضن وسادتها الصغيرة ودموعهـا تهطل بصمـت، عينيهـا لم تستطـع التعبير عن كم المشاعر المختلطة التى تجيش بصدرهـا، ضلوعها تكاد تختلـع من كثرة عدم احتمالها، المشاعر والمشاعر .. الحزن والألم، ألم يكفـي كل هذا ليأتى هذا الـ يحيى ويزيد همهـا، أم هذه دعوة صريحة من القدر أنه لن يتركها تحظى بهدنة صغيرة ؟! .. يدميها الحـزن ويحتل قلبها بجدارة ولا منازع كالسعـادة، سوط أمام سوط بخيروها بأى واحد ستُجلد ؟! 
    .. 
    بينما في الخـارج والدتها كانت قد خرجت من المرحاض بعدما توضـأت لتؤدى فريضتها اليوميـة، بوجه هادئ لا يحمل في طياتـه اى شيئ، وكأنه لغز صعب الفك، حتى سمعت طرقات هادئة على الباب، عدلت من وضعية حجابها ثم اتجهت لتفتحه، لتجد امامها مالك !!!! 
    عقـدت حاجبيها بتعجب، ثم سألته مستفهمة : 
    _ مين حضرتك ؟ 
    اجابها بأبتسامة هادئـة : 
    _ أنا مالك جمال 
    هزت رأسها وعادت تسأله مرة اخرى : 
    _ ايوة يعنى حضرتك عاوز اية ؟
    تنهـد قبل أن يستطرد بحرج : 
    _ طب مش ممكن نتكـلم جوة ؟ 
    شحب وجهها من الحرج، ابتعدت مسرعة وهى تشير له للداخل قائلة :
    _ معلش، أتفضل 
    _ حضرتك استاذ مالك الى سكنت جديد صح ؟ 
    سألته وهى تدقق النظر له لتتذكر أين رأتـه، ولكن اجابها بهدوء حذر :
    _ ايوة مظبـوط 
    اومأت بصمت بعدما لاحظـت نظراته المتفحصة للمنزل، لم تشعر بالخزى ابدًا من منزلها الحبيب، بل اجابته بفخر يشوبه الحزن : 
    _ معلش بقا يا بيه البيت مش قد المقام 
    سارع يرد مبررًا : 
    _ لأ ابدًا والله مش قصدى 
    حمد الله انها لم تلحظ علاما كانت تبحث نظراتـه، علاما يعبـر بريقه اللامع، وإن كانت فهمت نظراته شفقة وكبرياء افضل من ان تفهم سبيل عيناه وهو البحث عن شمس !!
    تنحنح بهدوء : 
    _ انا عايز اتكلم مع حضرتك فــ حاجة وياريت ماتفهميهاش غلط وتكونى متفهمة موقفـي 
    شعرت بريبـة تحتل قلبها، ولكن غمغمت هادئة : 
    _ أتفضل يابنى 
    جلس على الأريكة الصغيرة، وحاول اعتدال وضعيتـه وهو يبدأ السرد عن سبب زيارته الغير مفهومة لوالدة شمس .. 

    ********

    خـرجـت من الشركـة، بخطوات زاحفة وليست بطيـئة فقط، قـدم لم تعـد قادرة على السير بسبب توقـف العقـل عن العمل مؤقتًا، كيف يعمل وهو يتلقـي كل هذا ويداهمه كل هذه الأفكار فجأةً، وقلـب يلومها وبشدة على صمتهـا، يزمجر فيها أن تعود وتلقنهـن جميعًا درسًا لن ينسوه، وأعيـن لطالما اعتـادت على البكاء بحدة، تكاد لا ترى من الغمامة التى تحيط عينيهـا، تتذكر كل الهمهمات المهينـة التى سمعتها بمجرد علمهم أنها ستترك العمل بلا عودة، 
    " يووه اخيرًا " .. " اوف ده هم وانزاح " .. " اخيرًا حسيتى على دمك واتطردتى " .. 
    " روحى اتعالجـي يا ملبوسة " 
    بسحابـات عميقة, منكسرة وحزينة سألت نفسهـا بألم :
    _ امتى هرتاح بقاا ياااااارب 
    لم تستطـع الاجابـة حيث وقعت عيناها على شيئً ما جعلها تركض مسرعة بأتجـاه شابًا ما كان يركض متلفتًا خلفه كل ثانية، ثم فجأة احتضنته وهى تزجه سيرًا ليقعوا سويًا عند شارع ما ضيق وخالى من السكان .... !! 

    ********
    الفصل الخامس : 

    نظـر إليهـا في تعجـب شديد، تقلصـت عينـاه السـوداء بحلكة شديدة لمعت بصدمة، وهو مثبت نظراته على تلك المجهولة التى تقدمت واحتضنته فجأة لتدفعـه داخل شارع ما، بينما هـى لم تعد تشعر بأى خلية من جسدها، خلاياها تخدرت بفعل رائحتـه الرجولية الجذابة التى احتلتهـا فجأة، نحنحتـه كانـت كالصفعة التى افاقتهـا مما هى فيه، هبت مبتعـدة عنه وزحفـت الحمـرة الخجلة لوجنتاها، اصبحـت دقاتها تزداد بشكل ملحوظ، دقة تنهـرها على فعلتها .. ودقة تشكرها على إنقاذها لهذا الشـاب .. ودقـة تكاد تنفجر من الاحـراج، قطـع الصمت بقوله الجازع : 
    _ انتِ مجنونة يا أنسـة ولا اية ؟ 
    إلتفـتت تبتلـع ريقها بإزدراء، أن ظلت تخبره من هنا حتى يومـان لن يصـدق أنها كانت تنقذه لا أكثـر، ظلت ناظرة للأرض تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها، ثم هتفت متلعثمة : 
    _ آآ والله أنا كـ كنت بس بآآ 
    قاطعهـا وهو ينظـر لها بحـدة، نظرات إن اخترقتها ستذبحها وبمفعول أقوى من كلماتهم المميتة : 
    _ انتِ هتقعدى تتهتهى كدة كتير ؟ 
    شعـرت بعينـاها تزوغ رغمًا عنها لعينـاه السوداء الحـادة، ولكن بالرغم من قوتهما إلا انها لمست فيهم الكسـرة، و همست بتوتر : 
    _ أنا كان لازم أعمل كدة، كنت بألحقك 
    سألها ساخرًا : 
    _ ولا والله، كان لازم تحطى نفسك ف حضنى كدة ثم انك هتنقذينى من اية ؟ 
    نظـرت خلفـه تتفحص شيئًا ما، ثم تنهـدت تنهيدة عميقة وطويلـة، وقالت بهدوء حذر : 
    _ في عربية كانت جاية عشان تخبـطك دلوقتى 
    ما لبـث أن مرت ثانية واحدة تمهله فيها إستيعـاب ما قالته حتى وجد الدليل القاطع وسيارة سوداء كبيرة تسير بسرعة فائقـة، دُهـش قليلاً ولكن نظر لها يتصنع اللامبالاة : 
    _ عادى يعنى عربية عادية !! 
    هـزت رأسهـا نافيـة، ثم نظرت على بداية الشارع وتابعت بجدية : 
    _ هتشوف دلوقتى هيرجعوا تانى عشان يقتلوك !!! 
    حـدق بها لا يستوعـب ما تقوله، شعر بحرارة جسده تزداد شيئًا فشيئ وكأنها تخبره أن كلامها صحيح، هيا أسـرع .. أمـره العقل هكذا فور تذكـره بما كان يجعله يركـض فأمسك بيدها دون تردد ليشعر برجفتها ولكن لم يبالي وقال مسرعًا : 
    _ يلا بسرعة تعالى 
    وبعقل مشتت ومتذبذب سألته بتوجس : 
    _ هنروح فييين ؟ 
    اجابها وهو يركض ساحبًا اياها خلفه تجاه احدى العمارات : 
    _ هنستخبى طبعًا 
    ركضـت معه كالبلهـاء لا تفقـه شيئ، دائمًا ما تكون على حافة الهاوية واليوم تهورها هو من أسقطهـا ليؤلمها وكأنه يلومها عليه، كيف تتسرع هكذا، تذهب لشاب وتدفعه بقوة وبدون سابق انذار والحجة ضعيفة، إنقـاذه .. بالرغم ما تحمل من أسمي المشاعر إلا انه استقبلهـا بدهشة تحولت مع مرور الثوانى لـ .. شك !! 
    بداخل احدى العمارات الصغيرة، دفعها للداخـل ظهرها على الحائط البارد وهو امامها تمامًا، لا يفصلهم سوى سنتيمترات بسيطة، شعرت بأنفاسه تلفح وجههـا، وقشعريرة مريرة تسرى فيه، أغمضـت عينـاها تستعيد رباطة جأشهـا، القواعد والقواعد التى حددتها بحياتها ولن تسمـح لأى شخصًا كان بتخطيها لأن العقاب .. سيكون مؤلم !! 
    سمعـوا أحدى الأصوات الرجولية الغاضبة :
    _ ازاى ده أكيد ملحقش يبعد 
    تبعه الاخر بحيرة : 
    _ منا بقول كدة بس مش عارف ازاى اصلاً عرف إن احنا وراه 
    صرخ الاخر بحدة : 
    _ يلا وانا هأعرف اجيبه بطريقتى 
    بعد ثوانى لم يسمعوا أى اصوات اخرى، اخرج الشاب طرف رأسه يتفحـص الشارع ليجدهم قد غادروا بالفعـل، عاد لتلك الحورية المغمضة العينين ترتعش تحت يديـه، سحب يده بسرعة عن فاهها بأرتباك بدى عليـه، ثم غمغم هو بهدوء حذر : 
    _ معلش عشان مايسمعوش صوتك 
    اومـأت بخفـوت، شعرت أن الكلمات جفت مع حلقهـا او اختبأت في جوفها المظلم مثلما ارادت هى أن تفعـل، فجأة سألها بخشونة : 
    _ انتِ ايش عرفك بقا ؟
    أرتبـكت من الأجابـة، نظرت للأرض تبلل شفتاها الكرزية، تقص عليه كل شيئ وتتلقي المقابل سهم حاد يخترقها ؟! 
    قلبها يدق بصخب تعجز عن تهدأته، وكأنه يخشي ما سيحدث بعد قليل !! 
    نظر عليها بطرف عينيه يسألها بشك : 
    _ انتِ مين ؟ 
    اجابت ببلاهـة : 
    _ خلود 
    تكاد الابتسـامة تشق عبوسه ويفسـد جديتـه، ولكنه لن يسمح لها أن تهـدم كل شيئ بلحظة، احتـدت عيناه السوداء وازدادت سوادًا مخيف، حتى قال بجدية : 
    _ انجزى، انتِ تبعهم صح 
    تسارعت ضربات قلبهـا، خشت السقوط في شيئ لتسقط في الاسوء، اتضطربت انفاسها وهى تجيبه نافية : 
    _ ابدًا 
    استطـرد بشك دفين : 
    _ امال عرفتى ازاى 
    ما كان عليها سوى .. الهـرب، بالرغـم من كونها تكرهه إلا انه وكأنه يجذبها له دون ارادة منها .. 
    دفعته بيدها وركضـت مسرعة، ركضت وكأنها قطة تخشي هجوم الأسد، قطة دُست في عرينـه فجأة من دون موافقتها، تركتـه الدم يغلي بعروقه يجز على اسنانه بغيظ شديد، ويتوعد لها فى خواطره : 
    _ هجيبك وهعرف انتِ مين .. 

    *******

    ما إن انتهـى مالك من حديثـه حتى حدقـت هى به لثوانى، تفكر وتفكر .. يجب انحدار نحو الطريق الصحيح، حتى لا تُصدم من اخـره، منذ بداية حديثه وهى تحملق به وكأنه يضع امامها ألغـاز وخطوط ويطلب منها فكها، ابتسـم على تعجبها وايقـن بخباثة انها تفكر فى كلامـه، تنحنح قائلاً بهدوء حذر : 
    _ ها يا حاجة قولتِ اية ؟ 
    تنهـدت مجيبة بحيرة : 
    _ قولت لا اله إلا الله 
    ردد خلفها بأبتسامة غامضة : 
    _ محمد رسول الله، اية رأيك ف كلامى 
    نظرت له واجابته هادئــة : 
    _ كلامك حلو جدًا يابنى، بس بتعمل كدة لية 
    هتف مسرعـًا : 
    _ منا فهمتك يا حاجة وأتمنى ماترفضيش
    كـلامـه مغلف بعامل الاغـراء كونها امرأة فقيرة زوجها بالسجن، وحيدة هى وأبنتها الشابـة، تنهـدت للمرة التى لم تعـد وتابعت :
    _ هأشوف يابنى وربنا يقدم الي فيه الخير 
    زينـت الابتسامة المنتصرة ثغـره وأكمل بحماس : 
    _ يعنى افهم ان حضرتك موافقة على المبدأ نفسه ؟ 
    هـزت رأسها موافقة ولكن قالت بتفكير : 
    _ لكن هأقول لجمال واقولك يابنى 
    نهض مغمغمًا بأنتصار : 
    _ تمام يا حاجة 
    إتجـه للخـارج وقد شعر بالنصر يجتاحه بشدة، سمع قولها الذى زاده غرور : 
    _ ربنا يباركلك يابنى ويكفيك شر المرض 

    لم يبالي بكلماتـها، ولم تهتز له شعره وكأنها شفافة، يتردد شيئ واحد بداخله الان، ويفتعل صدئ لم يعترف به يومًا .. 
    " ستصبحين ملكى مهما كان الثمن " .. ! 

    *********

    وصـلت زيـنة المنزل بهيئتها المرزية الي المنـزل لا ترى امامها، تفتح اهدابها السوداء وتغلقـها بأرهَاق يوحى بعدم حصولها على النوم والراحة لمدة ليست بقصيرة، كانت تسيـر ببطئ شديد وكلما تقدمت شعرت بقلبها ينقبض اكثر من قبل، وكأنهـا تتقـدم بأرادتها لجوف مظلم يسحبها للداخل اكثر ليقضـي عليهـا، وقعت عيناها على والدتها التى كانـت تهنـدم نفسها امام المـرأة، تقوس فمها بأبتسامة ساخرة وهى تقول : 
    _ خارجة كالعادة ! 
    اومـأت والدتها دون أن تلتفت لها، بينما بدأ الألم يتشـرب ملامح زينـة، رويدًا رويدًا بدأت عينـاها تكون الدموع، فتابعت بتهكم : 
    _ نفسي مرة ارجع ألاقيكى مستنيانى انا ومالك زى أى ام وزوجة طبيعية 
    التفتت لها تلاقيها بوجه جامد، وأعيـن باردة وهى تجيبهـا بصوت قاتم : 
    _ مش لما ابقي انا زوجة طبيعية اصلاً 
    هنا لم تعـد تحتمـل، يكفيها قهرًا وتحمل، الى متى ستضغط على نفسها وتتصنع اللامبالاة، وهى تحترق بداخلها، تختنـق من الصمت وعدم إخراج ما بداخلها لتهدأ قليلاً، صرخت فيها بحدة : 
    _ ليييية، ليييية مش زوجة طبيعية ناقصك اية هاا عندك كل حاجة !! 
    سيطـرت على إنفعالاتها بصعوبة، واجابتهـا بنبرة غُلفـت بالبـرود بمهارة : 
    _ ناقصنى الاحترام الي فقدتـه 
    سألتها متهكمة : 
    _ ازاى يعنى، ده الكبير قبل الصغير بيعملك الف حساب يا زوجة سيادة المستشار 
    إبتلعـت ريقها تبتلع تلك الغصة المريرة التى اخرجتها ابنتها دون قصد، لتتابع بمرارة : 
    _ للأسف أبوكِ هو الى فقدنى احترامى مش الناس يا زيـنة 
    عقدت حاجبيها وعادت تسألها بعدم فهم :
    _ بابى !! ازاى يعنى مش فاهمة ؟ 
    مسحـت والدتها على خصلات شعرها المصبوغة باللون الأسود و بقوة لتهدأ تدفق المشاعر المتألمة، وإن كان ما حدث فهى لا ترغـب بكره ابناءها لأبيهم !! 
    استطردت بهدوء مفتعل : 
    _ مأقدرش اقولك، كل الى اقدر اقوله إن ابوكِ كان هيبعنى !!! 
    تضـع امامها الألغاز والألغاز، كلما ارادت التخلص من شيئ لتفهم قليلاً شعرت به يزداد، وكأنها تتعمد ذلك لتصل لما تريد !! 
    تأففت بضيق بدى على ملامحها : 
    _ يعنى اية يا مامى ؟ 
    كلماتـها كان لها تأثيـر واضح عليها، سيزول ذاك القناع ليظهر مدى الألم الغزير، لا لن يحدث، رسمت الجمود بمهارة وهى تجيبها بلامبالاة مصطنعة :
    _ معرفش أنا مش فاضية أقعد أحكى معاكِ، باى هشوف صحابي ف الكلاب 

    ********

    جلسـت على الأريكة في الخارج تهدأ من ثورة ضربات قلبهـا، تضع يدها على قفصها الصدرى وكأنها تحثه على التحكم في هذا القلب، تبـًا لذلك الخوف الذى يفرض نفسه عليها مرارًا وتكرارًا، وجهها اصبح لونه أصفر من فرط التوتـر، ويديها ترتعش بحثًا عن سبيلها الوحيـد، اقتـربت منها والدتها تسألها بنبرة متوجسة : 
    _ مالك يا خلود ؟ 
    ابتلعت ريقها بصعوبة واجابتها بهدوء حذر : 
    _ مليش يا ماما 
    هـزت رأسها نافية وتابعت بأصرار : 
    _ لأ في يلا انطقي 
    جلسـت بجوارها بهدوء واريحية، وكأنها تخبرها أنها لن تستطيع الهرب من تلك الاجابـة، تنهدت خلود وقد عاودتها تلك الكلمات المسمومة، لتهتف بكسرة :
    _ سيبت الشغل 
    ضربت بيدها على صدرها برفق، وشحبت ملامحها وهربت خوفًا على ابنتها، تيقنت أنه الشبب وراء ذاك التوتر فسألتها بقلق : 
    _ لية اية الي حصل ؟ 
    _ كان عاوزنى اروح لدكتور نفسي او اسيب الشغل 
    همست بها وهى تعض على شفتيها لتمنع تلك الدموع الساخنة من الهطول بصعوبة، فشهقت عبير مصدومة بجزع : 
    _ لية يعنى وهو ماله يا بنتى ؟ 
    تقوس ثغرها بأبتسامة متهكمة : 
    _ اصل زمايلي بيشتكوا وبقوا يخافوا منى
    عضـت على شفتها السفلية بغيظ، ومن دون وعى منها خرج صوتها مشفقـــًا :
    _ معلش يا حبيبتي، مسيرهم يعرفوا إنهم كانوا ظالمينك
    اومـأت خلود بلامبالاة مصطنعة عكس ما يفتعل بصدرها من حمم بركانيـة، أمسكت بهاتفها تخرجه من حقيبتها الصغيرة، ثم بحثت عن احدى الاسمـاء، لتجد والدتها تقول بجدية : 
    _ هتتصلى بست شمس طبعًا 
    اومـأت خلود ببساطة، تعلم الان بمدى غيظ والدتها، ولكن لم ولن تبتعد عن صديقة عمرها الوحيـدة، وإن كانـت ابتعدت فترة قليلة لتريحهم وتبعدهم من فوق اذنها إلا انها اقسمت بداخلها انها هدنة فقط، وإن شمس روحها إن افترقت عنها ستصبح جسد مُهلك فقط !! 
    بينما زمجرت فيها والدتها غاضبة : 
    _ مش قولنا هتبعدى عن البت دى ولا عاوزة سمعتك تبقي زى الزفت ؟ 
    إذًا لهجة التحدى لم تجدى نفعًا، فالتسلك طريق تعلم مدى تأثيـره القوى على جوارح تلك السيدة .. 
    _ ارجوكِ يا أمى، أنا محتاجة لشمس جدًا دلوقتى 
    هتفت بها مترجيـة، بنبرة كستها بالتوسل المصطنـع الذى ينعكس مفعوله الفورى، لتتنهـد عبير قائلة بنفاذ صبر : 
    _ أعملى الى يريحك يا خلود 
    ثم نهضـت مبتعدة، تاركـة اياها تتنفس بأرتياح وهي تتصل بصديقتها المقربـة والوحيدة التى لم تخشاها ولم تفر هاربة منها كالوبـاء .. 
    اتـاها صوت الشمس المُرهـق بعد ثوانى : 
    _ الوو 
    _ الوو اية يا شموسة عاملة اية 
    _ الحمدلله، انتِ عاملة اية ؟ 
    _ بخير الحمدلله، مالك كدة 
    _ مفيش عادى 
    _ هو انا هلغبط ف حالة تؤام روحى 
    _ مامتك عارفة إنك بتكلمينى يا خلود ؟ 
    _ طبعًا وبعدين ما انتِ بتكلمينى رغم الى الناس بيقولوه عنى 
    _ لا لا انتِ مافيكيش حاجة، لكن انا آآ .. 
    _ عايزة أشوفك 
    _ ممكن بكرة لأن ميعاد زيارة بابا النهاردة 
    _ اه تمام هشوفك بكرة 
    _ ان شاء الله 
    _ وابقي سلميلي على عمو، كان نفسي اجى معاكوا والله بس آآ 
    قاطعتها بجدية : 
    _ ولا يهمك يا حبيبتي.. يوصل 
    _ ماشي يا جميلتى، سلام 
    _ سلام 

    أغلقـت وهى تشعر بالراحة تجتاحهـا، دائمًا ما تلملم شمس جراحها بمهارة وترطبهـا وتشفيها ولو بكلماتها البسيطة ولكن كلماتها كالسحر تهدأها على الفور، لذلك كانت دائمًا كالدواء في حياتها تتجه له على الفور إن شعرت انها ليست بخير .. 

    *******

    الأشتيـاق .. السبيل الوحيد الذى تعرفه في هذه اللحظـات، كل جوارحها منشغلة في التفكيـر بالرجل الوحيد الذى أحبتـه في حياتها، والشخص الذى حُرمـت منه وأقسمت ان حظها أسود من حلكة سوداء لا ينيرها القمـر، منذ ذهابـه للسجن وهى تستشعر كل شيئ بملل وبلا طعـم، كانت تسير بجوار والدتها بعدما ترجلوا من سيارة الأجـرة بخطوات شبه راكضة، قلبها من يأمر القدم بالسرعة، غير عابئة بتعب والدتها، وصلوا الى السجن واتجهوا لمكان الزيـارة، ليجلسوا عل المقاعد الخشبية الصغيرة، واتجه الشرطى ليجلب " صابر " بعد قليل اتاهم بملامح تشربها الألم والأرهـاق، وجسد اكتفى من الحرمـان، تهللت أساريرهم بمجرد رؤيته بالرغم من أن رؤيتـه حركت بداخلهم مشاعر لطالما حاولوا كبتهـا مرارًا وتكرارًا .. 
    بمجرد أن جلس بجوارهم حتى هتفت بلوع : 
    _ بابا 
    اشتـاق لهذه الكلمة حد الجنون، حتى هذه حرم منها للأبد، رد عليها بصوت مهزوز : 
    _ حبيبة بابا عاملة اية 
    قالت باسمة بحزن : 
    _ الحمدلله، انت عامل اية يا بابا 
    لم يـرد على سؤالها الذى اجابته عيناها بحالته المرزيـة، وسأل زوجته الحبيبة بحنان : 
    _ عاملة اية يا كريمة، انتم كويسين ؟ 
    اومـأت بهدوء مرددة : 
    _ اه الحمدلله على كل حال يا صابر 
    تأففت شمس بضيـق قائلة : 
    _ هما خلوا الزيارة كل أسبوع بس لية يا بابا ؟ 
    رفع اكتافه مجيبًا بقلة حيلة : 
    _ والله ماعرف يا بنتى، ومحدش بيقدر يتكلم معاهم ف حاجة 
    هـزت رأسها بضيق، ثم قالت بحرقة : 
    _ حسبي الله ونعم الوكيل فيهم 
    وضَع يده على فاهها مسرعًا ونهرها بجدية :
    _ بس يا شمس بس يا حبيبتي الله يرضي عنك، هنا كل واحد بياخد جزاؤه 
    سارعت نافية :
    _ بس انت مظلوم يا بابا 
    _ اسكتى يا شمس اسكتى 
    قالها وهو ينظر للجهة المعاكسـة، لا يريد فتح تلك الجروح مجددًا، حينها لن يصمت وسيبوح بكل شيئ وكأن هذه الكلمات مخدر له .. ! 
    هنا تنحنحت كريمة بهدوء حذر : 
    _ كنت عايزة أقولك حاجة كدة يا حج 
    اومـأ بهدوء ثم سألها باستفسار : 
    _ قولى يا كريمة في اية ؟ 
    إبتلعت ريقها بإزدراء قبل ان تستطرد بنبرة هادئة بعض الشيئ : 
    _ انا بفكر نبيع البيت 
    فـزع واتسعت حدقتيـه وصرخ فيها بصوت عالى من دون وعى : 
    _ لأ لأ لأ لأ اووووعى تعملى كدة !!!!! 

    *********


    الفصل السادس : 

    تشـربت ملامحـه التوتـر الشديد، بحث عن اجابـة مقنعة ولكن لم يجد ابدًا، اضطر لأضافة كذبة جديدة الي قاموسه الغامض الذى بدى انه لا نهائـي، وقال بهدوء مصطنع : 
    _ البيت ده فيه ذكريـات كتير حلوة لينا 
    ولأول مرة تستقبـل حبـه وشوقه على وتيرة السخريـة، تتهكم على مشاعره الجياشة وإن كانت كاذبة حيث قالت بصوت قاتم : 
    _ يعنى وهى الذكريات عملت لنا اية ياخويا ؟ 
    اجابها بصوت حاول إخراجه ثابتًا : 
    _ جابتلنا الهدوء وراحة البـال 
    يبدو أنه يتحدث عن نفسه فقط، فأى هدوء وراحة بال وهى لم تذق يومًا هانئًا، لم يمـر يوم إلا وتعكر صفوها بالمهانة والذل كونها زوجة حارس البناية !! 
    اجابته مبتسمة بتهـكم : 
    _ الذكريات مش هتمحى نظرة الناس لينا، مش هتمنعهم يقولوا لينا يا مرات البواب و يا بنت البواب، مش هتخرسهم !! 
    صاح فيهـا باهتيـاج : 
    _ لأ بس هتحفظ لنا سكينتنا، ممكن نبقي معانا فلوس الدنيا وأتـعس ناس 
    لم يرهـا يومًا بذاك البؤس، لم يسبق له أن لمح تلك النظرة فى عينيها، وكأن ذاك الزمن القاسى نجـح فى تغيرها تمامًا وتغيير نظرتها كاملة عن الحيـاة ! 
    سألها بهدوء حاول خلقـه من بقايا الانفعال : 
    _ يعنى انتِ عايزة أية بالظبط يا كريمة ؟ 
    تبدلـت الأدوار وحان دورهـا لتكذب هى تلك المرة، زاغت بعينيها مجيبة : 
    _ ما أنا قولت لك، نبيع البيت وبكام قرش نزودهم نجيـب بيت أحسن فى مكان تانى
    تلقـت الصمت اجابة على كلماتها الغير مقنعة بالمرة، فدفعها ذاك الصمت لتكمل اكثر ظنًا منها انه يُفكـر : 
    _ يعنى انت عارف إنى بأشتغل فى المستشفى عاملة يعنى، ف حتى ممكن أدخل جمعية وأكمل على فلوس البيع 
    لا يبدو انه اقتنـع، اى هراء هذا، الذكريـات مجرد غطاء يغطى اسفله السبب الرئيسى والهام لذاك الرفـض، ولكن لن يكشفـه، والسبب مُهـين لكونه رجل .. الخوف !! 
    هـز رأسـه نافيًا بشدة قبل ان يحيد عنها بنظرة حادة متابعًا : 
    _ اوعى أعرف إنك عملتى كدة، ماتدخليش نفسك ف دوامة أنتِ مش قدها 
    مطـت شفتيها بضيق واضح، ما السبب لتلك الحدة، هى فقط ارادت العيش كأى امرأة في منزل متوسط يحتويها وابنتها، ولكن دائمًا ما يعاندهـا القدر لجعلها متيقنة وراضية بما قسمه الله لها .. 
    بينما راح يسألها هو مرة اخرى مستفسرًا :
    _ لكن أنتِ هتبيعيه لمين اصلاً ؟ 
    غمغمت بلوع : 
    _ عباد الله كتير، واكيد فى ناس هتشترى 
    جـز على اسنانـه بغيظ، ورغمًا عنه خرج صوته متهكمًا : 
    _ ومين هيرضي يشترى بيت زى ده، من حلاوته يعنى ولا أية ؟! 
    مطـت شفتيهـا بعدم رضا، ربما ينقسم لنصفين ظاهريًا، منذ ثوانٍ يمدحه والان يبدو أنه يمقتـه ؟! أيريد جنون جنبـات عقلى لأفقـده ويفعل ما يريد !! 
    قالت لنفسها هكذا قبل ان تتمتم بغيظ : 
    _ يوه، أنت مش عاجبك العجب ولا الصيام ف رجب !!!! 
    تنهـد بقوة، يأس من تلك المناقشة التى بدى انه هُـزم فيها فشل زريـع، لم يستطتع رَى زهور حبهم وايقاظها مرة اخرى لتحيى ذاك المنزل بداخلها، وإن كان الهدف مختلف .. 
    بأعيـن مهمومة ومكتفية سألها : 
    _ يعنى أنتِ مصممة على الى ف دماغك ؟
    اومـأت مسرعة بأبتسامة متأملة، ليشقها بقوله البارد : 
    _ وأنا قولت لأ 
    كانت شمـس تتابعهم بأعيـن مُلهكة.. هادئـة .. ضائعـة .. لا يهمها منزل أو غيره، لا يهمها مظاهر واقنعـة، ما يهمها حقًا هو ما بداخل تلك الأقنعـة .. والديها ..
    فجأة سألته بقلق وهى تشير على وجهه :
    _ بابا اية ده مين الي عمل فيك كدة ؟ 
    ظهر الارتبـاك عليه، ظل يزوغ بعيناه وجاهد أن يبدو ثابتًا وهو يجيبها : 
    _ ده آآ ده أنا آآ أنا وقعت لما كنت ف الحمام بس 
    _ يلا الزيــارة أنتهــت 
    هتف بها العسكـرى بصوته الأجش، منهيًا نقـاش كان على وشـك أن يودى بحياة عائلة كاملة الى الجحيم على قدم وسـاق مهلكة .. 

    ******

    يجـلس على فراشـه الناعم الكبيـر، في غرفة متوسطة المعيشة، ذات اثـاث حديث، الخشب باللون البنـي اللامـع، الفراش بجـوار أريكـة صغيرة وامامها الدولاب البنـي، والذى طلاهم هو مؤخرًا باللون الأسود ليدمر مظهرهم الجذاب، لتتلائم مع حالته المرزية، غرفة كاملة ساكنة كانت ذات يوم مصدر ومنبـع للسعادة والذكريـات الحنونة، ولكن الان .. اصبحت مصدر للآلآم والقهر فقط !! 
    يتوسط غرفته جالسًا على الفراش بجسد مُهلك من كثرة الركض، وأعـين لطالما ترجتـه أن يرحمها ويغلق عليها جفون الراحة ولو قليلاً، ولكن مهلاً .. لن ولم يرحمهـا إلا بعد أن يتمم .. انتقامه !! 
    مدد جسـده قليلاً، ينظر للأعـلي بشرود، مقتطفـات خائنـة ركضـت في جنبـات عقله لتلك المدعوة بـ " خلود " .. 
    صحيح أسمًا على مسمى، يبدو أنها خالدة فى هذا العقـل الذى لن يهدأ، ولكن رويدًا رويدًا، أيـن رأيتهـا من قبل ؟! 
    سأل نفسه هكذا وهو يحك ذقنـه بطرف اصبعه الابيض، لم يصل لاجابة مهدئة، واخيرًا اُغلقت اهدابه السوداء، لتعلن هدنة صغيرة لذاك المقاتل الشرس من اجل انتقامه الشنيـع .. 
    في مكان مُظلم .. هادئ ..فتـاة في اواخر العشرينـات من عمرها، وجهها أبيض ملائكـي يشـع نورًا غريبًا، وجسـد يدل على انوثـة صاحبته الصارخة التى لم تظهر لأى شخص، وحجاب صغير كان يومًا ما مُهـندم قبل أن يُمزق ليظهر شعرها البنـي الغزيـر، تشجنـت قسمـات وجهها وحاولت تحريـك شفاهها ولسانها لتصرخ .. 
    ولكن، أين تلك الصرخة التى خشيت الظهـور أمام تلك الوحوش التى تقترب منها رويدًا رويدًا بيدًا ممسكـة بـ ( سيخًا ) من النـار، يزداد الذعر ويفترش قسماتها قبل عينيها الزيتونية الخضراء وهو يقترب منها بأبتسامة شيطانيـة، همس بصوت أشبه لفحيح الأفعى : 
    _ اية يا حلوة، خايفة ؟ 
    أشـار برأسه لليسَار حيث كان " مراد " يقـف مكبلاً بسلاسل حديدة، أطبقت على صدره وكتمت أنفاسـه بمفعول أقوى من الكمامات التى يضعوها على فمه، عيناه حمراء منذرة بأندلاع ثورة غاضبة .. 
    ثم قـال الرجل بجمود : 
    _ خليه يقولنا فين الفلاشة وأحنا نسيبكوا انتم الاتنين 
    هـزت رأسها نافية بسرعة كحركة معبرة عن عدم معرفتها بذاك الأمر، ولكن .. هل تعرف أن إبليس يرحم يومًا ؟! 
    بالطبع لا، هو مثلـه تمامًا، بلا قلب، ينفذ رغبة من أجل مصلحة تقودهم كالمنوم المغناطيسي نحو الشـر !! 
    أحتقـن وجهه بغضب هادر، وفي ثوانى كانت النـار على منتصف جسدها تكويـه بلا رحمة أو شفقـة، تحدث علامة اخرى مؤكدة ومُدلة على ذاك العذاب الذى وُشم على أقدارهم، صرخة مكتومة بقهر لم تخرج ابدًا، لم تسعفها حبالها الصوتية، وجرح غائر فُتح من جديد ليكوى قلبًا ادمى بعشق ابـدى، قبل الآمـه لهذا الجسد المنتهـك ... نظراتها وكأنها تصرخ فيه بعنف : 
    _ ارجووووك أنقذنـي أرجووووك !! 
    ... 
    هب منتصبًا على فراشـه والعـرق يتصبب منه بغزارة، خلايـاه المتألمة لم تنسي يومًا ذاك اليوم الذى أُصيبـت فيه بأبشع الاصابات، كانت وجهه متجهمًا شاحب، نظراتـه زائغة وعينـاه لامعـة بدموع قهرية، دموع لو سقطت لأحرقـت كل شخص لوث ذاك العشق، وجعل الايام التى من المفترض احلى ايامـه.. عبارة عن كابوس من الماضي يلاحقـه يوميًا .. حتى أقسم أنه لن ينام إلا عندما يذيقهم من نفس الكأس ... !! 

    *********

    يمدد جسده للخـلف على الأريكة الموضوعة في الركن في الصالة في منزلـه ومأواه الوحيد، كل ثانية تمـر يزفر فيها أكثر واقوى من ذى قبـل، وكأنـه يخرج همومـه في هذا الهواء، وضع يـده خلف رأسـه ناظرًا للأعلى بشـرود، شيئ ما جذبه لتلك صاحبة العيون الرماديـة، شيئ كره أن يستسلم له يومًا وإن كان مجرد اعجـاب، تجاعيـد وجهه وعينـاه الحادة كلما شعرت بطيف لمعة فيهم ألمـوه على الفور كنوع من التذكيـر فيمـا مضي، كالأنذار ينذر فور اقترابـه .. ! 
    جلس امامـه صديقـه الوحيـد والشخص الوحيد الذى سمح له أن يطلع على جـوف حياتـه المظلـم، تنحنح مروان بهدوء قائلاً : 
    _ أية يا مالك .. فيك أية ؟ 
    مطـت شفتيـه مجيبًا بلامبالاة مصطنعة : 
    _ مفيش عادى 
    سأله مرة اخـرى بأصرار لمـع في عينيه : 
    _ لأ مالك بجد، أية البت خشيت ف دماغك ولا أية يا برنس ؟ 
    هـز رأسـه نافيًا، ثم استطرد بهمس اشبه لفحيح الأفعى : 
    _ هى خيشـت، جامدة بنت الاية، بس اكيد زيها زى غيرها مسيرها ليلة 
    رمقـه بنظرات ذات مغزى وتابع محذرًا : 
    _ بس خلى بالك يا مالك دى مش من البنات اياهـم 
    اومـأ مالك بهدوء، ثم أردف بخفـوت : 
    _ أيوة عارف، و ده الى مخلينى مُتمسـك وعايزهـا 
    نهـض مروان مقتربًا منه، ثم ربت على كتفـه برفق، وكأنه يزيـح ذاك الوباء الذى يفكر فيه فى تلك الثوانى، ثم قال بجدية : 
    _ أنسـي يا صاحبى، أنا عارف إنك لسة مانستش 
    تقـوس فمه بابتسامة ساخرة واجاب : 
    _ مش فارقـة يعنى نسيت ولا لا، منا عايش أهو عادى ! 
    هـز رأسه نافيًا، وتجمدت ملامحه وهو يستطرد بخشونـة : 
    _ لازم تنسـى، وبعدين أنت لسة نضيف من جـوة، أنت لسة مالك بتاع زمان أنا متأكد 
    صـرخ فيه مالك بحدة تجلت في نبرتـه المتحشرجة : 
    _ لأ مش بتاع زمان، بتاع زمان مات، أنا دلوقتِ مالك تانى، بتاع شرب وبنات وسهر 
    ضحك بخفة سـاخــرًا : 
    _ لأ لأ ماتضحكش على نفسك، أنت ناسى إنك لحد الوقتى ملمستش ولا بنت، أخرك سجاير وحشيش ممكن بس يا برنـس !! 
    جـز مالك على أسنـانه بغيظ، بالفعـل هو لم يتخطـي ذاك الحاجـز يومًا، لم يستطـع كسره بقوة بالرغم من الهالات المجمعة حوله محاولةً لكسـره .. ! 
    تابـع مروان بصوت أجـش : 
    _ مش حتت بـت هتعمـل فيـك كدة يعنى 
    تأفف متابعًا بألم حاول اخفاؤوه : 
    _ مش البت الى كسرتنى، الى كسرنى الحاج جمال الى مفروض إنه أبويـا، يعمل فيا كدة !!!! 
    سارع مروان مبررًا : 
    _ بس يا مالك هـ .. آآ 
    قاطعـه مالك بنظرة معلنة عن نهايـة تلك المبررات التى لن ولم تجعل جليده يلين ولو لبرهه، ثم ضغط على كل حرف قائلاً : 
    _ ايًا كانت المبررات، مفيش أب يعمل ف ابنه كدة
    صمت برهه يستجمـع قواه التى كادت تخور ثم هتف : 
    _ مفيش أب يخلى مرات أبنه تخون أبنه مهما كانت الأسباب يا صاحبى !!!!! 

    *******

    تستجمـع شتـات نفسها المبعثرة، وأمـام مرآتـها التى تعكس صورتها الهادئة جلست على الكرسى الخشبي الصغير، تنظر لنفسها غرة وليدها التى شوهـت مسبقًا غرة اخرى، وكأنها تتأكد أن تلك المجروحة ما هى إلا سواها، تلقلقـت الدمـوع المتحجرة فى عينيهـا البنية وهى تتذكـر كل ما مـرت، ألم فوق ألم تعجـز عن إيقافـه حتى شعـرت أنه خُلـق لها فقط، ثانية اثنـان ثلاثـة ..بدأ قلبهـا يدق بصخب وقـوة شعرت أنه سيقف بسببها حتمًا، وهاجمتها سيل الذكريـات التى تعيد زراعة ذاك الألم مرارًا وتكرارًا بداخلها .. 
    فلاش بــاك 
    كانت تنـام على فراشهـا مغلقة الجفنين لتغطى عينيها المرهقـة، بملابسها التى تخـرج بها، وفجأة فى حلمًا ما من تلك الأحلام التى لا تعلم هى خير أم شر حقــًا ؟ .. 
    طفلة ذات اربعة سنوات، ذات ملابـس أنيقـة مهندمة، مكونة من جيب قصيرة وبلوزة نصف كم، شعرها أسود وملامحهـا معتادة كأى طفلة بعمرها بريئـة، كانت تركض على احدى الحشائش الخضراء لتبدو فراشة محلقة اعلى الزهور، واذ فجأةً تأتـى فتاة ملثمـة جسدها متوسط، بيدها قطعة قماش بيضاء، يبدو أنها مخدر، اقتربت من الطفلة رويدًا رويدًا من الخلف ثم فجأة انقضت عليها وسط بكاء الطفلة وخدرتهـا، لتتجه لأحدى السيارات السوداء التى كانت تنتظرها في جزء بعيد مُنقطـع، وهى تتلفت بين حين والاخـر، وبملامح باردة وقلب تعلم القسـوة بامتياز، مدت يدها لرجل ما يجلس بهدوء، امامه بعض الاجهزة الطبية، وكأنها سيارة للاسعاف، ثم خرج صوتها متحشرجًا : 
    _ انجز خلص شغلك بسرعة عشان اهلها 
    اومـأ موافقــًا وهو يمد يده ليحمل الطفلة ويمدد جسدها على فراش صغير جدًا بالسيارة، وبـدأ يعد كل شيئ ليسرق اعضاءهـا !!!! 
    تحت انظـار تلك التى سُميـت يومًا بالخطأ انثـى رهيفة المشاعر، ولكن اى مشاعر هذه !! .. مشاعرها كالصخر بين جنبات قلبها الذى ينبض بهدوء دون احتجاج على ما يحدث وكأنه اعتاده مؤخرًا .. 
    صرخت فيه مرة اخرى بحدة : 
    _ ما تنجز انت هتاخد اليوم !؟ 
    اومـأ مؤكدًا وهو منشغل مع الطفلة، ليقول بضيق حقيقي : 
    _ ما تهدى يا بنتى، دى سرقة اعضااء مش سلق بيض 
    تأففت وهى تتفحص الاجـواء، وبعد فترة لاحظـت الهلع على قسمات وجهه لتسأله بتوجس : 
    _ في اية الي حصل ؟ 
    اجابها بصوت مرتعـد : 
    _ دى آآ دى مـ ماتت !!!!! 
    هنا استيقظت هى من ذاك الحلم، بملامح تشربها الخوف والقلق والشفقة، وأعيـن كادت تبكى من قسوة ما رأت، لم تعطى لعقلها فرصة للتفكير ونهضت راكضة لذاك المكان الذى رأته في حلمها، ومن حظها أن والدتها لم تكن بالمنزل ذاك اليوم لتمنعها، استقلت سيارة اجرة تترجـاه أن يُسـرع، وتمنـع وتغلق باب جوف عينيها المتألمة بصعوبة شديدة، وصلت المكـان ووجدت ما رأته يتحقق بالفعل، ركضت باتجـاه الطفلة التى كادت تحملها الفتاة، وزمجرت في الفتاة بغضب وثبات مصطنع : 
    _ انتِ مين يا مجرمة انتِ، عايزة اية من بنتى ؟ 
    لم ترد الفتاة وانما ركضت مسرعة بقلق، في هذه اللحظات تقـدمت سيدة ما في منتصف عمرها، ترتدى حجابها الذى يدير ملامحها المتوجسة، اقتربت من خلود ثم صرخت فيها بهلع عندما رأت ابنتها هكذا :
    _ حرااامية مجرمة، عايزة تخطفى بنتى 
    هزت خلود رأسها بسرعة مبررة : 
    _ لأ آآ لأ أنـا آآ .. 
    قاطعتها السيدة فجأة وهى تخرج سكيـن صغير وتشوه يد خلود التى تحمل الفتاة، في حين أطلقـت خلود صرخة مدوية من شدة الألم .. 
    بـــــــاك 
    مدت يدها بأصابـع مرتعشة تتحـس ذاك الجرح الذى لم يـزول، ودموعها تغرق وجنتاها، ذاك الجرح الذى كان مكافأة على إنقاذها لطفلتهـا !! 
    علامة مشوهه تجعلها تتذكرهم دائمًا، أقسمت أنهـا اعتادت أن تستقبل المقابل القادم بأعين مغمضة وكرامة استعدت للمحو حتمًا، ضحكـت بسخرية عندما تذكرت صدمتهـا العميقة عندما علمت من هو والد تلك الطفلة، صدمتها التى لم يستطع اى شخص انتشالها منها لأكثر من خمسة شهـور !!!!! 
    ... 
    قطع حبل أفكـارها المتين والذى يتعمد تذكرتها دائمًا حتى لا تقـع في نفس الحفرة مرة اخـرى ببلاهة، صوت هاتفها معلنًا إتصال من صديقتها الوحيدة " شمس " 
    اجابت بصوت اجتمع فيه الألم والكسرة :
    _ ايوة يا شمس 
    _ اية يا بنتى أنتِ فين كدة ؟ 
    _ في البيت 
    _ طيب يلا قومى ألبسي، ونتقابل فى الحديقة العامة الى عند البيت
    _ طيب 
    _ مالك يا حبيبتي 
    _ مفيش عادى 
    _ أما أشوفك هعرف مالك بأذن الله
    _ ماشي، سلام
    _ سلام 

    أغلقـت تتنهـد بحزن تعمق وتمكّن منها، توغَل منها بقوة رغبةً فى تعليمها درسًا لن ولم تنساه يومًا، لتشعر بتلك الشفقة التى تكرهها تجتاحها تضامنًا معها هى !! 

    ********

    بعد فتـرة أنتهـت شمس من ارتـداء ملابسها بالكامل، ولم تضع اىً من مساحيق التجميل، خرجـت من غرفتها الصغيرة لتجد والدتـها تجلس على الأريكة تضع يدها أسفل خدها وتشاهد احدى الأفلام على تلفازهم الصغير، نظرت لها بهدوء ثم تنحنحت قائلة : 
    _ ماما
    همهمت والدتها بتساؤل دون أن تحيد بنظرها عن التلفاز : 
    _ اممم، خير يا شمس ؟ 
    اجابتها بجدية : 
    _ أنا رايحة أقابـل خلود صاحبتى 
    نظرت لها هنا بتوجس وقالت : 
    _ أنتِ متأكدة ؟ 
    اومـأت شمس بهدوء، لتتابع والدتها بامتعاض :
    _ طيب، أعملى الى يريحك 
    اتجهـت شمـس للخـارج بخطى ثابتة وهادئـة، وخرجت من المنزل، وقفت في بهو البناية لثوانى تلقي أخر نظرة على نفسها بالمرآة، وفجأة وجدته يسحبهـا من يدها ليدخلها امام باب منزل مغلق وفى اخر المدخل، شهقـت هى بصدمة، فوضع يده على شفتاها المنتكزتين ليمنع صوتها من الظهور، شحبت ملامحهـا وتشربها الرعب باستمتاع، بينما كان هو يراقب كل خلية في جسدها بأعين متلهفة، ابعد يده عن شفتاها يحيط خصرهـا بيده بحركة تملكيـة جعلت القشعريرة تسير بجسدها حتى عامودها الفقرى، لتهمس هى بصوت اشبه للبكـاء : 
    _ انت عايز منى اية ؟
    كـان مثبتــًا نظراته على شفتاها، تنتقل عينيه السوداء بين بحر عينيها الرمادية وشاطئه الذى يجعله يكاد يفقده عقله .. شفتاها الكرزية، ثم اقترب منها اكثر حتى إلتصق بها واجابها بنشوة :
    _ عايــزك انتِ 
    حاولت تحرير خصرها الذى احتلته يده القوية وهى تقول برجاء : 
    _ سيبنى فى خالى بقا يا استاذ مالك 
    هـز رأسـه نافيًـا، ليرسـو بسفينة شهوته على شاطئ لطالما كرهته وابتعدت عنه : 
    _ لأ مش هابعد، انتِ عايزة ده يحصل تحت مسمى الجواز ؟ أوك موافق 
    جهـر قلبها باعتراض شديد على هذا الحاكم الذى يترجم خوفها وإرتعاده جسدها بحروف معاكسة، لتستطرد هى باعتراض : 
    _ لأ لأ انا مش عاوزة اى حاجة، عايزاك تبعد عنى بس 
    لم يصغى لهـا، لم يكـن معها بالأساس، كانت حواسـه جميعها منشغلة بذاك الشيئ الجديد والذى لم يقابل منه حتى الان سواها برغبة جامحه في تعمقـه اكثر، ظل يقترب وهى تحاول إبعـاده حتى اصبح امام شفتاها تمامًا ليهمس برغبة : 
    _ انتِ حاجة حلوة أوووى 
    كلماتـه لا تجعلها تشعر بالفخر ابدًا كونها انثى، لا تشبع غزيرتها الانثوية وكبرياءها، بل تجعلها ترغب بشدة في تمزيق جسدها لأشلاء حتى لا تقهر اذنيها بسماع كلمات الغزل المسموم تلك .. 
    قطـع حبل افكارها بقبلـة عميقة وتملكية، قبلة تعدد زمنهـا وابتعد بها عن ذاك العالم، ليبدأ في تعلميها بالأبجدى حرفًا حرفًا من تلك التى تُدعى رومانسية، قلبها جعلت شفتاها تدمى دمًا امتعه بين شفتـاه الراغبـة، وفشلت محاولاتها في إبعاده، وفجأة سمعوا صوت تعرفه هى جيدًا جعل المعجزة تحدث ويبتعد مالك عنها : 
    _ الله الله، اية ده ان شاء الله يا ست شمس 
    كانـت فى موقف لا تحسد عليه، من جوف عميق أسود راغب لجوف اسوء واسوء تملكى متوحـش، غمغمت بأعين مذعورة :
    _ يحيى آآ انـا والله آآ .. 
    قاطعها مالك بسؤاله ليحيى بأنفـاس لاهثة :
    _ أنت مين أنت اصلاً، ملكش فيه 
    زمجر فيه يحيى غاضبًا : 
    _ لأ ليا يا حيلتها، دى مراتى 
    إتسعت حدقتا عيناها وهى تسمع لكلماته بتوجس، وقيدت الصدمة لسانها مرة اخرى، بينما قال مالك متساءلاً بجدية وسخرية واضحة : 
    _ لا والله، مراتك منين ان شاء الله، دى مش متجوزة
    هـز يحيى رأسه نافيًا، وقرر أستغلال تلك الفرصة التى لن تأتى له مرة اخرى، واخرج من جيبه ورقة ما قائلاً بخبث وهو يمد يده بها لمالك المدهوش : 
    _ لأ مراتى من ورقة الجواز العرفى دى !!!! 

    ********



    الفصل السابــع : 

    لحظـات مرت من الزمـن مشفقـة على تلك الفتـاة التى دُسـت بالخطأ بين ذئـاب ارادتها لرغبتهـا فقط، كـانت تحدق بـ يحيى كالبلهـاء، افكـار كالأمواج متلاطمـة بعقلها تحثهـا على الاقتـراب وصفـع ذاك الكاذب، ولكن لم تتحرك، تشبثب قدماها بالأرض خوفًا من القـادم الذى باتت تكرهه، ومالك .. كالصنـم يقـف وهو يطلع على تلك الورقة التى حطمـت أسارير رغبته في ثوانٍ معدودة، فكرة خلف الاخرى في عقلها يديرها يمينًا ويسارًا لتصبح ملكه إلا أن ذاك وبورقة بيضاء تافهه حطمهم بقوة واستمتـاع، قطـع الصمت صوت يحيى الذى كان يراقبهم بتركيز ليستشف رد فعلهم على ما قاله : 
    _ اية شايفكم اخرسيتوا يعنى !! 
    عقـد " مالك " ما بين حاجبيـه وقال بضيق :
    _ دى مجرد ورقة تافهه ! 
    جـز "يحيى" على أسنـانه بغيظ، يرمم ثقته الزائفة ثم تابع بثبات مصطنع :
    _ لأ دى مراتى، وعيب على رجولتك الى انت بتعمله ده 
    لم يتحمـل "مالك"، الدماء تغلى بعروقه بفعل كلماته الأولى، فأتى ومن دون وعى زاد اشتعالها لتنفجر بوجهه، اقترب منه "مالك" يخنقه بيده وهو يصيح فيه بحدة :
    _ اخرس يا حيوان وأتكلم مع اسيادك بأحترام، انا مكنتش اعرف، ولو كنت أعرف مكنتش بصيت لواحدة زيها اصلاً
    جـرح أخـر يضـاف لجروحهـا الخالـدة، ولكن هذه المرة بنكهة مختلفة، جرح لم تكن لها يـد به، صدمة خلف الاخرى تجعل جسدها يتبلد اكثـر، ولكن ازدياد كلماتهم المهينة كالأنذار لتفيق وتزمجر فيهم غاضبة : 
    _ بس اخرسووووا، ارحمونى بقا 
    ثم نظـرت "ليحيى" بأعيـن حمراء كحمرة جمرة مشتعلة وتزداد اشتعالاً : 
    _ وانت بقا مش ناوى تسيبنى في حالى، يا أخى أنا تعبت والله اعتقنى لوجه الله، جواز عُرفى اية الى بتتكلم عنه، انا لا عمرى اتجوزت عرفى ولا رسمى حتى 
    بالرغـم من أن كلماتها المتألمة حركت شيئً ما بداخله إلا أنه تغاضى عنه وهو يهتف ببرود : 
    _ ماتتكسفيش يا حبيبتى، محدش له عندنا حاجة !! 
    صرخت فيه باهتيـاج : 
    _ حبك بُرص، بطل كذب بقا وارحمنى ابوس ايدك 
    بينما يقـف هو يتابعهم بهدوء تـام، وبملامح باردة خالية من اى مشاعر .. كالصدق، لا يهتـم لأمرها، فقط كان يرغبها وبشدة، ولكن ما اثـار حنقـه وجعله اراد خنقهـا، هو إنكـارها وركضهـا خلف غطـاء الاحترام والعفـة .. ! 
    استطـرد يحيى بملامح حاول ألا تبدو واجمة :
    _ تؤ تؤ، مش واحد الى هيخلينا نعمل في بعض كدة يا زوجتى العزيزة بقا 
    وضـعت يدها على اذنيـها تمـنع ذاك الوباء من الوصول لأذنيها، ثم تابعت ببكاء :
    _ انا مش زوجة حد اسكت بقا 
    ملامحهـا وبكاءها وألمهـا أشيـاء تقوده بحبال متينـة نحو حافة التصديق !! 
    لا لا بالفعـل هذه ممثلة بارعة، إن ظللت ثانية واحدة سأصدقها بالفعل .. 
    ألقي مالك بالورقة في وجه "يحيى" وسار متجهًا للأعلى وهو يقول بنزق :
    _ ابقوا حلوا مشاكلكم الشخصية .. ولا اقصد الزوجية بعيد عنى 
    ثم إلتفت للمرة الاخيرة يلقي نظرة على الشمس التى لم تتوقف عن البكاء قائلاً :
    _ يـا مـــدام شــمــس !!!!
    تبًا .. تبًا لن أتحمـل كلمة اخـرى، لن أتحمل ضغطًا من القدر أكثر، حرف واحد الفاصل بينى وبين هذه الحياة ... 
    كانـت أخر كلمات تتردد بأذنهـا قبل أن تفقد وعيهـا وتقع مغشيةً عليها غير عابئة بالرخام اسفلها الذى استقبلها بصدر رحب اهون من تلك الذئــاب ... 

    ********

    ترجـلت من سيارة الأجـرة بخطى هادئـة بعدما وصلت للحديق العامة التى تقرب منزل شمس، اخرجت النقود من حقيبتها الصغيرة وأعطت للسائق الذى أنطلق على الفـور، تنهـدت تنهيدة طويلة متحمسة، ستلقي من ستبوح لها بكل ما يجيش في صدرها لتحمل نصفه معها، ولكن ما إن كانت هى تحمل اساسًا فوق طاقتها ؟! 
    كان الشـارع هادئ وخالى تمامًا، نعم فهذه هى منطقة المعادى التى تخشي خلود زيارتها بكثرة .. 
    فجـأة وجـدت يدًا قوية تحيط بذراعيها، ثم خدرتها بقطعة قماش بيضاء قبل أن تستطيع إطلاق الصرخة المفزوعة، ثم حملها على كتفه واتجه لاحدى السيارات التى كانت تنتظـره، متجهيـن لمنزل ما .. 
    بعد ساعة تقريبــًا بدأت تتململ فى حركتها، تشعر بقيـد لطالما كرهت ذكره يقيد يدها وقدمهـا وقطعة قماشة تسيطر على فاهها لتمنع الصرخات من إنقـاذها !! 
    وبالطبـع الدموع هذه المرة لم تنتظر لتأخذ الأذن للهطـول بغزارة ردًا عن كل ما يحيط بها من خـوف بدأ في الزراعة بداخلها الان .. 
    أقتـرب منها احد الشباب، مفتول العضلات يرتدى ملابس سوداء، وجهه مغطى بقناع أسود، نظر لها من اعلاها الى امحص قدميها قبل أن يقول بجمود : 
    _ ماتتعبيش نفسك لأنك مش هتعرفى تتحركِ أو تتكلمى ! 
    هـزت رأسها نافية بسرعة، اقترب منها قليلاً يسألها ببرود : 
    _ طبعًا عايزة تعرفى مين الي جابك هنا 
    اومـأت بلهفة فتابع بصوت قاسٍ : 
    _ مراد باشا 
    عقدت حاجبيها يشكلا شكلاً جامدًا تعبر عن عدم فهمها، فاستطرد هو بخشونة :
    _ الراجل الى انتم خطفتوه هو ومراته وعذبتـوا مراته ابشع العذاب 
    صرخـت فيه نظراتها بهلـع .. اى عذاب تتحدث عنه أنت !! 
    انا من تعذبـت .. انا من رقصت على اوتـار العذاب شتـاه وبألم مكتـوم، لا استطيع ايذاء شخصًا اخر هكذا، حتى اننى لا استطيـع إنقسامه مع غيرى !!!
    نطقت بهذه الحروف في خواطرها التى خرجت مقهورة من اعماقها وهى تحدق به ببكاء 
    فتأفف هو بضيق : 
    _ بلاش قرف وتمثيل، اهدى وخليكِ شاطرة بقا 
    ظـلت تبكـى بقهـر وبصمت، حتى مـرت دقائق معدودة، ووجـدت نفس الشاب الذى أنقـذته يتقـدم منها ببرود واضعًا يداه في جيب بنطاله، يطالعها بنظرات شامتـة، تثبتت حدقتيها عليه بصدمة لا اراديًا، فور لقاءهم انطلق كالسهم من القـوس ليعرف كل نقطة عنها، وبالفعل جلبها ليضع النقاط على الحـروف كما يقولون .. 
    أقتـرب منها شيئً فشيئ، فرأى الذعـر في عينـاها، يا ربـاه !! نفس النظرات التى حدقته بها معشوقته وهى تتعـذب !!! 
    ابعد القماش عن فاهها لتقول بتساؤل باكٍ :
    _ انت عايز منى اية حرام عليك 
    رفـع حاجبه الأيسر بتهكم وهتف :
    _ حرام عليا أنا بـردو 
    وفجأة تشنجـت ملامحه واشتـدت نظرات كأعيـن الصقر متابعًا :
    _ قولت لك هجيبك وكنت متأكد انك معاهم، وأهو جيبتك 
    هـزت رأسها نافية بسرعة :
    _ والله أنا ماعرفهمش خالص 
    تنهـد بقوة وهو يجلب احدى الكراسي الخشبية الصغيرة ويجلس عليها امامها تمامًا وهو يستطرد ببرود :
    _ شكل القاعدة مطولة، وأنا مش ورايا حاجة خالص، يعنى معاكِ للصبح ! 
    هـدأت تمامًا واسنكانت قسماتهـا وهى تجيبـه بنظرات غريبـة :
    _ يعنى أنت مصمم تعرف كل حاجة 
    اومـأ هو بتأكيـد وهو ينظر لها بتمعن و.... 

    ********

    فتـاة في منتـصف عمرهـا، ذات جسـد ممشـوق، جلست على احدى المقاعد الجلدية السوداء بأحدى الملاهى الليلية، تستنـد بقامتها عليها، ملامحها الهادئـة وواجمـة بعض الشيئ، أمسكـت بالسيجار بين اصابعها البيضاء، ثم وضعته بين شفتاها الورديتين تأخذ نفسًا عميقـــًا لتهدأ نفسها قليلاً، تعطى لنفسها هدنة من التفكـير، وعطلة حاولت أن تكون طويلة لعقلها الذى يخطط دائمًا وابدًا، اقتـرب منها احد الشباب، جسـده ضعيـف متهـالك من كثـرة المخدرات، ملامح طبيعية بعض الشيئ، تنهـدت وهى تعتـدل في جلستهـا لتقابل جلستـه، تقابلت نظراتهم سويًا، عيناهـا السوداء تحمـل عبئًا خافتًا لطالما حاولت مداراتـه، ودفنتـه فى منتقـع عميق ولكنه دائمًا يتسلل للظهور مرة اخرى .. 
    هتفـت هى بجـزع مشيرة لهيئته : 
    _ يابنى أنت مش هتبطل ادمـان، مش شايف منظرك بقا ازاى 
    رفــع كتفيـه وقال بلامبالاة :
    _ عادى يعنى، وبعدين هو أنا عارف أبطل 
    اومـأت هى مؤكـدة، ثم اقتربت منه قائلة بتصميم :
    _ أه تقدر لكن أنت الى مش عـاوز 
    تأفف وهو يقـول بنزق : 
    _ سيبك منى وخلينـا فيكِ انتِ 
    عقـدت ما بين حاجبيها بضيق، تعلم عن ظهر قلب السبيل الذى يرغب سلوكـه، هو صديقها ورفيقها الوحيد منذ أن اصبحت فى هذا العالم، ولكن .. لا مجال للتراجع !
    تنهـدت متابعة بملل :
    _ هتقول أية يا رواد ؟ 
    اجابها " رواد " مسرعًا :
    _ هقـول أنتِ امتى هتبطلى الشغل ده
    نظـرت له بتهكم وقالت : 
    _ لما أموت إن شاء الله، يابنى دى عصاابة مش لعب 
    أطـرق رأسه ارضًا بخـزى، ومن ثم أردف بأسـف :
    _ منا عشان كدة عايزك تبعدى يا نوارة 
    صمت برهه، يتنـفس بانتظـام ويهيئ نفسـه للمجازفـة القادمـة، تلقـي صمتها اجابة جعلته يشعر بطفيف أمل يتقافز امامه، فتابع متحمسًا : 
    _أنتِ نوارة حياتى، وأختى الصغيرة الى أمى ماجابتهاش، ربنا رماكِ فى طريقى عشان أحافظ عليكِ
    ثم قال متساءلاً بجدية :
    _ وبعدين مش هو ده الشغل الى اجبروكِ عليه، ومكنتش عايزاه ؟ 
    اومـأت وهى تقول ببرود :
    _ بس ده كـان زمان، قبل ما الدعارة والخطف والتخطيط يبقوا منى وابقي منهم يا اخويـا !!
    زفـر بضيق عارم، وأعلنـت خلايـاه الأستسلام، يتـوق لجعلها تكف عن هذا العمل الذى يدمـر حياتها رويدًا رويدًا، ولكن يشعر أنها تزداد طاقة سلبية وليست ايجابيـة ابدًا .. !! 
    وبحيـرة لمعـت في مقلتيـها قالت :
    _ بس في حاجة مخليانى مش عارفة أبطل تفكير 
    نظـر لها بنصف عين متساءلاً : 
    _ حاجة أية دى ؟ 
    تابـعت مسترسلة بتذكير :
    _ فاكر الطفلة الى كنت رايحة اخطفها عشان ناخد اعضاءها وقولت لك ظهرت شابة قالتلى دى بنتى وكدة 
    اومـأ مؤكدًا، لتستطرد هى بتعـجب :
    _ البت دى كـانت شبهى أووى، شبهى ده اية، دى كانت نسخة منى، كأنى واقفـة ادام مرايـة بتعكس صورتى .... !! 

    ********

    _ بقول لك أية يا مامى هاتِ 20 ألف جنية

    هتفت " زينـة " بتلك الجملة وهى تقتـرب من والدتها التى كانت تجلس في الحديقة الخضراء، على احدى الكراسي تستند بظهرها للخلف بأريحية، تحيطها حلقة من الورود والزهور ذات الرائحة الممتعة، تمسـك بأصابعها المجعدة كوب القهـوة، تستمـع بمظهر الغروب، إنسحـاب الشمس امامها من الكره الأرضية يذكرها بأنسحـاب السعادة الأبدية من حياتـها .. 
    نظرت لـ زينة التى اصبحت امامها واجابتها بملل :
    _ يعنى أنا مسكاكِ، ما تاخدى 
    مسحـت زينة على شعرها الأصفر الناعم بقوة، وهى تجيب متأففة :
    _ يعنى ماهو أنا لو كـنت عارفة كنت أخدت لوحدى، لكن أنتِ عارفة إن بابى شال مفتاح الخزنة معاكِ مخصوص عشان كدة 
    اومـأت والدتها ببرود، ثم أخرجـت المفتاح من جيبها واعطتهـا لزينة التى لمعت عيونها بسعادة وهى تقفـز :
    _ ميرسي جدًا يا أحلى مامى ! 
    ابتسمت الاخرى نصـف ابتسامة، لم تـدرِ السبب وراء تلك السعادة التى ظنتهت يومًا سعادة طفولية، لم تـدرِ أنها تدمـر وتهد جدران اساس ابنتها الوحيدة !! 
    كادت زينة تخطو اول درجـات السلم حتى سمعت صوت اخيهـا " مالك " الحاد :
    _ هتعملى أية بالفلوس دى يا زينة ؟ 
    شحـب وجهها على الفـور وأصبح لونه أصفـر، احيانًا كثيرة تشعر أن مالك والدها وليس مجرد اخاهـا .. ! 
    عادت للخلف لتنظر له ثم غمغمت متوترة :
    _ آآ يعنى هـ هعمل بيها أية يا مالك 
    سألها مرة اخرى بحدة أكثر :
    _ سؤالى واضح، عايزة الـ 20 ألف لية يا زينة ؟ 
    أبتلعت ريقها مجيبـة بازدراء : 
    _ عـايزة آآ عايزة أعمل Shopping يا مالك 
    حك ذقنـه بطرف إصبعه مفكرًا :
    _ اممممم، عايزة تعملى شوبينج ! 
    اومـأت هى مسرعة، في حين كانت والدتهم تراقبهم من دون أن يلاحظـوا، بينما فجأة قبض مالك على ذراعيها بعنف وصرخ فيها بحدة : 
    _ عايزة تعملى شوبينج ولا عايزة تسهرى مع شوية الصُيـع بتوعك ؟!
    كـادت تفقـد وعيها فى هذه اللحظـات، عقلها اصبح يتوقف عن العمل، ماذا !! 
    هل علم إنى اصبحتُ مدمنـة !!! 
    سألت هكذا في خواطرها، فتركهـا مالك وكأنه استشف سؤالها واتجه لوالدتها يزمجر فيها غاضبًا :
    _ امتى بقا هتبطلى اللامبالاة دى، امتى هتاخدى بالك من ولادك وبيتك زى باقي الستات، امتى هنحس إن ليكِ قيمة في حياتنـا بقاااا 
    تشعـر بالحـزن والألم يدمى قلبها، ولكنها اعتـادت مؤخرًا أن تبنـى حاجز وتصتنع البرود، فلا مانع من اللامبالاة هذه المرة ايضًا .. 
    _ معتقدش إن اليوم ده هيجى يا مالك 
    قالتهـا بهدوء حذر اصتعنته ليسألها هو باختنـاق :
    _ لية مش هيجى، لية مش عايزة تنطقي لله حتى !! 
    _ بلاش تعرف يا مالك احسن ليكم وليا 
    قالتها بصوت اقرب للبكاء ليصيح فيها مالك بهيستريـا : 
    _ لييييية، ما أنتِ لازم تقولى بقا أنا زهقت
    واخيرًا باحت بالسبب الذى جعل الصدمة جزءً من ملامحهم الهادئة والصارمة :
    _ عشان بعد ما أبوم قبل أن واحد تانى يشاركه فيا أنا مبقاش ليا عين ابص ليكوا حتى !!!!!! 

    *********

    بعـدما حملهـا بين يديـه الخشنـة، شعر بالسخونة تلفح وجهه، فها هى بين يديه ومعه، يشعر بملمس جسدها الناعم على يده، ضربـات قلبـه تزداد بشكل ملحوظ، ووجهه لم يعد يعرف له قسمات محددة، عينـاه تتلهف شوقــًا لها، ورغبته تحثه للركض بها خارجًا فى منزله، لينفرد بتلك الفراشة الناعمة التى تحلق فوق يديه، شكر مالك فى خواطره الذى جعلها تسقط هكذا، وتسللت الابتسامة العابثة لثغره وهو يتخيلها معه وله فقط وبأرادتها !! 
    طرق باب منزلهم بقدمه، لتفتح والدة شمس شاهقة من مظهر ابنتها، ولكنه سارع بتهدأتها :
    _ اهدى يا خالتى مفيش حاجة 
    سألته بهلع وهى تبتعد لتفسح له الطريق :
    _ أية الى حصل يا يحيى، شمس مالها ؟
    وضعهـا على الأريكة وهو يلعن قدماه التى جعلته يأتى هنا، واجبرته تلك الأخلاق التى من المفترض تتشبعه أن يتركها امام والدتها !! 
    بينما صاحت فيه " كريمة " ببعض الغضب :
    _ يابنى ريحنى وقولى بنتى مالها 
    زفـر مجيبًا بنفاذ صبر :
    _ روحى هاتِ مياة طيب يا خالتى وهفهمك كل حاجة 
    اومـأت موافقـة وهى تتجه للمطبخ لتجلب له الماء، عادت بعد ثوانى معدودة تمد يدها بالزجاجة، فأخذها يحيى وبدأ يرش قطرات الماء على شمس التى بدأت تحرك جفونـها، هنا سارعت كريمة التى كان يجتاحها القلق مرة اخرى بسؤاله :
    _ قولى بقا حصلها أية، دى كانت رايحة لصاحبتها ؟ 
    نظـر لها بخبث، نظراته متعلقة بها ولكنها بالحقيقة متعلقة في جنبـات عقله تبحث عن وسيلة ما ليستغل ما حدث لصالحه، منع ابتسامته من الظهور بصعوبة عندما وجد الفكرة الشيطانية فقال بحرج مصطنع :
    _ انا مش عارف أقولك اية بالظبط يا خالتى 
    سألته بضيق :
    _ انجز يا يحيى في اية ؟ 
    تنهـد وكأنه يفكـر وبخبث تشبع خلاياه اجابها :
    _ أصل شمس أعترفت لى بحبها، وأنا قولتلها إنى كمان بأحبها، بس مش هينفع أخطبها الوقتِ، فأغم عليها من الصدمة !!! 

    *******


    الفصل الثـامــن :

    نظـرت له مطـولة، وكأنها تتأكد إن كان بكامل قـواه العقلية أم لا، وحدقتـا عينيها المتسعتيـن دليل قـوى على صدمتهـا التى تلمع فى جوفيهـا الان، صدمتهـا تنضح بعدم تصديـق ذاك الأبله !! .. إن كـانت شمـس رفضت مسبقـــًا تلك الزيجـة، الان وبكـل بساطة تجعل الأدوار تنقلـب بأعجوبة وتطلب هى الزواج منه !!!! 
    واخيرًا بعد صمت طـال ينتظر فيه يحيى الاجابـة التى ستحدد مسار رياحـه الراغبة فى أى اتجاه ستسيـر، هتفت هى بنبرة غامضـة :
    _ أنت متأكد من اللى بتقوله ده يا يحيى ؟
    وكأنها تسألـه لتحذره ويعيـد تفكيـره، ولكنه هدم كل شيئ فوق رأسه بقوله الذى ملؤه الثقـة الزائفـة :
    _ أه طبعًا يا خالتى متأكـد جدًا كمان، هو أنا هأكـذب عليكِ لية يعنى ؟!
    هـزت رأسهـا موافقـة بعدم إقتنـاع، ثم فجأة نظرت له مردفة بقوة :
    _ بنتى مش هاتتجوزك ابدًا يا يحيى 
    تبـلد جسـده بصدمـة، وتحطمت لؤلؤات أمله وسعادتـه التى كانت تتقافـز، ليهمس غير مصدقــــًا : 
    _ نعم أزاى !!!!!! 
    رفـعت كتفيها واجابتـه ببساطـة :
    _ زى الناس، شمس ماتنفعلكش ولا أنت تنفع لها 
    جـز على أسنانـه كاملـة غيظًا حتى كادت تنكسـر ثم قـال غاضبًا :
    _ لية يا خالتى هو أنا فيا عيب ولا أية ؟ 
    هـزت رأسها نافية ببرود، ثم أكملت :
    _ لا لسمح الله، أنا بس بقـول أنت تستاهل واحدة أحسن من شمس 
    رمقـها بنظرات حادة وأستطرد بجدية : 
    _ بس أنا عـايز شمـس وهى عايزانى 
    زمجـرت فيه بغضب حاولت كبتـه :
    _ لأ، ماتتكلمش على لسـان شمس 
    برقـت عينـاه السوداء بشـرارات حارقـة كادت تحرق تلك السيدة من شدة غضبها، ثم صـرخ فيها بحدة :
    _ يعنى أنتِ مش مصدقانى يا خالتى، تتوقعى أبن أختك وزى أبنك هيكذب عليكِ ؟! 
    تأفـفت بضيق، الان فقط علمـت سبب رفض شمس لهذا البائـس، بالتأكيد إنه يصلها لدرجة غليـان بالدم عالية، لكِ الله يا ابنتـى ... ! 
    حدثت نفسها هكذا في خواطرها قبل أن تقول بملل :
    _ أنا مصدقـة إن بنتـى كانت رافضاك بس 
    غـرز يـده السمراء فى خصلات شعـره الأسود بقوة حتى كادت تختلـع، ثم اومـأ وأكمل بحنـق :
    _ ماشى، ماشى يا خالتى براحتك، لكن أحب أقول لك خدى بالك من بنتك كويس
    رفعت حاجبها الأيسر واجابته متهكمة :
    _ بنتى مالها إن شاء الله، تكنش بتعمل حاجة من ورايا ؟! 
    أجابهـا بغيظ واضح :
    _ أه، بنتـك مشيها بطــال يا خالتى، ويتتسرمح مع أبن الجيـران 
    ثم صرخ بصوت عالى جمع كـل معانى الحدة :
    _ بتعيش سـن المراهقة دلوقتِ حضرتها !!
    _ بـسسسس بقا حرام عليـك 
    جملـة شابتهـا صرخـة حادة من تلك البائـسة " شمس" التى كـان ينهـش فى شرفهـا بلا رحمة، ولكن جملتها لم توقـف يـد كريمة التى سقطـت على وجنتـاه الخشنة لتترك اثرًا واضحًا يذكـره دائمًا أن لا يتعـدى تلك الحدود التى يصنعها الأخـرون ... 
    وقـف مدهوشـــًا للحظـات يحاول إستيعاب ما حدث، صمت بعد صمت يتلقاه منهم والان الاثنـان يدافعان بكل ما يملكان من قـوة !!! 
    نهضـت شمس وقفت قبالتـه تطالعه بنظـرات قوية وحادة قبل أن تقـول بغضب هـادر : 
    _ أتقـي الله بقا، أنت ماشوفتنيش بأعمل حاجة زى دى !! 
    زفـر مطولاً، ثانيـة اثنـان ثلاثـة .. يجب إعداد الكلمـات بشكل جيـد حتى لا يضيـع مجهود هباءً .. 
    ثم غمغم ببـرود حاول إفتعاله :
    _ أيوة شوفتـك وأنت فـ حضنه وعمال يبوسـك وأنت مبسوطـة أوى 
    ظهـرت الصدمـة بوضوح على قسمـات " كريمة " فتابع بأسف مصطنع :
    _ افرض حد غيرى من سكان العمارة جه وشافكم، كان هيبقي منظركم أزاى ؟ 
    لم تستطـع شمـس الدفـاع عن نفسها، الكلمات التى يجب أن تدافع بها عن نفسها لتنفي هذه التهمة التى تخوض فى الشـرف لم تكـن بقاموسها يومًا !! 
    بينما أستطرد هو بنبرة توغلتها الشماتة :
    _ يقولوا أية ؟ الأب ف السجن عشان قتـل، والبنت ماشية على حـل شعرها !!! 
    لهنـا ويكـفي .. الطاقـة اللازمـة للصبر نفـذت بالفعـل، إن يختبـروا الطاقة بمقيـاس ستصيـح هى بالأخر وبفضله !! 
    فزمجرت فيه بحدة :
    _ اطلع برررررة، برررررة مش عايزة أشوف خلقتـك 
    نظـر لـ " كريمة " بدهشة كبيـرة على صمتهـا الذى كان حائـط متين قوى بُنـى بجوار شمس، ليقول بنبـرة غاضبة :
    _ وأنتِ ساكتة يا خالتى ؟ ساكتة على الي بنتك بتقوله ؟! 
    لم يلقـي اى اجابـه، فاستطرد بتوعد شرس : 
    _ أنا من النهاردة مش هعمل خاطر لصلة الدم اللي بتربطنا، ومبقاش يحيى لو ما عرفتك أنتِ مين يا ست شمس !!!! 
    إستـدار متجهًا للخـارج بخطوات كادت تُقسـم الأرض من شدتهـا ... 
    بينما اسرعت " كريمـة " تمسك بيد شمس بقوة وهى تسألهـا بجدية :
    _ الكلام الى كان بيقولوا ده صح ؟
    فسألتها شمس ايضًا بارتباك :
    _ كلام أية يا ماما ؟ 
    هـزتها بقوة وعنف قائلة بحدة : 
    _ إن الشاب اياه كنتِ ف حضنه وكان .. استغفر الله بيبوسك !!! 
    هـزت شمس رأسهـا نافيـة بسرعة، وسارعت مبررة بحـزن :
    _ لأ لأ يا ماما، ده كان ماسكنى بالعافية والله مش بمزاجى 
    أبتعـدت عنـها والدتهـا، ولأول مرة لشمس تجـد الجوفيـن اللذان ينبع منهما الحنان لم يصبحا سوى مصدر لغضب هادر سينفجـر بوجهها الان ... 
    وفجأة صفعتهـا والدتها بقوة جعلتها تترنـج فى مكانها و...... 

    *********

    بـدءت " خلـود " تقـص عليه كـل شيئ، من بدايـة ما حدث معها، تقـص عليه رحلة عذابهـا من بدايتها حتى الان، بألامها واستسلامها.. ومحاولاتها، ذعـر الاخريـن منها، لم تنسي حرفًا واحدًا، وكأنها شريط مُسجـل يشهد على تعذيب تلك الفتاة !! 
    لم تتلقـي أى معالـم صدمة على ملامحه الحـادة، وكأنه وجهها على تعابير الهدوء وتحكم فيها حتى لا تتغير ابدًا .. 
    انتهـت من حديثهـا لتنظر له متفحصة ملامح وجهها، تحاول أن تستشف رد فعله القاسي الذى اعتـادت عليه، لتجـده يصفق بيـده عدة مرات، ثم هدأ ونظر لها نظرة لم تفهمها، ثم هتف ساخرًا :
    _ لأ لأ حلو حلوو، مسرحية جميلة 
    ثم سألها بمزاح غير محبب :
    _ مين الى مألف المسرحية دى ؟ 
    لم تتحـدث هى، صمتت .. تحدتها الحروف وعاندها القـدر فصمتت مرة اخرى سامحة له بتخطِ كل الحدود الحمراء، فاردف بنظرات كسـتها الشماتة :
    _ اكيد انتِ، أبقي فكرينـى أقدم لك ف معهد التمثيل هتبقي رائعة .. بس ف السجن ان شاء الله !!! 
    عينـيها المهددة بدمـوع عانت من منعها من الخـروج، الان سنحت لها بالتعبير عن الألام التى تجيش بصدرها، فـبكت بحدة، بكت بكاء مرير لم تعهده امام شخص غريب، ثم نظرت له بعينيها الحمراء وصرخت فيه :
    _ أنت مش مصدقنى لية ؟؟؟؟؟ 
    رفـع كتفيـه وقال بجديـة واضحة :
    _ أنتِ مجنونة، عايزانى أصدق الهبل ده، لية مكشـوف عنك الحجـاب !؟ 
    بدت ملامحها ساكنة مستسلمة وهى تسأله بقلة حيلة :
    _ طب أعمل لك أية عشان تصدقنى ؟ 
    لم يبالـى بسؤالها وقال بتهكم مرير :
    _ ولما أنتِ مكشوف عنك الحجاب كدة، لية مابتشوفيش الحاجات الحلوة الى هتحصل ف المستقبل ؟ لية بتشوفى الوحش بس إلا اذا كان انتِ بتفذيه !؟ 
    تهمـة اخـرى تُضـاف للتهم الباطلة التى وجـهت لها، ولكنه كشف الغطاء عن نقطة لم تلحظها من قبل " لما ترى السيئ ولا ترى الجيد " ؟! 
    همسـت من دون وعى :
    _ فعلاً، أول مرة ألاحظ الحته دى !
    _ والله !! 
    قالها بصوت ساخر، قبل أن يتقدم منها ممسكًا بذراعها وهو يصيح فيها بقوة :
    _ أنطقي يا بت أنتِ مفكرانى أهبل هصدق العبط ده ؟ 
    اجابتـه ببكاء لم تجـد وسيلة غيره للتعبير :
    _ والله العظيم أنا ما بكذب، ومعرفش الناس الى أنت بتتكلم عنهم دول، ولا أعرف كانوا عاوزين يقتلوك لية، ولا أعرف أنت مين اصلاً !! 
    لا ينكـر أنه لمـس الصدق في نبراتهـا، ولكن ما رأه في حياته يحتم عليه عدم تصديق أى شخص بسهولة .. 
    نظرة لها بغموض متساءلاً :
    _ لأخر مرة هسألك أنتِ متأكدة من كلامك 
    اومـأت مسرعة وهى تقول :
    _ أيوة وربنا شاهد على كل حرف 
    نهـض يمسـح على شعره بقوة كمحاولة لضبط تفكيـره، إن كان ما سيفعله الان صعب بالفعل ولكن سيحـل ويرتب ويجيب على كل تلك الاسئلة التى تـدور بعقله الان .. 
    وبصوت صـدح في الارجاء قوى نادى :
    _ يا خليل 
    اتـاه نفس الرجـل المدعو بخليل على الفور وهو يقول بنبرة هادئة مهذبة :
    _ أيوة يا مراد بيه اؤمرنى ؟ 
    تنهـد مراد قبل أن يردف أمرًا بشيئ لم تتوقعه " خلود " :
    _ روح هات المأذون 
    عقـدت خلود حاجبيها بعدم فهم، لتجده ينظر لها بغموض ثم تابع بابتسامة متهكمة :
    _ عشان هنتجوز أنا والأنسـة !!!!!!!!! 

    ********

    لم تكـن تتوقـع أن لسانهـا سيبوح بما كانت تكتمـه وتخبأه في مستنقعها الغامض لسنـوات، ظهـر النـدم على قسماتها جليًا وهى ترى اولادها امامها يحدقون فيها وكأنهم ليسوا على قيد الحياة، واخيرًا قطـع مالك قوله الضاحك وهو مازال تحت تأثير الصدمة :
    _ يعنى أية الكلام ده 
    رفعـت كتفيها واجابت بلامبالاة مصطنعة :
    _ يعنى زى ما قولت لك 
    سألها بصوت عالى كاد يهد جدران المنزل :
    _ يعنى ايييية قبل ان واحد يشاركه فيكِ 
    بالرغـم انها فزعـت لغضبه لهذا الحد، إلا انها سيطرت على انفعالاتها بصعوبة وهى تتابع ببرود اصطنعته :
    _ اية الى مش فاهمه بالظبط يا مالك، كنت مفكراك ازكى من كدة 
    امسك برأسـه بقوة، يكاد يشعـر انها ستنفجر من كثرة التفكير، والده قـَبل ان يشاركه اخر فى زوجته .. كيف ومتى ؟! 
    لا لا هناك شيئ خاطـئ .. 
    وكأن زينة فهمت ما يدور برأسه فقالت مؤيدة بعدم تصديق : 
    _ لا لا اكيد ماما مش قصدها كدة يا مالك 
    وبغيظ مكبـوت سألها مالك مرة اخرى :
    _ أرجوكِ فهمينى براحة، ازاااى ؟ 
    صمت لبرهـه، تستعيد رباطة جأشها، ومن دون وعى نطقت ما ستنـدم عليه ايضًا :
    _ يعنى تبادل متعـة يا مالك 
    شهقـة غير مصدقـة مصدومة فى هيئة عاشـت طوال حياتها مفتخرة بها 
    ليهمس مالك ببلاهة :
    _ يعنى اية ؟ 
    زفـرت غاضبة، ثم سألته بحنـق :
    _ عايزنـى أوضـح لك أكتر من كدة .. حاضر
    اومـأت متابعـة بنبرة توغلهـا الألم لتذكرها تلك الليلة المشؤومة :
    _ يعنى أبـوك قـالى في ضيوف جايـن لنا، انا استغربت لكن ماعلقتش، جم الضيوف والى كانـوا واحد صاحبه ومراتـه 
    إبتلعت غصة مريرة في حلقها، وأردفت بصوت اشبه للبكاء :
    _ وطلعت انا ومراته اوضة لوحدنا بنتكلم عقبال ما هما يخلصوا شغل، لاقتها بعد شوية قامت وسابت لى شنطة فيها قميص نوم بس، سألتها اية ده مفهمتنيش حاجة، بعدها نزلت وجه جوزهـا، لاقيته بيقلع التيشرت وبيقولى يلا البسي القميص ده، صرخت وقولتله انت مجنون مستحيل 
    ثم ضحكت بتهكم مكملة :
    _ قولتله جوزى برة يا مجنون أعقل 
    ثم سألتهم بمرارة :
    _ تخيلوا رد قالى أية ؟ 
    بالطبع لم تجـد اجابة، فكانوا امامهم كالاصنـام محدقة بها فقط، فاستطردت هى ببكاء :
    _ قالى جوزك بيستمتع بمراتى برة وأنا جاى استمتع بيكِ، نمتع بعض يعنى، احنا مش اغراب !!!!! 
    قاطعهـا مالك مشيرًا بيده بصرخة حادة :
    _ بسسسس كفاية مش قادر اسمع كفااية 
    صرخت فيه بحدة مماثلة بل زادت :
    _ أنت مش قادر تسمع مجرد كلام، امال انا الى شوفت اسوء يوم بعنيا اعمل اية ؟ 
    هـز رأسه نافيًا وهو يركـض متجهًا للخارج غير عابئًا بمناداة شقيقته أو والدته النادمة ... !،

    *********

    كـان يحيى يجـلس فى منـزل ما، متوسط ذو اثاث حديـث، في الصالـون يجلس هو على أريكـة ما، يضـع قدم فوق الاخرى، وبين يديـه السمـراء سيجار فاهر، كان يدخن بشراهة وهو محدق بلاشيئ، لا تغفل عن عينه صورتها وهى تطرده للخارج او والدتها وهى تضربه بلا تردد !! 
    ودوت فكرة الانتقـام في عقله، يساندها وسوسة صديقه الخبيث بجواره الذى كان يقول بصوت اشبه لفحيح الافعى :
    _ أنا مش عارف أنت أزاى سكت لهم يا يحيى كدة !!! 
    هـز قدمـه بسرعة، وبدء الغضب في الظهور مرة اخرى، ثم اجابه بحدة :
    _ انا نفسي مش عارف، بس ورحمة امى ما هسكت لهم 
    فتابع الاخر وهو يمط شفتيه :
    _طبعًا، انا لو منك هنتقم منهم ابشع انتقام 
    هز رأسه هامسًا بتوعد :
    _ وهو كذلك، هخليهم يتمنوا الموت من خجلهم من الناس 
    فسأله صديقه باستفسار :
    _ هتعمل اية يعنى يا يحيى ؟ 
    نظـر له لدقيقة قبل ان يقول متساءلاً بنصف عين :
    _ لية يعنى يهمك ف اية ؟ 
    رفع كتفيه يقول بلامبالاة مصطنعة :
    _ ابدًا، انا كنت بسأل بس عشان لو اقدر اساعدك 
    ربت على كتفه مكملاً بحب زائف :
    _ أنت عارف كرامتك من كرامتى يا صاحبى 
    اومـأ يحيى ثم نظر له قائلاً بخبث :
    _ أنت فعلاً هتساعدنى يا شبـح 
    سأله بفضول قاتل :
    _ هساعدك ازاى طب ؟؟ 
    اعتـدل في جلستـه ليصبح مقابلاً له، ثم سأله بجدية :
    _ مش أنت ليك فـ الفوتوشوب وحاجة الكمبيوتر دى ؟ 
    اومـأ مشيرًا لنفسـه بفخر متزايد :
    _ طبعًا، ده العبد لله سموه الشبح عشان انا ماشاء الله عليا ف الحاجات دى 
    اومـأ يحيى وهو يخـرج هاتفـه من جيب بنطالـه، ثم بدء يبحث عن صور لشمس حتى وجدها على هاتفه، فأشار عليها قائلاً بخبث :
    _ بص بقا البت دى 
    كادت عينـاه تخترق الهاتف وهو يحملق بشمس التى كانت ترتدى ملابسها العادية في المنزل، مثل شورت قصير وتيشرت دون اكمام وما شابه ذلك، ثم همس برغبة واضحة ؛
    _ فرسة بنت الاييية، تعرفها منين دى ؟ 
    وكزه فى ذراعه بنظرات محذرة، ثم قال بحدة :
    _ عايزك بقا تركبلى صورها على صور كام بنت من بنات الليل كدة، من غير هدوم خالص، بس الى يشوفها يصدق، وتطبعهم لى كدة
    اومـأ الاخر مسرعًا وعيناه لم تبتعد عن الصور :
    _ اكييد ، هات انت بس الصور 
    اومـأ يحيى موافقــًا ثم ارسل له الصور على هاتفه والشر والانتقام غشاوة على عيناه .. 

    ********

    وقفـت شمس تطالع والدتها بأعبن مصدومة وحادة بعض الشيئ لأول مرة، ثم صاحت مستنكـرة حديثها اللاذع :
    _ يعنى اية الكلام ده يا امى 
    اشـارت والدتها لها بالصمت، ثم تابعت جادة :
    _ يعنى زى ما سمعتِ يا بنت بطنى، يا تتجوزى يحيى اما اكيد هتفضلى من غير جواز 
    ثم عقـدت ساعديها مكملة بصرامة لاذعة :
    _ وأنا معنديش بنات تقعد من غير جواز 
    كادت شمس تبكى وهى تتشدق بـ :
    _ حرام عليكِ يا ماما، عاوزانى اتجوز يحيى بعد كل الى قاله ادامك 
    اومـأت والدتها بقوة، تعلم حد الجنون أن شمس صادقة، ولكن إن كانت كرامتهم ستبعثر اكثر من ذلك، فتضحية شمس أهون مليون مرة !! 
    فقالت شمس بتحدى :
    _ وأنا مش هتجوز يحيى لو اخر واحد ف الدنيا 
    والدتهـا بصوت بارد خالى من الشفقة : 
    _ مش بمزاجك، انا هكلم يحيى واقوله موافقة 
    ثم صمتت برهه، لتتابع بنصل قاتل :
    _ اهو يستر عليكِ لو رضى، احنا مش ناقصين فضايح !! 
    _ فضايح اية، انا وشمس هنتجوز وحالاً 
    هتف هذه الجملة مالك الذى دلف لتوه عندما وجد الباب مفتوحًا، كانت هيئته لا توحى بالخير ابدًا، من يراه هكذا ترتعد اوصاله على الفور وتنهار حصونه .. 
    بينما قالت كريمة متهكمة :
    _ لا والله، وحضرتك عشان غنى هتجبر بنتى على الجواز منك !؟ 
    نظـر لشمس نظرة تفهم معناها جيدًا، نظرة جعلتها تكره الاربع حروف ذاك .. الرغبة 
    فأردف بتصميم اوضح انه لا نقاش بعد الان :
    _ الليلة دى شمس هتكون ليا .. جسم وعقـل !!!!!!!!!!!! 

    *********


    الفصل التـاسـع :

    نظـرت كلاً منهما لمالك بذهـول حقيقـى، أطلـق قانـون أخر فى عهده يحتم على تلك المسكينـة أن تكن له مثل اللعبة يحركها يمينًا ويسـارًا ملئ ارادتـه، بينما كانت نظراتـه تائهـه شـاردة .. ولكن بريـق التصميم اللامـع لا يختفي ابدًا من تلك الحلكة الغامضـة، وكأن " كريمـة " شعرت بلجـام لسـان "شمس"، فقالـت بجزع :
    _ بغض النظر عن إنك ابن مين بس متقدرش تيجى تفرض نفسك على بنتى !
    لم يجيبهـا ولم تتغير تعابير وجهه بل زادت خشـونـة، ثم هتـف بصوت صـلب :
    _ أنا لما بعـوز حاجة باخدهـا، وهاخد شمس
    واخيـرًا نطقـت "شمس" ثم هـدرت فيه غاضبة :
    _ لأ، قولت لك مستحيل أفهم بقــي ! 
    تفـوه بحـروف دبـت الرعـب فى أوصالها :
    _ أنا مابخدش رأيك، أنا بعرفك عشان تعملى حسابـك بس 
    كثـرت عليهـا المشاكـل والصدمـات وتشبكت بقوة حتى باتت يصعب حلهـا، وليس أمامها سوى حلاً واحدًا، أن تُبيدهـا من أساسـها .. !! 
    بينما عقـدت "كريمة" ساعديها ورمقته بنظرات جادة وقـالت :
    _ اللي عندك أعمله، بنتى مش هتتجوز غير إبن خالتها بس 
    تقـوش ثغـره بابتسامة ساخرة وهو يكمل :
    _ بس اللى عندى مُش هيعجبكم ابدًا 
    صمت لبرهه ينظر لكلاهما بتدقيق، ثم سألها بضيق شابه بعض الحدة :
    _ ثم إن فضايح أية وعبط أية اللى إبن خالتها ده هيستر عليها عشانها ؟ 
    همسـت بحنـق :
    _ ملكش دعوة دى مسائل عائلية يا أستاذ
    بالرغـم من ما يحتـرق بداخلـه ويصدر صريرًا عاليًا كرد فعل لكلام والدته المسموم إلا أنه ضحـك بسخرية وهو يتابـع بغمزة "لشمس" :
    _ طب ما أنا ممكـن أستـر عليها بداله 
    صرخـت فيه شمـس بصوت مختنـق :
    _ بس بقي هو حد قال لك عليا إنى قليلة الشـرف للدرجة عشان ندور على واحد يستـر عليا !! 
    وإنزلقـت غشـاوة الدموع على عينيها الرمادية لتجذبه أكثر من ذى قبل، وكأنها كان لها مفعول اخـر جعلها كالمغيبـة تتحـرك دون أن تدرى بهـول ما سيُحط عليها من تخطيها لتلك الجدران التى هَلكت في بناءهـا .. إتجهـت ناحيـة مالك ليظهـر فارق الطول بينهما، ثم اخذت تضربه بقبضتها الصغيرة البيضاء على صدره وهى تزمجر فيه :
    _ عارف بيقولوا فضايح على أية، على منظرى اللي شافه معاك وأنت حاضنى بالعافية و...آآ 
    لم تستطـع تكملة تلك الكلمة، الكلمة التى تترك قشعريرة واضحة في جسدها بمجرد تذكـرها ... 
    ضربتـه بقوة اكثر وهى تكمل ببكاء :
    _ من ساعة ما شوفتنى وأنت كأنك الملك وأنا جارية عندك !! 
    بـدت كأنها تحاول هـز جدار صلب قـوى لا يتأثـر بهمسـات رقيقة مثلها، كانت أنظـاره مسلطة على عينيهـا، وكأنها تجذبه لجوفها أكثر وأكثـر لتغرقه برغبته الحارقة !! 
    أمسـك بقبضتـا يدها الصغيرة التى بدت ككرة صغيرة جدًا بين يديـه، ثم شدها لتصبح ملاصقة له وأردف بهمس :
    _ أنا فعلاً الملك، ومالكك أنتِ 
    هنـا صاحت فيهم "كريمة" بحدة :
    _ بس، أبعدى عنه يا شمس، وأنت يابنى سيبها بقا وروح لحالك 
    لم يتـأثر بكلامها ولا صراخـها، بنى جدارًا عازلاً ولن يبتعد عن هذا المنزل إلا مع لؤلؤتيه الرماديتين، لقد قرر وأنتهى الأمر !!
    نظـر "لشمس" الباكية كالطفلة الصغيرة، ثم غمغم بصوت قاتم :
    _ هى ليلة واحدة وبعد كدة أنتِ اللي هتترجينى أتجـوزك !
    بمجـرد أن خطـت الفكرة داخل جنبـات عقلها حتى سيطر عليها الهلع، وظهـر الرفض كعين الشمس، ثم نظرت له برجاء قائلة :
    _ عشان خاطـر أى حاجة حلوة إبعد عنى، أنا مش عارفة أنت مصمم تعذبنى لية !!؟ 
    لماذا ؟! .. هو نفسه لا يعرف إجابة هذا السؤال الذى حرك بداخله الكثير، ولكـنه اجابهـا بما أملاه عليه عقله الباطن :
    _ لإنك عجبتينى ودخلتِ دماغى ! 
    كـادت " كريمة " تتفـوه بشيئ اخـر حتى قاطعها " مالك " بصوت حاد :
    _ بس، أنا قاعد بتناقش معاكم لية ؟؟؟ 
    ثم نظـر "لشمس" التى سألته بتوجس :
    _ يعنى أية !؟
    أجابهـا بطريقتـه الخاصة .. ألا وهى التنفيذ الفَورى على قراراته الغير صائبة، مد يده أسفل ركبتيهـا والأخرى عند رقبتها ثم حملهـا عنوة عنها، حاولت الأعتراض أو الصراخ، ولكنه أقتـرب من اذنيهـا يهمس بصوت خالى من جميع معانى الرحمة :
    _ هششش، خليكِ زى الشاطرة كدة، بدل ما أصبح على الحاج صابر فـ السجن بطريقتى بقاا 
    صمتت .. صمتت مرة أخـرى، وماذا عساها أن تفعـل ؟! لقد قيدهـا بما يجعلها على قيد الحيـاة، والدها الذى تعشقه وتموت قهرًا إن أصابه مكـروه .. 
    بينما قالت "كريمة" بصوت عالى :
    _ سيبها بدل ما أصوت وألم سكان العمارة كلهم هنا 
    اومـأ ببرود وهو يتجـه للخـارج، ثم رفع كتفيه يقول بجدية :
    _ براحتك، بس ماتنسيش تقولي لهم عن السبب اللى هيخلينى أستر على بنتك الوحيدة !!! 
    وإتجـه للخـارج مغادرًا مع تلك العصفورة التى ترقـد على ذراعيه مرتجفـة، غير عابئًا بما سيسببه لتلك الأسرة البسيطة !!! 

    ********

    جحظـت عيناها البنيـة بصدمـة، ستتـزوج وممن ؟ .. من رجل لا تعرفـه، رأتـه صدفـة فى حُلم كرهت أسمه تسبب لها فى كل هذه المضاعفـات، كيف ستربـط نفسها بشخص تجهله وكان متزوج من قبل برابـط أبدى مقـدس .. الزواج، ولكن أى زواج هذا من دون موافقتهـا !!؟ 
    وكأنه علم بالسؤال الذى يدور برأسها، فقرر أن يُريحها ولو قليلاً وقال "مراد " :
    _ طبعًا أنتِ مش محتاجة أقول لك اد اية لازم توافقى على الجواز 
    هـزت رأسها نافية، وإكتفت بما أراد عقلها ترديده :
    _ أنت مجنـون !!!
    نظـر لها نظرة أرعبتهـا، نظرة جعلتها تصمت وتبتلع باقي كلماتها في جوفها، ثم همـس بحـدة :
    _ أيوة مجنون من ساعة ما كانوا أو كنتوا السبب فى موت حبيبتى وأم أبنى اللي كان جاى ! 
    هزت رأسها نافيـة بغلب، ثم بـدء تبكِ مرة اخرى وهى تقول بقلة حيلة :
    _ يا أستاذ مراد أنا متعاطفة معاك جدًا ومع زوجة حضرتك الله يرحمها، لكن أنا ذنبى أية ف ده كله !!؟ 
    هـدر فيهـا بصوت كتم شهقاتها :
    _ ذنبك إنك معاهم، وإنهم بعتوكِ على أساس مُش هكشفك !
    في هذه اللحظـات أرادت قتـل نفسها حقــًا، كم مرة ستعيد عليه نفس الجملة !! 
    ام أنه يتعمـد احراقها من الداخل وتجاهل كلامها وكأنه هواء !!!!
    نظرت له ثم هتفت بصوت هادئ :
    _ لأخر مرة بقول لك أنا ماعرفهمش ابدًا 
    هـز رأسه ولمعت عينـاه وهو يقول بجدية :
    _ وده اللي أنا هعرفه، بس بعد الجواز 
    هـزت رأسها نافية بسرعة :
    _ حرام عليك، هتدمر حياتى عشان تتأكد من حاجة أنا مظلومة فيها ؟!
    رفع كتفيه وقال بلامبالاة اغاظتها :
    _ حقيقي مش عارف، لكن ربك هو اللي رماكِ فى طريقى 
    ثم ثبت عينيه على عينيها اللامعة بالدموع وأستطرد بتهكم :
    _ أعترضى بقا على قضاء ربنا !!
    نعم .. الان تأكدت أنه اختبـار من الله عزوجل، ولكنه أختبـار يصعب عليها تخطيه بجـدارة، واخيـرًا .. عندما تيقنـت أن طوق النجـاة لن يطفـو على سطح تلك المعضلة أمامها إلا فى الوقت المناسب، قررت الإستسلام ... ! 
    وسألته بدهـاء :
    _ طب أزاى جواز رسمى وأنا مش معايا بطاقة ؟ 
    رفـع حاجبه الأيسـر مجيبًا بسخرية :
    _ لا والله ! 
    ثم أستـدار وأمسك بحقيبتها الملقاه على الأرض ثم ألقي بكل شيئ على الأرضية واخرج البطاقة الشخصية الخاصة بها، ثم اشـار لها بها وأردف متهكم :
    _ ودى أية دى بقي ؟ 
    لم يجـد منها اجابة بالطبـع، فزمجر فيها غاضبًا :
    _ بلاش كذب من أولها عشان نكون كويسيـن مع بعض 
    لم تهتـم وسألته ببلاهة مرة اخرى :
    _ طب ازاى !! كدة الجواز باطل، لأن مفيش موافقة اهل 
    تأفف بضيق ثم اجابها بجدية :
    _ شكلى هتعب معاكِ لكن مش مشكلة، بصي أنتِ بما إنك كملتِ 21 سنة ف خلاص تقدرى تتجوزى من غير ولى أمرك 
    أبطـل لها كل الحجج الممكـنة، كلما تبنى جدار سريع يهدمه أسـرع !! وكأنه يترجم لها معنى الأستسلام الحقيقي الان .. 
    أقتـرب منها فجأة لتلفح أنفاسه بشرتهـا القمحاوية، ليشعر باضطراب أنفاسها المختنقـة، لا يريد قربها ولا يرغبه، في عُرفه حُرم عليه الزواج عامةً من بعد زوجتـه، ولكن .. المضطر يركب الصعب كما يُقـال .. 
    فك الحبال المتينة التى تركـت اثرًا واضحًا على يدها، ومع كل لمسة ليدها تسير رعشة غريبة في جسدها بالكامل .. 
    انتهى من فكهـا ثم نظر لها بلا تعابير واضحة وقال :
    _ قومى واظبطى نفسك عشان المأذون زمانه على وصول !!!! 

    *********

    بمجـرد ذهـاب "مالك" من المنزل لم تنتظـر "زينة " اكثر من ذلك وركضـت هى الاخرى وكأن المعاناة التى قصتها والدتهم لم تسبب لهم سوى الفرار والهرب من ذاك الذى عكـر صفوهم، لم تأبه بوالدتها التى اصبحت تبكى وتندب ندمًا على لسانها ومشاعرها الجياشة التى لم تستطع التحكم بها، ركبت زينـة سيارتـها، ثم امسكت بهاتفهـا تتصل بـصديقها الذى باتت تكرهه حد العمى، فأتاها صوته الرجولى بعد ثوانى مجيبًا ببرود :

    _ امممم، اية يا زينـة يا حبيبتى 
    _ زياد، زياد عايزة جرعة حالاً
    _ أسف يا زينتى بس مش فاضى now
    _ زياد قوووووم لازم تيجى وتجيب لى حالاً أرجـوك 
    _ زينة هانم بجلالة قدرها بتترجانى، بس اعمل أية يا غالية، ما باليد حيلة ! 
    _ ماتستعبطش قوم تعالى لى حالاً 
    _ فى ايدى حته اجنبى مش هقدر اسيبها وماستمتعش بيها عشانك يا زينة بصراحة
    _ هديك اللي انت عايزه بس قوم ارجوك
    _ اى حاجة متأكدة ؟ 
    _ اه اه يلا بسرعة 
    _ تؤ بردو مكسل معلش 
    _ لاااااا مش قادرة دماغى، طب قولى فين وانا اروح اجيب 
    _ مقدرش .. اعتذر 

    أغلقـت الهاتـف وتكاد تبكِ، كرهت اليوم الذى تعرفـت فيه على ذاك الشيطـان، وكرهت المشاكل التى دفعتها نحو الادمـان !!! .. ماذا تفعل الان، الألم اشد من اى شيئ.. بدء وجهها يشحب شيئً فشيئ، عادت برأسها للخلف تحاول تهدأة نفسها ولكن فشلت ! 
    ترجلت من سيارتها مرة اخرى بسرعة واتجهت لمنزلهم لتجد والدتها على نفس حالتها تبكِ فقط، لم تعيرها انتبـاه وحاولت السيطرة على نفسها وتتجه لغرفتها، ولكن أوقفتها والدتها التى سألتها بتوجس :
    _ مالك يا زينة ، فيكِ أية ؟ 
    اجابتها بحدة وهى تمسك برأسها :
    _ ملكيش دعوة بيا دلوقتِ 
    كيـف لأم تعشق صغارهـا أن تتظاهـر بالامبالاة أكثر من ذلك ؟! .. أن تُخفـي حنانها عنهم وإن كان السبب موجع حد المـوت ... ! 
    أقتـربت منها بهدوء، ومن ثم احتضنتها لتحتويهـا، تغمرها بحنان حرمتـها منه مسبقــًا، كعقـاب طُبق عليهم بسبب أب متهـور أبله، وأم عاقبت نفسها على موجات جنونية لم تكن بيدها يومًا .. 
    فجأة وجدتهـا تركض وتدمر كل شيئ طالته يدهـا، تنفث غضبها به، تدمره بدلاً من تدمير خلاياها داخليًا .. ! 
    ظلت تصـرخ بهيستريا صدمت والدتها :
    _ بس مش قاااادرة بس 
    لم تكـن تتخيـل يومًا أن بسببها هى تصل الى هذه الحالة !!؟ 
    كادت تقترب منها مرة اخرى، إلا أن زينة دفعتها فجأة بعيدًا لتصطـدم بالأرضية بقوة جعلت رأسها تنـزف بدماء .. 
    لتُصاب "زينة" بهلع وهى تصرخ للنجدة :
    _ ماااماااااااا !!!!!! 

    **********

    _ يابنى روح شوف أختك بقالها 3 ساعات برة عند صاحبتها !! 

    هتـفت " عبير " والدة خلـود بتلك الجملة وهى تقـف بجـوار أخيهـا، تـلح عليه منذ قدومه ولكنه لا يبالـى، وكأنها شفافة لا تتحـدث، أو انها ترغب في التنزه، لأول مرة تستشعر العزلة والجفـاء بين اولادهـا، الاولى تضيع والاخر ينام بأريحية، أى اخوة هذه حبالها منقطعة لهذه الدرجة !! 
    تأفف بملل وهو يجيبهـا ببرود :
    _ يووه يا ماما اتصلى بيها 
    اجابته على الفـور والضيق يعتلى قسمات وجهها :
    _ أتصلت تليفونها مقفول ! 
    رفـع كتفيـه وهو يتمدد براحة ويقول بلامبالاة :
    _ أكيد بتتسنكح هنا ولا هنا مع شمس، ما أنتِ عرفاها لما يتجمعوا 
    هـز رأسها نافيـة وبدء صوتها يتهدج متابعة :
    _ لأ لأ، قلبي مش مطمن، وحتى شمس ما بتردش عليا ! 
    نظـر للجهه الأخرى وأشار لها بالخـرج، ثم هتفت بصوت أجش ؛
    _ طب هبقي أشوفها لما أصحى ان شاء الله، اخرجى الوقتِ 
    صرخت فيه بغضب :
    _ يابنى أنت معندكش دم، دى أختك !!! 
    زفـر مطولاً، بالرغم من كل شيئ كلمة والدته البسيطة تقيـده لتجعله يصمت، لولا ذلك لكان نهض وأبرحها ضربًا من شدة غيظـه، حاول تقيد لسانه السليط وهو يردف بحنق :
    _ يوووه يا أمى سيبينى عايز أتخمد 
    _ نام، نام بس مش مسمحاك لو أختك جرى لها اى حاجة 
    قالت هذه الجملة وهى تتجـه للخارج، داعيـة الله أن ينجى أبنتها من اى شر، وبعدها ترمم علاقتهم من البدايـة وبطريقة صحيحة، لتجعل حبهم لبعض كأخوة يتوغل بدماء كلاً منهم بلا منازع ... ! 
    بينما فتح هو عينـاه السوداء، لتظهـر نظرة لا يعرف معناها شخص عادى، ثم همس بصوت يكاد يسمع :
    _ هى لسة شافت منى حاجة !!!!!! 

    *********

    ظـلت "كريمـة" تسيـر ذهابًا وايـابًا، لا تخفي من جنبـات عقلها صورة أبنتها وهذا المخبول يحملها عنوة وكأنها شيئً ما للهو فقط، قرأت بين سطور عينيها الرمادية خـوف وقلق من المستقبـل، المستقبل القريب الذى سيحدده ذاك المجهول الذى أقتحم حياتهم فجأة ليقحمهم برغباته المميتـة، لمن تشكـو ؟؟ 
    زوجها بالسجن !! .. ام اهلهم الذين تنقطع علاقتهم من الأسـاس !!؟ .. ام ابن اختها الذى توعد لهم منذ قليل !!! 
    بالتأكيـد يحيى هو ملجأهم الوحيـد، بالرغم ما فعله ولكنه سيظل يربطنا نفس الدم، وعلاقة لا تنتهى بسهولة .. 
    اومأت برأسها مؤكدة على ذاك الكلام وهى تتجه لهاتفها الصغير الموضوع على الأريكة ثم إلتقطته مسرعة لتتصل بيحيى، ليأتيها صوته المتهكم بعد ثوانى :
    _ اية يا خالتى لحقت اوحشكم كدة !؟ 
    _ يحيى مش وقته الكلام ده 
    _ امال وقته امتى، عايزة اية يا خالتى 
    _ عايزاك تيجى هنا بسرعة 
    _ لية ان شاء الله معقول عايزين تصالحونى وتجوزينى شمس 
    _ اوعدك هوافق على كل حاجة بس لو لحقتها !! 
    _ يعنى اية لو لحقتيها 
    _ يعنى تعالى بسرعة ارجوك مفيش وقت 
    _ سلام مسافة السكة 
    _ سلام 

    أغلقـت وهى تتنهـد ببعض الأرتيـاح على قرار وتصـرف قد ظنتـه صحيحًا فى هذا الوقـت فقط ... ! 

    ******

    ترتعـد أمامه، منكمشة فى نفسهـا وهو يحاصرها عند الحائط الذى احتواها ببرودته، قلبها وجسدها الذى اُهلك من ارتعاشاته كلما اقترب منها يطالبونها بالفرار حتمًا مهما كان الثمـن، ولكن أى فرار هذا وهو يحاصرها بذراعيـه المفتولتيـن، وعيناه القوية التى تخترقهـا لتمزقها من الداخل لأشلاء صغيرة مفتتـة، قرء الرعب والذعر بين سطـور عينيها، ولكن كأنه لؤلؤتيه يعكسون له ما تشعر به لتزيده نشـوة، بالرغم من احتراقه الداخلى إلا انه يظهر مجرد متماسك قوى راغب امامها، يتلبس قنـاع القوة في ثوانى بمهارة، خـرج صوتها متهـدج اثر الرعب الذى دب قلبها وهى تسأله بتوجس :
    _ أنت هتعمل أية ؟ 
    سـؤال غبى اظهر اجابته المميتة بالنسبة لها مرارًا وتكرارًا، شخص بحالته المرزية وعينيه الغامضة ترى ماذا يريد من فتاة فاتنـة اُغرم بعيناها من أول وهلة ؟! 
    اجابها بصوت هادئ بعض الشيئ :
    _ أنتِ خايفة منى ؟ 
    اومـأت برأسها بلا تردد، تتبعها تأكيد قوى :
    _ جدًا جدًا 
    _ لية ؟؟ 
    سألها بوضوح وترها أكثـر، لتجيبه بصوت مهدد بالبكـاء : 
    _ أنت اللي مخوفنى منك 
    اقتـرب منها اكثر، يستنشق رائحـة عطرها، دفـن رأسه في عنقهـا ليشعر برجفتها ولكنه لا يبالـى، فقد خدره حديث والدته المسموم عن العالم بأكمله .. 
    راحت تترجـاه بخوف :
    _ لو سمحت سيبنى أمشي ارجوك
    أبعد رأسه عنها لينظر في عينيها بنظرات باتت تكرهها، ثم اخذ يتلمس وجنتاها ليستشعر اشتعالهم وهو يقول :
    _ أنا عايزك اووى
    ثم صمت لبرهه يستعيد ما مر به في حياته وتابع بغموض :
    _ أحنا الاتنين محتاجين بعض الليلة دى عشان ننسي 
    هـزت رأسهـا نافيـة وهى تستطرد بصوت متوتر :
    _ لا لا انا عايزة امشى 
    إحتـدت عينـاه بقسوة غريبـة، وفجأة اقترب منها يلتهم شفتيها بين شفتيها، يتذوق ما كان يتوق لأكله دائمًا منذ رؤيتها، ولكن بقسـوة، قسوة اخذها من عالمه ليبليها بها وهى لا ذنب لها .. 
    ابتعد عنها قليلاً مكملاً بأنفاس لاهثة :
    _ قولت لك أنتِ الليلة ليا بس 
    ثم بدء ينزع ملابسـه بصورة سريعة تحت انظارها المذعورة وهى تكاد تفقد وعيها من شدة الصدمات عليها و....... 

    *********


    الفصل العاشـر :

    ظـلت ترتعـش تحت نظرات عينـاه الجافـة، تبادلا النظـرات لثوانـي، نظراتها كغزالة تخشي مفترسها وتترجـاه أن يرحمهـا، ونظراته كوحش كاسـر أراد الأنتقـام ولكن ضـل طريقه لتقع هى تحت أنيابـه ..
    وهرولـت دموعهـا من بين لؤلؤتيها هربًا من نظراته المفترسة .. والجائعة !! 
    لم يرمـش ولو للحظـة، وكأنه حصن نفسه جيدًا قبل تلك المواجهات، ليصبح قلبه مغلف بالقســوة المميتـة .. 
    وللمـرة الألف ترجتـه بغير يأس :
    _ أرجـوك سيبنـي .. أرجــــوك !!!!! 
    ولنفس عدد المـرات يجيبهـا ببـرود ثلجى :
    _ لأ، أنا متأكد إنك عاوزانى زى ما أنا عايزك تمامًا
    غمـز لها بطـرف عينيه متابعًا :
    _ بس يمكن أنتِ مكسوفة شوية !
    هـزت رأسـها نافيـة، وقــد عزمـت على هزهزة عرش رحمتـه ولو قليلاً بكلماتها، فقالـت مستعطفة :
    _ أنت هتدمـر مستقبلي، أرجوك ارحمنى، فكـر إن ممكن يكون حد بيعمل كدة ف مراتك المستقبلية، أو اختك !!! 
    كلمتها الأخيـرة هى التى لمسته بحق، " زينـة" أيتخيـل أن يفعل بها شخص مثلما يفعل هو الان، لا لا لن يحـدث طالمـا أنا لازلت على قيد الحيــاة !! 
    قال لنفسه هكذا قبل أن يرفـع رأسه لينظر لها، ليجدها قد اردفت متحمسة لصمته :
    _ اكيد ماترضهاش لحد من عيلتك، كما تديـن تــدان يا أستاذ مالك 
    _ مستحيل حد يقدر يعمل فـ أختى كدة
    قالها بفم متقوس بسخرية ونبرة واثقـة .. 
    بينما نـزف جرحها هى بقوة، وكأنه يقول لها صريحة " أنتِ والدك بالسجن لن يحميكِ " .. 
    نظـرت له ولمعت عينيها بكسـرة هزته للحظات قبل أن تستطرد بحزن تعمقها :
    _ عشان أنت معاها، لكن أنا ممعايش حد، معايا ربنــا 
    ظـل ينظـر لها لدقيقة .. اثنـان .. ثلاثـة، أى سحـر تستخدمه هى لتجعل قسوتـه تفـر مع نسمـات الريـاح، لتحتل عينيه نظرات الحيرة والقلق .. ! 
    أبتعـد عنهـا قليلاً ليستعيد رباطة جأشـة، ثم أرتـدى قميصـه الذى خلعه منذ قليل، و زج القـتوم والخشونة في صوته وهو يقول :
    _ أنا هأسيبـك دلوقـتِ لإنـك لسة مابقتيش مراتى، لكن أوعـدك أول ما تبقي مراتى .. 
    صمت برهه يدقق في أهدابهـا السوداء المنغلقة وأنفاسهـا المضطربة التى بدءت تتحلى بالهدوء الأن، ثم أردف بخبث :
    _ مش هاسيـبك من تحت أيـدى
    بدءت تفتـح عينيها ببطئ، قرر العفـوا عنهـا !! أصـدر فرمانه بالأفـراج عنهـا واخيرًا، ولكن ما عكر صفوها .. أنه إفراج مؤقت !! 
    بمجـرد أن إرتكـز بنظراتـه على لؤلؤتيـه، ومن ثم شفتيها المنتكزتيـن، لمعت عينـاه مرة اخرى وهو يقول مداعبًا :
    _ ما تفكك، وأوعدك هتجوزك بكرة
    ثم عـاد يقترب منها مرة اخـرى ليشعر بالقشعريرة التى تثبت له في كل مرة أنها ليست كغيرها ابدًا، ثم همس أمام شفتيها :
    _ بس تبقي ملكى الليلة 
    _ مستحيل .. 
    قالتها بهمس مماثل، ولكن كان له اثـر واضح في إفتعال غضبه، فزمجر فيها :
    _ قولت لك مش بمزاجـك يا حلوة 
    قطـع كلامهم المتناقض صوت رنيـن هاتف مالك الذى تأفف وهو يخرج الهاتف من جيب بنطالـه، ليرى المتصل "زينة" فأجابها بضيـق :
    _ الوو اية يا زينة 
    _ الحقنى يا مالك بسرعة 
    _ في اية يا زينة 
    _ ماامااا يا مالك 
    _ انطقي مالها ماماا 
    _ ماما وقعت دماغها اتفتحت ومابتنطقش
    _ ايييية، انا جاى حالاً

    أغلق الهاتـف، ثم ركض بإتجـاه الخارج تحت أنظـار شمس المدهوشة من طـوق النجاة الذى ظهر فجأة امامها، ليعود وهو يقول مسرعًا :
    _ جهزى نفسك معاكِ لحد بكرة وراجعلك 
    ثم اكمل ركضه للخارج وهو يصيح فيها بحدة :
    _ انجزى اطلعى عشان ماقفلش عليكِ
    أفاقـت من دهشتها وهى تومئ مسرعة، تفـر هاربـة واخيرًا من براثـن الذئاب .. !

    *******

    طـوال الطريـق وهو يفكـر في كلام خالتـه، فكرة تثيـر الخوف والجنون بين جنبات عقله، وفكـرة تثير أطياف سعادته.. ستصبـح أعينها مكسورة ويتزوجهـا بوعدًا من خالته إن أنقذهـا، ولكن السؤال الموجه له الان، "هل سيصمت إن علم أن اخر شاركه فيهـا بهذه البساطة " !!؟ 
    لا لا لن يحـدث ابدًا، وكلام خالته ما هو إلا عصـا لتزجه نحوها وتسترضيه .. 
    هذا ما قاله لنفسه وهو يترجل من سيارة الأجـرة بخطى مسرعة نحو الداخل، طـرق باب المنزل بقوة، فتحت له خالتـه، فسألها مسرعًا دون أن يعطيها فرصة :
    _ أية اللي حصل يا خالتى ؟
    أطـرقت رأسهـا بخـزى وهى تجيبـه بحـزن ظهر جليًا في نبرتها :
    _ أخدها وطلع بيها 
    جحـظت عينـاه بصدمة، أخذهـا بالفعل !! سـرق حلمه من بين يديـه بهذه السهولة !! سرقه من عقله بأكمله بكل برود، نعم سرقها حتى من عقله، فيحيى لن يفكـر بشمس ابدًا إن مسسها غيره .. 
    والحاجـز الذى يحتمي به ذاك الرجل " مالك " هو إرادته في أمتلاك شمس، تلك الأرادة التى اعتقد يحيى أنه فقدهـا .. 
    وسألها مرة اخرى هادرًا فيها بحدة :
    _ ميييين 
    رفعـت كتفيها وهى تقول بقلة حيلة :
    _ ماعرفهوش، كل اللي أعرفه إنه الساكن الجديد وأسمه مالك جمال 
    مسـح على شعـره بقوة حتى كاد يختلعه متجاهلاً ذاك الألم وهو يلومها بغضب :
    _ وسيبتيه !! 
    نظـرت له بطرف عينيها قائلة بضيق :
    _ وأنا كان ف ايدى أية أعمله ؟
    زمجـر فيها بغضب شابته الحدة :
    _ تمنعيه، تقوليله لأ وتدافعى عن بنتك 
    هـزت رأسهـا وهى تقـول بحـزن :
    _ هددنى، هددنى هيفضحها وأحنا ماحيلتنلش غير سمعتنا يا يحيى 
    لا لا .. تتعمـد إغاظتـه وحرقه رويدًا رويدًا بالتأكيـد، أى أم هذه التى تُفضـل الحفاظ على سمعتهم أكثر من أبنتها !! تحمى الوجه الخـارجى وتتـرك الأساس ليصدئ !!! 
    ظل يصرخ فيها بغضب هادر :
    _ تقومى تسيبى بنتك عشان السمعة، ينعل أبو السمعة يا شيخة 
    رفـعت إصبعها في وجهه قائلة بتحذير :
    _ أعرف كلامك وأنت بتكلمنى، دى بنتى أنا، يعنى أنا أكتر واحدة تخاف عليها، ومش معنى إنى طلبت منك المساعدة مرة إنك تعمل كدة يا ابن اختى !!
    ظل يهـز رأسه نافيًا بهيستريـا، ثم قـال بنبرة تموج غضبًا :
    _ بس مش هاسكت والله ما هاسكت 
    _ هتعمل أية يعنى يا ابن خالتى 
    سألته شمس التى دلفـت لتوهـا، سمعت كل حـرف من البدايـة، وصُدمـت .. صُدمـت فى والدتها الحبيبة التى تخشي على سمعتهم أكثر منها، ولكن طفح الكيل .. ودلفت !
    نظـر لها يسألها بلهفة :
    _ عمل لك أية الكلب ده يا شمس 
    سألتها أمها هى الأخرى وهى تقترب منها محتضنة اياها بتوجس :
    _ عمل فيكِ حاجة يا بنتـي ؟
    تختـلف أماكـن الألام والطعنـات، ولكن يبقي الألم كما هو موجـع، "مالك" برغبته فيها، و"يحيى" مثله تمامًا، و.. والدتها التى تخلت عنها ببساطة !! 
    كلهم يألمونها بشدة، ولكن الطرق إختلفت .. قلقت "كريمة" من إجابتها فقالت بخوف :
    _ أوعي يكون حصل اللي ف بالى يا شمس ؟ 
    لم تـرد ايضًا، وكأنها تتعمد اثارة شكوكهم فيها اكثر بصمتها هذا، فصاح يحيى بنـزق :
    _ أخد اللي هو عايزه منك ورماكِ
    نظـرت له فجأة تزجره بعينيها الرمادية التى إحتـدت فجأة وقالت :
    _ قصدك اللي أنت كنت عايز تاخده قبله ! 
    برقـت عيناه وأقترب منها ممسكًا بذراعيها يهزهـا بقوة :
    _ يعنى أية ؟؟ يعنى أنتِ بقيتـي مدام شمس مالك جمال ؟ 
    تقـوس فمهت بابتسامة ساخرة وتابعت :
    _ لأ بكرة هنوثق عقد الجواز وابقي علي اسمه صحيح 
    كـاد يفقـد عقله في تلك اللحظات، ماذا تعى هى !! أصبحت لغيره وأنتهي الامر !!؟ 
    زادت النيران إشتعالاً بقولها البارد ظاهريًا :
    _ يعنى بكرة .. هبقي ليه ومعاه وللأبد !!! 

    *********

    وصـل المأذون مع ذاك الرجـل الذى يدعى " خليل " على عجالة من أمـره، فقد كان كل ما يتردد بعقله، أنه يساعد سيده في العمل على الأنتقـام ممن آذوه وبشدة وجعلوه مصدر إثارة للشفقة، فــ بعمره لن ينسي الأيـام التى عاصرها مع "مراد" وهو يـرى بعيناه تدميره النفسي وحالته المرزية، كانـت "خلود" تجلس شاردة .. واجمة، نظراتها تائهـة وكأنها تبحث عن النجـاة، وبالرغـم من أنها قررت الأستسلام أمام قدرها.. إلا أنها يصعب عليها وبشدة إخضـاع جميع حواسها وعقلها تحت تلك الفكـرة المشؤومة .. الزواج !! 
    جلس جميعهم على كراسي خشبية صغيرة أمام احدى المنضدات المتوسطة التى جلبها خليل، تفحصـت نظرات "الشيخ" المكـان ورأى "مراد" الدهشة فيهم، فقال متنحنحًا بهدوء حذر :
    _ مش يلا يا شيخنا ولا أية ؟ 
    اومـأ الشيخ بحـرج، ثم سارع مبررًا :
    _ أصلى مستغرب يابنى تكتبوا كتابكم ف مكان زى ده !!
    جـز على أسنانـه بغيظ، ثم رسم أبتسامة صفراء على ثغره قبل أن يرد بمرح مصطنع :
    _ أه، أصلنا بنحب نكون مختلفين بقي 
    اومأ الأخـر مبتسمًا وقال بصوت هادئ :
    _ ربنا يباركلكم يابنى
    لا ينقصـه الحديـث عن هذا الزواج، يتغاضـي عنه ويحاول الإبتعـاد عنه بشتى الطـرق، ولكن بمجـرد الحديث عنه يشعر أنه مُجبر في التواجد داخل تلك الدائـرة اللعينـة !!! .. دائرة الخيانة، نعم فهو في نظره الان مجرد خائن لزوجته الراحلة، وإن كانت الحُجة بسببها ولها !! 
    بـدء "الشيخ" بكتب الكتاب تحت أنظـار كلاً من "خليل" و"مراد" الشاردة نحو تلك المسكينة الصامتـة "خلـود" .. 
    حتى سألهم "الشيـخ" جادًا :
    _ فين الشهود ووكيل العروسة ؟ 
    قال "خليل" مسرعًا وهو يشير للخارج :
    _ اهم وصلوا يا شيخنا 
    دلف ثلاث رجـال .. ذوى ملابس أنيقة بعض الشيئ، ملامحهم هادئة لا يبدو عليها الإجـرام، وواحدًا منهم كبير بالعمر الي حدًا ما، يظهر ذلك شعيراته البيضاء .. 
    بدء كتب الكتـاب، و "خلود" لم تتفوه بكلمة قط، نظراتها موجهه للأرضية وكأنها تبحث عن شيئً ما فقط .. ! 
    _ بارك الله لكما .. وبارك عليكما وجمع بينكما في الخيير 
    أستفاقـت على تلك الجملة التى كانت مثـل الخنجـر غُرزت فيها ببرود لتتركها تنزف دون علاج أو أطياف رحمة !! 
    أبتسم "مراد" ابتسامة شيطانية خبيثة وهو يرمق "خلود" بنظرات ذات مغزى، بينما هى كبحت شلالات دموعها بصعوبة، هتف خليل بشماته في خلود :
    _ مبروك يا أنسة خلود 
    اومـأت دون أن ترد، فقال الشيخ مبستمًا :
    _ بالرفاء والبنين ان شاء الله 
    أردف "مراد" مبتسمًا بمجاملة وهو يشدد على حروف كلماته :
    _ إن شاء الله .. هنعزمك على سبوع الأطفال كمان يا شيخنا 
    حدقـت هى به وكأنها غير مدركـة لما يُقــال، السبب الرئيسي والذى دفعها للأستسلام هو التأكيد إن كانت مع هؤلاء الأناس ام لا، والان يرغب في الدخول والتعمق بين طيات حياتها اكثر .. !! 
    بل يرغـب في تكويـن روابط متينة بينهم وهى الأطفال !!!!!! 
    أى ورطـة أصبحت بها رباه !! ، مؤكد هذه فرصة للتكفير عن ذنوبي ! 
    قالت هكذا في خواطرها التى مازالت تنـزف بلا توقـف، وكأن الحال تبدل، لا يتراقص قلبها فرحًا بزواجهم، ولكن يتراقص من الألم المتراكم عليه !! 
    فجأة أدركـت أن الجميـع ذهب ولم يتبقي سواهم، أبعـدت عيناها هربًا من نظراته الشماته، لتجده يقترب منها وهو يتشدق بصوت أشبه لفحيح الأفعي :
    _ مبرووك يا ... يا مراتى 
    ملـس على وجنتها متغاضيًا عن تقـززه منها، ليهمس بخبث :
    _ خايفة كدة لية، ده حتى الليلة ليلتنا يا عروسة !!!!! 

    *********

    ترجـل "مالك" من سيارتـه مهرولاً بسرعة باتجـاه باب المنـزل، والقلق ينهش فيه دون رحمة، وجد الباب مفتوحًا وزينة تجلس بحوار والدتهم باكية تحاول إيقاف تلك الدماء التى تسيـل منها دون توقف بقطعة قماش صغيرة، وما إن رأت مالك حاى صرخت بهيستريـا قائلة :
    _ ألحق ماما يا مالك 
    ركض بسرعة نحوهـا، وأمسك بمعصمها بجس نبضها، ليجدها ما زالت على قيد الحيـاة، ولكن .. النبض ضعيف .. ! 
    _ النبض ضعيف ! 
    قالها وهو يشرع بحملها دون تردد، ليسمع زينة تستطرد بهلع :
    _ ماما هتروح مننا يا مالك 
    قال مالك مسرعًا وهو يقترب من سيارته :
    _ عم محمد اجرى افتح العربية بسرعة 
    ركض "محمد" والذى كان خادم يقف بجوار زينـة، ليفتح باب السيارة ويضع مالك والدته فيها، وزينة بجوارها لم تتوقف عن البكاء للحظة، متناسية ألامها التى كانت تشعر بها منذ قليل !! 
    ادار مالك المقـود بسرعة متوجهًا لأحدى المستشفيات الخاصة بهم .. 
    ولم تكـف زينـة عن النواح، حتى ضرب مالك المقود بيه صارخًا بوجهها :
    _ بس بقا كفاية يا زينة 
    هـزت رأسها نافية مرددة بجنون :
    _ أنا السبب، أنا السبب عمرى ما هسامح نفسي ابدًا 
    أنتبـه مالك لحديثها وسألها بتوجس :
    _ أنتِ السبب لية يا زينة ؟؟ 
    لم ترد عليه وإنما ظلت تردد نفس الجملة بلا تـوقف، مما أثـار شكوك مالك الذى كان ينظر لها بين الحين والأخر، حتى قال في خواطره بحزن :
    _ ياريت مايطلعش اللي فــ بالي صح يا زينة !! 

    ***********

    كـان صديق يحيى المدعـو " الشبح " يقـف في المنـزل الصغير الذى حدده خصيصًا لتلك الأعمـال التى تدمـر حياة الكثير مثل "شمس" ، يقف في غرفة ما صغيرة أمام جهاز الكمبيوتـر ويعمل على صور شمس بدقة شديدة ونظرات كادت تخترق ذاك الجهاز لتحصل على تلك الفتاة التى تثير غرائـزه، وبداخلـه شيئً اخر مختلف تمامًا عن ما قاله لصديقه "يحيى" دلف شابًا ما الى المنزل وأقترب منه قائلاً بهدوء :
    _ أية يا شبح اول مرة اشوفك قاعد كل الفترة دى ادام شغل كدة 
    إبتلـع ريقه وهو يجيبه بخبث دفين :
    _ أصله مش اى شغل، ده شغل مهم اوى 
    اقتـرب صديقه ينظـر على الجهاز، لتبرق عيناه متساءلاً بلمعة في عيناه :
    _ مين الموزة دى ياض ؟ 
    اجابه "الشبح" مبتسمًا بخبث ظهر جليًا في نظراته ونبراته الراغبة :
    _ دى واحدة يحيى جابهالى اظبط صورها
    غمـز له متابعًا بابتسامة لعوب :
    _ أيوة ياعم يابختك بتمتع عينيك 
    اجابه الاخـر وهو يأخذ نفسًا عميقـــًا :
    _ أنا مش بس همتع عينى بيها، ده انا همتع نفسي شخصيًا بيها 
    عقـد الأخر حاجبيه بعدم فهم، ولكنه لاحظ نبراته قبل نظراته وقد تأكد أنه لا ينتوى خيرًا ابدًا .. 
    فسأله مستفسرًا :
    _ ازاى يعنى هتعمل اية ؟ 
    تنهـد وهو يجيبـه بحماس :
    _ هتعرف لما اجيبه واخد منها اللي انا عاوزه، وابقي اخليك تجرب !!!!! 

    **********




    الفصل الحادى عشر :

    نظـر له الأخـر بعـدم تصديـق، سيجلـب الفريسـة له ويُقسمها مع غيره .. ! 
    ومن قدم له هذه الفرصة من ذهب ؟! .. الأبلـه الذى يُدعي إبن خالتهـا .. 
    نظـر له بهدوء ثم قـال بصوت أجش :
    _ لا يا عم مليش ف الحرام 
    رفـع "الشبح" حاجبه الأيسر وتابع متهكمًا :
    _ لا يا راجل، امال ليك ف أية ؟ 
    كـيف له أن يُطـبق شريعـة على شخـص حياته كالماء يطفـو فيه .. الحـرام فقط ! 
    مصمص شفتيـه وهو يقول بحنق :
    _ الحلال .. الحلال بس يا صاحبي 
    رمقه الأخر بريبة وهو يسأله :
    _ مصاحبنى لية وأنت عارف إن عيشتى كلها حرام ! 
    تنهـد وهو يقول بهدوء حذر :
    _ المثل بيقولك أعرف صاحبك وعلم عليه
    زمجـر فيه غاضبًا :
    _ أنت عايز يعنى أنت دلوقتِ ؟
    رفـع كتفيه وهو يردف بلامبالاة :
    _ ولا حاجة، حبيت أنصحك، وبعدين أفرض البت دى متجوزة أو مخطوبة ، تفتكر لو عرفوا إن حد فبرك صورها كدة هيسكت ؟! 
    لم يرد عليه وإنمـا نظر على الجهـاز، وإن كان كلامه صحيح، ولكن السبيل الأصح بالنسبة له هو متعة نفسه فقط !! 
    نظر له مرة اخرى وهو يتشدق بــ :
    _ مش مهم، مش هيقدروا يعملوا حاجة 
    ثقتـه الزائـده بنفسه هي من تقلقـه، يختـار الجـزء الذى يرغبـه فقط في حياتـه، ويُعتـم الجزء الذى يخبره أنه بشـر يتأثر كما يُؤثـر، وبهدوء حذر قال الاخر :
    _ أنت حـر، بس أنا برة اللعبة دى 
    زم شفتيه متهكمًا :
    _ جبــان 
    _ مش جبـان بس بخاف ربنا 
    قالها وهو يتجـه للخارج بهدوء، ليتابـع هو بحنـق :
    _ على الله بس محدش يعرف هاا 
    نظـر له من فوق كتفيـه نظرة غامضة لم تريحـه، ليهتف بجدية :
    _ سلام يا .. يا غريب 
    سيفسـد كل شيئ وأنتهي الأمـر، إن ناداه بأسمه الحقيقـي فهذا يعـد كتحذير لجدية الموقـف، وسقطـت كل محصناتـه أمام هجوم صديقه الوحيـد، فهو مؤمن لحد كبير بهذه الجملة .. 
    " خاف من صديقـك .. ولا تخف من عدوك" 

    ********

    لكل فعل رد فعـل، لكل تهديـد ذعر وخوف ورهبـة .. كلماتـه لم يذهب مفعولها هباءً، وإنمـا عملتها مراحل الرعب مرحلة مرحلة، ولم يغلـب هو في كشفـه، فقد كان يلمع بوضوح في حدقتاها، وأين ذهـبت شجاعتها تلك ؟!
    مع أهداب الرياح .. زجتهـا نحو حافة الدمار وتركتهـا وحيـدة بين براثن شخص لا يرى سوى بريق .. الأنتقـام !! 
    كست نبراتها الذعر وهي تسأله :
    _ أنت عايز مني اية ؟ 
    تقـوس فمه بابتسامة ساخرة ارادت اختلاعها من ثغره، ليقول بعبث :
    _ هكون عايز منك إية يعنى ؟ 
    وكأنه يعيد عليها نفس السؤال لتتخبط في حيرتهـا أكثـر، وبأعين اُرهـقت من كثرة الدموع التى باتت سخونيتها تقليدية عليها أردفـت متوسلة :
    _ لو سمحـت .. كفاية أنا تعبـت، أنا بتعاقب على حاجة ماعملتهاش، بشيل ذنب مليش يـد فيه والله حرام ! 
    لمَ يلتمـس الصدق في نبراتهـا ؟! .. لمَ يستشعـر حزنهـا وآلامها كالمرأة المعكوسة أمامـه ؟! لمَ يجتاحه شعور بالشفقة نحوها !!
    تغاضـي عن كل هذا وهو يتابع ببرود :
    _ منا قولت لك قضاء وقـدر 
    لم تـرد، نعم الصمت أفضل حل الأن، الصمت هو الذى لن يزيد الوضع سوءً .. ؟
    أمرهـا بصوت جـاد :
    _ قومي 
    قالت متساءلة بتوجـس :
    _ هنروح فين ؟ 
    جذبهـا من مرفقهـا بقوة وهو يستطرد بنزق :
    _ هتعرفي، بطلي أسئلة كتير ! 
    تأففت متابعـة :
    _ أمال أمشي وراك زى الحمارة كدة !!؟ 
    هـز رأسه نافيًا ثم أجابها بسماجـة :
    _ تؤ تؤ، امشـي ورايا زى أى زوجة مطيعة
    كان لكلماتـه أثر واضـح عليها، ذكرتهـا لما هي فيه .. بوضعهـا، واخيرًا .. بأنها زوجـته ... !! وآه من تلك الحـروف التى قيدتهـا بحبال تخنقها مع الوقـت ! 
    لم تـرد فقـال هو بغموض :
    _ هنروح شقتـي، وإياكِ تعملى شوشرة 
    وايضًا لم تـرد، وكأنها تعاهدت أن تصمت، يكفيها إهانـات وألم !! 
    إستقلا سيارتـه وعينيها تجـوب المكـان، وكأنها تسأله بحيرة " أين أنـا ؟ "
    ولكن الإجابـة من " مراد " الذى إستشف حيرتها :
    _ مش هتعرفِ أحنا فين، ريحِ نفسك 
    بعد فتـرة الاثنـان فيها صامتـان .. نسمـات الهواء المشحونـة تعبر عن حالة التوتـر فقط.. وصلا امام منزله، منطقـة هادئـة بعض الشيئ، ليست بواسعة الثراء وليست بمنطقة للفقـراء .. 
    ترجـلت من السيـارة وهي تسير بجـواره، لا تعرف الخـوف أم التوتر يأكلها،!! 
    دلـفـا إلي البناية تحت أنظـار حارس العمارة، الذى رحب بمـراد مسرعًا :
    _ أهلاً أهلاً مراد باشا 
    اومـأ "مراد" بهدوء ثم أكمل سيـره بجوار خلود حتى وصلا أمام المنزل، أخرج المفتاح من جيبه ثم فتح بهدوء، أشـار للداخل قائلاً بسخرية :
    _ خشي برجلك اليمين يا عروسة !
    لم تعيـره أدني أهتمام وهي تدلـف بهدوء، أنتبهت لغلقـه للباب فقال هو بحـدة جدت عليها الأن :
    _ هتقعـدى ف الأوضة دى 
    قالها وهو يشير لأحدى الغرف الصغيـرة، وفجأة أقتـرب منها، وقربـه ما أسوءه.. يجعل الدمـاء تفر هربًا منها وقلبها يعلن خضوعـه بين جنباته مرتعدًا .. !
    فهتفت هي بقلق :
    _ لو سمحـت أبعد كدة 
    ظـل ينظـر لحلكتيهـا اللامعـة، تجتاحـه رغبـة في الأقتـراب منها لمجرد ذعرها فقط !! 
    وإن كـانت رغبتـه غريبة بعض الشيئ، تنتشـر بداخله أكثر مع كل دقيقة تمر ! 
    همس بقـوة غريبة اجتاحته :
    _ مش هقرب لك دلوقتِ لإني مليش مزاج ليكِ دلوقتِ 
    وبنظـرة تمحصتها من رأسها لأمحص قدميهـا.. ونظـرة جعلتها تلعـن إستسلامها لذاك القـدر وقدومها معه قال متهكمًا :
    _ بس وقت ما أحـب .. هاخد حقوقي كـزوج !
    إتسعـت حدقتا عينيها من إعترافه الصريح والوقـح !! لا يخجـل .. لا يتردد .. يعلنها صريحـة دون أن يغلفها ببعض الغموض حتى !! .. أصبحت وكأنهـا في حفرة عميقـة تود إبتلاعها دون تردد .. 
    لم ترد على تصريحـه وأستطردت بتوجس :
    _ طب وآآ وأهلي ؟
    سألها دون تردد بجدية :
    _ مالهم أهلك 
    نظرت له متابعة بحـزن توغل نبرتها :
    _ أكيد هيستغربوا غيابي، ومش بعيـد يبلغوا الشرطـة 
    قهقه بسخريـة، كل محاولاتها للحماية منه لا تجـدى نفعًا، تحتمي منه بشيئ يخترقه بسهولة ! 
    أستغربت هي من ضحكه فسألته بضيق :
    _ بتضحك على أية ؟ 
    رفـع كتفيـه وهو يقول بلامبالاة :
    _ البوليس ميقدرش يعمل لى حاجة 
    وقـف أمامهـا تمامًا ليظهر فارق الطـول بينهمـا، ثم همس بما أزهلها للحظات :
    _ مينفعش يروحوا يشتكـوا من الشرطة للشرطة !!! 

    ********

    كـانـت كما هي، تنظـر لهم بغيظ لم يشفي بعد، وبنظرات ملؤوها الكره ليحيى، يحيى الذى كاد يفقـد عقله أمام هـول كلماتهـا، يحيى الذى صدمـه الواقع وحتم عليه خسارتهـا فجأةً وابدًا !! 
    عينـاه مهددة بأنـدلاع ثورة حارقة ستحرق من أمامها حتمًا، ووالدتها ... 
    والدتها التى كانـت تقف مذهولة للحظات، الذئاب تود الإنقضاض على فريستهم التى كانت تحتضنها هي لتحميها !!
    واخيـرًا هتف يحيى بغضب جامح :
    _ يعنى أية هتبقي ليه ومعاه ! 
    رفعت كتفيها ببرود متعمده إحراقه أكثر :
    _ يعنى زى ما سمعت يا يحيى
    أقتـرب منها يصيح فيها بحدة إعتادتها منه :
    _ لأ ماسمعتش ومش هسمع، أنتِ هتبقي ليا أنا بس، سواء برضاكِ أو غصب عنك 
    رفعـت حاجبها الأيسر متهكمة :
    _ فعلاً ؟
    سينفجـر بوجهها من يمنعه عنها حتمًا إن ظلـت هكذا، زجرها بعنف قائلاً :
    _ بطلي برودك ده بقا 
    زالت قنـاع البرود وظهر إحتقان وجهها وهى تبعد يده بقوة كالوباء وتردف :
    _ أوعي تفكر إني حباه هو كمان، لأ خالص أنا كرهاكم أنتم الاتنين، بس المضطر يركب الصعب زى ما بيقولوا، أنا بين ناريـن، إما النار دى او دى، وللأسف أنا هختار ناره هو 
    ثم سألته بنبره أشبه للصراخ :
    _ عارف لية ؟ 
    لم يرد عليها بالطبع .. أين لسانه ليرد عليها من الأساس !! لقد لجمته الصدمة وقيدته من شراسة القطة التى كان يعتقدها ستظل خاضعة مهما حدث !! 
    تابعت هي والألم يزحـف لنبرتها رويدًا رويدًا :
    _ لإني لسة مشوفتش منه حاجة وحشة، لكن للأسف انت شوفت منك كل الوحش 
    هنا هتفت والدتها بعد طول صمت مسرعة :
    _ طب يلا نسافر 
    عقدت شمس حاجبيها متساءلة ببلاهة :
    _ نسافر فين ؟!!! 
    قالت مسرعة :
    _ نسافر البلد، هناك محدش يعرفنا، ومش هيقدر يوصلنا الباشا ده او غيره 
    هـزت رأسها نافية وهي تغمغم بحزن :
    _ وبابا !! 
    أجابتهـا بهدوء حذر :
    _ أبوكِ اساسًا ف السجن ومش بنشوفه غير كل فين وفين، لكن أنتِ دلوقتِ مستقبلك أهم 
    هـزت رأسها نافيـة وهتفت بإصرار :
    _ لأ مستحيل أسافر وأسيب بابا هنا وهو ممكن يأذيـه 
    ثم أبتسمت بسخرية :
    _ وأنا اصلاً مستقبلي ضايع خلاص 
    ماذا عساها أن تفعل ؟! .. طالما رأت تلك اللمعة اللعينة في عينيها فهي لن تفعـل !
    وهنا نطـق يحيى بجدية :
    _ انا اصلاً مستحيل أخليكم تمشوا، إما اسافر معاكم 
    قالت شمس بضيق يشوبه السخرية :
    _ اهو شوفتي .. قولت لك متعقدة من كل حته ومش هنعرف نهرب من الديابة دى
    رفعـت إصبعها مشيرة في وجه يحيى :
    _ بس تاكد أنى عمرى ما هكون ليك، وهعافر بكل جهدى لإني مبقاش لغيرك بردو !! .. والبركة فيكم كرهتوني في صنف الرجالة كله 
    زمجرت فيها والدتها بغضب :
    _ بس يا شمس أسكتِ، لو مش هنسافر يبقي هتتجوزى يحيى 
    جحظـت عيناها، وكأنها ما زالت لم تتخيل تصرفـات والدتها التى تدفعها للجنون !!
    ثم غمغمت :
    _ أنتِ بتسكتينى أنا يا امي، بدل ما تقوليله بنتي مش حته اوضة هتشوفوا مين اللي هياخدها 
    صمت والدتها .. والصمت يجعلها تثـور وتثـور، وإن كان الغضب له رائحة لكانوا اشتموا رائحـة الحريق بداخلها ! 
    ضربت والدتها كف بـكف وهي تلعن نفسها بضيق :
    _ ياريتني كنت قبلت عرضه وبعت له الشقة، ياريتنى سمعت كلامـه 
    نهرتها شمس بحنق :
    _ وأنا كنت مستحيل أخليكِ تعملى كدة 
    تأفف يحيى قبل أن يحذرها بحدة :
    _ بلاش تلعبي معايا يا شمس عشان هتندمى 
    عقـدت ساعديها وقالت ببرود :
    _ انا بحب أنـدم ملكش دعوة 
    هز رأسه وقال بتوعد شرس :
    _ ماشي يا شمس ماشي بس إفتكرى إني حذرتك 
    اومـأت بلامبالاة، لم تكن تعلم نوايا ذاك الشخص الذى سيوديها للجحيم حتمًا.. في حين إنطلق هو للخارج والشياطين تتقافـز أمامه .. 

    ********

    _ يعني أية مخدتيش بالك يا زينة ؟؟؟! 
    قالها مالك الذى كان وجهه محتقـن، وعينـاه توحي بكم غضبه اللانهائى، وهو يدب على الحائط أمام الغرفة التى ترقد فيها والدتـه، وزينة لم تكـف عن البكـاء والنحيب، لا تعرف تبكِ حزنًا على والدتها أو حزنًا على السبب الذى جعلها تفعل ذلك في والدتها الحبيبة !! 
    وما اغضبه بحق وجعل الدماء تتصاعد في أوردته هو هذيانها وعدم إجابتها على اسئلته .. 
    أقتـرب منها يسألها مرة اخرى بصياح :
    _ إنطقي قولى أية اللي حصل ؟ 
    أجابته من بين شهقاتها بنفس الأجابة التى تثير جنونه :
    _ قولتلك معرفش يا مالك معرفش 
    جـز على أسنانه بغيظ مكبـوت ثم قال حادًا :
    _ يعنى متعرفيش وأية اللي عمل في الڤيلا كدة ؟ 
    _ يووه يا مالك أسكت بقا 
    قالتها وهي تنظـر للجهه الأخرى بقلق، إن علم مالك سينهـدم كل شيئ فوق رأسها، ولكن الغاية تبرر الوسيلة .. 
    ولكن غايتها في المخدرات لا تبرر إيذاؤوها لوالدتهـا هكذا !!؟ 
    نظـر لها مالك بتوعد وهمس :
    _ بس قسمًا بالله لو عرفت إنك السبب ف اى حاجة يا زينة ما هسكـت وهنسي إنك أختي 
    نظـر له بصدمـة .. وتناسـت تمامًا ما كانت تخشـاه وهي تصيح فيه :
    _ ماتلومنيش اصلاً وانت السبب 
    برقـت عيناه وإحتـدت وهو يسألها بتوجس :
    _ انا السبب لية ؟؟ 
    لم تـرد فزمجـر فيها عاليًا :
    _ انا السبب لية يا زينة انطقي ؟ 
    زفـرت قبل أن تجيبه بصوت أعلى منه متناسيه كل شيئ.. كل شيئ سيدمرها هى اولاً :
    _ ايوة انت السبب لأنه عايز ينتقم لأخته منك ف بيردهالك فيا انا !! 
    سألها مرة اخرى بملامح واجمة :
    _ اخته مين ويردهالي ازاى !! 
    اجابته متهكمة :
    _ اخته الي انت وهمتها بالحب وإنتحـرت بسببك 
    هـز رأسه نافيًا بصدمة، غفلت عن عقله تلك التى تقول .. 
    " كما تديـن تـدان " 
    وكانه القاضي يسأل فقط فسألها بتوجس :
    _ عمل فيكِ حاجة يا زينة ؟؟ 
    لم ترد .. صمتت ونظرت للأرضية بسكون غريب أثار جميع معانى الخوف في قلبه الجامد ولأول مرة .. 

    ******** 

    في السجـن كـان صابر ممدًا على فراشـه، ملامحه اصبحـت واجمة وذابلـة، وقد تكونت الهالات السوداء تحت عينـاه، كان يتنفس بصعوبة شديدة، يضع يده على جسده الذى أصبح هزيل بسبب تضاعف المرض عليه وامامـه احدى الرجـال ينظـر له بهدوء وهو يلتقط أنفاسـه الأخيـرة، حاول صابر الحديث بصعوبة وقال :
    _ حمدى 
    اجابه المدعو بحمدى مسرعًا :
    _ اهدى يا عم صابر عشان ماتتعبش أكتر 
    تنـفس بصعوبة وهمس بوهن :
    _ انا خلاص شكلي هموت 
    أمسك بيده وهز رأسه نافيًا بهدوء :
    _ لا متقولش كدة أنت هتبقي كويس 
    هـز "صابر" رأسه نافيًا وتابع بصوت جاهد في إخراجه :
    _ قول قــ قول لشمس بنتى لو حصل حاجة إنى كاتبلها ورقة هتفهم منها كل حاجة 
    اومـأ الأخر وهو يحثه على الحديث :
    _ فين .. فين يا عم صابر؟ 
    _ في الخزانة اللي فيها هدومـي 
    قالها وهو يبتلع ريقه بإزدراء ثم استطرد :
    _ قولها تخلى بالها من نفسها، لان الناس دى بتدور على الفلاشة اللي ممكن تلف حبل المشنقة حوالين رقبتهم 
    ثم صمت برهه وتابع توصياته :
    _ وأوعى يبيعوا البيت عشان لو باعوه آآ 
    لم يكمل جملته وظل يلهث بشدة واخر جملة تردد بها صوته :
    _ قولها إنى بريئ وماقتلتش حد وهما اللي اتهمونى فيها 
    وخرجـت روحه لربها، تاركـة ذاك الجسد الذى اُهلكت بداخله .. بهذه الدنيا الذى ظلمته مرارًا وتكرارًا .. 
    مسح حمدى على وجهه وقد ظهرت شبح ابتسامة شيطانية على ثغره وهمس :
    _ ربنا يرحمك يا عم صابر .. للأسف كان معاك حق بس مين هيعرف بقاا !! 

    *********

    كـان مالك يسير متجهًا لداخل البنايـة، وعينـاه تشـع غضبًا جمًا، تتقافـز دقاته ليهدء عليها قليلاً ولكنه غاضب .. غاضب وغضبه لن يطفأه إلا شيئً واحدًا، زواجه من تلك الفتاة ليثبت لنفسه أنه يفعل ما اراده .. أنه رياح شديدة غاضبة لا يتحداه اى شخص .. يرغب في اى شيئ يهدء غروره .. وفجأة وجد يحيى يقطع طريقه ببرود فصاح فيه غاضبًا :
    _ ابعد من وشي دلوقتِ أحسن لك 
    هـز رأسه نافيًا ببرود وقال :
    _ لا لا عيب عليك ده انا جاى لك ف خدمة 
    سأله مالك بنفاذ صبر :
    _ خدمة اية ؟ 
    اخـرج يحيى ظرف به صور لشمس من جيبه ثم مد له يده قائلاً بخبث :
    _ مش واجب بردو تسأل على اللي هتتجوزها يا برنس 
    نظـر له مالك بطرف عينيه ثم اخذ الظرف في لمح البصر يفتحه لتتسـع حدقتا عيناه بصدمة بالغة و..... 

    *******


    غزالة فى صحراء الذئاب 

    الفصل الثانـي عشر :

    مشكلة خلف الأخرى تتراكـم فوق بعضها وكأنها يتعاونـوا على تلك المسكينـة التى تركـض إليها المصائـب ركضـًا وتستقبلهم هي بصـبر وثبـات لم يهتزوا شعـره ودون خروج حاجـز واحد للأعتـراض .. 
    وكان مالك لا يـرى في هذه اللحظات سوى تلك الصـور، تلك الصور التى وضعت غشاوة على عينـاه لن تـزول، تتجسـد أمامـه لتهـد كل جـدار من الأحـترام صنعته شمس يومًا لها أمامـه .. ! 
    بينما يحيي يقف والأبتسامة الخبيثة تعلـو ثغـره، أغرقهـم الاثنـان في طـوفان من العذاب .. والندم لن ينتهـي، ليبتعد هو وكأن شيئً لم يكـن !! 
    نظر له مالك نظـرة من كثرة المشاعر التى تملؤوها عجز يحيي عن تفسيرهـا، لم يعرف أهي حزن .. كسرة .. غضب أم سعادة والمبررات تكثـر !! 
    ثم قـال " مالك " بصوت هادئ أشبه لهدوء ما قبل العاصفة : 
    _ جبت الصور دى منين ؟ 
    مـط " يحيي " شفتيـه ثم رد عليه بما ليس له علاقة بسؤاله :
    _ مصـدوم مش كدة؟ 
    صرخ به " مالك " وشرارات غاضبة تتطايـر من عينيه السوداء :
    _ بقول جبتهم منين أنطق أحسنلك 
    رفع " يحيي" كتفيه ولم يتخلي عن بروده لحظة وأجابه :
    _ يهمـك فــي أية؟ المهم إني أنقذتك من التدبيسـة السودة دى بس 
    جـز "مالك" على أسنانه كاملة بغيظ وسأله مرة أخـرى :
    _ يهمني كتير، جبتهم منين ؟؟ 
    تأفف " يحيي " ثم قال بنزق :
    _ يووه ! كل اللي على لسانك جبتهم منين جبتهم منين، ده بدل ما تخـش تديها قلمين وتقطع علاقتك بيها ! 
    وبمهـارة تحـكم "مالك" في غضبه الجـم وهو يردف بجدية :
    _ شيئ لا يعنيـك يا أستـاذ 
    جحـظت عينـا "يحيي" بصدمة، لا لا لن تذهـب خطته هباءً .. وكيف الأن بعدما أعتقـد أنه أجتـاز أول مرحلة بنجـاح ؟!! 
    وكأن هذا "المالك" يملك الحاسة السابعـة أو شيئً كهذا !! 
    دارت هذه الكلمات في خلد "يحيي" فابتسم "مالك" نصف أبتسامة صفراء :
    _ يلا بقا مع السلامة أنا مش فاضي لك 
    واخيرًا خرج " يحيي " من صدمته ليقول مسرعًا :
    _ أنت حـر، أنا حبيـت أوعـيك بس للي الناس كلها عرفاه وأنت معمي عنه! 
    نظـر له "مالك" بطرف عينيه هادئــــًا وسأل :
    _ ناس مين وعارفيـن أية ؟ 
    تابع "يحيي" ببراءة مصطنعة :
    _ إن لما أبوهـا دخل السجـن وأخد مؤبد، البت دارت على حل شعرها عشان تعرف تصـرف على نفسها هى وأمها 
    لا يعـرف لمتي سيكبح غضبه ويرتـدى ذاك القنـاع البـارد، ولكن ما يعرفه جيدًا أنه ليس لأى شخص يستطع البـوح بما يجيش بصـدره وخاصةً هذا الشخص .. 
    خـرج صوتـه حادًا صارمًا :
    _ مايهمنيش كلام الناس، ومن هنا ورايح محدش هيقـدر يجيب سيـرة حـرم مالك جمـال السُنـارى بكلمة ! 
    مـط "يحيى" شفتيـه وقال بلامبالاة اصطنعها رغمًا عنه :
    _ تمام براحتك أنا كدة عملت اللي عليا 
    اومـأ "مالك" ونظراتـه تقطـر غيظًا مكتومًا لو أنفجـر سيدمر ما أمامه حتمًا وقال :
    _ كتر خيرك متشكرين 
    همس يحيى بغضب جم :
    _ ماشي اما نشوف اخرتها 
    بينما ستـدار متجهًا للأعلي بخطوات هادئـة، خطـوات أوهـمت ذاك الثعبـان أن خطته لم تجـدى نفعًا، ولكن بالحقيقة هي حققت أعلي مراتب النجـاح الخبيث !! 

    ********

    للحظـات أعتقـدت أنه يمـزح معهـا، أنه يجعل الضيق يعتريهـا ليشعر بالنشـوة فقط، ولكن .. تلك النظـرات الواثقـة والثبـات القهـرى و.. ماذا ترغـب أكثر لقد قرأتهـا بين سطـور عينـاه، خطط لكل شيئ قبل أن يقتـرب منها حتى، الان فقط تشعر بالغبَاء !!! 
    أخرجـها من صدمتهـا صوتـه الخشـن وهو يقـول :
    _ أية مالك مصدومة كدة لية ؟ 
    همـست فاغرةً شفتيهـا :
    _ هآآه !! 
    رفـع حاجبـه الأيسر يسألها باستمتاع رهيب يجتاحـه :
    _ هي الصدمة كبيرة للدرجة ؟! 
    هَزت رأسها وهي تقول متساءلة ببلاهة :
    _ أنت فعلاً ظابط ؟ 
    تتأكـد .. تتأكد رغم كل الذى تـراه، وكأنها ترغـب في أن ينفـي حالاً ما أستوعبتـه، ولكن ما المانع ليؤكد لها غباءها بقوله البـارد :
    _ بُصـي هو مش بالظبـط كدة، لكن تقـدرى تقولى شغال مع الشرطة، ومش لازم تعرفى تفاصيل بقـــا 
    أسبلـت أهدابهـا تتساءل مرة أخـرى ببلاهة :
    _ طب أزاى !! 
    تأفـف بضيق وصاح بنفـاذ صبر :
    _ يووه، هي شغلانة بقا كل شوية لية وأزاى ؟
    ترقـرت الدمـوع في عينيها السـوداء، لا تعـرف لها سبب معيـن، ولكن من الواضح أنه الألـم بشكل عام مهما أختلفت أشكاله !! غمغم هو بضيق حقيقي :
    _ بتعيطى لية دلوقتِ ؟ 
    هتفـت بنعومة أكتسبتها من بكاءهـا المفاجئ :
    _ طب ومتعرفش بقا إن المتهم برئ حتى تثبت إدانتـه 
    اومـأ ولأول مرة يجيبهـا بهدوء، وكأنها أستخدمت السلاح الصحيح هذه المرة :
    _ أيوة، ولذلك أنا لسة ماعملتلكيش أى حاجة 
    تهتهت هي متهكمة :
    _ لا والله !
    اجابهـا بتهكم أكبر ولكن شابه بعض التوعـد المخيـف :
    _ اه والله، لتكونى مفكرة إن جوازى منك ده كدة عقـاب ؟ 
    لم تـرد فتابع وقد قرر العزف على ألحـان قسوتـه المميتة :
    _ لأ لأ، ده لسة العقـاب جاى بعدين لو عرفت إن ليكِ يد فــ حاجة 
    ملامحـها باهتـة، يكتسحها شيئ من الأستسلام الموجـع لقدرها المؤلم أكثر، وغلفت نبرتها بالقوة وهي تسأله :
    _ يعنى أية اللي هيحصل بالنسبة لأهلى ؟
    مسـح أرنبـة أنفه بطرف إصبعه ثم قال :
    _ ولو إني أشك إنك تفرقي معاهم أوى، لكن هقولك الحل 
    نظـرت له بهدوء، ولم تستطـع إخفاء بريق الأمل من جـوف نظراتها، لتجـده يحطمهم بل ويدمي قلبها بألم أبـدى :
    _ أنتِ هتقوليلهم إن أنا وأنتِ بنحب بعض، وإننا اتجوزنا بموافقتـك 
    هـزت رأسها نافية وهي تستطرد بجزع :
    _ مستحيييل 
    شيئ متوقـع رفضهـا، ولكن ما هو غير متوقـع إحتقـاره لها لهذه الدرجـة، فتابـع بقسوة إكتسبها من معانـاة الأيـام :
    _ خلاص براحتك بس أنا مش مسؤل عن اللي هيحصل لهم ؟ 
    سألته بقلق بطـن لم تستطع مداراته :
    _ يعنى أية ؟ 
    رفـع كتفيه مجيبًا ببساطة :
    _ زى ما سمعتى، اللهم بلغت اللهم فاشهد 
    يذكـر الله !! ، أيعلم من هو الله بالأسَاس، تصرفه معها يناقـض كلامـه وتصرفاتـه تمامًا، وكأن قسوتـه مسلطة عليها هى فقط !! 
    _ ماشي ... موافقة 
    همسـة مستسلمة خرجـت منها، جعلتـه يشعر بالنصـر ولكن .. بجوار الشفقة التى لم تـزول، ويبدو أنها لن تزول إلا بعد أن تجعل ينحرف لسبيل لا يرغبـه !!! 

    ********

    وصلـت " زينـة " أمام البناية التي يقطـن بهـا "زيـاد" ثم ترجـلت من سيارتهـا مسرعة، لا تدرى ماذا ولا ما ستفعله .. إدمـان يدفعهـا مرة تلو الأخـرى نحو حافـة الدمـار، وهي تسيـر دون أن تحظـي بتنبيه لخطورة ما تفعـله ابدًا .. 
    وصلت أمام منزله، فطرقت الباب مسرعة دون تردد، لتجـده يفتح لها بعد ثوانى وهو يرتـدى شـورت أسـود قصير فقط، وجسـده الأسمـر ظاهر امامهـا والابتسامة المستفـزة تعلو ثغـره والذى هتف بحبـور قائلاً :
    _ زينة جاية بيتي مرة واحدة، لا حصلنا الشـرف بصراحة 
    تجتاحـها رغبة جامحـه في قتله .. في الإنتقـام منه لما فعله بهـا، ولكن مهلاً .. في الوقـت المناسب ستشبع رغبتها تلك حتمًا !
    رسمـت الأبتسامة التى رفضت الظهور بصعوبة وقالت :
    _ أزيك يا زياد ؟ 
    اومـأ زياد بتعجب :
    _ بخير، أزيك أنتِ ؟
    هـزت رأسها وهي تشيـر للداخـل ببرود ظاهرى :
    _ تمام، طب مش هتقولى أتفضلى ولا اية
    يـزداد التعجـب ويتكـور بداخله اكبر مع كل ثانيـة من تبـدل تلك المخلوقة التى لم يقـرأ بين سطـور عينيها سوى الغرور أو الكـره، حتى عينيها يبدو أنها احكمت التحكم فيها جيدًا .. 
    أشـار للداخل ولم يستطـع اخفاء الاستغراب :
    _ أتفضلى اكيد يا زينة ده أنتِ نورتـي 
    لا تهتم مجامـلة أم صدق .. فرصـة له أم فرصة للقضـاء عليه، ولكن ما يهم الان حقًا هو سبب تلك الزيـارة !! 
    جلسـا على الأريكـة بهدوء، هدوء يعكس الأمواج المتلاطمـة داخل كلاً منهما، وهى .. لم تخجـل من مظهـره .. لم تتـرد .. لم تطلب منه إرتداء تيشـرت !! 
    وكيف ستخجـل إن كانت غشـاوة الأدمـان على عينيهـا تمنع تأثير اى شيئ عليها ! 
    أنهكتـه محاول كتم تعجبه فقال بهدوء حذر :
    _ ها قوليلي بقا تشربي أية ؟ 
    _ قهوة مظبوطـة 
    قالتها بصوت قاتم .. هادئ دون النظـر له، فأومـأ هو بدوره وأتجـه للداخل بهدوء، فيمـا تفحصت هي المنزل بعينيها، تبحث عن اى أثـر للمخدرات التى يخبأها ولكن للأسف .. لم تصل عينيها لأى شيئ . 
    دقائـق مرت أستنفـذت فيهم كل قواهـا لتحمل الألم الذى بدء يداهمها من جديـد .. 
    _ أتفضلي قهوتك 
    قالها وهو يتقـدم منها حاملاً الأكـواب بيده، وكأنه يضبط نفسه ليـراها وهو في قمة ضعفها فقط !! 
    اومـأت وهي تلتقـط كوب القهوة بين أصابعها المرتجفـة، بدءت تشربها تحت نظراتـه المتفحصة التى اخترقتها، فقال هو متساءلاً :
    _ بردو مفهمتش سبب الزيارة 
    تركـت الكوب لتقول دون تردد بنبرة حملت الرجـاء في طياتهـا :
    _ زيـاد أنا بموت فعليًا، مش عارفة أعيش حياتى طبيعية، مش عارفة أعمل أى حاجة، أربعة وعشرين ساعة بدور على المخدرات بس، المخدرات اللي أنت مش عاوز تديهانـي، أرحمنى بقا 
    هتف هو بتشفي :
    _ وهو ده اللي أنا عاوزه 
    اومـأت وقد اغرورقت عينيها بالدموع :
    _ أنتقامك أتنفذ، اديني المخدرات بقا وسيبنى ارجـوك !! 
    لم يتأثـر، لم يهتـز .. كان يطالعها بجمود استغربت هى قوتـه، استغربت جبروتـه لهذه الدرجة !! ولكن كيـف لك أن تلـوم قلب سقط تحت تأثيـر الأنتقـام ممن تسبب بفقدان أعز ما يملك ؟! 
    تنهـد قبل أن يقـول بخبث تزحزح لنبرته :
    _ انا انتقمت خلاص، بس بردو مفيش حاجة من غير مقابل 
    عقـدت مابين حاجبيهـا لتسأله بعدم فهم حقيقي :
    _ مش فاهمة !! عايز اية يعنى 
    حـك ذقنه بطرف إصبعه يصتنع التفكـير، ثم خـرج صوته جادًا وقاتلاً لها :
    _ عايــزك .. في مقابل الهيرويـن !!! 

    *********

    واحيـانًا عندما تـرى المصيبـة تركـض نحو شخصًا ما وأنت بيدك الحـاجز لمتنعها عنه، لا تتردد في إنقـاذه مهما كان الثمـن، واحيانًا اخرى تفكر بالموانـع من إنقاذه، مثل وفاءه لصديقـه !! 
    نقـل عنـوان شمس بسرعـة من مذكـرات "غريـب" أو كما يطـلق عليه " الشبح " .. لا يهمه كيف حصل صديقه على ذاك العنـوان .. مؤكد أنه من ذاك الأبله "يحيى" ولكن ما يهمه الان بحق، هو أن ينقـذ تلك المسكينـة من براثـن ذئاب تحركهم مشاعر هوجاء !!
    حصـل على نسخـة من الصور التى نفذها "غريب" لتكـن الدليل القاطع لما سيقصـه على شمـس .. 
    وصـل أمام العمارة التى وُصفـت في العنوان، ثم أخذ نفسًا عميقــًا قبل أن يتقـدم من حارس العمارة الذى هب واقفـًا يسأله :
    _ خير يا حضرت ؟ مين أنت ؟ 
    تنحنح " بسام " بهدوء وقال :
    _ أنا عايز الأنسة شمس، هي ساكنة في العمارة دى 
    غمغم الرجل بتفحص :
    _ اممم طب اتفضل 
    سأله " بسام " مسرعًا :
    _ انهو دور لو سمحـت ؟ 
    اجابه باقتضـاب :
    _ الأرضي ده 
    اومـأ بسام ممتنًا، وغادر مسرعًا باتجـاه منزل شمس، طرق الباب عدة مرات حتى فتحت له شمس منزعجة من طرقه المستمر :
    _ أية في أية الدنيا خربت ؟! 
    كـان مذبهـل بطلتهـا المشرقـة، عيناها تجذبانك وكأنهما مغناطيس !! 
    ولكن مغناطيس قاتـل، بالفعل وكأنها رسمة على ورق دونها فنان محتـرف ! 
    حتى الصور التى كانت معهم لم تعطيها حقها الصحيح في وصف جمالهـا، من يراها لا يقـدر سوى أن يحملق بها، وكأنها ربطتـه وأثـرت عليه بمهارة ! 
    تنحنحـت وقد زحفت الحمرة لوجنتاها عند تحليقه بها فقالت متلعثمة :
    _ آآ انت آآآ أنت عايز مين ؟ 
    _ عـايـزك ! 
    همسه خارجـت من باطن الجزء الراغـب بداخله، ثارت القشعريرة المعتـادة بجسدهـا الفظ عندما تلحظ نظرات مثل نظراتـه فصرخت بجزع :
    _ نعمممم !! 
    هـزت رأسه نافيًا وسارع يبرر :
    _ لا والله مش قصدى كدة، أنا قصدى يعنى عايزك ف موضوع مهم 
    هـدأت ثورتها قليلاً لتسأله باستفهام :
    _ موضوع أية ؟
    نظـر حوله وهو يقول بجدية :
    _ مش هينفع عالباب كدة ! 
    عقـدت ساعديها وهي تقول ببرود :
    _ أسفة مفيش حد صاحى او موجود عشان اقولك اتفضل، انا يعتبر قاعدة لوحدى 
    اومـأ هو متفهمًا، ومن دون قصد منها اعطتـه دفعة ايجابية ليكمل ما جاء إليه .. 
    أخـرج الصور من جيب بنطاله ومد يده لها قائلاً بهدوء حذر :
    _ دى صور ليكِ 
    سألته بتوجس وهي تفتح الظرف :
    _ صور ليا أنا، ومعاك انت ازاى !!! 
    تنهـد وقال جادًا :
    _ أفتحـي الأول الصـور بس 
    فتحتهـم بهدوء لتتسـع حدقتـا عينـاها لترى ما لا تتوقعـه ابدًا، هربت الدماء من بين خلايـاها وأحمـر وجهها كحبه الطماطم من الخجـل، حلقـت فوق سمـاء طاغية مؤلمـة، للحظـات فكرت بالركـض من امامه، أصبحـت تشعر انها الان مُـعراه أمامه، وان كانت ترتدى ملابسهـا الان !!! 
    فيما قال هو ليدارى حرجهـا :
    _ واحد صاحبي هو اللي أشتغل على الصور، بس أنا قولت أجى احذرك لان أكيد في نسخ تانية للصور دى 
    ويا لـها من صفعـة مؤلمة من "يحيى" نعم يحيى لقد أتـم تهديـده .. أتم تهديـده وفعل ما يجعل رأسها بالأرض دومًا، هدم كل الجدران التى بنتهـا هى لبنـاء حياتها القادمة .. ! 
    غمغمـت بصوت يكاد يسمـع :
    _ أزاى .. مين عمل كـدة !! 
    أجابها بفتـور مهدئًا اياها من حالة الصدمة المسيطـرة عليها :
    _ يحيى، أنا معرفش يقرب لك أية، لكن هو بعت الصور دى لصاحبي ده عشان يفبركها والسبب أنا اجهلـه 
    هو يجهـله لكن هي تعلمـه حد التأكيـد، لا بل سبقت لها معرفتـه ولكن لم تبالي !! 
    هل يجـوز قتل يحيى الان ؟! مؤكد نعـم، تـود الإطاحة به بقدر الغليـان الذى تشعر به الان، وذاك الشعور المؤلم ... شعور النفـور منها هي.. من شمس بذاتهـا !! 
    سألتـه مرة اخرى دون أن تنظر له :
    _ طيب متقدرش تجيب لي باقي الصـور دى لو سمحـت ؟ 
    هـز رأسه نافيًا بأسـف :
    _ للأسف لأ، اولاً عشان هو مايشكش فيا ولو شك انا مش ضامن رد فعله، غير كدة لو جبتلك المطبوعين، اكيد هو شايلهم ف حته على الجهاز وممكن يعمل غيرهم ! 
    وكأن القـدر يقدم لها مبرراتـه لدفعها في طريق ذاك الذى يدعى " مالك " والزواج منه، الاثنـان حفرتـان .. لكن هو جوفـه المظلم أفضل من جوف يحيى المضيئ ولكن المهلك !!! 
    ولم يعـد امامها خيـار اخر.. الشيئ الوحيد الذى سيحفظها ويضمن لها عدم ايذاء والدها والحفاظ على سمعتها كأنثي هو زواجها من " مالك " ... ! 

    ******** 

    كـانت تجلس بهـدوء على الأريكـة، تستعيد ذكريات ما مر معها منذ دلوف ذاك الدخيل الي حياتها، لم تجد سوى القهر والخوف والقلق فقط !! 
    فجـأة وجـدت طرقات سريعة وقوية بعض الشيئ على الباب، نهضت مسرعة تعدل من وضعية حجابها ثم اتجه للباب لتفتح، لتُصق بـ مالك امامها، لم يعطيها فرصة حيث فاجئها بمسكة يده بمعصمها جيدًا وهو يقول بجدية :
    _ يلا مفيش وقـت هاتى بطاقتك حالاً 
    فغرت فاهها مستنكرة :
    _ لية فيه اية ؟ 
    زمجر فيها غاضبًا :
    _ قولت هاتى بطاقتك 
    استـدارت وفي لمح البصر كانت قد جلبت بطاقتها، وكأن الخـوف هو فقط من يحركها ويتحكم بها الان .. 
    سألته مرة اخرى بتوجس :
    _ فيه اية ارجوك فهمنى ؟ 
    تأفف وهو يجيبها بخبث :
    _ مفيش وقت المأذون مش هيستنى كتير 
    مأذون !! اى مأذون هذا ؟! مؤكد أنه المأذون الذى سيخـط شهادة وفاتها !! 
    نعم فهي تعد شهادة وفاتها وليس زواجهـا، واى زواج هذا الذى يبني على جدران مهشمة !!! 
    _ مأذون اية ؟ 
    سألته وكأنها تسأل لتؤكد لنفسها تلك الأجابة المأسوية التى تدمر خلايـا حرفيًا دون رحمة !!! 
    فأجاب وهو يجـز على اسنانه بغيظ :
    _ المأذون اللي هيكتب كتابنا يا حبيبتى 
    حاولت نزع يدها من قبضته وهي تصيح فيه وكأنها ادركت للتو ما يحدث :
    _ انت مجنون، انا مش هتجوز 
    وصلا امام باب المنزل فنظر هو في عينيها مباشـرة ليقول حادًا :
    _ مابقاش في وقت للرفض دلوقتِ، خشي بهدوء وأتقي شر الحليم إذا غضب 
    وها هو تهديـد اخر صريـح .. وكأنما اعتادت على التهديدات فقط منهم !!! 
    _ سيبني بقا ارجوك لو سمحت 
    همست بها وتكاد تستسلم بيأس، ليقول هو بتصميم وقد لمع في عيناه بريق غريب :
    _ ابدًا، من بعد النهاردة اسمك هيبقي جمب اسمى دايمًا ! 
    دلفا الي المأذون الذى ينتظرهم، ومروان صديقه واخر كشهـود، جسدها تبلد من كثرة الصدمـات، وشحب وجهها كشحوب الموتي .. 
    جلسـا بهدوء وبدء الشيخ بكتابة قسمية بداية تعذيبهـا، الشيئ الذى سيسمح له بالتحكم في مقاليد حياتها شتى !!! 
    لم تشعـر سوى بسؤال الشيخ وايماءه بسيطة منها و... 
    " بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في الخير " 
    تدمـر كل شيئ وانتهي الأمـر، انتهي نفورها ورفضها .. انتهت موجـات عدم استسلامها لذاك القدر لتتهشم بصرخـة ارادته ورغبته، لتبدء اندلاع ثورة حارقة، بدايتها كلماته وهو يقول بخبث دفين شابه التوعد :
    _ مبروووك يا .. يا مراتـي، يلا بقا أوريكِ اوضة نومنـا !!!!!!!! 

    ********
    الفصل الثالث عشر :

    ذهـب الجميـع ولم يتبـقي إلا هـو وهـي فقط !! .. وبمجـرد أن أستوعـبت تلك الجملة شُلت جميع اعضاءها عن الحركـة وتسمـرت مكانهـا، بينما أكمـل هو بخبث :
    _ أية يا عروستي وقفتـي لية ؟ 
    لم تجيـد الـرد ولم يخـرج صوتها من كثرة إرتعادهـا، إندهمـت القوة وسقطـت الحصـون لتظهـر القطة الخائفة امامه فقط !! 
    حاولت إخـراج الكلمـات بصعوبة وكأنها تجذبها عنوة :
    _ مـ مـمكن تسيبني أمشي ! 
    قهقـه بسخريـة واضحـة، تطـلب الفرار بكـل بلاهـة !! سخريـة قد تكـون معتادة في موقـف كهذا، ولكن من ثم اختفت عندما لمعـت عينـيه السوداء ببريق لامع خبيث وقال :
    _ أسيبك تمشي فين، هو أنتِ مش عارفة إن النهاردة الدُخلة ولا أية يا شموستى 
    شعـرت أنها ستبكِ حتمًا، لن تحتمل أكثر .. فقـدت كل طاقتها ! ولم يعد مجـرد شعور فقد ترقرت الدموع في عينيها الرماديـة وهي تسأله بهدوء حذر :
    _ أنت لية بتعمل معايا كدة، حرام عليك ! 
    أعيـن لامعة تشابكت نظراتها، ورجـاء اخترقـه ليحاول هـزه، ولكن .. قابله بسد متيـن قوى وازداد قوة من جروحه وألامه ،فرد عليها ببرود ثلجي :
    _ أنتِ مابتزهقيش من السؤال ده، قولت لك أنتِ عجبانى، ثم إنك تحمدى ربنا إني اتجوزتـك اصلاً 
    صرخـت فيه بنفاذ صبر :
    _ لأ لأ، هحمد ربنا على نقمة ازاى !! 
    جـن جنونـه هنا، هي المذنبـة وهي التى تتجبر، تتقمص الدوريـن بمهارة !! ولكن لا .. لن يسمـح لها أن تحلق فوق سماؤوه بكل غرور !
    وأقتـرب منها حد الخطـورة، الخطورة التى تشعـر بها من اقترابـه، والتى تسبب الفرار للدماء من وجهها الأبيض، وتهديد ضربات قلبها بالتوقف !! 
    فغمغمت متلعثمة :
    _ أبـعـ أبعـد شوية 
    هـز رأسه نافيًا ليتردد صوتها شبه الباكِ :
    _ حرام عليك، أنا هتدمر بسببك 
    لم يعيرها أدني اهتمام وهو يقترب منها حد الإلتصاق وهمس :
    _ هشششش اسكتِ 
    _ أنت ظالم .. ظالم وهتندم صدقنى 
    قالتها ببكاء ودموع أبت الحبسة في جوفيها 
    ليتابع هو بخشونـة وحدة :
    _ مش ظالم، أنتِ اللي كدابة وممثلة بارعة 
    نظـرت له بهدوء لتقَول بجمود :
    _ هتنـدم 
    فـرد ببرود مقابل :
    _ بحب النـدم جداً يا حبيبتى 
    ولم يجد سوى صمت، صمت إكتسبته من وقحاته، وعجزهـا أمامه !! 
    فقال هو بخبث :
    _ ايوة كدة اسكتِ، شوفتى السكوت حلو ازاى، خلى الكلام لشوية كدة، هعوز اسمع صوتك جداً 
    بالرغـم من خوفها وإرتعادها، زحفت الحمرة تلقائيًا لوجنتاها ! 
    انفاسـهم اللاهثـة دوى صوتهـا بوضـوح، لفحـت أنفاسـه بشرتهـا البيضـاء، ليرتعـش جسدهـا برعب، لم تهتـز له شعرة لحالتها المرتعدة، لجسدها الذى ينتفـض من قربـه، بل اقترب اكثر حتى حاوطهـا وإلتصقـت هى بالحائـط، تحاول جمـع شتـات انفاسها المبعثـرة بسبب هجومه المفاجئ، وجهها أصفـر من كثرة هروب الدماء من وجهها هلعًا، فتعمـدت الحروف تحديهـا ولم تخرج من بين شفتاها المنتكزتين، ليخرج صوتـه متجبرًا جامدًا : 
    _ عايزة تروحى منى فين يا شمس 
    نظـرت للأرض، تجز على أسنـانها لتمنـع دموعها من الهطول بصعوبـة، همست بصوت يكاد يسمع : 
    _ ارجوك سيبنى امشي، ارجوك يا استاذ مالك 
    ما يزيـده رجفة صوتها إلا نشـوة، همـس هادئًا بالرغم من امواجـه المتقلبة بداخله : 
    _ لأ، مش هاتمشي غير بمزاجى 
    صمت برهه ليتـابع بتهديد مزقها من الداخل بقسوة : 
    _ أو لما اخد منك الي انا عايـزه 
    دفعته بقبضتها الصغيرة، لم يهتـز للحظة، بل هى من إرتعشـت كالكهرباء التى سارت في جسدهـا، فجأة إحتقـن وجهه كجمرة من النار، وامسكها يهزهـا ويصيح فيها هادرًا : 
    _ عملتى معاهم كلهم كدة، اشمعنا انا !!؟ 
    لم تجيبـه وإنما كان صمتهـا وسكونـها إجابـة كافية لتثير جنونـه اكثر، اجابة اكدت دون قصد كل ما علم به، وحطمت بريق الأمل المتبقـي، لم يلحظ الدموع الساكنة في لؤلؤتيها، ابتعد عنها مسافة قليلة، وفك أزرار قميصه وهو ينظر لها نظرة دبت جميع معانى الرعـب في اوصالها، لتشعر وكأنها حقًا الان ما هى إلا غزالة في صحراء الذئـاب .. 

    *********

    وما بيـن التوتـر والقـلق والحزن .. والغضب، كانت تبحث بين أرجـاء المنزل عن شمس التى أختفـت فجأة !! 
    يأست من تواجدهـا فصرخـت بحدة :
    _ شمس ! 
    تأففت وهي تمسـح على شعرها الأسود بقوة متابعة :
    _ هتكون راحت فين بس ياربي ؟ 
    ظلت تبحث هنا وهناك وهي تتابع مزمجرة :
    _ يووه، إما وريتك لما تجيلي مابقاش انا

    وجلست على الأريكـة بهمدان منتظـرة قدومها الذى يبدو انه سيطول ويطول كثيراً ... 
    فجأة صدح صوت هاتفها معلنًا عن إتصـال، نهضـت هي بخفة متجهة له، ثم التقطته واجابت بهدوء :
    _ الووو السلام عليكم 
    _ وعليكم السلام، مدام كريمة زوجة الاستاذ صابر معايا ؟
    _ ايوة اتفضل مين حضرتك 
    _ احنا من السجن وكنت حابب أبلغك بشيئ اتمنى تتقبليه بهدوء 
    _ اتفضل يا حضرت قلقتنى
    _ زوج حضرتك توفي أمبارح ! 
    سقط الهاتف وصرخة مدوية خرجـت منها يتبعها ركضها لترتدى ملابسها متجهة للسجن ودموعها لم تتوقف عن الهطول ! 

    ******* 

    كـان يجلس على الأريكـة الوتيرة من أسفله، يدب بقدمـه على الأرضيـة بقوة، لا ينظر لوالدته التى تشـع نظراتها غضبًا جمًا، او لوم لتفريطه بشقيقته الوحيدة !! 
    لا يهمه، كل ما يهمه أنه لا يبالي لهذه الشقيقة ابدًا !! 
    وكأن ذاكرتـه قد ذكرته بما مضي لتعطيه المبرر لما يفعله بشقيقته .. 
    فلاش بـاك 
    كان يجـلس في أحدى الكافيهات الراقيـة، ملابسـه مهندمـة وملامحه مضطربة بعض الشيئ، يجلس على الكرسي الخشبي وينظر بالساعة كل ثانية ليرى لماذا تأخرت ؟! 
    وظهرت امامه بعد دقائق، بهيئتهـا الخليعة التى كان يحاول هو تغييرها، مساحيق تجميلها المبالغ فيها !! وملابسة الضيقـة !؟ 
    اشياء حاول التغاضـي عنها، ووضع غشاوة امام عينـه .. الحب ! 
    جلست على الكرسي المقابل له بغرورها المعتـاد، ليسارع هو بسؤالها متلهفًا :
    _ اتأخرتِ كدة لية يا حبيبتى ؟ 
    تأففت قبل أن تجيبـه ببسمه يملؤوها الحب الزائـف :
    _ يادوب عرفت أخلع من بابا بصعوبة 
    ضيق ما بين حاجبيه وهو يسألهت بضيق يعتريـه :
    _ هو انتِ محتاجة صعوبة عشان تشوفِ خطيبك ؟ 
    وببراعـة تمثلـت في تكويـن بعض الدمـوع الزائفـة، نظـرت له وزجـت الحزن في نظراتها والذى يقع هو أثيـره، لتقول بصوت متهـدج :
    _ انا جاية النهاردة عشان أقولك حاجة مهمة وامشي 
    سألها مستفسراً بنفاذ صبر :
    _ حاجة أية دى يا صافي ؟ 
    وامتثـال لأوامرها افتـرش الألم على قسماتها وهي تخبـره بنبرة متهدجـة وتمثيل تفوقت فيه :
    _ أحنا مش هينفع نكمل مع بعض يا مازن
    صرخ فيها دون تردد :
    _ أنتِ مجنونة !! 
    لم تجيبـه وامتثلت الصمت الذى هو السلاح الاقوى لتثير جنونه، فعاد يسألها بحدة وهو يهزها :
    _ يعنى أية مش هينفع نكمل مع بعض، انتِ عارفة إن فرحنا بعد 4 أيام ؟! 
    هـزت رأسهـا موافقة وهي تقول بصوت أشبه للبكاء :
    _ عارفة والله عارفة، بس غصب عنى 
    صرخ فيها بجدية حادة :
    _ هو أية ده اللي غصب عنك 
    رفعـت كتفيها تقول ببرود داخلى :
    _ يعنى أنا بأعمل كدة مش بمزاجى، أنا مجبرة 
    نظـر لها بتدقيق وقال متساءلاً :
    _ مين اللي أجبرك ؟ 
    صمتت فصرخ فيها مرة اخرى :
    _ ردى عليا مين اللي أجبرك ؟ 
    هـزت رأسها نافية لتردف :
    _ مش هقدر أصدمك فــ اقرب الناس ليك
    ازداد صراخه وإلتفتت الناس له وهو يقول :
    _ انطقي ميييين ؟ 
    ردت عليه بصراخ مماثـل امتزج بالخبث الذى لم يلحظه :
    _ اختك .. اختك خلود 
    سألها بسكون غريب :
    _ ازاى اختى ؟ 
    اجابت مغمغمة بضيق وحزن مصطنع :
    _ اختك هددتنـي، لو مابعدتش عنك هتدخل بابا السجن !!! 
    سألها دون تعبير :
    _ لية أختى تهددك ؟ 
    _ لأنها مش بتحبنى وبتكرهنى جداً لسبب أنا مش عرفاه ! 
    نهوض يتبعـه خطوات سريعة جدًا باتجـاه الخارج تصحبه مناداتها له، ولكن لم تجد جواباً فارتسمت الابتسامة الخبيثة على ثغرها اللعين وهي تيقـن نتيجة ما فعلته وخططت له !! 

    باك 
    مسـح على رأسـه بقوة حتى كاد يختلع جذوره، كل قسمه وتوعده لها يتردد بأذنه يوميًا، سينتقم .. سينتقم ممن فرقت بينع وبين حبيبته !! أو سينتقم وفقًا للصورة التى رسمتها تلك الحيه بمهارة .. 
    تقدمـت منه والدته وهي تقول بسخط أمومي :
    _ لا أنا مش هستنى اكتر من كدة، يلا نبلغ تانى الاربعة وعشرين ساعة مروا خلاص 
    هـز رأسه نافيًا وهو يخبرها للمرة التى لا يتذكر عددها :
    _ يا أمي هى هترجع لوحدها صدقينى وكدة هيبقي اسمنا قدمنا بلاغ كاذب !! 
    زمجـرت فيه غاضبة :
    _ أنت مجنون، بنتى مختفية بقالها يوم كامل وعايزنى أقعد زيك كدة !!؟ 
    لم يستطـع الرد عليها حيث دوى صوت الهاتف فهرعت إليه مسرعة ترد بلهفة :
    _ الووو 
    اتاها صوت " خلود " المرهق :
    _ ماما أنا خلود 
    _ خلود حبيبتى يا بنتى انتِ كويسة ؟ 
    _ انا كويسة 
    _ انتِ فين يا حبيبة ماما 
    _ انا عايزة اقولكم ماتبلغوش بوليس، انا كويسة ومع جوزى 
    _ نعمممم، جوزك مين يابنتى انتِ اتجننتى 
    _ انا اتجوزت واحد زميلى بحبه يا ماما 
    _ أنتِ مجنووونة صح 
    _ مع السلامة يا امى 
    واغلقـت الهاتـف تحـت أنظـار أخيها المهللة صوب والدته .. ونظرات مراد المنتظرة صوت خلود التى صرخت فيه بجزع :
    _ إرتحت كدة ؟ 
    اومـأ مجيبًا ببساطة غير لائقة :
    _ طبعًا يا خوخـه 
    كادت تبكِ وهي تقول بنبرات متشنجة :
    _ حرام عليك أنت مش بنى ادم اكيد 
    هـز رأسه نافيًا يقول بصوت قاتم :
    _ هتعرفى بعدين إني بنى ادم، وبنى ادم جدًا كمان 
    لم تفهم مغزى عبارته الغير مباشر، لم تكـن فوضوغ يسمح لها بالسؤال من الأساس، فقد تشوشت الصورة امامها، وترنجت قبل أن تسقط مغشيةً عليها بين يديه الصلبتين التى استقبلتها بسرعة، ظل يتمعن قسماتها بنظرات يصعب تفسيرها، ليمسح على شعرها الناعم وهو يقول بخفوت :
    _ أنا أسف يا حبيبتى 

    ********

    ولو كـان الإدمـان شخصًا لقتلته بالطبـع، وعبارتـه يتردد صداها في خلدهـا، ولكن ألمها يحثها على الموافقة السريعة، غير عابئة بما ستجنيه لاحقــًا !! 
    نظـرت له تحاول إستيعاب ما تفوه به للتـو وسألته :
    _ أنت مجنون !؟ 
    ضحك باستخفاف ورد له نفس السؤال :
    _ أنتِ اللى مجنونة ؟
    نظـرت له باستفهام فتابع بحدة تجلت في نبراته :
    _ أيوة تبقي انتِ اللي مجنونة لما تفكرى إنى ممكن أسيب حق أختى 
    سألته مرة اخرى والألم يزاد سيطرة عليهت رويدًا رويدًا :
    _ طب وأنا مالى ؟ 
    مط شفتيـه ليقول بنبرة متشفيـة :
    _ للأسف أنتِ أخته، ومش هعرف أنتقم منه غير عن طريقك 
    هدرت فيه بغضب تراكم لديها :
    _ أختك هى اللى مجنونة لما تنتحر عشان واحد ايً كان هو مين ؟! 
    كاد يهـوى بكفه على وجنتاها بغضب، ولكنه تمالك نفسه وهو يزمجرها حادًا :
    _ أخرسي، هي أمنت لواحد خسيس واطى فكرت أنه بيحبها 
    أمسكـت رأسها بقوة وهي تترجـاه مرة اخرى بألم حقيقي :
    _ طب أرجوك أدينى اى حاجة دلوقتِ ونبقي نتكلم بعدين 
    هــز رأسه نافيًا يتابع ببرود :
    _ تؤ تؤ، أنا عرضت عليكِ عرض والظاهر إنك بترفضيه 
    همست مرة اخـرى بنفاذ صبر :
    _ انا مش قادرة !
    اجابها بهمس مماثل جاف :
    _ أقبلى عرضي 
    هزت رأسها نافية واستطردت :
    _ مقدرش 
    اجابها بنفس الرد وهو يرفع كتفيه :
    _ وأنا كمان ماقدرش 
    ولم تعد ترى امامها سـوى الألم والادمـام يجذابها نحو حافة الدمـار .. ! 
    وتنجذب هي بلا إرادة، لتصرخ فيه بحدة :
    _ موافقة موافقة هات 
    تقـوس فمه بشبح ابتسامة هاتفًا بخبث :
    _ كدة تعجبينى يا حلوة !! 

    ********

    واحيانًا كثير يتعجـب الشخص من نفسه حد الاندهـاش عندما يجد نفسه يسير بمسار غير طبيعى نسبةً له، عندما يجد أن الفعل مناسب ولكن رد الفعل ما هو غير مناسب تمامًا !! 
    هـب منتصبًا من الفـراش يرتـدى بنطاله وهو ينظر له بحدقتين متسعتيـن، تشعان نظرات غير مصدقة ترجو التكذيب منها، بينما هى تعد في عالم أخـر، عالم تحلق هي فين بحريتها تنعم بهدوء من نوع اخر لم تحظى به منذ دلوفه لحياتها، نظراتها مصوبة نحو اللاشيئ، ووجهها شاحب شحوب الموتى، وكأنه اخذ روحها وليس عذريتها فقط !! 
    أقتـرب منها صارخًا فيها بجنون :
    _ ازااااى طب ازااااى ؟ 
    نظـرت له نظرة لم يستطـع تفسيرها، نظرة مغلفة بالألاف من الأغلفة واولهم التماسك، ليسألها بأكثر توضيح مشيرًا للبقعة الحمراء اعلى الفراش :
    _ أزاى كنتِ آآ .. كنتِ عذراء 
    لم تـرد عليه وإنما ظلت كما هي على وضعها، وكأنها أقسمت ألا يخرج صوتها امامه ثانيةً إلا في حالة واحدة !! 
    _ متلمسنييييش 
    صرخـت بها عندمـا أقتـرب منها يحاول أن يديرها لتنظر نحوه، ولكن فوجئ ببرودة جسدها حد الخطورة، فهمس لها مهدئًا :
    _ اهدى .. اهدى 
    وبصوت مهزوز تابعت دون أن تنظر له :
    _ قولتلك سيبنى، قولتلك هتدمرنى 
    هـز رأسه وهو يزمجر فيها غاضبًا :
    _ طب ازاى و انتِ آآ 
    قاطعته بسخرية مريرة :
    _ اية .. انا بنت ليل صح 
    أفكـار متلاطمة تضاربه، تارة تجعله يشعر بالندم، وتارة لا تصدقها وتمقتها اكثر !!؟ 
    فقال لها بقسوة :
    _ أيوة، ف ازاى تبقي عذراء ازاااى
    ظل يمسح على شعره وهو يردد تلقائيًا :
    _ يعنى انا اول واحد ألمسك ازاااااااى ازااااى حد يفهمنى 
    بينما هي .. كل ما يتردد بخلدها الان شيئ واحد فقط .. استسلامها المخجل للمساته الحميمية، وبدءت تتذكر ما حدث .. 
    ولكن اوقفت افكارها بصعوبة وهي تضغط على رأسها صارخة فيه بهيستريا :
    _ طلقنى .. طلقنى كفااااية !!! 

    **********


    الفصل الرابــع عشـر : 

    وعندمـا تتراكـم عليك المصائـب، وتزداد المشاكل، لتحاصرك من كل الاتجهـات، تصبح أنت كالذى يُسحـب منه الهواء تدريجيًا ... 
    سقطـت الكلمة على مسامعه كالسـوط الذى يتفنن في إيلامـه، دائمًا هو المظلوم .. دائمًا هو المغرور .. دائمًا هو في وضع القـوة، ولكن ماذا إن تبدلـت الأدوار ليصبح هو الظالـم ؟! بالطبع لن يستسلم .. 
    صاح فيهة بحنق :
    _ طلاق !!! 
    اومـأت وكأن لسانها يردد ما وصل إليه حالها :
    _ أيوة طلاق، طلاق لأنى اكتفيت من القهر، طلاق لأنى اتحرمت من أجمل يوم ف عمرى، طلاق لأنى مابكرهش حد قدك دلوقتِ ابدًا 
    أهو ظالـم لهذه الدرجة ؟! ام هي تتفنن في رسم تلك الصورة له ! 
    فقال بصراخ مماثل لها :
    _ لأااا 
    سألته ببلاهة غير مستوعبة رفضه :
    _ لأ أية ؟ 
    مـط شفتيـه يجيب ببرود حاول زجه في نبراته الغاضبة :
    _ لأ مش هطلق، لأن مش معنى كدة إنك مظلومة 
    إتسعـت حدقتـا عيناها بصدمة حقيقية، رغبته في أنها عاهـرة أقوى من اى شيئ الان !!! .. لن يصدق مهما حدث، ومهما ترابطت الدلائل امامه سيفككها بكل برود ملقيًا بها في عرض البحر !!! 
    خرج صوتها بصعوبة متساءلاً :
    _ أنت عايز دليل اية أكتر من كدة ؟ 
    رفــع كتفيـه ليقـول بسخرية :
    _ أنتِ عايشة ف عصر أبو جهل ولا أية ؟
    نظـرت له مستفهمة بعدم فهم :
    _ وضح كلامك ياريت 
    اومَأ وهو يتابع بغل :
    _ يعنى أنتِ مش فاهمة قصدى ؟ 
    هـزت رأسها نافية لتجيب ببراءة :
    _ لا والله 
    للحظة كـان سيصدقها ! سينخـدع في براءتها التى يعتقدها مزيفـة، في بحر عينيها العميق الذى يجذبه يومًا بعد يوم، ليستفيق سريعًا وهو يزمجر فيها :
    _ يعنى دلوقتِ بقا في عمليات يا حلوة، ممكن ببساطة تكونِ عملتِ العملية ورجعتى زى ما أنتِ 
    هـزت رأسها نافيـة وقد بدءت دموعها بالأنهمـار :
    _ لأ حرام عليك ماتظلمنيش للدرجة 
    نظـر لهـا من أعلى إلي أمحص قدميها ليقول بحـدة واضحة :
    _ لو عملتى المستحيل عمرى ما هصدق عاهـرة زيـك 
    أغمـضت عينيها بقوة علها تمنع أذنيهـا من سماع تلك الكلمـة، ولكـن .. جعلتهـا تنـزف من الألـم، من المفتـرض زوجتـه ويشبهها بالعاهـرة !! لا لا يشبهها بل يلقبهـا به وما أسوءه لقـب حروفـه لها عامل في إماتتها ببطـء !!! 
    همسـت بحـروف خرجت متمثلة في معانى الألم الحقيقي :
    _ أنا عمرى ما كـنت عاهـرة ولا هكـون
    ثم صمتت برهه تستجمـع نفسها المبعثرة من هجومه الشنيع :
    _ بس أنا واثقـة فـ ربنا، وواثقة أنه هيجبلي حقه، وواثقة إن " لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنـا " 
    تقـوس فمه بابتسامة ساخـرة بالرغم من إهتزازه ولو لثوانى داخليًا ثم قال :
    _ ماشي يا شيخـة شمس
    نظرهـا موجه للأرض لا تقـوى على رفعه، فتواجه سهام عينيه الحادة وظلت تردد :
    _ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالميـن 
    إتجـه للخـارج وهو يقول بحدة باتت معتادة منه :
    _ أنا طالع، أجي ألاقيكِ قومتى ولميتى الدنيا وحضرتى لى أكل زى الناس
    وعندمـا لم يجـد منها رد، أردف بقسوة :
    _ وأظـن دى حاجة مش جديدة عليكِ، دى شغلتك اصلاً 
    ولو كـان للقـلب صوتـــًا لكان خرج صوته من بين ضلوعها صارخًا برجاء :
    _ " أرحمنـي معذبي سأتوقف حتمًا من الألم " ... 
    وصمتت وهي تحتفظ بدموعها في عينيها التى لم تحتمل اكثر فأخرجت الدموع في صورة شهقات متألمة عميقة من داخلها منذ خروجه واخيرًا من تلك الغرفة اللعينة !!! 

    *********

    جـالت نظرات " مراد " على وجه "خلود " المتـورد، يتفحص صفحاته التى كادت تـذبل بشدة من كثـرة ما مـرت به، نفس قسمـات الوجه التى عشقهـا من قـبل، ربما تختـلف قليلاً لكنها تشبهها بحق، نفس الصفـات المكتنزة، ودون ارادةً منه وجـد نفسه يتذكـر زوجتـه الحبيبة امام صورتها المشابهه .. 
    فلاش بـاك .. 
    كـان في منـزله ذو أثـاث نظيف ومرموق، نفس المنزل الذى يعيش به الان، ولكن الأخر كانت به أطيـاف سعادة يومًا ما، ولكن الان يملؤوه تيارات مشحونة بالغضب والأنتقـام الكاذب !! 
    كان يجول الصالون ذهابًا وإيابًا بجـوار زوجته التى كـانت تجـلس على الأريكة تستند بيديها على ركبتيها والقلق يشع من نظراتها وملامحها الهادئـة، نفذ صبرها فقالت منفعلة بعض الشيئ :
    _ مراد أهدى خلينا نفكـر 
    نظر لها يسألها مسرعًا بانفعال حقيقي :
    _ نفكر ف أية، احنا خلاص هنروح ضحية 
    أغمـضت عينيها تحاول تهدأة نفسهـا، تجبر نفسها على السير في السبيل الصحيح، ولكن على غفـوةً منها عاد لسانها يردد نفس اللـوم الذى يُحمله فوق طاقته : 
    _ قولت لك يا مراد، قولت لك الناس دى مش سهلة ابداً، قولت لك شغلك مش هيجيب لنا غير الوجـع 
    مسـح على شعـره بقوة حتى كاد يختلعه بين يديه وهو يهتف :
    _ وانا قولتلك إن ده شغلى، يعنى حياتى وحق بلدر عليّ إنى أخلصها من أمثال الناس دى عشان ماتدمرهاش اكتر 
    تنهـدت بقوة تنهيـدة تحمل الكثير وسألته مرة اخرى :
    _ طب هما قالوا لك أية بالظبط ؟ 
    جلـس بجـوارها وهو يتابع مغمض العينين :
    _ قالولى لو مادتهمش الفلاشة يبقي أقرأ الفاتحة على أرواحنـا !! 
    إتسعـت حدقتـا عينيها من هذا التصريح الفـج، الذى لم يكن متوقع ابدًا، ولكن لنقل أنه متوقع نسبةً لأناس مثلهم، لكن غير متوقع بالنسبـة لدرع الحماية الوهمى الذى رسمته هي، وهو وظيفة زوجها !!! 
    رددت دون وعـي :
    _ طب ما تديهم الفلاشـة ونخلص نفسنا يا مراد 
    وكأنه قرر مجارتها في ذاك الجنون :
    _ كان نفسـي، لكن للأسف فعلاً الفلاشة مابقتش معايا 
    صرخت فيه متساءلة بجزع :
    _ أمال مع مين يا مراد ؟ 
    اجابـها بصراخ مماثل بل أكثر حدة :
    _ مع سيادة اللواء يا ليلي، مع سيادة اللواء 
    ثم صمت برهه يسترجع ما حدث ليتابع بعمق :
    _ يعنى دلوقتِ هيخلصوا علينا على أعتقـاد إنها معايا بالفعل وبكذب عليهم، ولما يعرفوا أنها مع سيادة اللوا هيقتلوه هو كمان !!! 
    عادت بظهرهـا للخـلف وهي تردد بحزن :
    _ لا إله إلا الله، يااارب أنت العالم بالحال 
    عاد هو الأخر ليصبح موازتها ثم وضع يده على بطنها مستطردًا بألم حقيقي :
    _ أنا مش خايف على نفـسي، أنا خايف عليكِ أنتِ وأبنـنا اللي جاى 
    اومـأت هي بشبـح أبتسامة منكسـرة وهي تهمـس :
    _ عارفة يا حبيبي 
    بــاك 
    وكأنهم يعلمـون تلك النقطـة جيدًا، يعلمون كيفية إختراق حصونه لأحراقه فعليًا، وفعلوهـا لم يكن مجـرد تهديـد، قتلـوها وطفله دون أدني رحمـة، ولكن .. بعد رحلة كاملة بشتي أنواع العــذاب الجسدى والنفسي معًا !!! 
    نظـر لخلود المتسطحة أمامه ليهمس بصوت يكاد يسمع :
    _ والظاهـر انهم هما كمان كانوا عارفين يا حبيبتي، عشان كدة كسرونى !!! 

    ********

    _ فييييين الصـور ؟ 
    صـرخ بها غـريب الذى كان يسيـر ذهابًا وإيابًا في ذاك المنـزل بجنـون، بعدما قلب المنزل رأسًا على عقـب، جـن جنونـه من عدم رد " بسام " عليه برد مقنع، ام أنه يتعمد إستفزازه واثاره جنونه فيرد عليه بــ : 
    " امممم مش عارف " .. " تفتكر ممكن تكون راحت فين يا شبـح ؟ " .. " يمكن العفريـت أخدهـا وهـرب " !!! 
    تتبعهـا ضحكاته المستفـزة، فاقترب منه غريب فجأة يسأله بحدة غير معتادة منه تجاه صديقه الوحيد : 
    _ بقول فين الصور يا بسام ؟ 
    رفـع كتفيه ليقول بلامبالاة مصطنعة :
    _ وأنا أيش عرفنـي ؟ 
    صرخ فيه بجنـون :
    _ أنت هتستعبط، محدش يعرف موضوع الصور ده غيرك أنت ويحيى، ويحيى عمره ما يعملها ! 
    نظـر له بلـوم حقيقي مردفًا :
    _ يعنى واثـق فــ يحيى ومش واثق ف صاحب عمرك يا غريب !!؟ 
    هـز رأسه نافيًا وقال بنـزق :
    _ لأ مش كدة، بس إذا كان يحيى هو اللي مدينى الصور دى، هياخدها من ورايا تانى لية يعنى ؟ 
    تنهـد بسـام وهو يتابع بيأس :
    _ ايوة أنا اللي أخدتهم يا غريـب 
    إتسعـت حدقتـا عينيه، لقد ضاع ما خطط له !؟ .. هُدمـت أحلامه الوردية بفتاته ناصعة البيـاض !! ذهبت هباءً وبسبب من ؟! ذاك الذى يُدعي صديقه !!! 
    أقترب منه فجأة يمسكه من تلاليب قميصه :
    _ ليييية، بتعمل كدة لية ؟ 
    أبعد يده وهو يجيبـه بجدية :
    _ عشان أنقذك من المصيبة اللي كنت هتعملها ف نفسك وف بنت بريئة ملهاش ذنب ف اى حاجة 
    زمجـر فيه بغضب عـارم يكاد يحرق من أمامـه من شدتـه :
    _ وأنت مااااالك، هو حد كان أشتكى لك ؟
    هـز رأسه نافيًا ليصدح صوته حازمًا :
    _ لأ بس لما أشوف صديقي وصاحب عمرى الوحيـد وأخويـا بيعمل حاجة غلط من حق الصحوبية دى عليا إني أنصحه ولو ماستجابش للنصيحة أتصرف عشان ألحقـه قبل ما يـقع ! 
    ضغـط على يـده لتظهـر مفاصلـه من فرط عصبيتـه، وايضًا نفس تلك الصداقة اللعينة تقف حاجـز بينه وبين رغبته في ضربه وتحطيمه لأشـلاء !!! 
    هنـا دخـل يحيى في نفس اللحظـات ليقـول بابتسامة هادئـة :
    _ اية يا شبـاب عاملين أية ؟ 
    اومـأ بسام بهدوء :
    _ تمام يا يحيى 
    نظـر لوجههم بتفحص متساءلاً :
    _ مالكـم كدة في أية ؟ 
    هـز باسم رأسه نافيًا بهدوء مفتعـل :
    _ مفيش حاجـة يا يحيى 
    قاطعـه غريب بغضبه اللانهائي :
    _ لأ في، الصور بعد ما عملتها ما بقتش معايا وراحت لشمـس 
    عينـاه فقط كفيلـة بأن توضـح بين سطورها إشعال النيـران الملتهبة بداخله !! 
    وفجأة دفع غريب بقـوة وهو يصيح فيه حادًا :
    _ أزاى راحت لشمس، أنا سايبهم لك أنت !!
    ولم يعد يشعـر سوى بــ غريب يسقط على الكرسي الحديدى من الخلفة والدماء تسيل من رأسه .. 
    وصرخـة بسام المفزوعة نحوه : 
    _ أنت مجنووووون !!!!! 

    *********

    يكـاد يطيـر فرحًا بموافقتهـا، سيكمـل إنتقامه الأعمي على أكمـل وجه، وبموافقتها هي شخصيًا !!! ، حقًا لقد كان القدر معه بكل معانيـه .. 
    بينما هي التى لم تعد تشعر بما حولها بعدما خطفت منه الكيس الصغير الممتلئ بالهيرويـن، تلك المادة البيضاء التى تغيبهـا عن وعيها بالكامـل .. 
    وإن كانت وافقت تحت تأثيـره البسيط، فبعدما اخذته سيطـر عليها تمامًا ومد فروعه لتلاليب عقلها الاهـوج لتوافق وتسلمه نفسها بكامل ارادتها !! 
    غمـز لها زياد بطرف عينيه وهو يقـول بخبث :
    _ مش يلا بقا اخدتِ الهيروين، عايز المقابل بقا يلا ؟ 
    نظـرت له بعيون ذابلة متساءلة :
    _ النهاردة ؟ 
    اومـأ مسرعًا ورد بجدية :
    _ أيوة، أحنا اتفقنـا خلاص 
    تنهـدت وقد بثت في نظراتها الرجاء وهي تتابع :
    _ طب ماينفعش نأجل الموضوع ده شويـة ؟ 
    هـز رأسه نافيًا ولمعت عينيه على تلك الغنيمة الشهية وأجابها :
    _ لأ مابأجلش حقي خالص 
    اومـأت وهي تستطـرد باستسلام :
    _ طيب 
    إتسعت أبتسامتـه الشيطانية مرددًا بحماس :
    _ كدة تعجبيتى يا " زينتـي " 
    ثم نهـض بخفـة، ومد يده يسحبها لتقـف وهي معه كالعروس اللعبة يحركها كيفما شاء واينما شاء !!! 
    وضع يده يحيط كتفيهـا ونظراته تكاد تُخلع لتأكلها اكلاً !! 
    وإتجـه الي غرفة نومـه، جلس على الفراش الخاص به وهى بجواره تعتبر جثه هامدة، ركـز نظراتـه على شفتيهـا المنتكزتـين، وفي اللحظـة التالية كان يلتهم بنهـم، يتذوق شهدهم بمتعة لا نهائيـة، يثبت لها رغبته المميتة فيهـا ويده تتحسس منحيـات جسدهـا بشهوة عمـت عينيه، وإدمـان عمي عينيهـا عن ذاك المسار الذى تسلكه !!! 

    ********

    كـان " مالك " يجلس في الصالـون، على الأريكة الخشبية الصغيـرة، عقله منشغل بالتفكيـر فيها بالرغـم من كل ما يحاول إقنـاع نفسه به، ينظـر على البـاب كل لحظـة علها تخـرج من ذاك القفص الذى حبست نفسها به، أو ربمـا الذى حبسها هو به !! 
    يتساءل في نفسه 
    " ماذا إن كان كلامهـا صحيـح ؟! " 
    يومها سيحـلق في سماء الندم طالبًا عفوها حتى تعفـوا ؟؟! 
    بالتاكيـد لا، فهذا " مالك السُنـارى " .. الجبل الشامخ الذى لا يهتز مهما حدث !!! 
    قطـع تفكيـره صوت طرقات على الباب لينهض متساءلاً بحدة وضيق :
    _ ميييين !!!؟ 
    وفتـح البـاب ليتفاجئ بوالـده أمامه بهيئته الجامدة وبعد هذه المدة الطويلة التى لم يراه فيها .. 
    ليهمس دون وعي :
    _ اية ده بابا !!!! 
    اومـأ والده وهو يردد خلفه بسخرية :
    _ ايوة بابا، غريبة اوى دى ؟؟! 
    هـز مالك رأسـه نافيًا ليبرر :
    _ لا بس انت اول مرة تيجي لي الشقة دى يعنى !! 
    أبتسـم والده ابتسامته المعهودة والتى يكرهها مالك لأنها تنـذره بعاصفة قوية مدمرة قادمة .. 
    فتابع والده جادًا :
    _ أصلى جاى لك فـ حاجة مهمة ومفاجأة هتعجبك اوووى 
    سأله مالك بحاجبين معقدوين وصوت مقتضب :
    _ حاجة أية ؟ 
    ليشيـر والده بيده وهو يقول امراً :
    _ تعالي 
    لتتسـع حدقتـا عينا مالك من هـول وصدمة ما يرى أمامـه وكأنه اليوم العالمي للصدمـات الطويلة !!!!!

    ********


    الفصل الخامس عشر : 

    دلـف أحـدى الرجـال الي المنـزل بخطـوات هادئـة، أوقفـه مالك الذى أشـار له بيـده ليتوقف وكأنه تذكـر تلك المسكينة بالداخـل، فقـال له بجدية :
    _ أقف هنا، أنت أية اللي جابك ؟ 
    سأله والـده بصوته الأجش مستفهمًا :
    _ أية يا مالك مش عايزنـا ندخل لية !!؟ 
    هـز مالك رأسـه نافيًا وهو يقول ببراءة مصطنعة :
    _ لا لسمح الله، أنا بس مش عايزكم تدخلـوا شقة زى دى 
    ثم وجه نظـر للرجـل متساءلاً بخشونة :
    _ وانت جاى لية عايز أية ؟ 
    واخيـرًا نطـق الرجـل ليغمغم متوترًا تحت أنظـار " جمال " :
    _ أنا جاى عشان أقولك الحقيقة يا أستاذ مالك 
    وزع نظراتـه فيما بينهـم وراح يسأله مرة اخرى بعدم فهم :
    _ حقيقة اية انطـق ؟ 
    هنـا خـرج صوت " جمال " الصلب وهو يقـول مشيرًا للرجـل :
    _ مش هو ده اللي جـه قالك إن انـا اللي أتفقـت مع مراتـك إنها تسيبـك
    أغمـض مالك عينيه وكأنه يحـاول منع وصول تلك الذكـرى البائسـة لعقله مرة أخـرى، وكأنما يحاول إقتنـاص الحـزن المتبقي في حياتـه !!
    هـز رأسه وهو يقول بصوت متشنج :
    _ جايبه لية يا بابا، وعايز أية !!!؟ 
    أشـار والده للرجل وأجاب بصوت حاول إخراجه حازم :
    _ جاى عشان أعرفك إني مظلـوم، وإن مراتك هي اللي باعتك 
    صـرخ فيه مالك بحـدة :
    _ بسسس، مش هنفتح ف القديم تانى 
    أشـار جمال للرجل وهو يقول آمرًا :
    _ لا هتسمعه، مش بمزاجك، أنطق يا حُسنى 
    هنا غمغم حسنى بتوتر :
    _ الصور والصوت اللي بعتهملك يا استاذ مالك كلهم تركيب، والدك ملهوش يد ف حاجة 
    رفـع مالك حاجبه الأيسر ساخرًا :
    _ لا والله، المفروض اصدق انا !!
    إحـتدت عينـا والده وهو يقـول بقوة :
    _ هتصدق غصب عنك، الدليل ادامك 
    أيجبـره حقـًا على التصديـق، وإن كان هذا شعور فطرى من الأنسـان، سيجبره هو !!!؟ 
    وما يقلق مالك أن هذا الأجبـار ليس من الفراغ، بل بدافع هدف وهدف قوى !! 
    رفع مالك كتفيه مرددًا ببرود :
    _ اوكيه صدقت 
    جـز والده على أسنانه بغيظ وهو يقول :
    _ ماشي يا مالك ماشي 
    همس مالك باستفزاز :
    _ بالسلامة يا والدى، خلى بالك من نفسك 

    ثم استـدار ليغادر على عقبيه، تاركًا مالك يفكـر في كلامـه وإصراره الذى لن يدعـه يجلس بسلام !!! 

    ********

    طرقـة خافته من البـاب الذى اُغـلق لتوه كانت كفيلـة بأن تقلق إنغلاق جفني " خلود " الهادئ وتزعج نومتـها المقلقة، لتنهـض جالسة بهدوء وهي تتساءل في نفسها 
    " كم من المدة نامت ؟! والأهم ماذا حدث ؟؟! " 
    ولكن الأجابـة مفروغ منها، هو أخبرهـا أنه لن يمسسهـا !! 
    نهضـت بهدوء وهي تحك رأسها اثر الألم الذى يداهمها، جملتـه الوحيدة طارت على أفقهـا لهدف لا تعلمه 
    " الظاهر أن هما كمان كانوا عارفين عشان كدة كسرونى يا حبيبتي ! " 
    تـرى من هي ؟! وكيف حدث !؟ 
    ولم تتذكر كل هذا الان من الاساس !؟ .. أيتحداها عقلها ليثبت لها أن امره يهمها ! 
    نفضـت تلك الأفكار من رأسها وأتجهت صوب المرحاض، أغتسلت وتوضـأت لتصلي فريضتها .. 
    انتهت ثم بدءت صلاتها بخشوع، تدعوا الله أن يترفق بها راعيها، وأن تعذرها والدتها وإن لم تكن تعلم ذاك العذر !!
    انتهت بعد دقائـق، ثم نهضت تتنهـد تنهيدة طويلة تحمل الكثير في طياتها، وفجأة اجبرتها عينيها على النظـر على تلك الغرفـة، وفضول الأنسان قاتل لدرجة الجنون !! 
    تتذكـر تحذيراته وتتذكـر حديثه عن عدم تخطيها لتلك الغرفة، ولكن .. من يحركها الان فضولها وليس عقلها .. 
    دلفـت الي الغرفة بترقب شديد، عيناها تسبق قدمها في كل خطـوة، 
    أقتربت شيئً فشيئ من ذاك الدولاب وفضولها ما هو إلا غشاوة على عينيها، فتحته بهدوء لان لم تجد غيره، الغرفة فارغة !!! مليئة بالأتربة .. يبدو أنها لم يمسها بشر منذ فترة ليست قليلة !؟ 
    وجدت الدولاب فارغ عدا درج وحيد، اتكأت برفق لتفتحه، لتجد دفتر متوسط، نفضت الأتربة عنه وهي تتفحصه، ثم فتحته، وكأنها فتحت ما جعل علامة الأستفهام في حياة ذاك الشخص " مراد " 
    تزداد تبايـن أكثر !! 
    أخذت تقـرأ، ولكن توقفت عن القراءة، لا بل توقفت حواسها كلها للصدمة التى هاجمتها الان !!! 
    وفجأة صدح صوتـه صارخًا فيها :
    _ أنتِ بتعملى اية هنا !!؟ 
    وقفت تطالعه بهيئتهـا المرزية، والصدمة باتت حاجز بين هدوءها وخوفها من مراد، فهمست دون وعي :
    _ ازاى !!؟
    سألها مقتضبًا :
    _ هو أية اللي ازاى !؟ 
    رددت بصدمة تشربت ملامحها :
    _ أنت اللي قتلت مراتك مش حد تانى !!! 

    *********

    وقفـت " كريمة " أمام جثـمان زوجهـا تبكِ وتنحـب، تصرخ بقوة وتصرخ امام بقايا زوجها الحبيب الذى عاصر معها كل شيئ بمُـره قبل حُلـوه .. لقد أنتهي كل شيئ وانتهت الحياة معه عند تلك النقطـة ! 
    وبعض كلماتـه وتوصياته على ابنتهم الوحيدة ترتكـز في رأسهـا كالفجوة في الإبرة دائمًا !!، 
    ويبقي السؤال معلق في عقلها وكأنه قاصدًا تعذيبها .. 
    " ماذا ستفعل هي وابنتها وحدهم في هذه الدنيـا !!؟ "،
    بينمـا على الجـانب الأخـر، كان يقف حمـدى يتحـدث في الهاتف وهو ينظر كل ثانية على " كريمـة " .. فقال :
    _ ايوة يا باشا لسة قاعدة اهي 
    _ خلي عينك عليها 
    _ حاضر امرك
    _ الدفتر اللي صابر قالك عليه أخدتوا ولا لا ؟ 
    _ آآ بصراحة لأ يا باشا 
    _ لا ازاااى يا حمار
    _ يا باشا ملقتهوش، دورت فــ المكان اللي قالى عليه قبل ما يتكل لكن مفيش 
    _ يعنى اية ؟ 
    _ يعنى شكله كان بيكذب عليا 
    _ ويكذب عليك لية هو كان شاكك فيك ؟
    _ معرفش يا باشا والله 
    _ اسمع بقا يا حمدى، الدفتر ده لو راح لبنته كلنا هنروح ف داهية وناخد اعدام، واكيد مش هنسيبك انت برة 
    _ عارف والله عارف بس اعمل اية ؟ 
    _ معرفش اتصرف 
    _ حاضر حاضـر 
    _ كلمنى لو في جديد مش هنبهك 
    _ أمرك يا باشا طبعا 
    _ سلام 
    _ مع الف سلامة 
    اغلق الهاتـف ووضعه في جيبه مرة اخرى وهو يتنهد مرددًا بتوجس :
    _ ربنا يسترهـا !! 

    *********

    جلسـت على السريـر متكـورة في وضع الجنيـن، دموعها تهطـل بصورة مُقلقـة، وجسدهـا المُعرى يرتعش بهيسترية مسيطرة عليها، روحهـا داخليًا تفتت لقطـع متناثـرة .. مهشمة برغبة الادمـان، ويرتكـز العنوان الوحيد فوق كل هذا والسبب الرئيسي " أخاها الوحيد مالك !!! " 
    تنطبق عليها لتكن هي الضحية !؟ 
    اصبحـت تتشنج وهي تتذكـر إستسلامها القهرى له !
    أستيقـظ هو ببرود، يتململ في الفراش بابتسامة احتلت ثغـره .. 
    لم تنظـر له قط، وكأن النظـر له يذكرها بكل شيئ فتنهدم كل محاولاتها للهدوء.. 
    هتف هو بصوت هادئ يعلم تأثيره عليها :
    _ صباح الخير ولا مساء الخير مش عارف 
    ضغطـت على أذنيهـا ودموعها تزداد نزول وحرقـة .. 
    فقال هو بوقاحة :
    _ نمتِ كويس يا حبيبتي ولا لا ؟ 
    صرخـت فيه بجـزع :
    _ بس اسكت اسكت .. مش عايزة اسمعك 
    رفع حاجبه متهكمًا :
    _ لية هو انا صوتي وحش للدرجة 
    لوت شفتيها مكملة بتقزز واضح :
    _ صوتك بيقرفنى، بيحسسنى بقذارتك قبل قذراتى 
    ضم حاجبيـه كأنما بدى متأثرًا، ثم تابع بسخرية خبيثة :
    _ لية منا كنت حنيـن من شوية !! 
    نهضـت مسرعة من حواره فهى لن تحتمل المزيـد، ما يحدث فاق قدراتها كأنثي 
    فأمسك هو يدها قبل أن تبتعد وقال بجدية :
    _ أعملى حسابك إنى مش هديكِ حاجة بعد كدة إلا بمقابل 
    نظـرت له نظرة مغلفة بجميع معانى الكره والاستحقار لتغمغم :
    _ إستغلال .. حقير 
    هـز رأسه نافيًا وأغمض عينيه دليل على تذكره ثم تشـدق بـ :
    _ تؤ تؤ، أصلى عيشت ليلة ولا ألف ليلة وليلة 
    نهضـت مسرعة وهي تجـر ازدال خيبتها، وتلعن اليوم الذى ادمنـت فيه !! 
    بينما همس هو وهو يتسطح بأريحية على الفراش :
    _ ولسة اللي جاى أحلي 
    تنهـد وهو يتذكـر أخته الراحـلة، ليقطع تفكيـره صوت إصطـدام قوى بالخارج وصرخـة مدوية تسبب في فزعه 
    جعلته ينهض ركضًا للخـارج وحالة من الهلع قد سيطرت عليه !!! 

    **********

    كـانت " شمس " تتسـطح على ذاك الفـراش الذى باتت تكرهـه، الفـراش الذى شـهد إستسلامهـا المقـزز، وهجومه المفاجئ لتنهـار حصونهـا، وإن كـانت حاولت الفـرار من قبضتـه، ولكنهـا إستسلمت !!
    تضم ركبتيـها الي صدرها وكأنها تحاول إستكـات تلك الدقـات التي تزعجهـا وتشعرها بالقهـر، دموعهـا تود الإنزلاق أسفل لؤلؤتيهـا الرماديتيـن ولكنها تشد لجامهـا لتقـف، ملامحها شاردة وواجمـة كالجثة الهامدة خالية من أى روح !! 
    دلــف هو من الباب بهيئتـه الرجولية الجذابـة، عطـره الذى أنعش أنفهـا ولكنه جاء بمفعـول عكسي عليها جعل قسمات وجهها تتشنـج بشدة، ودون ظهـور أى رد فعل صرخ فيه حادًا :
    _ قوومي 
    إرتعـش جسدهـا برعب حقيقـي، الواقـع يفرض عليها ذاك الخـوف البادى على محياها بوضوح، لم تلتفـت له وهى تحاول إختلاق بعضًا من شجعاتهـا، ولكنها فشلت عندما شعرت بقبضتـه تجذبها من الفراش كالقيـد الحديدى، ولكنه موجع لحد كبير !!
    جعلها تقف أمامـه ويداه تقيد ذراعيهـا البيضاويَن الذى كشفتهم تلك المنامة ذات البنطـال الضيق القصير والتيشرت الخالى من الاكمام، ثم زمجـر فيها غاضبًا :
    _ أية حابة تعيشِ دور الضحية كتير 
    هـزها وهو يصيـح فيها هادرًا :
    _ ده جزء من اللي هيحصل فيكِ كل يوم، أنتِ هنا لرغبتـي بس، يمكن عقـد الجواز ده عشان يخرس اى حد ! 
    أقتـرب منها أكثر حتي اصبح ملاصق لها تشعر بسخونـه جسده من قربها لهذا الحد، لتجده يهمس بفحيح أفعي :
    _ كل يوم لازم أخليكِ أنتِ اللي تستسلمي عشان تكرهي نفسك أكتر 
    أبتعـد عنها مسافة قليلة وهو يأمرها بنزق :
    _ ثم إنك قاعدة على السرير كدة لية وعاملة مناحة، قومي حضرى لى أكل 
    لم تجـيبه قط، كانت محدقـة به كالبلهـاء وهو يلقي قسم جديد يشهد على عذابها الحالي .. والقادم !! 
    وقد تبلـد جسدها من هـول كلماته المفجعـة، للأسف .. لقد كان محق !!
    عـاد يقتـرب منها ليلاعبها على أوتارها الحساسة التى بدءت تعتاده، ثم قال بخبث دفين أمام شفتيها :
    _ ولا أنتِ قاعدة على السرير مستنياني 
    لم ترد فقد ألجمتها الصدمـة، ليضحك هو بسخرية متابعًا :
    _ اووه، قولى كدة بقا 
    وبلمح البصر كان يدفعهـا على الفـراش وهو فوقها تلفح أنفاسه الهوجاء الخشنة بشرتها الحليبية التي شحبـت بهلع، ثم أقتـرب يقبلها بقسـوة، عنـف، وكأنه يفرغ شحنات الغضب التي تجتاحه كلما تذكـر، لتلين قبلاته مع الثوانى قاصده إستسلامها، ولتنل ما قصدتـه وتستسلم هي أمام لمساته الحميمية الجديدة عليها والتى تثير فيها مشاعر لا تعرف لها معنى !!! 

    ********

    كان والد مالك " جمال " يجلس في احدى الكافيهات المعروفة، على الكرسي الخشبي يضع قدم فوق الاخرى بغرور وكبرياء لا ينتهي من حوله بعض الزهور الخضراء المشعشعة مزينـة بأنوار زهية بشكل رائــع، لتهدئه من بالمكان، ولكن كأنها بالنسبة تزيد من عصبيته فتجعله يدب على الارض بقوة اكبر .. 
    نظره موجه نحو الباب ينتظـرها بفارغ الصبـر، هي التي ستنفذ له ما اراده وتحقق ما يسعي له علي الفور .. 
    واخيرًا ظهـرت بهيئتها المعتادة، بنطال جينز ضيق وتيشـرت يكاد يغطيها عدا ذراعيها البيضاويين، وجهها لا يخلو من مساحيق التجميل الكثيرة، تنهد وهو يراها تقترب لتجلس على الكرسي المقابل له، فسارع هو بالقول :
    _ كل ده تأخيـر ؟ 
    هزت رأسها وهي ترد بهدوء حذر :
    _ معلش مسافة الطريق 
    اومـأ متابعًا بارتياح :
    _ ماشي 
    سألته مستفهمة بفضول :
    _ طلبتنى لية ؟ 
    ضحَك هو بسخرية، ثم رفع حاجبيه مجيبًا بتهكم يشوبه الخبث :
    _ وحشتينى يا مرات ابنى قولت اشوفك 
    جـزت على اسنانها بغيظ وهي تغمغم :
    _ جمال بيه، ياريت اعرف عشان معنديش وقت 
    اومـأ وهو يهتف بجدية :
    _ تمام تمام ندخل في الموضوع يا سمر 
    اومـأت " سمر " لتنظر له باهتمام .. 
    فاستطـرد هو بقوة فاجئتهـا هي شخصيًا :
    _ عايزك تدخلى حياة مالك تانى !!!!! 

    ********



    🙈

    إرسال تعليق

    أحدث أقدم

    نموذج الاتصال