لم يتم العثور على أي نتائج

    مواجهة الأسد (الجزء الأخير ) \قصص مصرية

    الفصل الثامـن والأربعون : 

    جحـظت عينـاه وألجمـت الصدمة لسانـه كـقيـد من الحـديد، شعر كأنه رمـي جمرة مشتعلة من النـار لينتفض جسـده بصدمة وخوف، تهدجـت احباله الصوتيـة ليقول بخفَوت مرتـعد : 
    _ لا، قصدك اية، مستحيل شهد تطلب الطلاق لا لا
    لم يتفـوه محسن بكلمة، فقط ثبـت انظـاره عليـه وكأنـه يستشف منه ما يريـده، بينما تابـع عمر بهـلع ليثبت هذا الكلام لنفسه بقوة :
    _ شهد بتحبني، متقدرش تبعد عني
    بـدى محسن يكاد يقتنـع بـرد فعله المرتعـد، وأيقـن حينهـا أن نقطة ضعفه هي شهد وحدها، أغمـض عينـاه لثـوانٍ ليقرر ما سيفعلـه، ثم هتف بصوت قاتم :
    _ مينفعش تعيش معاك بعد الي عِملتهُ يا عمر، الي حُصل مش سهل
    إفتـعل الغضـب والحدة قائلاً :
    _ شهد مش هاتبعد عني يا محسن
    تنهـد محسـن بعدما تأكد أن عمر ليس بشخص هيـن ليتساهل في شيئ يخصـه هكذا، اودع ما استطـاع من حدة في لهجتـه الحادة التحذيريـة :
    _ انا يمكن هأحاول اصلح الي حُصل واصدجـك، بس جبلها عايز اعرِف حاچة واحدة، انت خونـت شهـد ؟
    أنهـارت حصونـه الجليدية الجادة التي اصطنعها في ثوانٍ، وكأن كلماته آلـه حادة لا يستطع اى شيئ مقاومتها، ثم أردف بأرتبـاك بـدى علي محيـاه :
    _ انـت بتقول اية يا محسن، ومين قالك الكلام ده
    كان ليس من الضرورى أن يعيـد جملته مرة اخرى، فقد كانت نظراتـه كفيلة لتُـظهر القلق علي ملامح عمر وتقـول ما اراد قولـه، نظـر عمر للجهة الأخرى ثم استطـرد بحـرج :
    _ صدقنـي انا مش فـاكر يا محسن، مش فاكر اى حاجة بس الي انا متأكد منه اني استحالة اخون شهد
    لمـس محسن الصـدق في نبـرة صوتـه، فلقد كان خبيـر في فهم الشخص الذى امامه بمهـارة، تنهـد تنهيـدة حارة تحمل بطياتها الكثيـر والكثيـر، ثم أردف بصوت أجش :
    _ انا لو عملت اكدة ورچعتكم لبعض، هيبجـي عشان الي ملوش ذنب ده
    عقـد حاجبيـه بدهشـة ممزوجة بالحيـرة، ثم سَأله بعدم فهم :
    _ مش فاهم، مين ده يا محسن ؟
    _ شهـد حامـل يا عمر
    قـال محسن تلك الجملة، وهو يدقق ملامح وجه عمر التي تشنجَـت عضلاتـه، ليترقب رد فعـله، ترقرقت الدمـوع في أعيـن عمر علي الفـور، الدموع التي تعذبت لتصل لجحر عينـاه ها قد وصلت بالفعل، شعر بسخونة دموعـه الفرِحـة وكأنها تزيـن وجهه الأسمـر، وكاد يقول شيئ ما ليعبر عن سعادتـه، ولكن لم يعرف لِمَ تحدتـه الحروف والكلمات، ولم يستطع ان يعبر عن ما يجول بصدره الان فقد كانت دموعه كافيـة لتثبت لمحسن، أن شهد وطفلهـا اصبحوا جـزء اساسـى من بنـاء قلبـه، فأكمـل بأبتسامة صافيـة :
    _ اغم عليها واحنا بنـدفن مصطفي، ووديتها علي المستشفي دى وجالي الداكتور انها حامل ولازم تهتم بنفسها
    إتسعـت ابتسامتـه تدريجيًا، ورفـع يده للسمَاء قائلاً بصوت عالي فـرح :
    _ الحمدلله يارب الحمدلله
    تذكـر ذكـر محسن لموت " مصطفي " فغمغم بحـزن يشوبه الشفقة :
    _ ربنا يرحمك يا مصطفي
    ردد محسـن بتنهيدة خلفه : امييين
    ثم رفــع إصبـعه الخشـن الأسمـر في وجهه ونظـر لعمر بتحذيـر وعـاد يقـول بتوعد :
    _ بس قسمًا بربي يا عمر، ماعرف إنك زعلتها تاني لأكون مطـلجها منك ومن غير ما اتحدت معاك، فاهم ؟
    _ فاهم طبعًا يا باشا
    أجابـه عمر بنبـرات مرحة لم تغمره منذ فتـرة، ليبتسم محسن ويرجـع بظهره للخلف مستندًا علي ظهر الكرسي الخشبي، وعاد يتصنـع الحدة وهو يقـول :
    _ بس لازم تثبت براءتك ادام شهد نفسها وتثبت لي انك فعلا ماخونتهـاش
    اومـأ عمر بتأكيـد، ولمع بريق الانتقـام في عينـاه السوداء الحالكة، ليظهـر ظُـلم الليل وقسواتـه بداخل عيناه الشرسـة، ثم عاد يقـول متوعدًا بكـره :
    _ اوعدك هثبت، وهرجع حقي وحق كل ليلة قضيتها شهد زعلانة بسبب الموضوع ده
    *****
    لقـد اخرجـوا الذئـب الذى يتكـور بداخله، تجـلد جسـده بصـدمة ولهيب حقـد معًا، لو كانت والدتهـا رجـل لكانت تلقـت عدة لكمات ردًا علي ما قالـته، بينما كان شهاب يرتجـف بداخله من مظهـر عبدالرحمن الذى يعبر عن هدوء ما قبل العاصفة، ماذا عساك فعلت، لقد اخرجت الجزء الذى كان يحاول اخفاؤوه دائمـًا، حاول إظهـار الثبـات والإبتعاد عن نظرات عبدالرحمن التي ارعبـته، بينما كانت تنكمش " نبيلة " في نفسها وتعض علي شفتاها بخوف، حمـدت ربهـا ان شهاب موجود، ظنًا منها انه سيكون الدرع الحامي لها من عبدالرحمن، لم تعرف أنه يخشاه اكثر منها، تقـدم عبدالرحمن من شهاب ليلكمـه بقوة في لمح البصـر يسقطـه ارضًا، ثم صـاح فيه بغضب قائلاً :
    _ انت مجنوووون، مش قولتلك هتبقي مراتي قريب ولا انت اطرش
    حـاول شهاب إظهـار بعض الشجاعة امامها، ليكتمل ما اراده، ثم نهض بسرعة وحاول تسديد اللكمة له ولكن كان عبدالرحمن اسرع واقوى ليتفاداه، وظل يضربه بكل قوتـه، حتي قـال شهاب برجاء :
    _ ابوس ايدك كفاية هموت مش قادر
    هـدأت هذه الجملة من ثورتـه قليلاً، وظـل يلهـث وهو يرمقـه بشماتـه، بينما كان شهاب يلتقـط أنفاسـه بصعوبة وقد امتلئ وجهه بدماؤوه، في نفس اللحظات دلـف الطبيب بخطوات هادئـة متعجبة من ترك باب المنزل علي مصرعيـه، وما إن رأى شهاب في وضعيتـه هذه حتي شهق بصدمة ثم سـأل عبدالرحمن بجدية :
    _ اية الي بيحصل هنا ؟؟
    أختفـي الغضب من وجه عبدالرحمن في ثوانٍ، وتمثـل البـرود بإتقـان، ثم أجابه بلامبالاة :
    _ ابدًا، كان بيتهجم عليا وبدافع عن نفسي وعن خطيبتي
    ضيـق عينـاه بتفحص، ومن ثم وجه نظـره لوالدة رضوى الساكنة بمكانها، فما كان منها إلا ان تهتف بأرتباك ملحوظ :
    _ اتفضل يا دكتور شوف رضوى مالها
    اومـأ بجديـة وبدأ يتفحص رضوى بتركيـز، وقد عـاد الضيـق يظهَر علي عبدالرحمن والغيـرة تتملكه رويدًا رويدًا، علي الرغم من ملاحظـته لبعض الشعيرات البيضاء علي جبهتـه، إلا انه قـال حانقًـا :
    _ ابعد يا دكتور شوية وياريت لو تكشف من بعيـد كدة
    رفـع الطبيب حاجبـه بدهشـة مصحوبة بالضحـك علي كلماتـه فهو يعد في عمر والده تقريبـًا، فأردف من بين ضحكاته بمـزاح :
    _ ده انا اد ابوها يابني، وبقيت جـد كمان، يعني قولي خد راحتك يا جدو
    نظـر للأرض بحـرج، ومن ثم تنحنح مشاكسـًا إيـاه :
    _ خد راحتك يا جدوو
    انتهـي من فحص رضوى ثم نهض وبدأ يلملم اشياؤه، ثم نظر لوالدتها قائلاً بجدية ويمد يده بأحدى الورقات :
    _ انا اديتها حقنة هتفوقها، هي عندها صدمة عصبية حادة، خدوا بالكوا منها وادوها الأدوية دى عشان المرة الجاية الله هو اعلم اية الي ممكن يحصل
    زفـر عبدالرحمن بضيق، وقـال في خواطـره بعيدًا عن المـزاح منذ قليل :
    _ والله لأوريـك يا كلب، وادفعكم تمن تعبها ده غالي
    أنتقـل بنظـره لشهاب، لينظـر للسجادة الكبيرة المفروشـة علي الأرضيـة واثر دماؤوه فقط، اين هو، اين اختفي من مخالبـه، هـرب منه هذه المرة ولكن لن يفلـت مرة اخرى من تحت يده سالمًا ..
    *****
    تجـلس في احدى اركـان الحبـس الإنفـرادى، تنكمـش في وضعيـة الجنين، عـادت تتذكر زواجهـا " بأحمد " عاشـت اجمل لحظاتـها معه ولكنها هدمتها بغباءها، دمـرت كل شيئ بكفـة حب حسن المزيـف، تشعر بالحنين لطفلها، لما الان !!
    كان بجوارها دائمًا وتهملـه، ولكن الان فقط استفاق شعور الأمومـة بداخلها، ضغطت علي رأسها بيدها لتقطـع إسترسال عقلها لباقي ذكرياتها المؤلمـة، فُـتح الباب ودلف احمد بخطـواته الهادئـة الحازمة، نظر لها بتفحص، وقد رق قلبـه لها مجددًا، وازدادت ضربات قلبه بمجرد اقترابـه منها، ماذا بك ايهـا القلب، بعد هذا الجرح الغائـر تنبض لها !! ، أتـرغب في جرحًا اخر ؟
    أغمض عينـاه يستعيـد جديتـه وصرامته، وراح يقـول بصوت آمـر :
    _ هاتها يا عسكرى ورايا علي مكتبي
    أستفاقـت علي الصـوت الذى تعرفه جيدًا، كأنـه طبـول تعلن بدأ الحرب من جديد، نهضت دون نطق كلمة وسارت خلفه بهدوء، حتي وصلوا امام مكتبـه ودلـف ثم أشـار للعسكرى بالانتظـار، سارت مها معه للداخل ثم اغلق الباب، وعاد يجلس لمقعـده الوتير بأريحية، ووجهة الصـارم هادئ وساكـن ولكن هدوء مخيف، اشـار لها بالجلوس قائلاً بجدية :
    _ اقعدى يا مها، اطلب لك ليمون ؟
    هـزت رأسها نافية ونظرها مسلط علي حذائهـا كأنـها تتأكد منه، ولكنها لا تقوى علي رفع رأسها ومواجهة انظاره القويـة ..
    _ مش انت الي قتلتي حسن يا مها
    هتف احمد بتلك الكلمات بهدوء حذر ونظرات مترقبـة لرد فعلها..
    عقـدت حاجبيها بدهشة شديدة، ماذا يقـول، لقد قتلته بيدها، إندفعت لتأخذ ثأرهـا، ولكنه بكلماته الهادئه كالصخـر حـطم موجتها الفرحة لأنتقامهـا، رفعت ناظريها لتقابل عينـاه المتفحصة، نهضت ثم صاحت فيه بأهتيـاج :
    _ انا قتلته بأيـدى وشوفت دمه، ازاى بقا
    جـز علي أسنـانه بغيـظ مكبـوت، ثم أجفـل بجديـة يحدجها بصرامة :
    _ كان ميت قبل ما تضربيه بالسكينة يا مها
    شهقـت بصدمـة، ووضعت يدها علي فاهها بحركة مباغتـه، ثم هـزت رأسها نافيـة وعادت تقول بهيستريا :
    _ لا لا مستحييييل
    وفي تلك اللحظة، ارادت ان تستسلم، تعـود لحريتها مجددًا، تستسلم من قنـاع الحب والقوة وتخـرج من الحفرة العميقة التي سقطت فيها مؤخرًا، تمسـك بيـده التي لمحتها تود مساعدتها، ابتسمـت بهيستريا، وقد لاحت فكرة شيطانية علي عقلها لتقول بتهكم :
    _ وانت بتقولي كونك ظابط، ولا كونـك احمد الي عايز يثبت لي اني هافضل فاشلة حتي ف انتقامي !
    نهـض وقد ظهـر الغضب والغيظ علي محياه، وتشنجت عضلات وجهه، ثم اقترب منها وامسكها من ذراعيها بقـوة ضاغطًا عليها بقوة آلمتـها، ليتـابع بصياح وتصميم قائلاً :
    _ لا كونى هبقي جوزك يا مدام
    *****
    تسيـر بملابسـها التي تظهـر مفاتـن جسدها كعادتـها، تقـدم قدم وتؤخـر الاخرى، في احدى الشوارع الجانبيـة الهادئـة، يسودها الظلام الدامـس، تتراقص بخطواتها علي إيقـاع الخطـر دون ان تشعـر، والإبتسامة السعيدة المنتصرة تزيـن وجهها الأبيض بفعل مساحيق التجميل، بتـر حبل أمنياتها وآمالها شخص ما من الخلف يكممها، لتقـع مغشيـًا عليها بين ذراعيـه المفتولتـان، وما كان منه الا نظـرة شامتـة وأبتسامة ساخـرة، وهو يقترب بها ويضعهـا في احدى السيـارات السـوداء الكبيرة في الخلف، ليركب هو بسرعـة متلفتـًا ليتأكد من هدوء المكان، ثم ادار المقـود متجهًا لحيث اراد
    ******
    تـقـف امام الشـرفة المطلة علي احدى الحدائق المجاورة للمستشفـي، الزهـور المتفتحـة الخضـراء التي تعطي شكلاً مبهـج للحديقـة، ترى انعكـاس اشكالها علي الحائط، تتفقـده بشـرود وكأنها لا تجد من تنظر له سـواه، خصلات شعرها البني الكستنـائى ثـائرة علي جبينهـا كحالة اعتراض منها علي إبتعادها عن معشوقها، راحت تتخيـل ما تمنتـه حقيقة يومًا ما، وهو معهـا تغمرهم حالة سعادة بطفلهما القـادم، ولكن ليس كل ما نتمنـاه حقيقة
    طـرقـات خافتـة تكاد تسمع علي الباب، قطعت احلامهـا الورديـة، ابتسمت ثم اذنت للطارق قائلة بحبـور :
    _ اتفضل يا محسن
    هكذا هي ظنت، انفتح الباب علي مصرعيه ليدلف عمـر بهيئتـه المهندمة، وعطره المميز الذى عطر انفهـا برائحته علي الفَور وبيده باقة من الزهور الحمراء، يـزين ثغره ابتسامة عاشقـة، ليهمس بأسمًا اطال غيابـه علي اذنيهـا :
    _ شهــدى .. وحشتيني اووى
    ****

    الفصل التاسـع والأربعون : 

    نبـض قلبـها بعنف وأصبح يتراقـص علي أنغـام الصوت الذى اشتـاق له منذ زمـن، ومن دون أن يشعـر سـقي الزهور التي لطالما انتظـرت ساقيها، وبـردت أطرافهـا من الصدمـة، وقـالت بفـاه فاغرًا وحدقتين متسعتيـن لتظهـر جمال عينيها البنـية التي ملؤهـا ذاك الشعـاع الحزيـن مؤخرًا : 
    _ هو انـت !!
    كأنها عادت تسـأله لتؤكد لعينـاها ما رأتـه، بينما اقتـرب منها ولم تزول ابتسامته العاشقة، ثم اجابها ببساطة :
    _ ايوة انا يا شهدى، عمر حبيبك
    كلمتـه كانت كالسكين الذى عاد ينغـرز في جرحـها بقسـوة، وقد ساندتـه صورتـه في أحضـان تلك الفتـاة، فصاحت فيه بقوة :
    _ اخرج برة مش عايزة اشوفك
    هـز رأسـه نافيًا، وعاود ذلك التصميم في الظهور في عينـاه السوداء مجددًا، ومن ثم أكمَل بأصرار غريب :
    _ المرة دى مش هخرج مهما قولتي
    أصراره نجـح في مهمته ولمس الوتـر الحساس لديهـا، جاهـدت بصعوبة للعودة لجديتـها مرة اخرى وهي تقول :
    _ عمر لو سمحـت عشان خاطر اى حاجة امشي من هنا
    اصبـح امامها تمامًا، يحدقهـا بعينـاه القَوية ونظراته التي اذابتـها، ثم اقترب من اذنيهـا ليهمـس بالدليل القاطـع لتصميمه :
    _ وحياة ابننـا الي جاى ما هأسيبـك
    سـارت رعشـة كالكهـرباء في جسدهـا، من همسـه القريب الذى سكـر روحها، ثم تنهـدت بضيق وغضب معًا متسائلـة :
    _ مين قـالك ؟
    نظـر للسـقف قاطبًا جبينـه بتفكير مصطنع، وبدأت الأبتسامة في الظهور علي ثغره مجددًا، ثم اردف مشاكسًا :
    _ العصفوورة بتاعتي
    تأففت بغيـظ من مزحه الذى لم يحين وقته بعد، ثم نظرت له بحـدة وهي تشيـر بإصبـعها في وجهه، واستطـردت بجدية :
    _ ملكش دعوة بيه، ده ابني لوحدى
    رفـع حاجبـه الأيسـر بتعجـب مرح، ومن ثم أضـاف ليقلل من حدة الموقف بخبث :
    _ ابنك لوحدك، وده جبتيه ازاى ده يا شهـدى بقـا ؟
    تـوردت وجنتـاها خجلاً لتصبح كـ لون الدمـاء، ونظرت للأسـفل، نجـح فيما أراده وأمتـع عينـاه بزهور وجنتاها الخجولة، ليرفـع وجهها بطرف إصبعه ويتابع بحنان :
    _ مكنتيش عايزانى اعرف، كنتى عايزة تفرحي بأبننـا لوحـدك
    تلقلقت الدموع في عينـاها علي الفـور، فقـك تخطـي كل المواجهات الجـادة، ليدلف لأحلامهـا الورديـة، واعدًا إيـاها بتحقيقهـا معًا، أمسـك وجهها بين كفيـه لينظـر في عينـاها ويرى إنعكاس صورتـه فيها، وتلك اللمعة بالدموع التي احزنتـه ولو لوهلة، لم يمنـع نفسه من اخذها بأحضانه، يدفنـها في أرضه الخاصة ليمنعها من الهـرب، ويظل آسرهـا الوحيد والأبـدى، أجهشـت بالبكـاء الذى منعتـه لفترة ولم تستطع الصمود امامه اكثر، ظل يربـت علي شعرها الذهبي بحزن قائلاً :
    _ انا اسف يا شهدى، سامحينـي
    دون أن يقصـد قطـع حالـة الحنان التي غمرتها بمقـص بَارد، لتعاودها كل اللحظات التي جاهدت لنسيانها، تشنجت قسمات وجهها وهي تصيـح فيه بحدة :
    _ اسامحك علي اية ولا اية، اسامحك علي ابنك الي جه بالغصب ولا اسامحك علي خيانتـك ليا
    نظـر للأرض بخـزى من فعلتـه، هو يعـرف مدى عمق جراحهـا منه، ولكن عند تلك الكلمات نظر لها بقوة وسارع مبررًا بصدق :
    _ لا لا والله ما خونتـك يا شهد، انا مقدرش اعمل كدة اصلاً، اذ كان انا كنت ف جنة، هأسيبها واروح للنار برجلـي
    أبتسـمت ابتسامة صغيرة ساخـرة، وترمقـه بنظرات مـكذبة، ثم تقـدمت للأمام بخطوات واثقـة، ومن ثم اردفـت بتهكم :
    _ لا بجد، يعني الصور بتكذب والي بعتها بيكذب وانت صادق !
    اقتـرب منها بكتفيـه العريضتين، ونظرات اشعلتها بكلماتهـا، معلنـة عن بدأ إندلاع ثورة حَارة، قد تكون مليئة بالخسائر، وأمسـك بكتفيها مثبتًا ناظريه عليها، ومن ثم قـال بجدية :
    _ اقسملك بالله اني كنت قاعد معاهم بس وماحستش بنفسي وبعدها مش فاكر اى حاجة، بس الي متأكد منه انى استحالة اكون خونـتك
    وضـع يـده فجأة بحركة مباغته بجوار بطنهـا، ليثبت لها بأغلي شيئ قد صار له :
    _ وحياة ابننا الي لسة ماجاش وبتمنـاه من الدنيـا، انا مش فاكر، بس لا لا استحالة اكون خونتـك، انا مقدرش ألمس واحدة غير حبيبتـي
    وترتهـا نظراتـه المثبتـة عليها، لم تعرف لما تربكهـا وتؤثـر فيها لهذه الدرجة برغم ما فعله، كلمـا ترتدى هذا القنـاع الجامد، يأتي في ثوانٍ ليزيحه عنها بكلماته ونظراته، زاغـت بنظراتها في انحاء الغرفة، وحركـت شفتاها بصعوبة قائلة :
    _ بس قـدرت، وللأسف مش هقدر اكمل مع واحد ضعيـف
    ****
    بـدأت تستعيـد وعيهـا تدريجيًا، ليشرق جفنيهـا بتثاقـل، وتظهـر شمسها البنـية الهادئة، تشعر بالتثاقل في رأسها، وألم رهـيب، بدأت تتململ علي الأريكة بضعف، لتحاول العـودة لواقعها الملموس، بينما كان عبدالرحمن يجلس علي الكرسي المجاور للأريكة، ولم تهـدأ قسمـات وجهه من القلق والتـوتر، نظرات السيدة التي يفترض أن تكون والدتها تقلقه اكثر، بينما كانت والدتها تنظر له بتمحص، ونظراتها تحمـل جميع معاني الكره، كالذئب الجائع الذى يريد إلتهـام فريسته بأنتقام ولكنه مقـيد بضغطه يـداه ..
    سـألتـه بنبرة غليظة وهي تنهض :
    _ انت هتفضل قاعد لنا كدة كتير ؟
    نـجح في تمثـل البـرود لفترة طويلة، بالرغم من اندلاع نيران البراكيـن الملتهبة بداخله، فأجابـها بعدم فهم مصطنع :
    _ مش فاهم يعني عايزة اية يا حماتي ؟
    جـزت علي أسنـانها بغيـظ تكاد تفتك به لولا نـداء رضوى بصوت واهـن :
    _ ماماااا
    اقتـرب منها عبدالرحمن بلهفة ثم والدتهـا، ومن ثم قال بخوف يشوبه الفـرح :
    _ انتي كويسة يا رضوى ؟
    بدأت الصـورة توضح امامها ببطئ، لتراه امامها، وعينـاها تدقق قسمات وجهه وبعض الخطوط المتعرجة التي لاحظتـها علي ملامح وجهه الوسيـم، من كثـرة اقترابه غير واعٍ بنفسه، إبتلعت ريقهـا بصعوبة و بخجل ومن ثم وجهت نظراتها لوالدتها قائلـة بخفوت :
    _ ماما لو سمحتي عايزة أشرب مياه
    لـوت شفتـاها بعدم رضـا، واومـأت موافقة، ثم تابعت بأمتغاض :
    _ حاضر ياختي حاضر
    أبتسـم عبدالرحمن علي حركتهـا، أرادة الحديث معه دون تدخـل والدتها الحاد وكلامتها اللاذعـة، تراجـع للخلف قليلًا بحـرج، وكـرر سؤاله علي مسامعها:
    _ انتي كويسة دلوقتي يا رضوى، حاسـه بأيـة ؟
    اومـأت وهمسـت بهدوء : ايوة كويسة
    حاولـت النهوض لوضعية الجلوس بصعوبـة، وبـدأت في تهدأة انفاسهـا اللاهثـة من اضطراب ضربات قلبها ورفعت ناظريها له لتقابل نظراته المتلهفة، فسـألته بسكين حاد اصابه في منتصف قلبـه بقوة :
    _ انت مييين ؟!!!
    *******
    _ نعم، انت واعي انت بتقول اية يا احمد
    هتفـت مها بها ساخـرة، وترمقـه بنظرات غير مصدقـة، محاولتـه للعودة لها مرة اخرى، اعادتـها للحياة التي غادرتها بيأس، ولكنـها ترغب في التأكد أن اليـد التي امتـدت لمساعدتها من حديـد، وليست من حرير لتنكسـر بسهولة مرة اخرى، بينمـا يقف امامها بشموخه المعتـاد، ثم اغمـض عيناه بتنهيدة طويلـة وعميق، واجابهـا بتأكيـد قائلاً :
    _ ايوة واعي، ولسة عايزك يا مها بالرغم من ده كله
    هـوت علي الكرسـي الخشبـي ليتخبط جسدها فيه بقوة، والنـدم يتملكها، اضاعت من يـدها شيئ ثميـن لن يعوض، يريدها بشدة، لتذهب للتقليـد، كم كانت غبيـة حقًا، حرمت طفلها من والده كل هذه الفتـرة بسبب حماقتـها، وكأنـه استطاع ان يستشف ما يدور بعقلها الان، فأكمل بأبتسامة حالمـة :
    _ خلينـا نكمل باقي حياتنا مع بعض، ندى ابننا الحنان الي افتقده، ونعوض الي فـات يا مها، كفاية بعد بقا
    يـراودها الشعور بالخزي والخجـل من كلماتـه، علي الرغم من ان امانيهـا تحققت، الا انها تعريهـا لتظهر امامها حقيقتها الملموسة البشعـة، والتي حاولت أن تتناساها بكل الطرق، بينمـا كان أحمـد يعرف آثــر كلماته عليها جيدًا، ولكن هل مازالت تفكر للموافقة ؟! ، وإن يكن، لتفكر اذًا، في النهاية هي له وحده، اقترب منها يتنحنح بهدوء حـذر :
    _ تقريبًا انتي هاتخرجي بكرة او بعده بالكتيـر، الأدلة بقت في ايدنا ناقص اعتراف صاحب حسن بس
    اومـأت بهدوء جاهـدت لإظهـاره، ذكر أسمه يعكر صفـو موجتها السعيدة، استطـرد بفرحة داخليـة :
    _ الحمدلله، بجد مش مصدقـة يا احمد
    بادلهـا الإبتسامة السعيـدة مرددًا بأرتياح :
    _ ولا انا مصدق يا مها
    ولكن سرعـان ما أختفـت وهو يقـول بهدوء :
    _ بس في حاجة لازم تعرفيها الاول يا مها
    نظرت له متسائلة بتوجـس :
    _ خير يا احمد في اية ؟
    أنتقـل بنظراتـه للباب كأنه ينتظـر شخصًا ما، ثم هتـف بالقنبلـة التي فجرها لتوه :
    _ بس انا اتجوزت واحدة تانية
    ******
    تجـلس علي احـدى الكراسـي الخشبية الصغيرة والقديمـة ومليئ بالأتربة، مكـان يبدو أنه مهجور، لا يسـمع به اى صـوت سـوى همسـات الجو الهادئـة التي تلفح وجهها بقـوة، يدها مربوطة بالكرسي بأحبال متينـة يصعب فكها، وفاهها مكـبل بأحدى قطع الاقمشة القطنيـة، الكحل ساح تحت عينـاها ليعطيها مظهـر مرعب بدلاً من جمالها القارص، كانت تصدر همهمات خافتة مرتعدة، لتجـد من يقتـرب منها بخطوات واثقـة ويصيح فيها ببـرود قائلاً :
    _ هاا فوقتـي يا لـوزتى ولا لسة ؟!
    إبتلـعت ريقهـا بخوف، وازداد الرعب بداخلها من معرفتـه اسمها، اذًا هذا ليس مجرد خاطف عاديًا، حاولت بناء بعض الحصـون الجادة :
    _ انت عايز ايييية ؟
    وضـع يداه خلف ظهـره يتفحصها بنظرات ذات مغزى، ومن ثم أجابهـا بلامبالاة :
    _ انا مش عايز منك اى حاجة، عايزك بس تقولي مين الي قالك تعملي حركاتك علي عمر وتصوريه معاكي
    الان فقـط فهمـت كل شيئ، آآه من تلك الاموال التي جاءت لها في مقابل هذه المهمة التي تكاد تودى بحياتها للجحيم، قالت لنفسها هكذا قبل أن تتابـع بعدم فهم مصطنـع قائلة :
    _ عمر مين وحركات اية، انا مش عارفة انت بتتكلم عن اية
    جذبهـا بعنف من شعرها وقد اخـرجت الجزء القاسٍ من داخله وزمجر فيها غاضبًا :
    _ انتي هاتستعبطي يابت، انطقي بدل ما اخليكي تتحسرى علي جمالك ده
    ارتعدت اوصالهـا من تهديده، فالشيئ الوحيد الذى تمتلكه هو هذا الجمال، إن فقدتـه ستنتهي حتمًا، تهتهت بهلع :
    _ هأقولك علي كل حاجة بس سيبني

    ******
    يسيـر بخطوات مسرعـة أشبـه للركض، وقد تصبب عرقًا، متجهًا لغرفة شهد، ليخبرها ما قد توصل له، والذى لن يعجبها حتمًا، بس احتمال أن يزيـد حالتها سوءً، ما عرفه كان كالقشـة علي ظهر البعير لتجعله ينطلق فورًا كالسهم ليخبرهم ..
    مد يده للمقبض بسرعة ليدلـف، لتقـع انظاره علي شهد التي كانت مسطحة علي الفراش وعمر بجوارها، تكاد تغلق عيناها، لم يمهلهم الفرصـة ليتعجبوا من دخوله المفاجئ ومظهره، ولكن سارع عمر في السؤال بتوجـس :
    _ في اية مالك يا محسن ؟
    أشـار له بيده محاولاً التعبيـر، واخذ يلتقط أنفاسـه بصعوبة قائلاً :
    _ لازم نسافر البـلد حالاً، ابوى كتب في وصيته ان شهد لازم تتجوز واد خالها عشان تاخد ورثها، وخالانها ماسكتينش جالبين البلد عليها عشان يجوزوها لولدهم وينفذوا الوصية
    ***** 

    مواجهة الأسـد 

    الفصل الخمـسون : 

    عينـاه متسعيـن بصدمة جليـة علي ملامحه الصارمة، كـمن ضربـه بمطرقـة بقوة علي منتصف رأسـه، بينما لم تظهـر شهد اى رد فعل، وكأنها اعتادت علي الظلـم، اعتـادت علي ان تعيش بالظلام، وعندما رأت نورًا طفيف ومدت يدها تتشبث به وجدت الظلام يتمسـك بها بأيـدى حديديـة رافضًا الإبتعـاد، بينما زمجـر عمر فيه بغضب يشوبه الحـدة :
    _ انت مجنووون، شهد متجوزة اصلا، امال انا اية طرطوور حضرتك 
    أشـار له محسن بيـده وقد تبلدت ملامحه ومن ثم تـابـع بجدية : 
    _ الكلام دلوجتـي ماهينفعشي، لازم نسافر ونفهموا خالها براحـة 
    مسـح علي شعـره كنوع من تنفيث الغضب، ثم نظـر لشهد بتفحص، وعيناه تتلهف للإطمئنـان عليها متسائلاً : 
    _ شهدى انتِ كويسة ؟ 
    نظرت له بأعيـن ذبلـت، وكأنها جسد بلا روح، ودموع أبـت نزولها لشيئ لا يستحق، ثم اومـأت دون كلمة اخرى، فتـابع محسن بصوت قــاتم : 
    _ انا هأروح اشوف الداكتور واخد اذن الخروج واجي تكونوا جهزتوا
    تنهـد عمر بقوة، اما كان يكفيه كل تلك المشاكل، لتأتي هذه وتزيـد من دستـة مشاكله، ولكن كيـف ستبتعد عنه، من المستحيل وإن كان الثمن حياتـه، نظـر لمحسـن ثم أردف بهدوء حذر : 
    _ محسن احنا لازم نفكر هانعمل اية قبل ما نمشي 
    أقتـرب منهم بخطوات واهنـة وشعر أن قدمـاه تحملاه بصعوبـة، فقد اوشكـت علي الكسـر، خالـه ليس بشخص هيـن ليتقبل أن ابنـة اخته تزوجت من دون علم اى شخص، لن يمر الأمر هكذا، ولكن، ماذا عساهم ان يفعلوا !! 
    نظـر للأرضيـة وكأنه يبحث عن شيئ ما بعينـاه، ثم قال جادًا : 
    _ مفيش غير حل واحد بس 
    نظر له عمر وشهد بسرعة ثم سـأله عمر بلهفـة : 
    _ قول اية هو بسرعة 
    رفــع ناظريـه لهم ولشهد بالأخص، وكأنه يتأكد من ان المكـان فارغ ليلقـي بالقنبلة المميتـة، وقـال بصوت أجش : 
    _ لازم تطلجــوا 
    أصدرت شهـقة مكتومة بصدمة، فأخر ما توقعتـه هو هذا الحل، وقد اغرورقت عينـاها بالدموع الساخنـة، كانت كالطفل الرضيـع ما بيـده سوى البكاء، فقد عانـدها لسانها وآسرهـا خلف قطبان الصمت، بينما أحمـرت عينـا عمر كجمرة مشتعلة، ثم صاح بغضب وحدة : 
    _ مستحييييييل، شهد مراتي وهتفضل طول عمرها مراتـي 
    هـز محسن رأسـه نافيًا ثم عاد يقول بتوضيح : 
    _ انتـوا هتطلجـوا مؤجـتًا، لحد ما نروحوا البلد ونفهموا خالي أن شهد مخطوبة وابوى كان عارف بس لما تعب ملحجشي يغير الوَصيـة، ونكتبوا كتباكم هناك 
    خـرجـت شهد عن صمتهـا، وقد تبدلت نظراتهـا المصدومة بأخرى حازمة : 
    _ وانا مش عايزة اى ورث، انا بس عايزة افضل مع جـوزى وابني 
    أبتسـم عمر عفويًا علي جملتهـا، الوصيـة التـي تريد تفرقتهم ستصبح سببًا لجمعهم، مثل السـوط الذى كان سيجلدهم لينزل دون قصدًا علي المتهم ويصبح سبب الأعتراف، وإخلاء سبيلهم بأرتياح، تنـهـد بحـزن قائلاً : 
    _ ماشي يا محسن، بس يكون في علمك حتي لو موافقش هرد شهد واخدها وامشي، ومش هيهمني اى حد 
    اومـأ محسن موافقًا بتأكيـد، في حين أغمضت شهد عيناها تبتلغ غصـة مريرة في حلقها، ليقـول عمر بجدية لمحسن : 
    _ روح جهز الي انت قولت عليه وتعالي ونطلع علي المأذون بعد كدة 
    أولاهـم ظهـره وإتجـه للخارج بخطـي ثابتـة، ثم اغلق الباب خلفـه، لترتفـع شهقـات شهد الحادة، كالسوط الذى نزل علي جسده للتـو، اقترب منها بسرعة محتضنًا اياها دون ادنى مقاومة منها، يحتويهـا بين ذراعيـه، يعتصرها بقوة ليمـدها بقليلاً من القوة التي تجعله صامدًا، يقسـم لها بطفلهم الغالي أنها لن تصبح لغيـره، بينما تشبثت هي به بقـوة، وبكاؤها يزداد، كأن حاجب الدموع قد ازيـل الان، مسح عمر علي شعرها بحنان، ثم استطرد مداعبًا : 
    _ لو كنت اعرف ان الوصية هتخليكي تعترفي انك عايزانى جمبك وتحضنيني اوى كدة، كنت روحت فتحتها من بدرى 
    ضـربته بقبضتها الصغيرة علي صـدره برفق، لتعـود قائلة بصوت متهدج : 
    _ لا، انا مش عايزة ابعد عنك، اصلاً مش هأقدر والله، انت روحى، مهما عملت ماينفعش ابعد عنك وخصوصًا ان بقا في حاجة بتربطنـا، انا بتنفسـك 
    كلماتـه كانت كالسحـر يُسكـر روحَه وينعشها، كالدواء الذى يداوى حبيبًا ابتعد عن معشوقتـه مؤخرًا، تـابع بفرحة : 
    _ مش مصدق ودانى، شهدى الي بتقول كدة 
    انفـرج ثغرها بأبتسامـة سعيـدة، فها هي قد عادت لموطنهـا الحقيقي، وأُنيـر وجهها بضي العشق مرة اخرى، ليعـزف معشوقهـا علي ألحـان عشقها، ويتسلل لشفتيها بأشتيـاق، رويدًا رويدًا حملها بين يديه كالعصفورة ليضعها علي الفراش الصغير، ليعوض كل الأيـام التي اجبرته علي الابتعاد عنها، وتستسلم هي له تمامًا كأنه تودعـه بكل حواسهـا .. 
    ******
    أهـو بحلم ام علـم، كيف لا تتذكـره، كيف استطاعت محو كل شيئ هكذا، او الأدهي كيف سمحـت حتي للمرض أن يُـنسيها ذكراهم، تخبطـت افكاره، وتوقف عقله عن التفكيـر ليتساءل ببلاهـة : 
    _ يعني اية ! 
    أغمضـت عينـاها تستعيد رباطة جأشهـا، ثم أجابتـه بجمود : 
    _ يعني انت مين، انا مش فاكراك 
    هـز رأسـه نافيًا بسرعة، ومد يده ممسكًا بكفهـا برفـق، لتتلامـس اصابعه السمراء بأصابعها الملسـاء، يكونوا مزيجًا غريبًا، سارت قشعريرة في جسدها، وحاولت إبعـاد يدها ولكن من دون جدوى، ثبـت ناظريه علي عينـاها البنيـة، متعمدًا اذابـة جليـدها الذى علي وشك الانهيار، وقـال بأبتسامـة إصرار : 
    _ لا انتِ فكراني كويس اووى 
    رمقتـه بنظرات متعجبـة، وقد إنعقد حاجبيه بدهشـة حانقـة، ليُكمل هو بما قضـي علي شتات صمودهـا المزيف : 
    _ عشان انتِ لو مش فاكراني مش هأشـوف النظرات دى ف عنيكي ولا هتترعشي اول ما امسك ايدك كدة، اكذبي علي حد تاني . 
    ظلـت محدقة به فاغرةً شفتيها من حدة زكاؤوه، ألهذه الدرجة يـُركز معاها، حتي انه يلاحظ ارتعاشة جسدها، سمعت خُطـي علي السجاد قادمة، فأبعدت يدها عنه بقوة، ثم استعـادت قنـاعها الجامد : 
    _ دى اوهام فـي دماغك بس، ولو سمحت اتفضل لو مش عايز حاجة 
    أخـذ نفسًا عميقًا ثم زفـره علي مهـل بضيق، فهو علي علم أن رضوى تستعين بأحدى الأقنعـة لإبتعاده قليلاً، ولكنها لا تعرف أن هذا القناع يجرحه بقسوة يصعب علاجه، تقدمـت والدتها منها بأبتسامة راضية وهي تمد يدها لها بكوب الماء : 
    _ اتفضلي يا حبيبتي المياه، الف سلامة عليكي يا روح قلبي 
    يـزداد شعوره بالأندهـاش كل دقيقة تزداد، وكأنه اصبح مثل تنفسـه، يُدهش ويندهش، بينما مدت رضوى يدها تمسك بالكوب لتشربـه، وعلي ثغرهـا ابتسامة ساخـرة، يبـدو أن خطتها نجحت وما ارادتـه تم، اردفـت بحزن مصطنع : 
    _ ماما مين ده، انا مش فاكراه خالص 
    ثم صمتت لبرهـه ونظرت لها بطرف عينيها قائلة بخبـث : 
    _ وفين شهاب، مجاش سأل عليا 
    تهللت أسارير والدتهـا، كمثل الطبيب الذى انعش مريض ليعده علي قيد الحياة، ثم قـالت بخبث مماثـل يشوبه السعادة : 
    _ لا طبعًا سأل، ومعلش يا حبيبتي بكرة تفتكرى كل حاجة، وده جارنا كان بيطمن عليكـي 
    كأن الزمـن توقف عند تلك النقطـة، كيف لا تتذكره وتسأل عن شهاب، وتتذكر كل الأناس عدا هو !! ، ظل يحدق بهم بصدمة كطفل مندهش من مشاهدة الألعاب النارية، بينما تنهـدت رضوى بحزن قائلة في خواطرها أسفـة : 
    _ سامحني يا عبدالرحمن مضطرة اعمل كدة مؤقتـًا
    *******
    كلماتـه دمـرت كل الأحلام التي بنـتها في لحظة ببساطـة، تخَيلها أن حياتها ستصبح وردى، راح هباءًا !! 
    ماذا ظنـت اذا، فعلت ما فعلت وعادت لتجد كل شيئ كما هو مسبقًا، بينما كان وجه احمد خالي من اى تعبيـرات، منتظرًا ما ستقوله والذى كان متوقعه، ينظـر لها بهدوء تام كأنه اعطاها هديـة ومنتظرًا شكره، بينما ألجمَت الصدمة لسانها، ودت لو صاحت فيه بحدة وضربتـه واخرجت غيظها به، ولكن ألتـف لسانها قسرًا ولم يتحرك، بقوة اجبرتها علي الصمت، فـراح أحمد يتساءل بتوجس : 
    _ مها انتِ معايا ؟ 
    اومـأت بشـرود، وقد أيقنـت الان، ان هذا إكمال عقابهـا المفروض، إن كانت ترغب في بناء عمارة متينـة عليها أن تبني الأساس جيدًا، وهي دمرت هذا الأساس 
    تابــع احمد بجديـة قائلاً : 
    _ مها موافقـة يا مها ؟! 
    مسـحت جبينها بيـدها برفق ثم أجابتـه بتوتـر : 
    _ موافقة بس عشان ابنـي، ولو ماعدلتش بينا يا احمد يبقي هننفصل تاني 
    تقـوس فمه بأبتسامة هادئـة، الان فقط تأكد انها تغيـرت للأحسن بالفعل، فهذه ليست مها الشرسـة التي تغضب وإن لم يكن لديها حق، طـرقات هادئة علي الباب قطعت جلستهم السعيدة والحانقـة، ليأذن احمد للطارق بالدلوف ويدلف العسكرى بعدما يلقي التحيـة قائلاً بجديـة : 
    _ إبراهيـم الي انت طلبته بقا في مكتبك يا باشا 
    اومـأ احمد ثم اشار له بالإنصراف، همـت مها بالوقـوف، فتنـهد احمـد بأرتيـاح، ثم هنأهـا بأبتسامة :
    _ ونقدر نقولك مبروك علي البراءة يا مها
    ثم صمـت برهـة من الزمـن يتعمق تفاصيل وجهها الشاحـب، ليقـول بغموض : 
    _ وفي مفاجأة مجهزهالك بعديـن 

    ******** 
    صفـق لها بيـده السمراء الخشنة، وكلما تخبطـت يده بالأخرى كلما زادت نظراتـه لها حدة وغيظ، بعدما قصت عليه كل ما حدث، وكانت أطرافها ترتعش بخوف، وضربـات قلبهـا تزداد هلـع وسرعة، اقتـرب منها ببطئ متعمدًا اثـارة توترهـا، فإبتلعت ريقهـا بإزدراء وسألته بتوجس : 
    _ في اية انت مش قولتلي هتسيبني اول ما اقولك 
    أبتسـم بسخرية، ثم وقف ينظر لها ببرود واجابها بلامبالاة : 
    _ ايوة فعلاً، انا هسأل صاحب الحق، وبما اني خلاص سجلتلك الي قولتيه فمش هحتاجك تاني 
    تهللـت اساريرها وتنفسـت الصعـداء، ها هو اخيرًا سيتركها، اقسمت في هذه اللحظات انها ولأول مرة تشعر بهذا الخوف، نظـر لها مرة اخـرى وعاد يقول بتحذيـر : 
    _ بس عيني هتبقي عليكي عشان لو لعبتي بديلك كدة ولا كدة 
    اومـأت موافقـة بسرعـة، في حين اولاها ظهـره ثم اخرج الهاتف من جيب بنطاله، ثم أبتعـد عنها حتي لا تسمع مكالمته واتصل برقـم ما ليجيبـه الشخص بعد ثوانٍ قائلاً بتساؤل : 
    _ ايوة يا عماار، ها تمام ؟ 
    _ طبعا يا عمر، اعترفت بكل حاجة وسجلتلها، وقاعدة دلوقت زى الكتكوت المبلول ورايـا 
    _ تمام اووى، تسلم يا صاحبي 
    _ انا ف الخدمة 
    _ تسلم، سلام 
    _ مع السلامـة 
    اغلـق الهاتـف وهو يتنهـد بأرتياح وابتسامة هادئـة تزين ثغـره، فها قد استطاع تسديد ديـن من الديون التي عليه لرفيق دربه الوحيد " عــمــر " 
    *******
    بعد فتـرة .. شهد تقف امام الشرفـة، وقد اعتلي وجهها تلك الإبتسامة العاشقـة، وعاصفـة حب وسعادة قوية تغمرها بطياتهـا، وعمر يحتضنهـا من الخلف، مشابكًا اصابــع يـده الخشنـة بيدها الصغيرة، ينظرون سويـًا للزهـور، بعينـاهم بريق امل لامــع، كأنهم ينظرون للمستقبل، وانفاسه تلفـح عنقهـا الأبيض كالعطر الهادئ، هتفت بخفـوت وقلق قائلة : 
    _ تفتكر خالو هيوافق ولا لا 
    لم يــرد عمر عليها، واكتفـي بتنهيـدة حارة، فأعتلي الضيق قسمات وجهها، وتأففـت بضيق، فسـألها عمر بهدوء حذر : 
    _ مالك يا شهدى قلقانة لية ؟ 
    عضـت علي شفتـها السفلية بقلق اكثر، ثم اجابتـه بنفَاذ صبـر : 
    _ يا عمر خايفة مانبقاش مع بعض تاني 
    هـز رأسه نافيًا بقـوة، ثم غمس رأسه في عنقهـا يملأ رأتيـه برائحتهـا التي يعشقها، لتسرى في جسدهـا رعشة من لمساتـه، فتـابع هو بحنان :
    _ مش هيحصل كدة ابدًا، هاتفضلي حلالي وليا انا طول عمرك، محدش هيجي جمبك غيرى، ومحدش هيحط ايده ف ايد اخوكى ويقوله يا ابو النسب غيرى 
    وكأن محسن استمـع الي حديثه فطرق الباب بهدوء ودلف، ليجدهم هكذا، ابتسم برضـا في حين ابتعدت شهد عن عمر بخجـل، ثم تنحنحت متساءلة : 
    _ يلا ؟ 
    اومـأ محسن بهدوء، ثم نظر لعمر قائلاً بجدية : 
    _ طب يلا يا عمر عشان نروح للمأذون 
    اومـأ عمر بضيق فشل في اخفاؤه وسار الجميـع متجهيـن للخارج بهدوء، استقـلوا سيارة عمر، ومحسن بجواره وشهد في الخلف شاردة حزينة وكأنها اخر مرة ستراه فيهـا، بعد قليل وصلوا للمأذون، ودلفوا له وهم يقدموا قدم ويؤخروا الاخرى، جلسوا جميعهم امام الشيـخ ليهتف بجدية كمحاولة :
    _ إن ابغض الحلال عند الله الطلاق، فكرى تاني يا بنتـي 
    محاولتـه جعلت عمر يشعر بحقيقة الامر، فما كان منه إلا ان قال بصوت قاتم : 
    _ خلاص اتفضل يا مولانا عشان مستعجلين بالله 
    اومـأ موافقًا ثم قال له : 
    _ ارمي يمين الطلاق 
    اغمـض عينـاه يحاول أن يفعل، ولكن قلبه ينهـره بشدة، يصعب عليه ولو مؤقتًا ان يفعل ذلك، تنهد ليعود يتذكر كلام محسن ونظراته التي حستـه علي النطق، فنطقها كحكم الأعدام: 
    _ انتِ طــالق .. طالق .. طالق 
    كلمـته كالسكين البـارد الذى طعنها في منتصف قلبهـا وتمت اجراءات الطلاق ولم تعد زوجتـه الان، استقلوا سيارة عمر واتجهوا لمطار القاهرة .. 
    بعد عدة ساعات في الأقصـر، بلـدة الهدوء والجمال الطبيعي، في شوارع واسعـة تحديدًا داخل احدى المنـازل الكبيرة ذات الاثـاث القديـم ولكنه مميـز، منزل من ثلاث طوابق اشبه للقصـر، يجلس في الاسفل رجل في اواخر الخمسينـات من عمره، ذو شارب ابيض ولحية خفيفة، تعطيه مظهر الكبـر، يرتدى جلبابه الاسمر الذى يزيد من حدة ملامحه، الا ان من يتعمق عينـاه يلحظ الحزن والقسوة والحنان معًا، يرتدى عمتـه البيضاء، بجواره الكثير من رجال العائلة، ومن ضمنهم شاب في اوائل الثلاثينات من عمره، يرتـدى جلبـاب من اللون البني، وملامحه عاديـة، ذو عضلات بارزة، وعينان سوداء، وبشرة سمراء، يبدو القلق علي ملامح وجه بعضهم والصرامة علي البعض الاخر، وخاصًا الشاب الذى كان يقول بنـزق : 
    _ يابوى ماهينفعشي اكده، انا مش هاتجوز شهد، شهد دى طول عمرها اختي
    أشـار له والده بالصمت، ثم قال حادًا : 
    _ نادى، هتعصي كلمة ابوك ولا ايِة ! 
    اطرق رأسه نظـر للأسف بأسـف ولم يستطع التفوه مرة اخرى .. 
    _ لا يا خال، شهد هي الي مش هاتتجوزه، لان مينفعشي اصلاً 
    هتف محسن بها جادًا، وملامحه هادئـة، وخلفه شهد وعمر، وشهد يتملكها القلق والخوف والتوتر، ليصبح لون وجهها اصفر، وعمر من يراه يصعب عليه التنبؤ بما سيفعله او يقوله .. 
    رفع خاله حاجبه الأيسر ثم صاح مستنكرًا :
    _ لية يا محسن، نادى فيه عيب ولا اية 
    هـز محسن رأسه نافيًا بسرعة بعدما جلس بجـواره، ليمسك يده ويقول بأستسماح : 
    _ لا لا مين جال اكده، بس جصدى عشان شهد مخطوبة يا خال، وهاتتجوز جريب 
    إرتفعت معدلات الغضب لدى خاله الذى تشنجت عضلات وجهه ونظر لشهد بأعين حادة كالصقر، أرتعدت من نظراته، بينما نهض هو وبدى الغضب بوضوح علي ملامحه و .......................... 
    ******* 
    مواجهة الأسـد

    الفصل الحادى والخمسـون :

    كـان ينظـر لهم نظرات غاضبـة حانقـة مشتعلة بلهيـب العصيـان، لم يكـن بشخص عـادى سلس ليمر الأمـر بسهولة ويتغاضي عن أمـر كهذا، صـاح بوجههم بحنق : 
    _ يعني اييية الكلام ده انتوا مجانين
    أقتـرب محسن منه بهدوء، ثم اجابه محاولاً امتصاص غضبـه :
    _ اهدى يا خال، احنا اصلا كنا جاين تخبركم، بس فتح الوصية سبج، ثم اني معرفش كيف اتفتحت الوصية وانا وخيتي مش موجوديـن !
    أحمـر وجهه الأسمـر من كثرة الغضب، فأشـار بيـده محذرًا ثم تابـع بحدة :
    _ جصـدك اية يا محسن، اعرف لكلامك
    كانـت شهد ترتجـف بخوف، مع كل حـرف ينطق به خالها يزداد الخوف بداخلها، تتابعهم بأعيـن مذعورة، وبريق خافت يملؤه الأمل بعيناها، وعمر يرمقها بنظرات حانيـة، كأنها رسالة محاولاً طمأنتهـا، ود لو يستطـع أن يحتضنها ليهدأها قليلاً، ولكن لم تعـد حلالـه الان !!
    كلمة في خواطـره آلمتـه وجرحته بعمق، أستافق كلاً منهم علي صوت محسن وهو يقول بهدوء حذر :
    _ طب بعد اذنك يا خال نتكلم لحالنا جوة
    ألـقي خاله نظرة حانقـة علي شهد، ولكن نظراتها المذعورة آثــرت فيه، رق قلبه لطفلتـه التي يعشقها، فهي تعد الغالية ابنـة اخته الغاليـة، اخـر ذكرى لشقيقته، اومـأ برأسه، ولكن لفت نظره تواجد عمـر الذى كان يقف يشاهدهم بهدوء، كمن يشاهد احد الافلام المثيـرة، تفحصه من اعلاه الي امحص قدميه، ثم سأله شرذًا :
    _ انت مين انت يا اخ ؟
    تنحنح عمر بحرج وكاد يجيبـه إلا ان قاطعه محسن مسرعًا :
    _ ده عمر خطـيب شهد يا خال، جال لازم يجي يتجـدم لها من تاني ليك
    تصـرف محسن بحكمـة اجبرتـه علي الموافقة ثم اومـأ موافقًا، ثم استـدار واتجه لأحدى الغرف، يتبعه محسن بهدوء، فيما تنهـد عمر بأرتيـاح، فهو وافق مبدئيـًا، فتـح له بوابـة الدخـول وسمح له ..
    تنحنح نادى قائلاً لعمر بحـرج :
    _ طب اتفضل اجعـد يا عمر
    أبتسـم عمر ابتسامة صفراء ثم نظر لشهد وساروا سويـًا ليجسلوا بجوارهم ..
    الصمـت سيد الموقف، ينظرون لبعضهم وكلا منهم يطمأن الاخر بعينـاه غير قادرين علي قطـع الصمت الذى جثي علي قلوبهم بينما في الداخـل تنشـب معركة كلامية بين محسن وخالـه ..
    نظـر خاله له ولم يتخلي عن غضبه ثم قـال حادًا :
    _ انا مافاهمش ازاى تنخطب جبل ما حد يعرف حاچـة !
    تنهـد محسن ثم أجابـه بهدوء حذر :
    _ لا ماهو ابوى كان عارف وموافج بس تعب فجأة وملحجش يغير الوَصيـة
    نظـر له بطرف عينيـه مفكرًا، كالمقـرر الذى يُعـرض عليه عارضات ازيـاء ويدقق فيهم ليقرر الأحسـن، قطـع الصمت الذى دام لثوانٍ قائلاً بجدية :
    _ وانت سألـت عن عمـر ده ؟
    اومـأ عمر بسرعـة بأستنكار مصطنـع :
    _ طبعًا، امال انا هدي خيتي لأى حد !
    تأفف خاله بضيق ثم تابع بصوته الأجش : علي ايية يعني تعمل اكدة، ما تاخد واد خالها وخلاص
    رسـم محسن اليأس علي وجهه ببراعـة، ثم اردف بحـزن مصطنع :
    _ يرضيـك شهد تتعب يا خال وتتچوز واحد بتعتبره زى اخوها
    صمت برهه ثم اكمـل مستعطفًا ايـاه :
    _ انت ماشايفش وشها مخطوف كيف الكتكوت برة ؟
    أستـدار خاله دون كلمة اخـرى، متجهًا للخارج بخطوات تملؤوها الثقـة وبعض الغرور، تاركًا محسن دون اى كلمة تبـرد النار التي اشتعلت بداخله .
    *******
    كـان شهـاب يجـلس كالذئـب يجوب بنظره في انحـاء المنزل، وجه متورم اثـر ضـربات عبدالرحمن التي تركهـا له ذكرى تذكره دائمًا بخيبتـه وحسرتـه وعينـاه تلمع بشرارة غاضبة حاقـدة، عقلـه منشغل بالتفكيـر وجسده منشغل بالألم الذى سيطـر عليه، وما ادى الي ازدياد احمرار وجهه هو غضبـه الذى طبـع علي ملامحه من كثرته، فجأة طُــرق الباب ليقطـع جلسـة تحسره وانصهـار غضبه الغير متناهي بسرعة، عقـد حاجبيه ثم نهض متحاملاً علي نفسـه ليفتح الباب، ما إن فتحه حتي ارتمـت شقيقته في حضنـه وهي تبكـي بحدة، ثم همسـت بتشنـج قائلة :
    _ الحقني يا شهاااب الحقنـي
    أختفـت حقـول الغضب المشتعلة ليحل محلهـا أنبـات قلق وتوجس، فسألها بلهفة :
    _ مالك يا جميلة مالك في اية ؟
    ثم ابعدها عنه قليلاً و نظـر لملابسهـا الممزقـة، والتي كانت تظهر بعضًا من جسـدها، ودق الخوف بابـه مرة اخرى، ليعيد سؤاله بتوجس :
    _ مالك يا جميلة انطقي
    حاولت إيقـاف شهقاتها، ومن ثم اجابتـه بكلمـات متقطعـة :
    _ مـ محمـ مـحمود خطيبـي
    الجروح السطحية التي تغطي وجهها ورقبتهـا، ومظرها المثيـر للقلق، جعله يفهـم ما حدث، ولكن كذب نفسـه وسألهـا مرة اخرى بعدم فهم مصطنـع :
    _ ماله محمود انطقي حصل اية !؟
    أجابـته بخفـوت وصعوبـة :
    _ مــ محمود آآ اعــ اعتدى عليا يا شهاب
    إتسعـت مقلتـاه بصـدمة، وجـز علي أسنـانه بغيظ وهو يدخلها ويغلق الباب، ثم صـاح فيه بصوتــــًا عالٍ :
    _ ازااااى حصل ده ازاى
    كانـت تضـم ركبتيها الي صدرها لتدارى جسدها الذى ظهـر، والخوف يسيطر عليها، اقترب منها ثم امسكها من ذراعها وهزها بقسـوة صارخًا في وجهها :
    _ ازاى قدر يعمل ده فهميني ازاااااى يابنت امي وابويا !؟
    لم تستـطع أجابتـه فقط كانت تبكـي بحدة وتنحـب، صوت شهقاتها كانت كالقـوس الذى اطلق شهاب كالسهم بإتجـاه محمود ويركـض إليـه بسرعة آتيـًا له علي هيئة الموت !!
    *******
    كـانت چـودى تسيـر ذهـابًا وإيـابًا، تشعر ان قدماها لن تتحملها اكثر من ذلك، تكـب بداخلها صرخة مكتومة مرتعدة أبـت الخروج، كان القلق بــادى علي ملامحها، وتطـبق علي شفتـها السفلية بتفكير وهلـع، وكان عبدو يجلس علي الأريكـة يضع قدم فوق الاخرى ببرود، واجبرتـه عيناه علي متابعتهـا، حتي زمجـر فيها عبـدو غاضبًا :
    _ ماتهدى بقااا خيلتيني
    نظـرت له بحـدة، وأقتـربت منه، ثم قـالت بنبـرة أشبه لفحيح الأفعـي :
    _ اصل معني ان لوزة مختفية، يبقي اكيد مخطوفة وعمر الي خاطفها
    مطـت شفتيه بعدم رضا، ثم سألها بلامبالاة :
    _ انتِ مين قالك كدة يا چودى ؟
    جلسـت بجواره، وقد بـدى الغضب بوضوح علي محياها واصبح وجهها كاللوحة التي تلونـت باللون الاحمر، وقبضت علي ذراعـه بقـوة، ثم أجابته بجديـة يشوبها بعض الدلال :
    _ اسألني انا، انا اكتر واحدة افهم عمر، اكيد لما فاق افتكر مقاومته في البداية، واستغرب، ومش هايسيب لوزة من غير ما يفهم كل ده، لازم نتصرف يا بودى
    نظـر له بطرف عينيـه، ثم عاد ينظر امامه بجمود، ومن ثم سألها بنـزق :
    _ انجزى يا چـودى عايزة اية
    ثم صمـت للحظة وقاطعها قائلاً بسخرية باتت كالسكين تجرح كرامتها :
    _ وبعدين ماتخافيش اوى كدة، من امتي وانتِ جبانة، ولا مش انتِ الي صممتي علي العملة دى !
    تسـلل الهلـع بداخلهـا كاللص، يسرق كل راحتها وشعورها بالاطمئنـان، ثم اصبحت تضرب علي قدميها وهي تبكي بخوف :
    _ ايوة انا الي غلطانة وغبية، بس عمر مش هايرحمني، ده مش بعيد يقتلني
    ثبتت هذه الفكـرة في رأسهـا، ووقف عقلها عن التفكير في مجرد شيئ كهذا، هل سيفعلها، سيقتلها حقـــًا ولما لا !؟
    زاد بكاؤوها، مع ازدياد ضربات قلبها، وازدادت حالة الهلع المسيطرة عليها سوءًا، ومن ثم صاحت بقلق :
    _ فعلاً ده ممكن يقتلني، لا لا انا مش هستناه لما يلاقيني انا لازم اهرب
    رفــع عبـدو اكتافـه بلامبالاة، ثم قال بأستهتار :
    _ وانا مالي، اهربي انا مش ماسكك
    تعجـبت من حالة اللامبالاة التي سيطرت عليه، وصُـدمت، وتخبطت مشاعرها بداخلها بين الخـوف .. الصدمة .. القلق، ولكن ليس وقت التفكير الان، هذا وقت التفيـذ فقط ..
    قالت هكذا لنفسها بعزم، قبل أن تمسك بهاتفها الموضوع علي الأريكة، ثم اتصلت بأحدى الارقام الدولية، لتجيبها سيدة ما قائلة :
    _ ايوة يا چودى ازيك يا حبيبتي ؟
    _ الحمدلله يا مامى، ازيك انتِ ؟
    _ تمام، وحشتيني جدًا يا چودى
    _ وانتِ اكتر، عشان كدة قررت اجيلكم
    _ بجد، بجد هاتيجي يا حبيبتي
    _ ايوة خلاص هاحجز اول طيارة مسافرة امريكـا، وهاجي استقـر معاكم
    _ ده يوم الهنا يا حبيبتي، هاحجزلك علي طول من هنا
    _ ياريت يا مامي
    _ حاضر يا روح مامي، روحي جهزى حاجتك بقا وظبطي نفسك
    _ اوكـيه، باى يا مامى
    _ بـاى يا حبيبتي

    أغلقـت ثم ألقـت الهاتف علي الأريكة وتنهـدت بأرتيـاح، ولفت نظرها ابتسامة عبدو الساخرة، لم تبالي بها فــها هي قـد تخطـت أول موجـه قابلتها ام سفينـة دلالها بنجـاح، ولكن احيانًا تأتى الرياح بما لا تشتهـي السـفـن ..
    *******
    تبـادلت النظرات بينهم، الصدمـة والضيق من عبدالرحمن والأنتصـار من والدة رضوى، والسخـط من رضوى علي نفسهـا، رق قلبها له وودت لو نهضت وضربـت نفسها ثم اعتذرت لعبدالرحمن وقصت عليه ما ارادتــه، ولكن ما باليـد حيلة ..
    _ يوه يا عبدالرحمن، ما خلاص يابني مش اتطمنت، روح ريح بقاا هاا ريـح واستريح
    هتفـت والدتها بتلك الجملة وهي ترمقـه بنظرات أنتصار وحادة، وتضغط علي كل حرف بدقـة، تحامل عبدالرحمن علي نفسخ ولم يعطيها اى اهتمام، ثم وجه نظره لرضوى وكأنـه يهتم بـرب عملـه، او بالأحرى رَب قلبـه المتيم بعشقها، ثم همس بجديـة وإصرار قائلاً :
    _ انا هأمشي دلوقتي يا رضوى، بس تأكدى انى مش هأبعد عنك ابدًا
    أبتـسم قلبهـا فرحًا وتراقـص قلبها بسعادة، وقـد أعلـن عشقـه الأبـدى لهذا الرجـل الأسمر الوسيـم، الذى يتمسك بها كأخـر منقـذ له، ومنعت أبتسامتها من الإرتسام بصعوبة وهي تقول بحدة مصطنعة :
    _ لو سمحت انت مجرد جارنـا بس، فياريت بلاش الكلام ده
    اومـأ بهدوء حـذر، ثم أولاهم ظهره وغادر علي عقبيـه والغيظ يتملكه من هذه التي تسمـي والدتها !!
    بينما تنهـدت رضوى بضيق، ولم تعرف كيف استطاعت التوفيق بين عقلها وقلبها واستسلمت لعقلها هكذا !
    بينمـا رسمت والدتها الأبتسامة المنتصرة علي وجهه، وقالت بجديـة :
    _ انا هأروح اريح شوية يا حبيبتي، عاوزة حاجة ؟!
    هـزت رأسها نافيـة دون ان تخرج كلمة من بين شفتاها، او تنظر له حتي ..
    لم تبالي هي الأخرى واتجهت للداخل بخطوات واثــقــة وتوجهت لغرفتها لتغلق الباب عليها تاركـة رضوى تتذكر حديث عبدالرحمن وتبتسم بوهـن ..
    بعد دقائق شعرت رضوى بالضيق من جلستها هذه الغير معتادة ومعدتها التي تتضرع جوعـًا، فنهضت بهدوء متوجه للمطبـخ الذى كان مجاور لغرفة والدتها، كانت امام غرفـة والدتها، فسمعت والدتها تقول بسخرية :
    _ ايوة طبعًا مش بنتي وطبعاً ماتهمنيش، بس انا مش اصرف ده كله وف الاخر تتجوز واحد يجي ياخد كل ورث ابوها ويغوروا مع بعض، لازم واحد نكون وانا وهو متفقيـن عشان حقي في الورث الي الراجل الناقص الي ما يترحم ده كتبه بأسم بنته المضروبة رضوى دى .
    أراد القدر وضيق المسافة بين المطبخ و غرفتها أن تسمـع رضوى شيئـًا دمـر حياتها بلحظة وجعلها تشعر بالدوار يعاودها مرة اخـرى دون رحـمـة

    ******
    خـرج خالهـم بهيبتـه المعتادة، وأنفـه المرفوع، وحذائـه المتعجـرف، نهض عمر ناظرًا له بتفحص، ملامحه لا تظهـر شيئ، عينـاه توحي بالجمود والغموض، وتسلطـت أعيـن الجميـع عليـه بلهفـة وتساؤل، ليقتـرب منهم مثيرًا التوتر لديهم دون أن يقصــد، خلفـه محسن وحالـه لا يختلف عنهم كثيــرًا ..
    إرتكـز علي عصـاه الخشبية الرفيعة التي يحملها بيده، ثم تنحنح قائلاً بهدوء :
    _ محسن جالـي علي كل حاجـة
    ثم نظـر لعمر الذى كان يتابعه بلهفة ملحوظة، ليكمـل بعكس ما ارادوه :
    _ بس انا لسـة ماقررتش، محتاج أفكـر
    ظهـر اليـأس والحزن علي اوجه كلاً من عمر وشهد ومحسن ونـادى، توقعوا الليـن منه ولو قليلاً ولكن فاق كل توقعاتهم ..
    نظـر لمحسن ثم استطـرد بنبرة آمــرة :
    _ انت تروح تجعـد في الأوضـة الي مرتك جاعدة فيها، وتودى عمر لأوضة الضيوف، وشهد في الأوضة الي كانت بتجعد فيها
    اومـأ محسن بقلـة حيلة، ونهض الجميع متجهًا للخارج عدا هم، واتجه هو لغرفتـه بهدوء، بعدما رمـي القنبلة تاركًا اياهم يحاولوا استـدراك الموقف ..
    اتجـه محسن للأعلي وخلفـه عمر الذى كان يتابـع شهد بنظراتـه، وشهد صعدت خلفهم للغرفة التي ستقيم فيها، ونادى الي غرفتـه كلاً منهم يفكر بأحلامه التي كانت تتوقف علي كلمة خالهـم ..
    وبعـد ساعـات مساءًا.. كانت شهد تتململ بكسـل وتثاقـل علي فراشـها بمنامتها الحمراء، وشعرها الذهبي ينسدل علي ظهرها، لم يغمض لها جفـن ولم تعرف طعـم النوم، كانت تفكـر بما سيقوله خالها فقط !!
    سمعـت طرقـات خافتـه علي الباب، نهضت بهدوء لتفتح الباب فهي تعرف أن اولاد خالها لا يأتوا لغرفتها ابدًا، ربما محسن ..
    فتحـت الباب لتجـد عمر يدلف من دون مقدمـات ويغلق الباب، شهقـت بصدمة وكادت تتفـوه بشيئ ما إلا ان قاطعها وهو يضـع يـده علي فاهها، مثبتـًا ناظريه علي عينـاها التي ملؤوها الاشتياق والعشق ثم همـس بأسمًا لطالما احبته منه :
    _ وحشتيني اوى يا شهـدى
    أبعـدت يده عنها ونظرت للأسفل بخجل، نظراتـه المثبتـة عليها دائمًا تحطم كل حصونها الجادة ببساطة، لاحظت ما ترتديه، هذه ( البيچامة ) الحمراء الخفيفة, الضيقـة التي تبرز مفاتـن جعلت وجهها احمر من الخجـل، حاولت التفوه بصعوبة قائلة :
    _ عمر لو سمحت اطلع، مينفعش كدة
    أقتـرب عمر منها ببطـئ متعمدًا اثـارة توترها، ليفقدها سيطرتها علي اعصابها ونبـرات صوتها الشبه جــادة، كأنه قائـد في معركة العشق يفكر بزكـاء، إلتصقت بالحائط، ثم أبتلعت ريقها بصعوبة، ومن ثم أردفـت بهدوء حذر :
    _ عمر اطلع بقـا
    اقتـرب اكثر لتلفح أنفاسـه بشرتهـا البيضاء، يشتـم عبيرها بأنف وحواس مشتاقة، يـروى كل بذور الحب التي نَـمت بداخله لهـا، ثم قال بخفوت بجوار اذنهـا :
    _ اية الي مينفعش، انك توحشيني، انتي اصلاً بتوحشيني وانتِ معايا، وانا مش متعود انك تبقي ف اوضة وانا ف اوضة
    كان اثـر كلمات عليه واضح كالسحـر او التنويـم المغناطيسي الذى يجعلها غير قــادرة إلا علي ان تنفــذ ما أراده..
    أقتـرب منها اكثر وهو ينظـر لشفتيها الوردى المنتكـزة، كـاد يقبلـها بشوق وهو يحيط خصرها بيــده كالسلاسل ..
    إلا ان افاقـت في اخر لحظة وابعدت يده عنها، ومن ثم قالت بحـرج :
    _ عمر مينفعش احنا دلوقتي متطلقين
    احتقـن وجهه من كلمتـها التي رشـت شيئ مضـر بزهـوره العاشقة دون أن تقصـد، كاد يرد عليها إلا ان فاجئهـم صوت خالها العالي والذى بدى عليه الغضب وهو يصيـح :
    _ كل الي في البيت يجـووا هنا فورًا
    ارتبكـت شهد، وأحتـل الخوف أرض عينـاها البنيـة بأريحية، ليهدئ عمر من روعها قائلاً :
    _ هأطلع علي الجنب من غير ما حد يشوفني، وانتِ ألبسي اى حاجة ومتنزليش كدة هاا
    اومـأت بسرعة، ليستدير هو ويتجه للخارج علي أطـراف اصابعه، تاركًا شهد ترتدى ملابسها بعجلة وتنزل خلفه ..
    اجتمـع الجميـع خلفه، ولم يستطع اى شخص التنبؤ بما سيحدث سوى أن عاصفة قويـة ستهب حالاً ..
    هتــف بصوت جــاد قائــلاً وهو ينظر لمحسن :
    _ بكرة هاتروح تجيب المأذون، انا خلاص قررت ومافيش تراجع او نقـاش و........
    *********
    الفصل الثـانى والخمسـون :

    صـاح هادرًا وهو ينظر لمحسن بالغة، جدية اجبرتهم علي اعتقـاد عدم رغبتـه في إتمام زيجـة شهد وعمر، لم يكن منهم سوى الصدمـة التي حددت ملامحهم بوضوح، بينما تسللـت الأبتسامة الهادئـة لتزيـن وجهه المتعرج، ثم قـال بحنان لشهد : 
    _ يلا روحي جهزى نفسك يا عروسـة
    إرتفعـت نبضـات قلبهـا، اصبح يخفق بعنف، وشحب وجهها الملائكـي لمجرد تخيل أنها لن تعود لحبيبها ووالد طفلها، كانت عيناها متعلقتـان بعينـاه الذين بـدوا صامدتيـن سوداوتين كظلام الليل الموحش، كانت تبحث عن نظرات تطمأنها ولو قليلاً ..
    رمــق الخال عمر بنظرات هادئـة ثم قال بحنـان غير معهود منه تجاه عمر :
    _ وانت يا عريس روح جهـز نفسك عشان كتب الكتاب بكرة والفرح بليل
    تهلـلــت أسـاريره وأنفجـر ثغره بأبتسامة سعيدة، حالمة، رغم ارتفاعها لم تعبر عن ولو كم صغير من أطيـاف السعادة التي غمرتـه، كان قلبـه يطرق الطبول علي دقاتــه، بينما همست هي بعدم تصديق :
    _ بجد، بجد يا خال ؟
    اومـأ بأبتسامة صافيـة، لتنطلق راكضة له كالفراشة المحلقة من شـدة سعادتها، ثم احتضنته وهي تقول بأمتنـان :
    _ ربنا يخليييك لينا يارب، شكرًا اووى يا خالو، شكرًا اوووى اووووى بحبك جدًا
    قهقـه بسعادة علي سعادتهـا، فما يغمرها يغمره، مسح علي شعرها برفق، وراح يقـول بخبث غير معتــاد :
    _ مش تجولي انك واجعـة للدرجة دى
    كسـت الحمرة وجنتاها، ونظرت للأسفـل بخجـل، في حين أكمل هو بأبتسامة :
    _ ربنا يهنيكم يا بنيتي، ويرزجكم الذريـة الصالحة يارب
    ردد الجميـع خلفه " آميــن " بفرحة، كلماته وقراره لم يدخلوا السرور علي قلب هذان العاشـقـان فقط، بل جعل السعادة رايتهم الوحيـدة في هذا القصر الكبير
    أبتسم محسن بهدوء ثم عاد يقول بثقـة :
    _ كنت متأكد انك هتاخد القرار الصح يا خال، طول عمرك حكيـم
    لم يعــرف ماذا يقول عمر، وكأن اسنانه احكمت القبضة علي لسانه لتمنعـه عن التفوه وكأنما توقفت عن العمل من فرط سعادتها، ولكنه همس بوعـدًا جادًا :
    _ مش عارف اقولك اية بس الي اقدر اقولهولك انك مش هتنـدم ابدًا علي قرارك ده طول منا عايش
    اومـأ خالـه بتأكيد ثم قـال بمـزاح :
    _ معلش بجـا نزلتكم بس قولت لازم اعمل فيكوا المجـلب ده
    ضحـك الجميـع بسعادة علي مزاحه الذى تمنوا أن يطـيل ويطيل لأيـام، وربما للأبـد ولكن يترك اثرًا واضحًا علي نفسـه الصارمة يلينها ولو قليلاً .
    *********
    شعـرت انها سقطـت في دوامـة قويـة لا تنتهي تكاد تعتصرها من شدتهـا، كل شيئ مهزوز من حولها، اجتاحها شعور قـوى بالغثيـان وعدم السيطرة علي نفسهـا، كلمات السيدة التي من المفترض أن تكون والدتها نزلـت عليها كالسـوط لتجلدها دون ادنـي رحمة، تلقلقت الدمـوع في أعينـها علي الفـور، ولكنها لن تسمح لها أن تهبط هذه المرة، لن تكون ضعيفة بعد الان، فتحت الباب فجـأة لتدلف، وقد إرتسم الجمود علي ملامحها ليخفي قسمات وجهها الملائكـي، أنتفضـت والدتهـا ذعرًا، ثم ســألتـها بتوجـس :
    _ فـ فـي اية يا رضوى !؟
    أبتسـمت بسخريـة مريـرة، ثم رفعـت اكتافها وقالت بلامبالاة مصطنعة :
    _ لا خالص، كنت بسألك هاتكلي معايا ولا لا يعني ؟
    اومـأت والدتهـا سريعًا، لتتجه رضوى للخارج دون أن تتفوه بشيئ اخر، بعدما لعبـت علي أعصابها ببـرود ولو قليلاً مثلما كانت تفعل بهـا هي منذ ولــدت ..
    تنفسـت الصعـداء وهي تضـع يدها بجوار قلبها وكأنها تتأكد من استمرارية النبض، كان سينهـار جليـد التخطيط الذى كانت تعيش من اجله، امام شعلة واحدة مفاجئــة من رضوى ..
    بينمـا كانت رضوى تهـوى علي الأريكة بحمل جسدهـا، تتنهـد بعمق تنهيـدة حارة تحمل بطياتـها الكثيـر من الألم والمشاعر المختلطة، لم يخطـر ببالهـا سوى شخصًا واحـدًا، هـزت رأسها مؤكدة بما قد توصل له عقلها الذى عاد يشتغل لتـوه ..
    نهضت بسرعة ثم أمسكت بهاتفها الموضوع علي المنضدة الصغيـرة واتصلت بأحدى الارقام ثم وضعته علي اذنيها منتظرة الـرد بلهفة، وبعد ثوانٍ اتاها صوت رجولي أجش قائلاً :
    _ الوو سلام عليكم
    _ وعليكم السلام ورحمة الله، ازيك يا استاذ وحيـد ؟
    _ بخير الحمدلله يابنتي
    _ كنت عايزة اتكلم مع حضرتك بخصوص وصيـة بابا الله يرحمه
    _ انا وريــتها لوالدتك من بدرى
    _ آآ ممم انا عارفة بس ضرورى اقابل حضرتـك فـي اقرب وقت
    _ تمام تمام انا فاضي بكرة الصبح
    _ طيب، هأتصل بحضرتك بكرة الصبح وشكرًا جدًا ليك
    _ الشكر لله، مع السلامة يا بنتي
    _ مع السلامة يا عمو
    أغلقـت وألقـت الهاتف بعنـف، ثم أطلقـت زافـرة قويـة علها تعبـر عن جزء بسيط من كم الغضب الهائـل الذى يشتعل بداخلها، الكارت الوحيد الذى كانت تستخدمه وتصمت رغم اهانتها هو حقهـا عليها كوالدتها، ولكن .. من الان لم يعد هناك ضعف امامها، هناك قـوة وجبروت ترتعـد منه رغمــًا عنهـا فقط
    ********
    أنطـلق شهـاب كالسهـم من القـوس بإتجـاه هذا الذى يدعـي محمـود، الذى تجـرأ وتعدى كل الخطوط الحمـراء، تجـرأ ومس زهرتـه الجميلة بسوءٍ او ربما أنتشلها من مكانها من الأســاس، كان وجهه أحمـر بشدة من كثـرة الغضب، عينـاه السوداء توحـي بظلمـة غاضبة حاقـدة مشتعلـة ستحرق من يقف امامها حتمًا، يسـرع بخطواته قدر ما استطـاع ليعجـل من القبض علي رقبـة هذا الحقيـر الخائـن للأمــانة ..
    وصل امام منزلـه ثم ترجل من سيــارة الأجـرة بسرعة، وألقي بالأموال ليهم بالركض للداخل دون أن يــأبه بأى شخص، طـرق الباب بعنف لدرجة أنه يمكن ان يُــخلع بيــده، فتـح محمود البــاب وهو يغلق ازرار قميصـه القنطـي الأسـود وينظر للطارق ببـرود، سـرعان ما تحولـت للهـلع وهو يسأله بتوجس :
    _ مالك يا شهاب في اية ؟!
    أجـابـة بأجابـة واحدة يعجـز اللسـان عن قولهـا، أجـابة تجبـره علي الصمت لأخر عمره، بل تجبـر قلبه علي التوقف عن النبض، ليعلـن انتهـاء حياتـه واخذ ثـأره بأريحيـة ومهما كان العقــاب ..
    طلقـة مدويـة خرجت من المسدس الخاص بشهـاب وهو يرمـق محمود الذى سقط صريعـًا بنظرات قاتـلة مثل الطلقة النارية تمامًا، اخترقـت قلب محمود دون رحمة، لتنهـي حيــاة واحدًا من أسوء رجـال البشـرية
    ********
    صبـاح اليـوم التـالي تسللـت أشعـة الشمـس الصفـراء لغرفة شهـد، معلنة عن بـدأ يوم جديد بسعادة جديدة، تدفئهـا بحرارتها، تغطـي شعرها الذهـبي لتعطيها مظهرًا جذابــًا، يزيدها جمالًا فــوق جمالها الخلاب، فتحـت جفنيـها بتثاقـل وكسـل، وبدأت تتململ في فراشهـا، ما إن فتحت جفنيهـا وعاودتهـا ذاكراتها بما حــدث امس، تحسسـت بطنهـا بهدوء، وقد زيـنت الإبتسامة الحالمـة ثغرهــا، نهضـت ببطئ، واتجهت للمرحـاض لتغستل وتؤدى فريضتهـا بأنتظـام، كانت مستيقظة بسعادة غامرة علي غير عادتها مؤخرًا، انتهت ثم صففـت شعرها علي شكل ذيل حصـان ثم ارتـدت احدى العباءات المنزليـة، واتجهت للأسفل بخطـي هادئـة، لتجـد الجميع يجلس علي الإفطـار يتناولوا الأفطـار بشهيـة، أقتـربت منهم بأبتسامة مرددة :
    _ صباح الخير، ازيك يا خالـو
    أبتسـم خالهـا بهدوء، ثم اجابهـا بجدية :
    _ صباح النور يا حبيبت خالك، اجعدى عشان نفطروا والمأذون هايجي، وزمان الناس بتفـرش برة عشان الفرح بليل
    قطـب نـادى جبينـه متعجبًا ثم قال بدهشة :
    _ كيف بالسرعة دى يابوى !
    تنهـد والـده بقوة، ثم نظر له واستطرد بتوضيـح :
    _ عمتـك ليها ورث في اراضينا وارض ابونا، ده غير إن انا متكلف بكل مصاريف الجواز لحد ما تروح بيت چوزها واطمن عليها، دى بنت الغاليـة مش اى حد
    أبتسـم عمر بفرحـة داخليـة من موقف خالها وهذه الموافقة السريعة، بل سيقيم الفرح وليس كتب الكتاب فقط، يا الله كم كان الحظ يحالفـه، ولكن أردف مستنكـرًا :
    _ بس ازاى ده يا عمي، انا بيتـي موجود في القاهرة، والحمدلله معايا فلوس تقضي اني اتكلف بمصاريف فرحي زى اى عريس وعروسـة
    أجفـل الخال ثم قال حازمــًا :
    _ انت وشهد زى ولادى، انا خلاص جولت الي انا عايـزه، فوتكم بعافية بجـي اروح اجهـز كل حاجة
    ابتسـم عمر بهدوء، واجبرتـه عينـاه علي النظـر لمعشوقتـه التي كانت تـود أن تطيـر بأجنحتهـا محلقـة علي ارض قلبـه بسعادة ليمتزجـوا معًا احتفالاً بزواجهم للمرة الثانيـة ولكن بأختـلاف ..
    تمـر الساعات ويسـدل الليل ستائــره وظهـر القمـر لينير الأرض بخفـوت وينير معه قلوب العاشقـان اللذان ينتظران هذا المسـاء بفـارغ الصبـر ..
    تم تحضيـر كل التجهيـزات علي أكمل وجه وبسرعة فائقـة، والاتفاق علي الاقامة في غرفة شهد هذه الليلة ويسافـران في الغد عائـدين للقاهـرة، كما طلبـت زوجـة خال شهد بعض فساتيـن الزفـاف لتنتقي منهم احلاهـم، الفستان الأبيض الذى تحلم به اى فتـاة، كانت تقف امامه في غرفتهـا تنظر له بشوق وقد تلقلقت الدموع الفرحـة في عيناها، آآه كم كانت تتوق لإرتدائه لحبيبها وزوجها كأى فتـاة، أصـدرت انينـًا خافتًا وهي تتحسسه ببطئ وبأصابع مرتعشـة، وحال عمر لا يختلف عنها كثيرًا، بل كان الشوق اضعاف الاضعاف بداخله لها، مر الوقـت سريعًا، وبـدأ الزفـاف الأسطورى الذى أقيـم لهم، ونـزلت شهد بفستانهـا الأبيض الذى كان ضيـق عند منطقة الصـدر مُـطرز بفضـة، ينزل للأسفل لأوسـع بطبقتيـن سميكتين، يُـبهر من يراه، وشعرها منـسدل علي ظهرها، وترتدى تاجًا ابيض اللون ليجعلها مثل الملائكـة، متأبطة ذراع خالها، ظلـت عينـاه متعلقـة بها، وقلبـه يخفق بعنـف، ها هي حبيبتـه بعد دقائق ستصبح له وللأبـد مرة اخرى، ود لو استطاع ان يركض ويحتضنها ليخبأها بأحضانه ويختلع أعين كل من ينظر لها بأعجاب، كلما اقتربت منه كلما التهبـت نظرة الشوق والرغبـة في عيناه لها، تأبطـت ذراعـه والخجل يكسو ملامحها، سـارا متجهيـن للمنضدة التي يجلس عليها المأذون، اقترب من اذنها هامسًا بعشق :
    _ انتِ ازاى حلوة اوووى كدة
    نظـرت للأسفـل بخجـل، كلمـاته تؤثـر عليها بشكل يجعلها مضطربـة تلفت الانظار من شدة ارتباكها، ولا تعلم أن خجلها يفعل به اكثر من ذلك، يثيـره اكثـر ويزيد رغبته بها اكثـر واكثـر، بـدأ كتب الكتاب وبالطبـع كان خالها وكيلـها، وها اخيـرًا قد تحقق ما ارادوه، وعطف القـدر عليهم ليعطيهم ما ارادوه، بعد كم هائـل من المشاكل والعذاب، انتهـي كتب الكتاب وتعالت الزغاريـد السعيدة، وقد اُعلنت زوجتـه امام الجميـع، وبـدأت فرحتهم الاساسية، كان يود عمر أن ينهي كل هذه الاحتفالات ويأخذها ويختفيـان عن الأنظـار، انتهـي الفـرح بالفعـل ليحمل شهـده بين ذراعيـه المفتولتين بخفـة، بينما وضعت هي رأسها بحوار قلبه بخجـل شديد، تسمع ضربـات قلبه المضطربة من قربها، دلف بخطي واثقة ليضعها علي الفـراش بهدوء، ثم اخذ ينظـر له بعشق، بينما هتفت هي بخفـوت :
    _ ممكن نصلي مع بعض، احنا قبل كدة ماصلينـاش، خلينا نصلي وابننا معانا
    اومـأ بتأكيـد، ثم نهضت هي لتقـول بهدوء يشوبه بعض الحـرج :
    _ طب يلا عقبال ما اغير الفستـان روح انت غير ف الحمام ومتخرجش دلوقت
    ضحـك بخفــة علي خجلها، ثم قطب جبينـه قائلاً بدهشـة :
    _ انتِ لسة بتتكسفي مني بعد ده كله يا شهـدى
    اومـأت بخفـوت وهي تنظر للأسفل بوجنتـا أشعلتها حمرة الخجل، سيطـر علي نفسه بصعوبة وإتجه للمرحاض كما قالت له، لتبدل هي ملابسهـا بقميص نوم من اللون الأحمـر ضيق يبـرز مفاتنـها، ثم فردت شعرها الذهبي علي كتفيهـا، ثم ارتدت الإسدال الخاص بالصلاة، لتأذن له بالخـروج، لتدلف هي لتتوضـأ، بدأوا يصلوا وعمر إمامهـا، كان يخجل من نفسه بشدة، فالمرات التي صلي فيها تعد علي الأصبـع، انتهـوا من الصلاة وعمر يدعي الله ان يوفقهم في حياتهم، حملها بخفـة للفراش، ثم وضعها عليه برقـة، وفك طرحتها، وجعلها تخلـع الإسـدال، لتظهر فاتنتـه وترى الإنبهـار في عيناه السوداء، هجم علي شفتاها بشغف ينال منهم أسمها " الشهد " ويغرقـا في عالـمهم، عالم هي ملكة فيه علي عرش قلبـه معلنـة بدأ سيطرتها من جديـد علي قلبـه .
    ********
    صباحــًا ..
    وصلـت رضوى لإحـدى الكافيهـات علي النيل، بعدما نزلت من المنـزل بصعوبة وهرب، بعدما اخبرت والدتها انها سترى صديقتها ولكن تتأخر، وبعد إلحاح شديد وافقت علي مضض، لترتدى ما ظهر امامها وتنزل بسرعة، فهذه مسألة حياة او مـوت بالنسبة لها، اقترب من احدى المنضدات الذى يجلس عليها رجـل كبير بالعمر، تظهر كبـره بعض الخصلات البيضاء وتجاعيد وجهه الأبيض، اقتربت منه وهي تجلس علي الكرسي امامه ثم هتفت بجدية قائلة :
    _ ازيك يا عمو وحيد
    أبتسـم بهدوء مجيبـًا ببشـاشـة :
    _ الحمدلله، ازيك انتِ ووالدتك ومها ؟
    اختفـت الابتسامة علي الفـور، لتكمل بحنق :
    _ عمو وحيد انت عارف اني مش بعتبرك بس المحامي بتاع بابا لكن كأب تاني ليا بعد موت بابا الله يرحمه
    اومـأ بهدوء ثم استطـرد بحنان دفين :
    _ ايوة يا بنتي وربنا يعلم اني بعد ما والدك وصاني عليك تحديدًا حبيتك اكتر
    طمـأنهـا كلامه، كأنه يحثها علي قول ما تـريـد، لتقول بحـزم :
    _ عمو وحيد انا عايزة اشوف الوصية والورث لو سمحت
    لم يستـطع الإجابـة اذ وجـدوا من يقتـرب منهم بصـراخ حاد :
    _ رضوووووى
    ********
    الفصل الثالـث والخمسـون :

    فـزعت وإرتعش جسـدها اثـر الصدمة، ذاك الصـوت الذى تعرفـه جيـدًا عن ظهر قلب، بل تعشقـه ايضـًا ويقـع علي مسامعها كالموسيقي الرومانسيـة الهادئـة، ولكن ماذا يفعل هنا الان، وكيف سيفهمها ؟ 
    حمدت الله علي تلك الشعيـرات البيضاء لدى " وحيـد " والتي تـظهر كبر سنه، أقتـرب عبدالرحمن حتي اصبح امامهم تمامًا ثم نظر لرضوى نظرات حادة، وسألهـا بهدوء حـذر :
    _ ميـن ده !؟
    لم يعطـي " وحيـد " فرصة لرضوى لتجيب، حيث هتف مستنكـرًا :
    _ انت الي مين وكنت بتزعق لية ؟
    جـز عبدالرحمن علي اسنـانه بغيظ، ولمعت عينـاه بشرار، أستطردت رضوى مهدأه ايـاه لتهدأ من العاصفـة القوية التي كادت تهب عليهم تدمـرهم جميعًا :
    _ ده عمو وحيـد محامي بابا الله يرحمه
    ثم وجهت نظرها لـوحيد قائلة بأبتسامة مزيفـة :
    _ وده عبدالرحمن خطيبي يا عمو وحيد
    اومـأ وحيـد برأسـه بهدوء ولم يبعـد ناظريه عن عبدالرحمن، ثم قـال بترحـاب :
    _ طب اتفضل اقعد يابني
    إبتـلع عبدالرحمن الغصـة المريرة في حلقـة، وأجبرتـه نظـرات رضوى التي كانت عبارة عن رسـالة ترجوه فيها أن يجلس ويمرر الأمـر بســلام، ابعـد الكرسي برفق ثم جلس، ثم قـال موجهًا نظره لرضوى :
    _ خير ان شاء الله، في اية بقا ؟
    تنهـدت رضـوى بقوة، ثم نظـرت للنيل وأردفـت بشجـن :
    _ عمو وحيد أنت عارف ان طنط نبيلة مش أمي صح ؟
    أطـرق وحيد رأسـه ارضًا، وعجـز لسانه عن اجابتـها ولكن تكفلت نظراتـه وهيئتـه بأجابتهـا، لتؤكد علي ذاك الجرح بداخلها، رفـع نظره وقـال لها بهدوء :
    _ ايوة عارف يا بنتي
    اومـأت بسرعة ثم سألته بلهفـة :
    _ طب ممكن تحكي لي كل حاجة، وازاى ماقالوليش !؟
    كـانت حدقـتي عبدالرحمن متسعتيـن بصدمة باتت ظاهرة بوضوح علي محيـاه، كانت كلماتهم كالسـوط الذى ينزل عليه دون رحمة ولا يعطيه الفرصـة ليستوعب حتي يفاجئـه بالأخرى علي التوالـي ..
    بينما تـابع وحيـد بجدية وهو يتذكـر :
    _ والدك كان متجوز الست نبيلة، وخلف منها مها، بس حس انه مش متطمن لنبيلة، ومش مرتاح معاها يعني، شاف والدتك الله يرحمها وحس انه بيحبها جدًا، انا اعترضت وقولتله ازاى انت واحد متجوز وتحب، قالي مش ذنبي ان الحب ده جه ومتأخر وانى غلطت في جوازى من نبيلة، وصمم انه يتجوز والدتك وراح اتقدم لها، ولأن والدتك ست محترمة رفضت انهم يتجوزوا في السـر، وقالتله لازم تشوف مراتك لو موافقة يبقي علي خيرة الله ولو مش موافقة يبقي ماقدرش اخدك منها، رشـوان كان ممكن يعمل اى حاجة عشانها، بس ماقالش للست نبيلة وراح اتجوز والدتـك، وبعد جوازه بأسبوع قال للست نبيلة، واعترضـت وثارت وكانت هتطلب الطلاق، بس منعرفش اية الي غير رأيهـا فجأة ووافقت، وسكنهم جمب بعض بس مش فـ شقة واحدة، ومرت الأيام وجيتي انتِ نورتي الدنيا، بس ف المقابل راحت والدتك للي خلقهـا، ووالدك قرر انه مش هيعرفك ويخليكي تتربي مع اختك، روحتي عيشتي معاهم ونبيلة كانت بتعاملك كويس ادام رشوان بس، لكنه فجأة شافها بتزعقلك وبتضربك ولاحظ انها حنينة مع مها، مكنش متطمن عليكي معاها واكتشف ان عنده كانسر، يأس وملاقاش حاجة يعملها غير انه يكتبلك كل ورثه بأسمك يمكن يأمن مستقبلك، وساب لمها جزء بسيط، ولوالدتها ولا حاجة، وكان عارف انها مستحيل تسكت، ومات والدك بعد ما وصاني عليكي كتير لأنه كان قلقان من الست نبيلة جداا
    تلقلقـت الدمـوع في أعيـن رضوى، الان فقط فهمت لما تعاملهـا بهذا الجفـاء والقسـوة، كانـت تثبـت قـارب مها في بحـر الحيـاة، وتهـدم قارب تلك اليتمـة ليغرق ويغـرق وتطفـو هي وابنتهـا فقط .. !!
    كم من آآه ودت الصريـخ بها ولكن كتمتها بداخلها حتي كادت تنفجـر من الغضب والحزن والألم معًا ..
    وكـأن عبدالرحمن أستطاع أن يستشف ما تشعر به الان بمهـارة، ولكن السبب مجهول، أو يمكـن لأن اسمها محفورًا بداخله كالوشم علي قلبه، كلما جاءت عاصفة تربتـه شعر به ونظفـه سريعًا ..
    فقـال بصوت قاتم موجهًا نظره لوحيـد :
    _ طب يا استاذ وحيد نستأذن احنا
    اومـأ وحيد برأسه دون أن يتفـوه لينهض عبدالرحمن ممسكـــًا بيد رضوى، وكأنه يفعل ما فعلته مؤخرًا.. ينقذها .. والأعجب انها لم تبدى اعتراضها هذه المرة، او حالتها لم تسمح لها بالأعتراض من الأسـاس .
    *******
    تحت أشعـة الشمـس الصفراء، معلنـة بـدأ يوم جديد بحيـاة جديدة وسعيدة لهم، كـان عمر متسطحـًا علي الفـراش وشهد تنـام علي ذراعـه، يحتضنهـا بذراعيه كأنه يخشي اختطافها، ينظـر لوجهها الملائكـي يتمعن قسمـاته بنظرات عاشقـة، نظرات ترغب التأكيـد انها اصبحت معه وله للأبـد، ذراعـه الأسمر مع وجههـا الأبيض يكونوا مزيجـًا ذهبيـًا رائعـــًا، كانت أنفاسـه المضطربة تلفـح بشرتهـا، بدأت تتململ وبـدى علي وجهها الضيق، اصـدرت تأوه متألم، وبدأت تفتح جفنيهـا بتثاقل، لتقابـل عينـاه السوداء بنظرات قلقة، فجأة صرخـت بألـم، لينهض عمر مسرعًا وهو يسألها بلهفـة :
    _ مالك يا شهدى في اية ؟
    كـادت تبكي وهي تجيبـه بصعوبة ووهن :
    _ بطني وجعاني اووى مش قـادرة
    أصـابه الهـلع علي الفـور، جملتهـا جعلتـه كالمجرم يتلفت حوله خوفـــًا من قدوم الشرطـة، ارتدى ملابسـه بسرعة واقتـرب منها واضعـًا يده علي بطنها وهو يقول بقلق :
    _ حاسه بوجـع فين، قصدى يعني ازاى، قصدى حاسه بأية يعني يا شهد
    ضحكـت من بين دموعهـا علي توتـره وقلقه المبالـغ، لأول مرة ترى القلق في أعيـن شخص عليها هكذا، قـدم لها زهـرة بسيطة في عـز ألمـهـا، أبتسـم بحـزن ثم قـال بتوجـس :
    _ مالك يا شهدى، حاسه بأيــة دلوقتي ؟
    وضعت يدها علي بطنهـا ثم غمغمت بخفـوت قائـلـة :
    _ حاسـه بطني وجعانـي
    أقتـرب منها ووضع يـده تحت قدميها والأخرى اسفل ظهرها وهم بحملها إلا ان اوقفتـه بهمسهـا بهدوء :
    _ خفت خلاص يا عمر
    قطـب جبينـه بتعجب، منذ لحظات كانت تكاد تبكي والان شـفيت تمامًا !!
    فجـأة صـرخت بأبتسامة قائلـة بحماس :
    _ عمر انا حاسه بيه جوايا
    أبتسـم عمر بسعـادة ثم أقتـرب ووضع يده علي بطنهـا ليشعر به هو الاخر، كم هو شعـور رائـع، معشوقته تحمل طفل منه، واصبحت الحيـاة كالزهـرة المتفتحة امامهم، اجتاحـه شعور بالفرحـة، الحزن، ربما الحزن علي السنوات التي اضاعها من عمره هباءًا، افاق علي صوت شهد الهادئ وهي تقول :
    _ عمر، روحت فين ؟
    مدد جسـده بجوارها ثم احاطها بذراعيه يحتويهـا بحنان وهو يجيبهـا بمداعبـة :
    _ بفكر في ابننا، لكن انتِ لية قولتي ابننا مش بنتنا مثلاً
    وضعت إصبعها علي خدها كحركة تعبر بها عن التفكيـر، ثم تابعـت بجدية :
    _ يمكن لأني حساه ولد مش بنت
    مـط شفتيـه بعدم رضـا، ثم أقتـرب منها كثيـرًا حتي لامس أنفـه وجهها، هنا بـدأ عداد الخطـر ينذر لديها، واضطربت انفاسها واصبح قلبها يدق بسرعة رهيبـة كالطبول العالية في الحرب، لدرجة أنها شعرت انه يسمع دقاته، بينما أكمل هو مشاكسـًا :
    _ بس انا عايزها بنت، عشان تاخد عيونك وشكلك وتجنن الشباب كدة زى ما انتِ جننتيني
    تـزين ثغرهـا بأبتسامة هادئة، ثم داعبـت انفه بأنفـها وقالـت بشوق :
    _ لأ نفسي فـ ولد شبههـك كدة
    لم يمهلها الفرصـة لتبتعـد وألتهـم شفتاها بشفتـاه بشغف وقد أحـاط خصرهـا بيده ليحاوطـها كالحصـن، وتختلط انفاسهم كالجنود بداخلها سويـًا ..
    *********
    بعـد الإفـراج ... كانـت مها تسيـر امام السجـن بشرود ووجوم، ووجهها لم يختفـي شحوبـه بعد، مازالت الهالات السوداء تحت عينـاها تعطـي مظهـر مقشعـر للأبـدان، كانت تسير بلا هـدف، كأن قدماها من تحركها ولا تعرف أيـن ستأخذهـا، كانت تشعر بمزيـج من المشاعر المختلطة، الحزن لإبتعادها عن كل من احبتهـم .. أم الفـرح لأنها خرجت من هذه التهمة، ام القلق من رد فعلهم عندما يروهـا، فجأة وجـدت يـد كالحديد تقبض علي ذراعيهـا بقوة، إلتفتت لتصطـدم بأعيـن حادة كعين الصقـر، اذ هو أحمد ينظر لها بقوة وتساءل :
    _ انتِ رايحـة فين يا مها ؟
    حاولـت إبعـاد يدهـا ولكنه كان يمسكها بقوة، نظـرت ليـده نظرات تحذيرية لحركته، فهتفت بجدية :
    _ احمد احنا في الشـارع سيب ايدى
    أبعـد يده ولكنه مازال محتفـظ بحديتـه، ولم تهتـز له شعره واستطـرد جادًا :
    _ ردى عليا هتروحي فين دلوقتـي
    رفعت أكتافهـا ثم أجابتـه ببلاهـة :
    _ هأروح البيت اكيــد يعني
    جـز علي أسنـانه بغيظ من هذا الغبـاء، ثم قال وهو يضغط علي كل حـرف بدقة :
    _ هاتروحي البيت وانتِ مش معاكى فلوس وتفتكرى اهلك هياخدوكى بالأحضان ولا ايـة ؟
    ظلمـت عيناها كظلـم الليل، وبدى وجهها أكثـر شحوبــًا، لم تخطـر هذه الفكرة في عقلها ابدًا، لاحـت في عقلها اخر صورة لوالدتها وهي تضربها بقسـوة، إنتفض جسدها بخوف وكأنها مازالت تضربها الان، ثم استطـردت بتشنــج :
    _ امال هأروح فييين يا أحمد
    صمـت لبرهه ثم أجابهـا بصرامة لاذعـة :
    _ عندى في البيـت طبعًا
    شهقـت وهي تضـع يدهـا علي فاههـا، ثم أضافـت بتهـكم :
    _ لية شايفني فتاة ليل ولا اية
    لوهلة ذكرتـه بما فعلتـه به وما عرفـه عنها، كالصخرة التي دمـرت موجتـه في لحظة، لتقسـو عينـاه البنيـة، ويمسك بذراعها بقوة ويجرهـا خلفه بإتجاه سيارتـه، دون أن يأبـه بمناداتها المتكررة الغاضبـة :
    _ سيبني يا احمد ابعد عني اوعي اوعي
    إتجه لسيارتـه وفتح الباب ثم جعلها تركب رغمًا عنها، واغلق الباب ثم توجه للباب الاخـر وركب بخطي ثابتــة .
    *********
    كانـت چـودى تسيـر بخطوات مسرعة وهي تدلف للمطـار تجر حقيبتها الجلدية السوداء خلفها، ترتدى ملابسها التي تكشف معظم جسدها كعادتها دون أن تأبه بنظرات من حولها الساخرة والراغبة والكارهه، كانت كالتي تهرب من شيئ ما، ولما لا فهي بالفعـل تهـرب ممن يرغب في الأنتقـام منها، لم تكـن هذه چـودى التي لا تهاب اى شيئ وتدافـع عن مركب حبها الممتلك الصغيـر، والان تركتها تغرق لتفـر هاربة لشاطئ النجـاة ..
    وصلت امام الشبـاك ومدت يدها بجواز السفـر للرجل يتفحصه، اعطاه لها مرة اخرى وأبتسمت بسعادة فها هي قد تخطـت اول مرحلة للنجـاة ..
    فجـأة قطـع احلامها السعيـدة يد قوية تخبط علي كتفهـا بقوة، إلتفتت لتجد مجموعة من الضباط، خرجت منها شهقة مكتومة وهي تتساءل بخوف :
    _ انتوا مين وعايزين اية ؟
    أخـرج الضابط الكارنيـه الخاص به مشيرًا لها ثم اجابـها برسمية :
    _ طه الجندى، ضابط مكافحة المخدرات
    صمت برهه ثم سألها جادًا :
    _ انتِ چودى سالم ؟
    اومـأت بهدوء وهي تبتلع ريقها بصعوبة، ليكمل وهو يقبض علي ذراعها بقوة :
    _ معانا أمـر بالقبض عليكي .
    **********
    كـان يقف امام احدى الرجال مفتولين العضلات ملامحة صارمة إجراميـة، يرتدى زى كاللصوص، في احدى الاماكن الساكنة الذى يدوى الصمت فقط وصوت الأقدام فيها، ويقف هو بهيبتـه وغروره المعتـاد، يضع يداه في جيب بنطاله الأسود، ينظـر للرجل امامه بجدية، ثم كرر سؤاله للمرة الثالثة علي التوالي بتوجس :
    _ متأكد انك تقدر تعمل كدة ؟
    اومـأ الاخر بتأكيـد وهو يقول بصوت أجش :
    _ طبعًا يا باشا، خليك واثق فيا
    اومـأ بهدوء، في حين نظر له الاخر بطرف عينيه متساءلاً بعطف مصطنع :
    _ بس مش حرام يا باشا ده لسة جنين
    رمقـه بنظرات حادة للغاية أسكتتـه، ليتابـع هو بحقـد بدى في عينيه بوضوح :
    _ لأ مش حرام، ماهو مش بعد ده كله هسيبه يتهني ويخلف ويعيش عادى .

    *********

    نهـض عمر من فراشهم بتثاقـل، حانقـــًا يرتـدى التيشرت الخاص به وهو ينظر لشهد التي كانت تضحـك بقوة، جـز علي أسنـانه بغيظ وهو يقـول بحنق :
    _ خلاص يعني لازم تاكلي عنب دلوقتي
    حاولت كتـم ضحكتها، وهتفت من بين ضحكاتها بمـرح :
    _ ايوة ولا يرضيك ابنك يبقي فيه عنبه في قفـاه ؟
    ضحـك علي جملتها وظل ينظـر لها بسعادة حقيقية لأول مرة تغمـره، كان كالملك الذى تـوج لتوه علي عرشه ثم أردف بمشاكسـة :
    _ لا انا تحت امر الواد وام الواد كمان
    القـي لها قبلة سريعة في الهواء، ثم اشـار بيده وهو يقول بخبث غامزًا :
    _ هاجيب العنب وجايلك علي طول يا ام حزمبل
    شهـقت علي هذا اللقب وإتسعت حدقة عيناها بشكل كوميدى، ليضحك عمر ويسير متجهًا للخارج، هبط درجات السلم وهو يحمد الله علي كل ما حدث، كان بالأسفل ووجد هاتف " نادى " يـرن، كان يسيـر بجواره فأثار فضوله، قطـب جبينه وهو يقرأ رقم المتصل، ثم همس بدهشة قائلاً :
    _ اية ده، اية الي جاب رقم مريم علي تليفون نادى !!
    *****

    الفصـل الرابــع والخمسـون : 

    كـان الهاتف ينيـر معلنـًا عن الإتصال، وينير معه عينـاه التي اُظلمـت كسواد الليل، زرع الشـك بداخله، وتشنجت عضلات وجهه وهو يتذكر عندمـا سمع أطراف حديثها ذاك اليوم، ظـل محدق بالهاتف للحظات وكأنه شخصًا مستبـدًا يتحـداه، في نفـس اللحظات تقـدم نادى وأمسك بهاتفه بسرعة بأصابع مرتعشة، ثم سأله بتوجس : 
    _ انت بتعمل اية هنا يا عمر ؟
    رمقـه عمر بنظـرات حادة.. جامدة .. موحيـة بخطورة الموقف، كأنذار لنادى لينصرف من امامه حتي لا تنـدلع النيـران التي بداخله في وجهه تحرقـه، أجـابه عمر بهدوء علي عكس ما بداخله من عواصف رعديـة غاضبة :
    _ لا ابـدًا كنت معدى من جمب الموبايل، وبالصدفـة البحته لمحت رقم كدة
    حـاول أن يبـد طبيعيـًا ويرسم قنـاع الهدوء وهو يستطرد بتوتر فشل في إخفـاؤوه هذه المرة :
    _ رقم مين يعني يا عمر
    أجـابه عمر بصوا قاتم من دون تفكير :
    _ رقم مريـم اختي
    اصفـر وجهه، وظهر التوتر علي قسمات وجهه، ليتـابع بقلق :
    _ لا آآ اكيد انت اتلخبطت، وانا اصلا ماعرفشي مريم خيتك دى
    نظـر للأرضيـة بسرعة هروبـًا من نظرات عمر المتفحصة التي كادت تكشفه، في حيـن كان عمر يحرقه بنظراته الغاضبة، ثـم قال بصوت حانق أرسل الرجفة في اوصاله :
    _ ياريت ماكتشفش حاجة ف يوم لأني مش هاسكت، مش هاسكت خالص
    رفـع رأسه ببطئ، ونظر له بهدوء يعكس ارتباكـه، ثم أردف بأبتسامة مصطنعة :
    _ اية الي بتجوله ده بس
    لم يبـدى عمر اى رد فعـل، فشجعه قليلاً علي الكلام حتي لا يفتضح امره، فتابـع بمـرح مصطنع :
    _ وبعدين انت اية الي نزلك دلوجتي، احنا لسة العصـر
    لم يكـن عمر يسمعـه من الأساس، يحدث في خواطـره بشك، هل ما افكر به صحيح، ولكن كيف، كيف مريم ونادى، ما الذى يجمع الشـرق والغـرب، كان عينـاه شديـد السـواد حالكـة، وكأنها تزداد سوادًا كلما غضـب، لتظهر كحلكة الليل تمامًا ..
    بينما إبتـلع نادى ريقـه بإزدراء وقال منسحبـًا :
    _ طب انا هروح اشوف الي ورايا عشان متأخرشي بجـا
    في لحظات استدار وغادر علي عقبيـه، تاركــًا الشك يأكل عمر كالصدئ في الحديـد
    ********
    كـانت رضوى تسيـر بجـوار عبدالرحمن أسفـل منزلهـم بخطي ثابتـة، كلاً منهم في خواطـره اشياء كثيـرة مختلفة، عبدالرحمن يبدو عليه الثبـات، كأنه قد انتهـي من بناء الجدار الصامد الذى اراده بداخل رضوى التي بدت هشة وضعيفة مؤخرًا، حتي وصلوا امام الباب، وبـدأ القلق والخـوف يتسـرب الي رضوى رويـدًا رويـدًا، تشنجـت عضلات وجهها وتوقفت عن السيـر، نظر لها عبدالرحمن بتفحـص ثم سألها بتوجس :
    _ مالك وقفتي لية يا رضوى ؟
    إبتـلعت ريقها بصعوبـة، ثم قالت بخفـوت :
    _ خايفة يا عبدالرحمن اوى
    تنـهد عبدالرحمن بقـوة، ثم نظـر في عينـاها، وسألهـا بهدوء حذر :
    _ انتِ بتثقي فيا ؟
    اومـأت مسرعـة بتأكيـد، ليبتسـم عبدالرحمن بهدوء وهو يقـول بثبـات :
    _ يبقي لازم تعملي الي قولتلك عليه، الهـروب مينفعش ولا الي كنتي عايزة تعمليه خالص، انك تمثلي انك فقدتي الذاكرة ونسيتيني لحد ما تقنعيها ان شهاب مش كويس بطريقة غير مباشرة ده كان قبل مانعرف كل ده عنها، لكن دلوقتي لازم تواجهيها يا رضوى
    كلمـات بثـت فيهـا الشجاعة ولو قليلاً، وجوده بجوارها يعطيها جرعـة ثبات وشجاعة تحمسها لفعل ما تريـد قبل إنتهـاءها، اصبحـت تخشي فقدانه اكثر من اى وقـت، اصبح عامود حياتها الرئيسي، إن ابتعـد ستُـهدم كل حياتها ..
    أطلقـت زافـرة قويـة تملأ رئتيها بالهواء قبل أن تكتمه في الأعلي، وعادت تسير بجوار عبدالرحمن صعودًا للأعلي بهدوء مثلما كانوا، ولكن هذه المرة اقوى
    اصبحـوا امام باب المنـزل، طرقـت الباب بهدوء لتجد والدتها تفتح لها، لم تستطيـع أن تستشف مزاجها من تعابير وجهها، فنظـرت لعبدالرحمن هاتفـة بجدية :
    _ تعالي يا عبدالرحمن اتفضـل
    صُعـقت " نبيلة " وتوترت وتلـون وجهها بعدة ألوان علي الفـور، ولكن جاهـدت للعودة لثباتهـا، وصاحت فيه بحدة قائلة :
    _ يجي ده فين، هي وكالة من غير بواب
    دلـف عبدالرحمن بهدوء وكأنها شفافـة لا تتحدث، متجاهلاً اياها بطريقـة جعل الدم يتصاعد الي وجههـا، فزمجـرت فيهم بصوت هـادر :
    _ محدش هيدخل بيتي من غير اذني
    هنـا قد أستهلكـت كل فـرص الهدوء لدى رضوى، أحمـر وجهها وتحولت نظراتها للحـدة والغضب علي الفـور، فنظرت لها نظـرات تكاد تحرقها من كثرة حدتها ومن ثم هتفـت بجدية يشوبها الحدة :
    _ لأ قصـدك صاحبت البيت هي الي تحدد، وصاحبـة البيت الي هي انا يا استاذة نبيلة ، مش كدة ولا اية ؟
    إتسعـت حدقة عينـاها من الصدمـة، وأصبـح قلبها يـدق بسرعة رهيبة من كثرة الخـوف، كالفتيـل عندما يشتعل النـار به، ثم عضـت علي شفتـاها مغمضة العينين، ثم سألها بأرتبـاك بدى علي محياها :
    _ آآ انتِ آآ قـ قصدك اية يا رضوى
    عقـدت رضوى ساعديهـا وقد تبدلـت ملامحهـا، ثم رفـعت حاجبها الأيسـر وهي تقول بإستنكـار :
    _ يعني انتِ مش عارفة انا قصدى اية، ماشي يا ستي هقولك، انا قصدى علي الورث الي بابا كتبهولي يا طنط نبيلة
    رنـت كلمة " طنـط " في أذنيـها كصـوت الرعـد، اذًا قد علمت كل شيئ، ولكن كيف، كيف الان وهي لم تكمل ما ارادتـه !!
    هـزت رأسها نافيـة بسرعة، ثم قـالــت ببــراءة مصطنعـة :
    _ انا كنت هأقولك كل حاجة يا رضوى، بس ماجتش الفرصة يا حبيبتي
    صمتت برهه تسترجـع كل ما حـدث منذ لحظـات، عقـدت حاجبيها بتعجب وقد بدأ عقلهـا بالعمل الان، كلمات رضوى كالكهرباء التي جعلتـه يعمل علي الفـور لينهي ما يمكـن انهــاءه، ثم اردفـت بحيـرة :
    _ اية ده صح يعني انتِ فاكرة عبدالرحمن مانسيتهوش زى ماقولـتي !؟
    رفـعت رضوى أكتافهـا بلامبالاة، ثم أجابتـهت بسخرية واضحـة :
    _ لا وهو انا ماقولتلكيش إني فاكرة كل حاجة يا أنطـي ؟
    إزداد توترهـا اضعاف في هذه اللحظة، وشعرت أن الأرض تـدور من حولهـا، بالفعل الدنيـا كالدائـرة، كانت في يدها زمام الأمـور وتهدد وتفعل ما تريـد، والان اصبحت هي الضيفـة في هذا المنزل !!
    أنقـذتها طرقـات قوية بعض الشيئ علي البـاب، أشار عبدالرحمن لرضوى أن تناظر ثم أستـدار بهدوء وإتجـه للخارج ليفتح الباب، وما إن فتحـه حتي وجـد شهـاب امامه، وقد بـدى علي وجهه الكثيـر من المشاعر والتعابيـر التي يصعب فهمها .
    ***********
    طـوال الطريـق لا يتحدثـوا، الصمت يدوى في السيارة، لا يُسمع سزى صوت أنفاسهـم المختنقـة، مها تجلس عاقدة ذراعيها تنظر امامها بغضب، فبرغم كل ما حدث إلا انها تكره الضعف وخاصـًا ان كان امام رجـل وإن كان زوجهـا، تشعر امها مجبـرة.. مكبلـة بأحبال قويـة متينة .. أحبـال اخطاؤوها وتصرفاتها التي جعلتها لا تقدر علي رفع عينـاها امامه، بينما كان الغضل وصل ذروتـه لدى احمـد، كان يضغط علي المقود بقوة لعله ينفث غضبه فيه، وبعد قليل من الوقت وصـل أحـمـد ومهـا أمـام العمـارة التي يقطـن بها أحـمد، كان الشـارع خالي نظيـف .. هادئ، يوحـي ويعبر عن جمال تلك المنطقـة، أخذت مها تتفحص المكان من حولهـا، بينما نـزل أحمد وأتجه للجهه الاخرى وفتح الباب لها وهو يقول بصوته الأجش :
    _ انزلي يلا يــا مهــا
    لـوت فمهـا بعدم رضـا، ثم غمغمت بأمتغاض :
    _ انا مش شغاله عندك عشان تؤمرني
    إبتـلع غصـة في حلقة ولم يجيبها، ثم تأفف بضيق وقال بتهكم :
    _ طب انزلي يا استاذة مها لو سمحتي
    نزلـت من السيـارة متعمـدة البــرود، ثم سـاروا سويــًا للداخـل، وصعـدوا للأعلـي بخطي ثابتـة، حتي وصلوا امام المنزل، أخرج احمد المفتـاح من جيب بنطاله وفتح الباب، في حين كان الغضب يتصاعد لدى مها، فكل ما كان في عقلها الان هي جملتـه " انا اتجوزت يا مها "
    أخـذت نفسًا عميقًا استعدادًا لتلك المواجهة الحاسمـة، ثم دلفـت، وبمجرد دلوفها شعـرت ان قدماها شُلـت عن الحركة، أنها دلفـت من بـاب الجحيـم بإرادتهـا، همست في خواطرها بخبث :
    _ اما وريتك يا احمد مابقاش انا مها
    افــاقت علي صوت احمد وهو يقـول بصوت حــازم :
    _ مها احنا لازم نتكلم في حاجات كتير
    كانـت مها منشغلـة بالبحث بعينـاها عن تلك المدعوة بزوجتـه، ولكن لم ترى اى شخص، هـزت رأسها موافقـة، ثم تمتمت بهدوء حذر : امممم امممم وبعدين
    جـز أحمـد علي اسنانـه بغيظ، ثم قال بجدية يشوبها بعض الحـدة :
    _ مها ركزى معايا هنا انا بأكلمك علي فكرة
    نظـرت له مها بهدوء ثم استطردت ببـرود مصطنـع قائلة :
    _ اصلي عايزة اشوف زوجتك المصونة
    أستشـف غيرتهـا بمهـارة، قهقه عاليـًا، لم يكن يتخيل أن جذور الحب والغيرة مازالت تنمـو بداخلها، أعتقـد انها ابادتهـا منذ ان ابتعـدت عنه، ولكنها بدءت بالتفتح امامه مرة اخـرى، كانت مها ترمقه بنظرات حانقـة، ثم تــابعت بنبرة غليظـة :
    _ هو انا قولت حاجة تضحك للدرجة دى يا حاج متولـي ؟
    أقتـرب منها بهدوء، مع كل خطـوة يتحرك قلبها معه، خطوة اثنـان ثلاثـة، من دون انذار اخر اشتعلت وجنتاها بسخونيـة، من الخجل، واضطربـت انفاسها، ليهمس بجوار اذنهـا بمشاكسـة :
    _ هو انا مقولتلكيش انى ماتجوزتش ولا هاتجوز غيرك يا زوجتي المستقبلية
    *********
    عـاد عمر لغرفتـهم مرة اخـرى دون ان يجلـب لها العنـب الذى تريـده، كان شارد الذاهـن وجه واجـم، وكيف يجلب لها وهو يريـد أن يجلب له اى شخص الحـل والأرتياح ليهـدأ من عاصفة التفكير والشك التي غمرتـه فجـأة، فتح الباب ودلف بهدوء دون أن يتفـوه بحـرف، ما إن لاحظت شهد وجوده حتي هتفـت بدلال وبأبتسامة هادئــة قائلـة :
    _ جبتلي العنب يا عمـورى
    لم يـرد عمر عليها وجلس علي الفـراش، ثم وضع وجهه بين كفيـه عله يستطيع إيقاف التفكير ولو قليلًا، إستغربت شهد وعقـدت حاجبيها متساءلة بتعجب :
    _ مالك يا عمر، حصل اية تحـت
    أجابـها بصوت قاتم دون أن ينظر لها :
    _ مفيش يا شهـد حاجة، نامي انتِ
    تأكـدت أن هنــاك خطـب ما، لقد قال " شــهــد " ولم يقـل " شهـدى " كعادتـه، لم يكن هذا عمر الذى كــان يضحك بسعادة ويمـرح ويـوزع الفرح في كل انحاء الغرفة، تابعـت بتسـاءل مـُصـر :
    _ لأ مش هنام قولي مالك في اية
    نظـر لها عمر بحـدة، ثم عـَلي صوتـه الي حدًا ما وهو يقول بجديـة وغضب :
    _ قولت مفيش يا شهد، اية مابتفهميش، نامي عشان هانمشي بليل
    لم تجـد سبب مقنــع لهذا الغضب الان، لمعـت عينـاها ببريق خافت ثم أردفـت بتصميم وقــوة :
    _ لأ لأ، اما تقولي مالك الأول
    ثم اقتـربت منه تضـع يداها علي كتفـه، ثم سألتـه مرة اخرى برقـة :
    _ مالك يا حبيبي، لو ماحكتليش انا هاتحكى لميـن ؟
    أغمـض عينـاه لثـوانٍ ليستعيد هدوءه قدر الإمكـان، ثم قـال بهدوء حذر :
    _ مفيش يا شهد سيبيني دلوقـتي
    قال هكذا وهو ينهـض ثم أخرج هاتفـه من جيب بنطـاله وأتصل بشخص ما، ثم وضع الهاتف علي اذنـه ليجيب بجدية :
    _ انتِ فين ؟
    _ ................................
    _ بتعملي اية دلوقتـي
    _ ................................
    _ انا جاى بكرة الصبح
    _ ................................
    _ جهـزى نفسك هارجعك بكرة
    _ .................................
    _ انا قولـت الي عندى، سلام
    _ ................................

    أغلق الهـاتف وهو يلقيـه علي الفراش بعنف، فزعـت شهد، ومن ثم همست بخفـوت مرتعـد :
    _ في اية يا عمر اهـدى كدة
    ثم صمتت لبرهـة وعادت تسأله بغيرة :
    _ ومين دى الي كنت بتكلمهـا
    نظـر لها عمر بغضب هـادر، وعينـاه تشع بنيران الغضب، جعلتها ترتجف بخوف حاولت عدم إظهـاره، ثم اقترب منها ممسكًا ذراعها بقوة ألمتهـا وأردف بصياح :
    _ قولت مفيش، انتِ اية زنانة لية
    تلقلقـت الدمـوع في عينـاها، نظرت له نظـرة آلمـته واثـرت فيه، كالطفل الذى ينظـر لوالده بلـوم، نهض مسرعًا ليتجه للخارج، ثم قال وهو موليها ظـهـره :
    _ جهزى الشنط هنمشي دلوقتي
    استـدار ورحـل علي عقبيـه، تاركًا اياها تبكي بنحيب وهي تتساءل في خواطرها اى ذنب ارتكتب ليظهر لها قسوته هكذا !
    *********
    وقفـت چـودى مشدوهـة للحظات، تحـاول إستيعـاب ما قاله لها في التـو، ظنت أنها بعد دقائـق ستهـرب وتنسي كل ما حدث في هذه البلـد، ما لبث إن شعرت بالطمأنينـة حتي تيقنـت أن الماضي مثل السـراب ليس له اخـر ودائمـًا ما يلاحق صاحبـه، ليعكر عليه صفـو حياته الهادئـة، مذكرًا اياه بأنه قد ارتكبه مؤخرًا ..
    غمغمت بتساؤل وخوف :
    _ قضية اية يا حضرت الظابط ؟
    لم تهتز له شعرة وأجابـها بجديـة قائلاً :
    _ المخدرات الي لاقينها في شقتـك
    شهقـت شهقـة مكتومة دون إرادة منها، ودت لو تصـرخ وتقول لم افعل، انا حقًا مظلومة الان، لم افعلها !!
    ولكن لم تقوى حنجرتهـا علي الصـراخ، هـزت رأسها نافيـة، واستطاعت اخيرًا القول بصوت أشبه للبكاء :
    _ بس انا معرفش دى بتاعت مين صدقني
    كان ممسـك بالقضبـان " السلاسل " ، اقترب منها وهو يكبـل يدها قائلاً ببرود :
    _ مليش دعوة يا استاذة، الكلام ده تقوليه في النيابـة مش هنا
    إلتفـت الدائـرة لتـذيقهـا من نفس الكـأس التي جعلت " عمر " يشـرب منه، الظلـم، كم هو شعور مؤلـم، لم تفعل ولم تستطع إزالـة ذاك الوشـم، وهو لن يتبعد عنها من الاساس !!
    **********
    بعد فتـرة، كان كلاً من عمر وشهد ونادى ومحسن وخالهـم، يقفـوا بالأسفل علي حافـة الباب، يودعون بعضهم وداع حـار محمل بالأشتيـاق وبعض الحـزن، خلفهم الحقائب الجلدية السوداء الخاصة بشهد وعمر، كانـت شهد عيونها البنيـة لامعـة ممتلئـة بالدموع التي تكبحها بصعوبة، بينما عمر وجه خالي من اى تعابيـر، تعجب الخال قليلاً من سفرهم السريـع، ولكنه لم يـدقق بالأمـر كثيرًا، ونادى متوتـر بشكل ملحوظ خشيـتًا من علم عمر بأى شيئ في اى لحظـة، هتف خالهم بجدية لعمر :
    _ انا ماعرفشي لية مستعجلين يا ولدى
    أبتسـم عمر ابتسامة صفـراء، وراح يبـرر بهدوء حـذر :
    _ معلش بقا عشان ورايا شغل كتير
    اومـأ الخال متفهمـًا، ثم أشـار لشهد أن تقتـرب، فأقتربت بهدوء واحتضنتـه بحزن، للحظة كانت دموعها ستهبط كالشلالات، ولكنها أغلقـت البوابة بصعوبة، بسلاسل رغبتها في عدم تدخل اى شخص في حياتهم الزوجيـة التي ابتدأت لتوهـا، شدد خالها علي إحتضانها قائلاً بحنان :
    _ خلي بالك من نفسك ومن جوزك يابتي
    اومـأت شهد بتأكيـد، ثم ابتعدت قليلاً، لتحاول رسم الابتسامة علي ثغرها، ودعوا الجميـع بأبتسامات مصطنعـة، ثم إتجهوا للخارج خلف الخدم الذين كان يحملـون حقائبـهم، وصلوا امام سيارة عمر بالخـارج، كانت تقف امام الباب من الجهة وعمر من الجهة الاخرى، فنظـرت شهد لعمـر وقالت بصوت مبحوح :
    _ عمر، انت هاتفضل ساكت كتيـر
    لم يـرد عليها بكلمة تهدأها ولو قليلاً، ولكن أجابهـا بصوت أجـش :
    _ اركبي يا شهد وانتِ ساكتـة
    إلتفت شهد ونظىت للجهة الاخرى لتهم بالركوب وفجـأة وجدوا سيـارة سريعـة تأتى من جهة شهـد، بسرعة رهيبة لم تعطهم الفرصة للتصرف، واحدهم يظهر مغطي وجهه ومشيـرًا بسكيـنة كبيرة حـادة و.............
    ***********

    لفصل الخامس والخمسـون : 

    في لحظـة كان عمر يركـض بإتجـاه شهد يحتضنهـا كالدرع لحمياتها ويعطيهم ظهـره ويدفعهـا لداخـل السيـارة، حاول تفاديـهم قدر الإمكـان، ولكن أطالتـه السكين، شهقـت شهد وأطلقـت صرخـة مدويـة لتآوه عمر الذى تحامل علي نفسـه وابتعد مسرعًا ليلحق بهم ولكن أنطلقـوا سريعًا من امام المنـزل، خرج كل من بالمنـزل مسرعيـن، وهـرول خالهم بإتجـاه شهد التي كانت ترتجـف بخوف قائلاً بهـلـع :
    _ مالك يا بنيتي حصلك حاچة ؟
    بـدأت شهـد تبكـي بخـوف، ترتعـش اطرافهـا من حالة الصدمـة والهلع التي اصابتهـا، أقتـرب عمر منهـا يحتضنهـا بحنان، يخبـأها بأحضانـه التي كالقلعة لحمايتها، ليخيفها عن أنظـار ذاك العـدو اللدود ..
    للحظـة كـاد يفقـدهـا هي وطفله الذى لم يـولد بعـد، كانت تستمـع لنبضـات قلبـه التي ارتعـدت للحظـات، هجـوم العـدو المفاجـئ جعله ينتفض ذعرًا علي ملكتـه ..
    أخـذ يـربت علي شعـرها الذهبي الذى تمـردت خصلاتـه قليلاً علي وجهها الذى اصبح احمر بفعل الخوف، ثم همـس بجـوار اذنيهـا مطمئنـًا اياها بحنان :
    _ اهدى يا شهدى، خلاص محصلش حاجة
    وضعـت يـدها علي ظهـره وكأنها تحتمـي به، لتتسـع حدقـة عيناها وهي تشعر بملمس الدماء علي يدهـا، شهقـت وقد عاودها الخوف مرة اخرى وهي تقول بشفتيـن مرتجفتيـن :
    _ انت اتصابت يا عمر، اتصابت
    تـآوه عمر قليلاً من لمستهـا، ثم تحامل علي نفسـه مرة اخرى بصعوبة، فشعـوره النفسي بالألم خشيتـًا من فقدانهم اشـد من شعوره الجسـدى، ثم قـال بهدوء :
    _ متخافيش ده سطحـي، ملحقنيش اوى
    هنـا صـاح فيهم خالهم قائلاً بجدية :
    _ حد يفهمنا جرى اية يا ولاد ؟
    أبتعـد عمـر بهدوء عن شهـد، ثم زفـر بقوة محاولاً استعـادة هيئتـه، وعدم إستسلامه لشعوره بفقـدان الوعـي، ثم أجابـه بجديـة مماثلـة قائلاً :
    _ ناس معرفهمش جم علينا فجأة وكانوا ف ايدهم سكينة، الله اعلم قصدينا ولا حركة غير مقصودة يا خال
    علي الرغـم من أنه متأكد انها حركة مقصـودة لإصابـة شهد، إلا انه لا يستطيـع أن يخبرهـم بالحقيقة، فلو علم خالها لن يجعلهـم يرحلـوا من هنا ابـدًا، بينما استطـرد خالهم بصوت آمـر قائلاً :
    _ طب أطـلع خد مرتك وشوف جرحـك يا ولدى، وانا هأبعت اجيبلك داكتـور
    هـز عمر رأسـه نافيــًا ثم قال بإرهـاق بدى في الظهـور علي ملامحه ليشنـج عضلات وجهه :
    _ لا مفيش داعي، انا هأطلع اطهر الجرح وهيبقي كويس يا خال متقلقش
    بينمـا كانـت شهد ينتـفض جسـدها بقوة اثـر الخـوف، لم تشعر في حياتها بمثـل هذا الخـوف، كثـرة الخوف جعلها تشعر بالصقيـع من حولها، أصبحـت شفتـاها زرقـاء، ثم همسـت من بين شهقاتـها بصوت مبحـوح :
    _ يلا يا عمر، اطـلع معايا نشوف الجرح
    اومـأ عمـر موافقـــًا بهدوء، ثم سـار بجوار شهد مستنـدًا علي كتفيهـا، دلفـوا الي الداخل متجهيـن للغرفة، وصلـوا ثم دلفوا الي الغرفة واغلقـت شهد الباب، بينمـا هوى عمر علي الفـراش بألـم، جلست شهد بجواره ومسحـت دموعهـا التي طهـرت عيناها من نظرات اللوم للهـلع في لحظات، ثم أردفـت بوهـن قائلة :
    _ أقلـع التيشـرت هأروح اجيب الاسعافات الأوليـة وجايـة
    اومـأ عمر لتنهـض هي متجهـة للمرحـاض، ثم جلبـت الأسعافات الأوليـة بسرعة وبأصابـع مازالت ترتعش حتي الان، عـادت لتجـد عمر مغمض العينين وقد بـدى عليه التعـب، جهـلت في المعرفة، إن كان ألـم من كثـرة التفكير الذى تفـوق قدرته علي الإحتمال، ام انه الألم من الجـروح التي غطت ظهـره ..
    أقتـربت منه تجلس خلفـه، تحـاول التماسـك بقدر ما تستطيـع لتخفف عنه شعوره بالعجـز في حمايتهـا، حاولت كتم شهقتـها التي صدرت منها رغمًا عنها عندما رأت الجـرح الكبير الذى اصاب ظهـره، فشلـت في التخيـل أنها هي المقصودة بهذه الطعنـة، إبتلـعت ريقهـا الذى جـف، ثم غمغمت بحـزن :
    _ انا اسـفة اووى يا عمر
    إلتفـت لها، ثم أبتسـم ابتسامة هادئة رغم الألم والحـزن الذى يكسـوه، وتابع بصوت هادئ قائلاً :
    _ لية بتحبي الأسف يا شهدى، هو انتِ الي جرحتيني ولا اية
    هـزت رأسـهـا نافيـة، ثم مطـت شفتاها وهي تقـول بشـجن :
    _ لأ بس انا السبب، عشان انا الي كنت مقصودة مش انت
    قسـت ملامـح وجهه وتشنجت، وبـدى شـاردًا، وراح يتذكـر حالة الهلـع التي اصابتها والتي تشعـره بالعجز وعدم القدرة علي حمايتهـا، أغمـض عينـاه يتنهـد بقوة، ثم استطـرد بصوته الأجش :
    _ لأ يا حبيبتـي، مش انتِ السبب، لو كان حصلـك حاجة او للي فـ بطنك كنت هأموت كل يوم وانا حاسس إني ضعيف ماقدرتش احمى مراتى وابنى
    هـزت رأسهـا نافيـة، ثم قــالت مسـرعة :
    _ لا اوعي تقول كدة، لولاك الله اعلم كنت هابقي ازاى دلوقتـي
    أولاهـا ظهـره مرة اخرى، كلماتـها لم تنجح في حل كل الألغاز التي تؤلمـه، لقد فككـت أسيـر واحـد .. أسير فقدانهـا المؤلم
    *********
    إتسعـت مقـلتـاها بصدمة، ولكن صدمـة مفرحـة، ها هي اخـيرًا قد أبتسـم لها القـدر ولو لمـرة بصـدق، بـدأت الابتسامة السعيدة في التسلل لثغرهـا شيئًا فشيـئ، لم تصـدق أنهـا سمعـت بأذنيـها كلمات مفتـاح سعادتهـا، مضمـار قلبـه، وتأكيـد ملكيتـه لها هي فقط، لمعـت عينـاها بالدمـوع الفرحـة، ووضعت يدهـا علي فاهها وهي تقول بعدم تصديق :
    _ بجد، بجد يا احمد ماتجوزتش ؟
    اومـأ بتأكيـد، ثم أجابهـا مبتسمـًا بهدوء :
    _ ايوة يا مها، كان مجرد اختبار انك فعلاً عايزانى جمبـك، ولا هاتفرطى فيا زى زمـان لسبب مجهـول
    أختفـت الأبتسامـة من ساحـة وجهها، ليحـل محلها تبلـد وجهها والنظرات النادمـة المترجية للسماح، ثم همـت بقول شيـئًا ما، علها تستطـيع التخفيف من ذاك الشعور الذى اصبـح يزعجهـا وبشدة، إلا ان يـد أحمد الخشنـة التي وضعها علي طرف شفتيـها بحركة مباغتـة اسكتتهـا، ليكمل هو بصوت قــاتــم قائلاً :
    _ متقوليش حاجة، الي حصل مش سهل يتنسي بكام كلمة، يمكن اكتر حاجة شجعتني انى ارجعلك هو ابني، مش عايزه يتربي بين ام واب مشتتين ومش مع بعض وهو ممكن يتربي وسط اهل بيحبوا بعض وعايزين بعض .
    اومـأت موافقـة، وشعـرت كما انهـا هبطـت لأخر أرض، بفعل كلماتـه الموجعـة، لم تتخيل أن فعلت هذا به وبطفلها، وبنفسها اولاً، تلقلقت الدمـوع في عينـاها لتقول بخفـوت :
    _ وحشنـي اووى اووى يا أحمد
    جلس احمد علي الأريكـة بأريحية، ثم عـاد يتابـع مبتسمًا بأشتيـاق :
    _ وانا وحشني اوى، بقالي سنين مشفتهوش، نفسي اشوفه اوى واملي عيني منه يا مهـا
    جلسـت بجواره بسرعة، ثم أردفـت بحماس قائـلـة :
    _ طب يلا نروح عشان نشوفـه
    هـز رأسـه نافيـًا، ثم استطـرد بجدية :
    _ لازم نحسبهـا كويس يا مها، ونشـوف هانقنع والدتك واختك ازاى، وخصوصًا إن والدتك الي عرفته مش سهل عليها، ومكانتش بتزورك ف السجن، يعني اكيد غضبانة جدًا جدًا جدًا
    اومـأت برأسهـا بأسـف، فهي تعلم بمـدى خطـأها، ولكن ما لا تعلمـه أن والدتها لا تفكر بها كثيـرًا من الأساس، نظرت له بهدوء لتسألـه بحيـرة :
    _ طيب هانعمل اية يا أحمد بقا ؟
    لم ينظـر لها وظل كما هو ثم أردف بصوت قـاتـم قائلاً :
    _ هانتجـوز يا مـهـا
    *********
    كـان يقـفً في أحـدى الحدائـق الخضـراء التي تعطي شكلاً مبهـرًا تحت اضـواء الشمس التي كادت تختفي، مزينـة بشكل رائع يظهر انعكاسها علي اوراقهـا الخضراء، يـدب علي الأرض بقدمـه بقـوة، يظهـر التوتر والقلق جليـًا علي ملامح وجهه البـاردة، ويضـع يداه مستندًا علي السـور الخشبي الكبير الذى يحيـط تلك الحديقـة من جميـع الجوانـب، كطـالب في مدرسـة الحيـاة ينتظـر معرفـة نجاحـه ام رسوبـه في ذلك الاختبـار الذى يجهل كيفية النجـاح فيه، أتـي من خلفـه نفس الرجـل، وقد دلـت ملامحه علي نتائـج غير مبشـرة بالمـرة، ليتنحنح قائلاً بهدوء :
    _ يا بـاشــا
    إستـدار لينظـر له بهدوء يعكس ما بداخلـه، ولكن هيبتـه وهيئتـه المعتادة لا تسمح له بإظهـار ذاك الأرتبـاك، ثم قال بجدية :
    _ ها عملتوا اية يا غريب ؟
    بـادلـه الشعور بالتوتـر والأرتبـاك من فشله فشل ذريـع في تلك المهمـة، ثم تهته بخـوف بدى بوضـوح :
    _ آآ بصـ بصراحة يعني يا باشا، حصلت حاجة ماكنتش متوقعـة
    نظـر له بطـرف عينيه ثم سأله بتوجس :
    _ حصل اية يا غريب انطق ؟
    نطـق بصعوبـة ليقـول بتوتـر :
    _ بصراحة يا باشا الضربـة مجتش في بطن البت زى ما كنت عاوز، لكن جت في ضهر الواد
    إحتقـن وجهه وأقتـرب منه بهدوء حذر، ثم زمجـر فيه غاضبـًا :
    _ ازاى يا اغبيـة ازاى، انا قولتلكوا البت
    سـارع غريب في الـرد مبررًا بجديـة :
    _ ماهو الي جرى فجأة وغطاها خالص بضهره وكأنه كان عارف اننا جايين
    جـز علي أسنانه بغيـظ، بعمره كله لم يشعـر بالهزيمـة كمثل هزيمتـه في القضـاء عليه هكذا، تمتم بحقـد قائلاً :
    _ انا عارف ان عمر مش سهل، مكنش لازم ابعت شوية اغبية زيكـوا
    ثم أشــار له أن يذهـب، ليدير ظهره مرة اخرى ولم يمـل في التخطيط لذاك الذى يدعي " عمـر " ، ثم همس بصوت أشبه لفحيح الأفعي :
    _ يا انا يا انت في الدنيا دى يا عمر، مش هيخليني ابطل افكر ف تدميـرك غير موتـك او موتـي انا !!
    ********
    تصـاعد الـدم لدى عبدالـرحمن، وأحمـر وجهه من الغضب الذى طـارده لتـوه، شعـر بداخله يغلـي من الحنق والغضب، لقد رأى بحياتـه الكثيـر والكثـير من الأنـاس السيئـون، ولكن لم يرى بحياتـه شخص يرغب المـوت هكذا !!
    كـور قبضـة يده ليتمالك نفسـه قليلاً، ثم صـاح فيه بحـدة :
    _ خير جاى هنا لييية ؟؟
    عـض شهـاب شفتـاه السفليـة بحسـرة ثم تنحنح قائلاً بحـرج :
    _ متقلقش انا مش جاى عشان مشاكل
    نظـر له عبدالرحمن بتوجـس، ولفـت نظره قميصـه الذى امتلئ بدماء ذاك الرجـل، ظل يحملق به بحيـرة، شيئــًا ما يخبره أن يهدأ نفسه قليلاً وينتظر وشيئــًا اخر يحمسه علي الأنقـضاض عليه، ليهتف عبدالرحمن بغيظ دفيـن :
    _ امال حضرتـك جاى لية دلوقتي ؟
    رفـع يده السمراء التي اصبحت حمراء مؤخرًا يمسح وجهه ببطئ، ثم أجابـه بصوت مختنق :
    _ انا عايز اشوف رضوى واقولكم كلمتين
    رفـع عبدالرحمن حاجبه الأيسـر بغيظ، ومن ثم أشـار لملابسـه قائلاً بتهكم :
    _ يا حبيبي، والمفروض اقولك اتفضل خش اقعد وانا هأروح اعملكم الشاى تشربوه ولا اية !؟
    هـز رأسه نافيـًا بسرعة، ثم تابع بأصرار غريـب :
    _ ارجوك، هأقولكم حاجة وامشي، كدة كدة عمرى ما هقدر اقعد ابدًا
    تقـدمت " نبيلة " بجوارهم، وخلفهـا رضوى بخطوات مترقبـة، وتهللت أساريرها بقـدوم شهـاب، والذى كانت تعتقـده سيكون لصالحها، فقـالت مسرعة بترحـاب وحب مزيـف :
    _ اهلاً اتفضل يا شهـاب يا حبيبي
    نظـر شهـاب لعبدالرحمن بتساؤل، وكأنه يستأذنـه بنظراتـه، فأومأ عبدالرحمن قائلاً بحنق :
    _ قول الي انت عايزه هنا ياريت
    نظـر شهاب لرضوى بهدوء، ثم تنهـد تنهيدة حارة تحمل بطياتها الكثيـر، ثم هتف بأسف :
    _ رضوى ممكن تسامحيني وتعذريني علي اى حاجة عملتها او كنت عايز اعملها فيكي، انا معرفش اية الي خلاني اعمل كدة، بس الي عرفته أن كما تدين تدان، وربنا ما بيسيبش حق حد مظلوم
    رمقـته رضوة بنظرات متساءلة، ودت لو تسأله بفضـول عن كل ما يقصده، ولكن تواجد عبدالرحمن يمنعها من التفـوه بأى شيئ الان، بينما تابع شهاب بحـزن بدأ في الظهور تدريجيـًا علي محياه :
    _ ربنا رد لي الي كنت عايز اعمله فيكي فـ اختي الوحيـدة، وخطيبها اعتدى عليها، وقتلتـه
    شهـقـت رضوى بصدمـة وهي تحدق به، بينما كان عبدالرحمن عاقدًا ذراعيـه ينظر له بجمود ولم يبـدى رد فعـل، فنظر شهاب لـ " نبيـلة " قائلاً بنبـرة تحمل كل معاني الندم :
    _ انا أسف، انا الي عملت الصور وبعتها لحضرتك عشان ماتتميش جوازهم
    مطـت شفتيها بعـدم رضـا ثم قالت بأمتعاض وحزن مصطنع :
    _ يوه، وانت جاى تقولي الوقتي !؟
    هـز رأسه نافيـًا ثم أستـدار ليغادر علي عقبيـه، ويشعر بمدى ثقل ما فعله علي اكتافـه، ثم غمغم بخفـوت قائلاً :
    _ انا عملت الي يريح ضميرى شوية واتمني تسامحونى كلكم
    رحـل من أمامهم بهدوء بعدما جعلهم يتقينـوا بالعدالة الالهـية، تنهدت رضوى بأرتيـاح كالمتهم الذى استرد حقه الان وحصل علي البـراءة، بينما تنحنح عبدالرحمن قائلاً بصوت حازم :
    _ بصي بقا يا حماتي انا مش هستني تاني، احنا هانكتب الكتاب بكرة
    *********
    كـان عمـر يقف في منتصف الغرفة يرتـدى القميص الأسود الخاص به بهـدوء، لم يختفـي الألم من وجهه، ولم يأخذ القسطًا الكافيـًا من الراحـة، ولكنه يُصـر علي فعل ما يريـده وكأنه هو فقط العلاج الوحيـد ليخفف الآمـه النفسية، بـدت عينـاه السوداء غامضـة، حالكـة، متعمقة، يصعب علي اى خبير في لغة العيـون فهم ما يدور بهم، زمـت شهد شفتيـها بعدم رضا، وهي تجلس علي الفـراش بهدوء، ثم هتفت متساءلة بفضول :
    _ طب قولي اية الي يخليك تقوم كدة وانت ضهرك لسة ماخفش
    لم ينظـر لها واجابـها بصوت قاتـم قائلاً :
    _ لازم اقولهم حاجة وجاى تاني
    نهضـت مقتربـة منه بهدوء، ثم وضعت يدها علي كتفـه وهمست بوهـن :
    _ انت لية مُصر تخبي عني يا عمر
    نظر لها بهـدوء، ثم ثبـت ناظريـه علي عينـاها البنيـة يرى فيهم إنعكـاس صورتـه، يستمـد منهم القوة ليكمل، ثم إلتقط وجهها بين كفيـه العريضين ليكمل بهدوء حذر :
    _ صدقيني يا شهدى انا مش عايز اتعبك ف حاجات لو عرفتيها مش هتنامي من التفكير زي
    ثم ابتسـم ابتسامة عاشقـة، ليطيب ويهدأ ما يمكن تهدأتـه من ثورة قطتـه الهادئـة، ثم استدار وغادر متجهًا للأعلي، تاركــًا اياها تفكر في كيفية فك تلك الألغـاز، بينمـا وصل عمر للأسفل وصار ينادى علي نادى بعلو صوتـه، حتي اجتمـع كل من بالمنزل علي صوته العالي، وبما فيهم نادى، نظر له نظرة لم يفهمها ثم قـال بحدة :
    _ آن الآوان نفهم كلنا كل حاجة يا نادى بيه بقاا
    *********** 

    الفصل السـادس والخمسـون : 

    جحـظ نـادى بصـدمة جـلية علي ملامحـه، وبـدت ملامحـه شـاردة .. واهنـة، كمن سقـط عليه دلـو من الثــلج، كان عمر ينظـر له بغضـب، لم يعـرف سـر غضبه الغيـر متناهـي، ولكن ما هو متأكد منه انه وان كانـت بينهم مجرد علاقة غراميـة ويريدها زوجتـه حقـــًا، فهو لن يسمح لهم أن يستخدموه كـ احدى الكبارى ليصلوا لبعضهـم، بينما أخذ خالهم يتفحصهم بعينـاه قبل أن يسأل عمر بحـدة :
    _ في اية يا عمر، نفهم اية !؟
    نقـل ناظريـه لنـادى، الذى كان وكأنه يقـف امام احدى اختبارات الكذب، يخشي الإجابـة بشيئ خاطئ يفسـد ويعكر صفـو كل ما مهـد له في أخر ايـام، ثم هتف بسخريـة واضحـة :
    _ هتقول لأبوك انت ولا اقوله انا يا نادى
    ظـل نـادى يفـرك أصابعـه بتوتر، يخشي وبشدة معرفة والده، تمالك نفسه بصعوبة ثم نظر لعمر بثبـات مزيـف وهو يقول بجديـة مصطنـعه :
    _ تجول اية يا عمر، مفيش حاجة تتجـال ابوى ميعرفهاش اصلاً
    جـز عمر علي أسنـانه كاملة بغيظ لدرجة كادت تنكـسر، ثم أردف بنبـرة أشبه لفحيح الأفعـي قائلاً :
    _ يعني ابـوك عارف بقا يا نادى
    تـأفف خالهم بضـيق بدأ في الظهـور عليه، كأشـارة لعداد الصبـر لديه، ثم صاح فيهم بنفـاذ صبـر :
    _ يووه، ماتفهموني اية الي بيجرى بجا
    مسـح عمر علي شعـره ببطئ، كمحاولة لتـهدأة نفسـه والتصـرف بحكمـة، ثم تـابع بجديـة موجهًا نظره لخالهم :
    _ انت عارف يا خال، ان ابنك بيكلم اختـي مريـم في الموبايل والله اعلم بيستعبطونى من امتي !!
    تجـمد والده مكانـه، لا يشيـح ببصره عن " نـادى " الذى كان يغلق عينـاه، تفجـرت القنبلـة وحدث ما كان يخشـاه، لن ينقـذه الان من هذا الإعصـار الذى سيهب عليه يدمـره حتمـًا اى شيئ، إبتـلع ريقـه بصعوبـة، بينما هـز عمر رأسه وهو يقـول متهكمًا :
    _ تؤ تؤ شكل ابوك مكنش يعرف إن ابنه واطي ميعرفش الاصـول
    هنـا صـدح صوت والـده العالي، وهو يشير بيـده لعمر أن ينتظـر ثم قال متساءلاً لنـادى بحـدة بالغــة :
    _ الكلام ده صح يا نادى ؟
    تلعثـم نـادى وهو يومـأ برأسه مؤيـدًا، وسرعـان ما راح يبـرر بتوتر :
    _ بس والله يابوى ما تكلمنا الا كام مرة عشان نعرفوا كيف هنجنعك انت وعمر
    اتـاهم صوت محسن متساءلاً بحيرة :
    _ بس كيف عرفت عمر من جبل ما تعرف انه جوز شهد ؟
    نظـر له بهـدوء ومن ثم أردف بجدية :
    _ لما روحت القـاهرة مرة، شوفتها هناك، وهي شافتني والكلام جاب بعضه و.. وآآ كنت عايز اتجدملها، بس جالت ان اخوها رجعت تعيش معاه، ومش سهل تجنعه بسرعة كدة
    تقـوس فم عمر بأبتسـامة ساخـرة، ثم قاطعـه متهكمًا :
    _ قوم انت تكلمها من ورايا اسهل من اقناعي يعني !!
    هـز رأسـه نافيـًا بسـرعة وهو يقول مبررًا :
    _ لا صدقني الاول مكنتش اعرف انها اختك غير من كام يوم
    فيما قـال والـده بأسـف واضح :
    _ يا خسارة تربيتي فيك، هي دى الاصول، تكلم البنيـة من ورة خيهـا إكدة
    أطـرق رأسـه بخـزى، لم يطرقهـا بحياتـه يومـًا، ولكن الان هو مجبـر، وإلا سيتلقي تلك الموجـه العنيفـة التي يخشي قدومها،
    نظـر له عمر بأشمئـزاز بـدى في عينـيه السـوداء، بينمـا أستطـرد خالهم جادًا :
    _ أنـي بعتذرلك يا ولدى نيابـة عن نادى، وبأطلب يد خيتـك منك اليوم جبل بكرة
    أغمـض عمر عينـاه متنهـدًا تنهيـدة طويـلة حـارة ثم قـال مفكـرًا :
    _ معلش يا خال سيبني أفكر، محتاج اقعد مع نفسي شويـة
    اومـأ الاخـر، ثم نظـر للجميـع قائلاً بصوت آمـر :
    _ كل واحد يشوف حاله خلاص
    ثم عـاد ينظر لعمر مرة اخـرى، وقد إرتسـمت البشاشـة علي وجهه المجعـد، وأردف بهدوء حذر :
    _ وانت يا ولدى خد راحتـك ف التفكير وانا مستني ردك
    بينمـا كان نادى يقف مدهوشـًا، متسـع الحدقتـان، يحملق بهم بصدمة، لم يتخيـل أن الأمـر بهذه البساطـة، أم انه فتـاة يخشي والده أن يفضـح أمـره، ولكن ما أيقنـه ان والده فعل ذلك من اجله رغم غضب اللانهائـي منه ..
    *******
    لا يعـرف ما الذى جعلـه يتهـور وينطـق بهـذه الجملـة، وكأنـه مواطـن يطالب العـودة وبقـوة لأرضـه التي احتلهـا المحـتل لفتـرة أفقدتـه دفئ وحب هذه الأرض، كم شعر أنه مراهـق في هذه اللحظـات، لم يكن بحياتـه يومـًا متهـور كالآن، يطالب بسرعة كتب الكتـاب دون الرجـوع لأى شخص، ولكن من المؤكـد أن من يتحكم به هو قلبـن وليس عقلـه، وما اصعب ذاك التحكم الذى يجعلك تفعل بعض الاشيـاء كأنها ليسـت رغبتـك، نظـرت كلاً من رضوى ووالدتهـا لعبدالرحمن بصدمة جليـة علي ملامحهم، بينما عبدالرحمن يقف هادئـــًا منتظرًا الـرد علي هذا التهـور، حتي قطعت " نبيلـة " هذا الصمت الذى دوى للحظات متساءلة بصدمة :
    _ انت واعى للي انت بتقوله ؟
    اومـأ عبدالرحمن مؤكدًا بأبتسامة هادئـة، ثم أجابـها ببلاهـة :
    _ ايوة طبعًا واعي ولية لأ
    هـزت رأسهـا نافيـة بسرعة، ثم ضـربت كف بكف وهي تقول بحسرة مصطنعة :
    _ لا لا ياعيني خلاص الواد اتجنن، بقي في حد بيطلب يكتب الكتاب بكرة، وكأنك هاتكتب ورقتيـن عرفي، وحتي انت ماقولتش لأهلك
    إرتسـمـت الجديـة علي ملامحه في ثوانٍ ببراعـة، ثم أردف مهدئـــًا :
    _ استني بس يا حماتـي، اهلي مش هيقولوا اى حاجة، وبالنسبة لكتب الكتاب احنا هانعمل حاجة صغيرة كدة، والفـرح بعد شهـر مثلاً
    شهـقـت بصدمـة اخـرى، ووضـعت يدها علي فاهها بحركة مباغتـة، لا تعرف من اين اتـي له هذا الأصرار الذى رأتـه في عينيه للتـو، اما كان يكفيها معرفة رضوى بكل شيئ، تنحنحت قائـلة بتفكير مصطنع :
    _ طب سيبني افكر شوية
    هـز رأسـه نافيـًا ثم عاد يقول بأقنـاع :
    _ تفكرى ف اية بس يا حماتي، مش محتاجة تفكير، احنا هانكتب الكتاب بس
    وضعـت إصبعهـا علي فكهـا كحركة تعبر بها عن التفكيـر العميـق، ثم تابعت بأمتعاض :
    _ اممم، طب قول لأهلك يا عبدالرحمن والي فيه الخير يقدمـه ربنا
    سألها بلهفة غير مصدق :
    _ يعني انت موافقة صح موافقة ؟
    اومـأت موافقـة، وملامح وجهها تقل شيئً غير هذا تمامًا، لم تشعر انها مجبـرة مثل هذا اليوم الذى لن تنسـاه ابدًا ..
    اما عنه فظهـرت الإبتسامـة السعيـدة علي وجهه بسرعـة، حتي ظهـرت أسنانـه البيضـاء، لتزيـن ثغـره الأسمـر، وجهه نظراتـه لرضوى التي كانت تقف وقد تبلد جسدها اثـر الصدمة، وكأنها تشاهد احد الأفلام التي اثارت دهشتها للغايـة، من يراها وهي تقف تشاهدهم فقط لا يقل أنها العروس، بل شخصـًا مار مندهـش من لهفة الحبيبين للأجتمـاع سويــًا ..
    هتفت أخيـرًا بهمس مصدوم :
    _ هو مين ده الي كتب كتابه بكرة !
    رفـع عبدالرحمن كتفيـه ببساطـة، ثم أجابهـا ببـراءة :
    _ احنا طبعا، هايكون مين يعني لو مامتك متجوزة ومخلفة بنوته زيك كدة
    ضحكـت بسخريـة مريـرة، ثم راحـت تتخيـل الفكرة في رأسها لدقيقتـان، في الغد ستتـوج امام الجميـع ملكة لعرش قلبه، الخبـر الصادم وكأنه اوقف عقلها عن التفكيـر، كادت تتفـوه بشيئً اخـر، حتي قاطعهـا عبدالرحمن مشيـرًا بيده بمعني كفـي، ثم استطـرد بعـزم :
    _ استأذنكوا انا بقا هأروح اقول لأهلي واجهز نفسي عشان بكرة، وانتم اعزموا الاقـارب في الاقارب بس
    غمـز لرضوى بطرف عينـاه ليذكرها بما اتفقـوا عليه لتبتسم هي بخجل ثم استدار وغادر علي عقبيـه في لحظات تاركًا نبيلة تلعـن ذاك اليوم الذى اجبرت رضوى علي الزواج فيـه، وتلعن ذاك الذى يدعي عبدالرحمن الذى كان كالحشـرة الصغيرة التي دخلت بين بناءها الذى بنتـه منذ سنوات ليدمـره في وقت قياسي، بينما استطـاعت اخيـرًا رضوى الخـروج من صدمتهـا بصعوبة، لتقول بجدية :
    _ بصي بقا يا طنط نبيلة، انا مش واطية للدرجة عشان اقولك ده ورثي وبيتي والشغل ده
    هـز رأسـها نافيـة ثم اكملت بسخرية :
    _ انا مش هاتكلم ف الموضوع ده تاني بما انك امي التانية يعني
    وعادت للجديـة وبعض الحدة مرة اخرى قائلـة :
    _ بس مش هاسمح لحد يهني ويذلني كل شوية زى الاول
    رفـعت نبيلة حاجبـها الأيسـر بغيظ، ثم اردفـت بنبـرة متهكمـة :
    _ لا كتر خيـرك بصراحة يعني
    مطـت شفتيـها بسخرية ثم نظـرت لها بطرف عينيها، تشفـي غليل كل الذى فعلته بها سابقًا، ترمم الحصـون بداخلها وتستعيـد قوتهـا، ومن اجل شيئ واحد .. المواجهة .
    **********
    للحظـات شعـرت أنها تتخيـل، او ربمـا من كثـرة فرحتهـا تهيـأت انه يطلب منها الزواج وبسرعـة، كانت تنظـر له ببلاهة، كالطفل الصغيـر الذى إندهـش من احدى الهدايا الثمينـة التي جلبها له والـده، وكان احمد يتمعـن النظـر لها ليستشف رد فعلهـا، والذى كان متأكـد منه بشتي الطرق، نطقـت اخيـرًا لتقطـع الصمت قائلة بخفـوت :
    _ نتجـوز، من غير ما يعرفوا يا احمد !
    اومـأ احمد مؤكدًا بهـدوء، ثم قال بجدية مقنعـة :
    _ ايوة يا مها نتجوز، انتِ متأكدة ان رد فعل والدتك مش هايعجبك بس بتكابرى
    شـردت قليلاً في اخر صورة لوالدتها لها، ثم تنهـدت بقـوة، وكانت هذه اجابتهـا التي حثتـه علي الكلام اكثر، ليكمل بهدوء :
    _ مها احنا كدة كدة لازم نرجـع لبعض عشان ابننا قبل اى حاجة، بس الفرق الي هايحصل ان هيبقي عادى تبقي قاعدة في بيتي لحد ما والدتك تسامحك، وحتي لو رفضت رجوعك يبقي ليكي ملجـأ
    أغمضـت عينـيها بقوة لتغطـي تلك الصورة التي ظهـرت في مخيلتها لكل ما مـر سابقـًا في حياتها مع والدتهـا، ثم همست بحيرة :
    _ بس موقفي هيبقي اصعب كدة يا احمد، لما تعرف اني اتجوزت من غير ما ارجع لها
    هـز رأسـه نافيـًا، ثم اجابهـا مسرعًا :
    _ لا خالص، احنا هانقنعها، لكن تقدرى تقوليلي لو طردتك مثلاً هتعملي اية
    عـادت بظهـرها للخـلف بتنهيـدة قوية، كل مرة تشعر ان الحمل يزداد عليهـا، كانت تجهل أنها تحصـد الان ما جنتـه سابقًا، اومـأت بشـرود وهي تتشدق بــ :
    _ ماشي يا احمد، خليني وراك عشان انا واثقة فيك جدًا يعني
    اومـأ بأبتسامة هادئـة زينـت ثغـره، ثم إلتقط كفيها بين كفيـه، واستطـرد بثقـة :
    _ واوعدك انك مش هاتندمى ابدًا يا ام سيف
    ابتسمـت مها ابتسامة حزينـة لذكر ذاك الجـزء الذى تفتقـده بداخله، تشعر ان بنـاء حياتها ينقصَه جزء واهم جزء، ابعدت يدهـا برفق وقد شعرت بالحرج قليلاً وكأنه شخص لأول وهلة تتعامل معه، ليبتسم احمد ليدارى حرجـه، ثم قال حازمـًا :
    _ طب يلا قومـي نروح للمأذون الوقتي
    إندهـشت قليلاً، ولكن تداركت نفسها سريعـًا، وكأنها اعتادت منه علي المفاجأت، لتقـول متساءلة بجدية :
    _ نروح دلوقت يا احمد ازاى !
    رفـع اكتافـه بهدوء ثم قال ببساطة :
    _ عادى زى اى اتنين بيتجوزوا
    ابتسـمت بهدوء ولأول مرة تشعر انها سعيدة بهذا الاجبار الذى فرضه عليها، نهض ثم امسك بيدها متجهًا للخارج دون كلمة اخرى وكأنها استنفـذت كل محاولات الصبر لديـه، واغلق الباب خلفهم، ثم ركبـوا السيارة الخاصة به متجهيـن للمأذون، للمفتـاح الخاص بجنتهم فقط !!
    *********
    كـان عمر ممدد علي الفـراش الوتير الناعم الخاص بهم، يستـريـح علي بطنـه، جسـده ممدد بجوار شهد ولكن عقله منشغل بالتفكير، ويضع يداه اسفل ذقنـه وينظر امامه ليطالع الخشب البنـي، من يراه يعتقـد انه يتأمل ذاك الخشب، وشهد تجلس بجواره تعض شفتهـا السفلية بضيق وغيظ مكبـوت، فضولها يقتلها، كالآفـات التي تنتشـر في النباتـات تكاد تبيدهـا، تنظر له كل دقيقة منتظرة منه ان يلتفت ويخبرها بكل ما يشغل تفكيـره ويسيطر عليه هكذا، هتفت بنفاذ صبر وهي تهـزه :
    _ يووه يا عمر مش ناوى تقولي بقا
    نظر لها بطرف عينـه وسألها بعدم فهم مصطنـع :
    _ اقولك اية يا شهدى ؟
    جـزت علي اسنانها بغيظ لتيقنـها انه يفهم مقصدها جيدًا، ولكنه يلعب علي اوتارها الحساسـه بمـزاج رائق علي الرغم من شعور الضيق الشديد الذى يجتاحه، عادت تسأله مرة اخرى بغيظ :
    _ مش ناوى تقولي ع الي شاغل عقلك، والي مخلتنيش انزل اسمعه تحت
    إلتفت لها عمـر اخيرًا بكامل جسـده، لتشهق من هيئتـه العريضة والتفاتته فجأة، ثم قال بهـدوء غامض :
    _ انا قلقـان يا شهدى
    قطبـت جبينها بعدم فهم، ثم سألته بفضول :
    _ قلقان من اية يا عمر ؟
    اجابها بصوت قاتم فور سؤالها :
    _ بصراحة مش حاسس ان الي بينهم مجرد علاقة غرامية، عشان كدة قصدت اقول ادام الكل عشان اشوف رد فعله
    لوهلـة لم تفهم ما يقولـه، وكأنه يضع امامها الكثير من العقبـات عن عمد حتي لا تصل لما هو فيه الان، سمع صوت انفاسهـا فقط، ليكمل بتوضيـح :
    _ حاسس إن مش بعيد نادى يكون مع فارس وحاتم
    شهقت شهد بصدمة، ووضعت يدها علي فاهها لتمنع صدور الصوت العالي، فـك الالغاز امامها جعلها تُصعق من الحقيقة، لم تتخيل يومًا ما يقولـه، ولكنها اعتادت مؤخرًا علي كثرة الصدمـات، استطاعت فك عقدة لسانها وهي تهمس بدهشة :
    _ ازاى يا عمر، ازاى مستحيييل
    رفـع اكتافـه بلامبالاة مصطنعـة، استطاع بمهارة رسم البرود بالرغم من الفتيـل الذى اشتعل بداخله، لسمعه اخته اولاً ثم خداعـه، فتابع ببـرود ظاهرى :
    _ معرفش بقا ازاى، بس الي اعرفه انهم مايقدروش يعملوا لي حاجة اصلاً
    تنهـدت بقـوة ثم راحت تستفسر بحيرة :
    _ هاتعمل اية يعني يا عمر
    نهض فجـأة ليجذبها له جعلها تتسطح علي الفـراش وهي تشهق من حركته الفجائيـة، ثم نظـر لعينـاها البنيـة التي تذيب جليده في دقائق معدودة، عيناها التي تعد كالمقر يستمد منها قوتـه، لفحت انفاسه بشرتها البيضـاء، سمع بدقة صوت انفاسها المضطربـة، اقترب اكثر حتي سند جبينـه علي جبينها، ثم اردف بخبث قائلاً :
    _ تعالي اشرحلك هاعمل اية بالتفصيل الممل يا حبيبتي
    توردت وجنتاها كالـوردة الحمراء من الخجـل، وارغمتها عينـاها المشتاقة علي النظر لعينـاه السوداء العميقة التي تجذبها كل مرة اكثر من قبل لتكتشف فيها اكثر، وكأنها العالمـة في بحر عينـيه العميقتين، إلتفهم شفتـاها ينـل منهم الشهـد، وعبثت يداه لا اراديـًا بقيمصها الوردى، ليثبت لها في عالمهم مدى عشقه الذى يزداد مع كل ثانية تزداد من عمرهـم
    **********
    كـان الغيـظ والغضـب يتطايـر من عينـاه الحقـودة كالهواء من حولـه، وكأنه اصبح جزء اساسي من حياته لا يستطيع التعايش من دونـه، يقف بهيئتـه المعتادة، وملابسـه الرزيـنة وأنفـه المرفوعـة، وسيجارة الفاخرة بين اصابعه السمراء، يدخن بشراهـة وهو يحملق بالرجل مفتول العضلات الذى يقف امامه يمسك بأحدى الأسلحة، علي ما يبـدو من هيئتـه انه " قنـاص " ، لا يكل ولا يمل من محاولات قتل عمر، وكأنه كلما استنفذ الفرص انتظر مرة اخرى حتي يحصل علي فرص اخرى، حقده الغير متناهي علي عمر يزداد اكثر،
    هتف بنبرة تشبه فحيح الافعي :
    _ عايزك تنفذ في اقرب وقت وانا كتبتلك العنوان في ورقة هتاخدها وانت طالع
    اومـأ الرجـل بهدوء، ثم قال بخبث :
    _ بس يعني دى هتبقي جريمة قتل يا باشا
    نظـر له بحـدة، ثم ابعد السيجارة عن فمه ونفخ في وجهه وهو يقول بضيق :
    _ ما انت هتاخد الفلوس الي هتعوضك، ده لو اتمسكت يعني
    نظـر له بغموض ثم سأله بفضـول يقتله :
    _ بس لية يعني عايزها ف القلب، يعني عايز تموتـه لية يا باشا
    اشـار بيـده في وجهه محذرًا، ثم اردف بوعيـد وشراسـة :
    _ ملكش دعوة، انت اخرس واعمي واطرش، بتنفذ الي اقول عليه بس
    اومـأ الاخر بهدوء ثم مط شفتيه بعدم رضا، ثم قال بأمتعاض :
    _ حاضر يا باشا حاضر بس اهدى انت كدة
    عـاد يدخـن وهو ينظر امامه، ثم نظر له مرة اخرى بطرف عينـه وهو يستطرد بسخرية :
    _ ولا مش هتعرف انت كمان وهضيع وقت وفرص علي الفاضي
    هـز رأسـه نافيـًا، ثم رفع رأسه بغرور وهو يجيبـه بثقة زائـدة :
    _ عيب عليك الي بتقوله ده يا فارس بيه 


    الفصـل السابـع والخمسـون : 

    كـانـت مسطحـة علي الفراش بجـواره، تضع رأسهـا علي صـدره تستمع لدقـات قلبه العاليـة كالطبول التي تعلـن بــدأ الحـرب، تكبـل خصره بيدها وكأنها تتأكد انه لن يهـرب من بين يديهـا، ويضـع هو ذقنه علي اعلي رأسها، يستنشق من عبير شعرها الذهبـي بإستمتـاع، ومازال عقله منشغل بالتفكيـر، كأنه قد عاهد نفسه أن لا يتـركه من دون أن يشغلـه بتلك الأفكـار، تنـهد عمر تنهيـدة حارة طويلة وعميقة، قبل أن يهمـس بحـروف تعشق مخارجـها منه :
    _ شــهــدى
    رفعـت رأسها قليلاً لتقابل عينـاه السـوداء، تلك الغابـة خاصتها الغامضـة، ثم أجابتـه بهمهمة :
    _ امممم، اية يا حبيبي
    ظـل يتمعق النظر لتلك العينـان التي يعشقها، ثم قال متساءلاً بتوجـس :
    _ هو انتِ ممكن تبعدى عني ف يوم ؟
    إتسعـت حدقتـا عينـاها بصدمة، وصمتت لثوانٍ تستوعب سبب قوله المفاجئ، واخيـرًا إستطاعت الـرد بدهشة قائلة :
    _ لا طبعا يا عمر، لية بتقول كدة فجأة
    هـز رأسـه نافيًا وإرتسـم علي ثغـره ابتسامة مزيفـة، ثم تـابـع بخفـوت :
    _ لأ مفيش حبيت اسألـك
    ظلت تنظـر له لثوانٍ اخرى دون ظهور اى رد فعل، ثم قابلته بنفس السؤال قائلة :
    _ انت الي مش هاتبعد عني صح ؟
    هـز رأسـه نافيـًا ثم قـال مسـرعًا :
    _ مستحيل يبعدني عنك غير حاجة واحدة
    إبتلعت ريقهـا بإزدراء وهي تسأله بخوف :
    _ حاجة اية دى يا عمر ؟
    أحتضنهـا بقـوة متشبثـــًا بها، وكأنه يثبت لها بالفعل ايضًا، ووضـع وجههـا بجوار رقبتهـا، يأخذ الأكسجيـن من عبيرهـا، ثم غمغم بصوت قــاتــم :
    _ المـــوت بس
    صـدرت منها شهقــة مكتومـة بصدمة، وبحركة مباغتـه وضعت يدهـا علي فاهه تمنعـه من إكمال جملته وهي تقول بحزن :
    _ بعيد الشر، انا مش متخيلة الحياة من غيرك يا عمر، انت حبيبي وصاحبي واخويا وجوزى وابو ابني
    شعـرت بالإبتسـامـة تتسلل لثغره تحت يـدها، لتبعـد يدها برفق وقد تلقلقت الدمـوع في عينـيها البنيـة، لتعطيها ملمـع المـاسة الجديـدة الغاليـة، ولمـا لا !
    فهي ماستـه هو.. خاصته هو، أستطـرد بأبتسامة هادئـة :
    _ محدش يقدر يقف في وش القدر يا شهدى
    قطبـت جبـينهـا بضيق، ليعطيها مظهر طفولي جذاب، وكأنـه جعلها تفقـد سيطرتهـا وتحكمها في نفسهـا بجملته الغامضة، لتكمل ببعض الحدة قائلة :
    _ عمر، انت لية النهاردة بتتكلم بالطريقة دى، بتضايقنـي علي فكرة
    مسـح علي خصلاتـها التي تناثـرت علي جبينها اثـر إنفعالها، وكأنـه يروض القطـة الشرسـة التي ظهـرت لدقيقة، ثم اردف بهدوء حذر بجوار اذنهـا :
    _ انا اسف يا حبيبتي، بس فعلاً الموت ده حق، ومحدش يقدر يهرب منه
    لم تبـدى اى رد فعـل، دوى صوت أنفاسهـا المختنقـة فقط، وبدأ الحـزن يتسلل بين احباله الصوتيـه ليتمعق نبـرته الرجولية، ليكمـل قائلاً :
    _ حتي لو جرالي حاجة يا شهدى، هافضل معاكِ دايمًا، بس هنـا
    قـال اخـر كلماتـه وهو يشير بإصبعه لقلبهـا الذى بـدأ يـدق بصخب، يبدى اعتراضه علي كلمات حاكمـة الهادئـة، ولكنها تقـع عليه جامـدة قاسيـة، نهرتـه شهد بحنق :
    _ بعيد الشر، اسكت بقا والله انا هيجرالي حاجة لو انت جرالك حاجة
    كـاد يتفـوه بشيئً اخر، حتي قاطعته وهي تضع يدها علي فاهه قائلة بجدية لا تقبل النقاش يشوبها الأمـر :
    _ خلاص، بإذن الله هانربي ابننا سوا، وهانفضل مع بعض لحد اخر نفس مع بعض بردو
    اومـأ بهـدوء ولم يعترض، ولكن بداخله يجهـل معرفة سبب هذا الكلام الان، ولأول مرة يشعر أنه يخشي الموت بهذه الدرجة، لم يكن هذا عمر الذى كان كالجثمان الهامد بلا روح، لا يشعر .. لا يخاف .. لا يحزن، ولكنها بثت فيه الـروح، والان يخشي الموت، يخشي تركها وطفله وحيدة بين براثـن الذئاب التي تنتظر هذه اللحظة منذ آمــد بعيـد، أفـاق من شـروده علي صوت شهد المتساءل بحيـرة :
    _ لكن قولي بقا يا عمر
    رفـع حاجبه الأيسـر، وهتف مشاكسًا :
    _ وانا اقولك يا عمر لية، انتِ اسمك شهد
    ضحكـت شهد بخفة علي جملته التي استشفت منها انه يحاول تلطيف الاجواء التي عكرها منذ دقائق، لتسأله مرة اخرى :
    _ بجد بجد، انت هتقول اية لخالو ؟
    صمت بجديـة مفكرًا، هو نفسـه لا يعرف ٱجابة حتي الان لسؤالها، ولكنه قـال وقد عاوده ذاك الغموض :
    _ مش عارف، بس اعتقد كدة اه
    أبتسـمت شهد ولم تعقـب، اكتفت بإحتضانـه بقوة، لتثبت لنفسها أن كل ما قاله ما هو إلا تهـيئـات نفسية فقط، ها هو بين يديها الان ولن يحدث اى شيئ .
    ********
    دخـل بهدوء الي المنـزل، يـرى كل الأجـواء امامـه سعيدة هادئـة، تتطايـر امامه عصافيـر الحب لتخبـره أن يسـرع ويسرع ليركض لمعشوقتـه الوحيـدة، كانت الإبتسامة الحالمة تـزين ثغره، لتعطيـه مظهر رجولي جـذاب، جسده في المنزل ولكن قلبـه تركـه لديها يستمتع بقربـها، وجد والدتـه تجلس علي الأريكة، ملامحها لا تبشر بالخيـر ابدًا، تضع وجهها بين راحتيهـا، تدب علي السجـاد الكبير المفروش علي الأرضيـة بقوة، وكأنه صُنـع ليتحمل غضبها فقط !!
    أقتـرب منها ليجلس بجوارها بهدوء، ثم تنحنح قائلاً :
    _ اية يا حبيبتي عاملة اية ؟
    رفعـت رأسها ببطئ لتقابلـه عيناها الغاضبـة، تصنـع عدم الفهم وهو يقول :
    _ مالك يا أمي في اية ؟
    كان وجهها خالي التعبير وهي تجيبه بصوت قاتم :
    _ معرفش، انت شايف اية !؟
    رفـع أكتافـه بعدم فهم مصطـنع، لتقول هي بتساؤل حـاد :
    _ كنت فين يا عبدالرحمن ؟
    عقـد حاجبيـه بضيق، ثم قال متعجبًا الي حدًا ما :
    _ اول مرة تسأليني السؤال ده يا امي يعني، في اية ؟
    جـزت علي اسنانها بغيظ، ثم استطردت ببعض الحـدة :
    _ رد علي سؤالي، كنت فين يا عبدالرحمن
    لم تعطـيه الفرصة للـرد، وتابعت بغيظ :
    _ كنت عندها صح، كنت عند الي ماتتسمي حتي بعد الي حكيته لى عن اختهـا
    زفـر عبدالرحمن بضيق وهو يغـرز اصابعه السمراء في شعره الأسـود حتي كاد يقتلعه من شدة الغيظ، ثم أجابها ببرود :
    _ ايوة كنت عندها، ولو سمحتي ماتخلنيش اندم انى حكيت ليكِ
    هـزت رأسها وقالت بسخريـة :
    _ ايوة قولتلي امبارح، والموضوع قرب يكمل اسبوعين !
    شعر انهـا تستنفـذ كل فرص صبـره عن عمد، لتستطع فعل ما تريـده، دون أن تضطر لمواجهة ذاك القنـاع البارد الذى يرتديه وقت ما يشـاء، اردف منهيـًا الحوار :
    _ معلش هبقي احكى ليكِ دايمًا اول بأول بعد كدة يا حبيبتي
    نهضـت وهي تشيـر له متابعة بصوت آمر :
    _ خليك عارف إني مستحيل أناسب واحدة زى دى يا عبدالرحمن
    بالفعـل نفذ صبـره، نهض هو الاخر، ليصيح بغضب هـادر قائلاً :
    _ يووه، وهي ماقالتش كدة لية وهي عارفة إنها هاتتجوز واحد عنده مرض نفسي، ولا حلال لينا وحرام ليهم
    عقـدت ساعديها بلامبالاة من حديثه الذى لم يهز شعره واحدة لديها، لتقول ببرود :
    _ مليش فيه، انت مش مجرم لكن اختها مجرمة
    صـرخ فيها بنفـاذ صبـر :
    _ قولتلك برييييئة بريييئة يا امي افهمي
    إحتقـن وجهها بغضب، وإتسعت عينـاها بصدمة وغضب معًا، سـارت متجهة لغرفتها وهي تتشـدق بــ :
    _ انت مش عارف حاجة، انا عارفة مصلحتك فين انا امك
    سـار متجهًا للخـارج وهو يتمتم بغضب :
    _ خليكِ عارفة إني بكرة هاخد بابا واروح اكتب علي رضوى، انا كبير كفاية انى احدد انا عايز اكمل حياتى مع مين
    ثبتت اقدامها بالأرض بصدمة باتت واضحة علي ملامحها الصارمة، لم تتخيل أن ولدها الوحيد سيفعل ما يرغب به وإن كان ضد رغبتهـا !!
    ما إن افاقـت من صدمتها حتي ادركت أنه خرج من المنزل تاركًا اياها تتخبط بأفكارها وتنصب خيوطها اينما ارادت كالعنكبوت لتوقـع الفريسة في شباكها .
    ***********
    خـرجـوا من مكتب المـأذون، فرحـين مهللين، وقد أتمـوا زواجهم للمرة الثانيـة، ولكن هذه المرة بمشاعر مختلفة متبادلة من الطرفين، ووعود مختلفـة، بعقـد قد عاهدوا انفسهم أن يكون هو القفـص الذى سيحمي عصافيـر الحب، الذى سيمنعهم من ان ينفـرد كلاً منهم بحاله يومًا ما، ايديهم متشابكة بقوة، كعلامة علي اتحادهم، اتحاد حبهم لأنفسهم ولطفلهم، اتحادهم الأبــدى .. !
    قطعـت مها الصمت قائلة بسعادة :
    _ اول مرة أحس إني مبسوطة اوى كدة يا احمد بجد
    أبتسـم احمد بسعادة مماثلة، كومـة سعادتها الحالمة لا تقل شبرًا واحدًا عن سعادتـه بأستعادة زوجتـه التي فرقها الزمن عنه، أجابـه والفـرح يشع من عيناه :
    _ مش اكتر منى، ربنا يخليكِ ليا يا حبيبتي
    تنهـدت بهدوء، وراحت تفكـر في البذرة التي تجمع زهورهم سويًا، طفلهم الوحيد، ذاك الذى يذكرها أنه خُلق ليجمع بينهم دائمًا " سيـف " ، كم اشتاقت له حقًا، عادت تسألـه بهدوء حذر :
    _ هانروح نجيب سيف دلوقتي ؟
    صمت لثـوانٍ يفكـر، ثم قـال بصوت أجش :
    _ اكيد، مش هانسيبه بعيد عننا لحظة
    اومـأت بتأكيـد، قبل أن يسألها هو هذه المرة بنصف عيـن :
    _ لكن انتِ هتواجهي والدتك ايًا كان رد فعلها يا مها ؟
    اومـأت مؤكدة وهي تقـول بنبرات كساها الحزن والنـدم :
    _ ايوة لازم، أمي عاملة زى، موجه جت علينا انا وهي، خلتنا مابقناش عارفين احنا بنعمل اية، ولا مدركين احنا اد اية بنأذى ناس احنا ممكن نكون بنحبهم اوى
    صمتت لبرهـه، لتتـابع بنفس النبرة وبحزم :
    _ ماما محتاجة حاجة تفوقها من الي هي فيه، زى ما السجن فوقني، وكأن ربنا قرر يعفوا عني ويديني فرصة تانية
    واخيـرًا من دون قصـد اكدت له مرة اخرى انها تغيـرت للأفضـل، تغيرت ولن تعاود ذاك الطريق ابدًا ..
    قطـعت شروده وهي تقول بحماس :
    _ طب مد بقاا عشان بصراحة جعانة نروح ناكل، ونروح عشان نشوف سيف
    اومـأ مؤيـدًا بأبتسامة، ثم غمغم بحب :
    _ حبيبتي تؤمـر وانا أنــفــذ
    بعد دقائق وصـلوا امام السيـارة الخاصة بأحمد، وركبــوا بهدوء، متجهين للمنزل .
    ***********
    كـانت مـريم في غرفتـها في منزل عمـر، تسيـر في غرفتهـا ذهَابًا وايابًا، تفـرك اصابعها بتوتـر، عقلها منشغل في التفكير بالكثيـر من الأفكـار السيئة، واولهم أن عمر من سابـع المستحيلات كما يقولون أن يوافق علي ارتباطهـا، هـزت رأسها نافيـة وهي تحاول اقناع نفسها أن عمر يحبها اكثـر من شقيقـة، فهذا يعد من المستحيل أن يدمـر سعادتها بكل بساطة، هـزت رأسها تقنـع نفسها وهي تهتف بصوت ظنتـه في خواطرها فقط :
    _ ايوة عمر مش هايعمل فيا كدة
    رن هاتفهـا معلنًا عن إتصـال، أقتربت بسرعة والتقطته من الفراش، ثم اجابت بلهفـة قائلة :
    _ الووو نادى
    _ ايوة يا مريم، كيفك وكيف الدنيا عنديكي ؟
    _ تمام تمام، انت الي قولي اخبار الدنيا عندك
    _ لحد دلوجيتي ماعرفشي حاجة، بس انا مستبشـر خير
    _ وعمر، عمر عامل اية يا نادى ؟
    _ تمام، جال لأبـوى انه عايفكر في طلب يده للجواز منيكي
    _ ياارب يوافق يا نادى
    _ يارب يا جـلب نــادى
    _ بالرغم من إني مكنتش عايزة عمر يعرف بالطريقة دى
    _ امال كيف كنتِ عايزة يا مريم ؟
    _ كنت اتمنى انى انا احكى له، وميكتشفش هو فجأة من شك، لكن القدر دايمًا بيعاندنى كدة
    _ معلشي يا حبيبتي
    _ تمام، لو حصلت حاجة تاني عرفني
    _ حاضر يا مريم
    _ باى
    _ مع السلامة، خلي بالك من نفسك

    أغلقـت وهي تتنهـد بضيق اجتاحهـا وبشدة، فهي حقًا لم ترغب بذلك التطور السيئ، ولكن ما باليـد حيـلة .
    ***********
    كانت رضوى مسطحـة علي فراشهـا بجوار " سيـف " تحتضنـه بحنان وهي تربـت علي شعره الكثيـف، تغمره بحنانها وهي تجهل السبب، ولكن ربما لأنها ارادت ان تجد ذلك الحنان يومـًا، وها هي وجدتـه، اخيرًا ابتسم لها القـدر وقرر أن يوهبها بعض السعـادة لتتذوق طعمها الذى اطال غيابه عن مذاقهـا، تنهـدت تنهيدة حارة وهي تتذكر اختهـا، لم تستطع زيارتهـا منذ اخر مرة، لا تعرف عنها اى شيئ، تشعر بالذنب تجاهها، ولكن الحيـاة شغلتها عن تلك الزيارات، ولكنها ستزورها بالتأكيـد .. !
    تململ سيـف في الفراش، ورفع ناظريـه لرضوى متساءلاً بحزن طفولي :
    _ خالتوو رضوى، هي فين ماما ؟
    أصـاب سهم كلماته البسيطة مقتل، شعرت بوغـزة مؤلمة في قلبها، هي تقدر شعوره الان، ابتعادها عن والدتها كان فوق احتمالها هي، ما ادراك شعور ذاك الطفل !!
    رسمت علي ثغرها ابتسامة مزيفة، ثم اجابتـه بهدوء :
    _ ماما مسافرة وزمانها جاية يا حبيبي
    همس بإختنـاق وهو يزم شفتيـه بعدم رضا:
    _ ماما مش بتحبني يا خالتو صح ؟
    شهقـت بصوت مكتوم وهي تهز رأسها نافيـة، ثم قالت مسرعة :
    _ لا لا يا حبيبي، بتحبك جدًا، زمانها جاية
    اومَأ سيف بحزن طفولي واستند بأكمله علي ذراع رضوى، وراح في سبات عميق، بينما كانت رضوى تتخيل حياتها مع عبدالرحمن، مؤكد ستكون اسعد انسانة، ولما لا، فهي ستصبح زوجتـه .. ملكته .. لن يستطع اى شخص ابعادهم عن بعض .
    سمعت طرقـات هادئة علي الباب، علمت انها والدتها فأذنت لها بالدخول، دلفت والدتها والضيق بادى علي محياها، نهضت رضوى بهدوء، بينما اقتـربت منها والدتها قائلة بحنــق :
    _ عملتي الي فـ دماغك، لكن انا سيباكِ بمزاجى انا هاا
    اومـأت رضوى بلامبالاة وهي تنظر للجهة الاخرى، في حين اكملت " نبيلة " بغيظ :
    _ لكن انا لو مش عايزاكم تتجوزا محدش هايمنعني خالص
    مطت رضوى شفتيهـا بأعتراض، ثم تمتمت بأمتعاض :
    _ كتر خيرك بصراحة
    استـدارت واولتها ظهرهـا لتتجه للخارج، وهي تقـول بتوعـد شـرس :
    _ بس مترجعيش تندمي بقااا
    توجسـت رضوى، وسألتها بقلق :
    _ قصدك اية يعني ؟
    رفعت اكتافها بلامبالاة، ثم ابتسمت ابتسامة خبيثة وهي تقول :
    _ معرفش، انا بأحذرك بس
    *************
    كـان عمر بالأسفـل، يقف بهدوء، بهيئتـه الرجولية الثابتـه، وقد ارتدى ملابسه استعدادًا للخروج، والتي كانت عبارة عن قميص من اللون الأخضر الغامق، وبنطلون بنـي جينـز، ويضع العطر المفضل، زادتـه ملامحه الهادئة جذب ووسامة، فيما كانت شهد متأبطـة ذراعـه والإبتسامة علي ثغرهـا الأبيض، ترتدى فستـان أحمر ذو اكمام طويل، مطرز عند منطقة الصـدر، رقيق وهادئ بشكل يجذب الانظار، وتصفف شعرها الذهبي تاركة اياه ينسدل علي ظهرها، ليصل اخر ظهـرها، كانوا كالزوجين الذين يقضـون شهر عسلهم، من يراهم ربما يحسدهم دون قصد، كانوا بأنتظار قدوم اى شخص ليخبروه، أتـي خالهم بخطواته الواثقـة، لترتسم الابتسامة علي ثغره ويهتف بتساؤل :
    _ رايحين فين يا عرسـان إكدة ؟
    اجابـه عمر بأبتسامة و بهدوء :
    _ رايحين ناكل برة يا خال
    اومـأ خالهم موافقًا، ثم قال بحنـان :
    _ ربنا يهنيكم يا ولادى
    ردد كلاً منهم بسعادة " آمييييين "
    استـداروا متجهيـن للخارج، بخطي هادئة، حتي وصلوا امام سيارة عمر، لتركـب شهد بهدوء وعمر امامها حتي يتأكد من عدم تكرار ما حدث، اغلق الباب واستدار ليركـب من الجهة المعاكسة، ولكن فجـأة، دوى صوت الطلق النـارى، واخترقت الرصاصة جسـده دون رحمة و......... 

    الفصل الثامن والخمسون : 

    تقف كالصـنم تمامًا محدقة بعمر الذى سقـط ارضًا يتـأوه من الألـم، حدقتـيها متسعتيـن بصدمة وفاغرةً شفتيهـا التب ترتجف بخوف، وتبلد جسدها، عينـاها توحى ببشاعة الصدمة التي رأتهـا، وكأن الزمـن توقـف عند هذه النقطـة، سـارت سفينـة ايامهم السعيدة عكس ريـاح السعادة لتُدمر وتغـرق فجـأةً !! 
    صمت .. صدمة .. سكـون، وأطلقـت صرخـة مدويـة خرجـت من أعماقها المتألمة، تحول سكونها لهيستريـا مرتجفة وهي تركض نحـوه ثم جثـت علي ركبتيـها تضرب وجنته بخفة وهي تقول بشهقـات متتالية :
    _ لا عمر لا اوعـّ اوعى تسيبني، عمر قـ قوم
    هبطـت دموعها من عينيها اللؤلؤية، ليشعر بسخونتها علي بشرتـه، اخـذ يتمعن النظر لبحر عينيها العميق، يتنفـس بصعوبـة شديدة، ملابسـه مغطـاه بدماؤوه، وخاصةً عند منطقة " القلب " ، هتف بوهـن وهو يكاد يغلق عينيـه :
    _ شـ شـهـدى، انـا آآ بأحبـك اوى
    هـزت رأسـها نافيـة بهيستريـا، وهي ترى عينــاه الحمراوتيـن تغلقـان، هزتـه كأنه تنهـره علي شيئ ما بصراخ :
    _ لا لا انت مش هاتسيبني، يااااااارب
    في نفـس اللحظـات كان الجميـع من حولهـا، ألجمت الصدمة لسان الجميع واولهم خالهـا الذى صُعـق من مظهر عمر، وافـاق من صدمتـه سريعًا قائلاً لمحسن بصوت آمـر :
    _ اطلب الاسعاف بسررررعة
    شهـقت زوجة خالهم بصدمة وحزن مرددة بجـزع :
    _ يا حبيبي يابني، ربنا يقومك بالسلامة
    ركـض محسن مهرولاً للداخـل، بينما كانت شهد محتضنـاه وتبكـي بقوة ونـواح، جـزء من داخلهـا يكاد يهرب من بين يديها للأبـد، لم تـراه ضعيف هكذا من قبل، وكأن لسانها يردد دون إرادة منها بتصميم :
    _ لأ انت هاتعيش وهانربي ابننا سوا
    جاء محسن بسرعة وهو يلهث ثم قال :
    _ اتصلت وخبرتهم، بس رأيى انهم ممكن يتأخروا، احنا ممكن ناخده بالعربية علي اجرب مستشفي احسن
    اتكئ بجزعـه قليلاً للأسفل ووضع يده بجـوار رقبة عمر ليستشف إن كان علي قيد الحياة ام لا، ثم نظر لهم قائلاً ببعض من الأرتيـاح :
    _ لسة عايش الحمدلله بس النبض ضعيف
    اومـأ الخـال، ثم اقتـرب كلاً من محسن ونادى وحملوا عمر برفـق ثم وضعـوه في الكرسي الخلفي للسيارة، وشهد خلفهم ركبت لتضع رأس عمر علي فخذيهـا، وركبوا هم وانطلق محسن لأقـرب مستشفي، يتبعهم خالهـم في السيارة الاخـرى علي عجلة من امرهـم .
    **********
    وسط اربعـة جدران، سجن قديـم هش، يجلس هو علي الأرضية، يضم ركبتيـه الي صدره، شـارد الذهـن، ووجهه واجـم، طال شعـره الكثيف الأسود، وظهرت ذقنـه لتعطيـه شكل مثيـر للشفقـة، عينـاه محدقة بالفـراغ، وعقله يذكـره بكل ما فعلـه في حياتـه، صورته وهو يكذب علي الفتيـات ويخدعهن ويأخذ منهم كل ما يملكن تجسدت امامه صور شربه للخمر، الزنـا، النصب، واخيرًا.. اغتصـاب شقيقته وقتله لمحمود، كأن عقلـه تعمد أن يُذكره ليثبت له ان كل ما هو فيه ليس إلا جزاؤوه، يعقاب علي كل ما فعله، حتي حبيبتـه الوحيدة " رضوى " التى احبها لم يستطيع التعبير لها عن حبه الأنانى بصورة طبيعية، حياته كلها مُدمرة تمامًا، شعر بالدوار من كثرة التفكيـر، عينـاه السوداء الهائمة تجعلك تشعر كأنه علي حافة المـوت، ولما لا ؟!
    بالفعل تم الحكم علي " شهـاب " بالأعدام، أبتسم بسخرية مريرة، ثم خفض رأسـه لينظر علي " بدلة الأعدام " الحمراء، اصبح يمقت اللون الاحمر في اخر ايامه، بالرغم من كل ذلك الا انه يشعر ببعض الراحـة، ربما لأنـه سيتلقي عقابه في الدنيـا، ليخفف عنه الله في الاخـرة، تنهـد بقوة وهو يحدث نفسـه بتهكم :
    _ وانت كنت مستنى اية بعد ده كله
    صـمت برهـه ثم أكمل :
    _ كنت مفكر انك بعد ده كله هاتعيش حياتك عادى وهاتتجوز الطاهرة العفيفة وتخلف قطاقيط حلوين !!
    ضحـك بسخرية ولكن بصوت اعلي هذه المرة، ثم مـدد جسده علي الأرضية البـاردة، واغلق جفنيـه عله يمنع تلك الصور التي تتجسد امامه من ملاحقتـه، ثم همس وهو يجبر عيناه علي النوم الذى لم يعرف طعمه منذ ايـام :
    _ سامحنـي يااارب سامحني
    ***********
    كـانـت رضوى تـقف امام المرآة الخاصة بها في غرفتـها، وشعرها البنـي منسدل علي ظهرها، تضـع بعض من الملـع علي شفتيـها المنتكزتين، وكحلت عينيهـا السوداء ليعطيها مظهـر جذاب، بمنامنتها الحمراء التي كانت عبارة عن بنطال ضيق الي حدًا ما والتيشرت النصف كم، تطالع نفسها في المرآة وعينيها تلمعـان بسعـادة شديدة، تهندم نفسها كالعروس لزوجـها، وما المانع إن كان بالفعل ستصبح زوجتـه غدًا، غـدًا .. تتمنى أن تنام وتستيقظ لتجد نفسها في الغد، لأول مرة تتمنى ان يمر الوقت سريعًا، تشعـر بقلبهـا يدق صخبًا كأحدى الحفلات السعيدة تقييم به، بالفعل تشعر انها تحتفـل ويحتفل هو بأنتصـاره الأبـدى، تسللت ابتسامة حالمة لتزيـن ثغرها لتعطيها جاذبية اكثـر، استدارت وإتجهـت للخارج بخطى هادئـة، حتي وجدت " نبيلة " تجلس علي الأريكة بهدوء تشاهد التلفـاز، تنهـدت رضوى بقوة قبل تهتف بهدوء حذر :
    _ طنط نبيلة
    نظـرت لها بطرف عينيها ثم اجابتها بنزق :
    _ اممممم احكى يا حبيبة طنط
    اقتـربت منها رضوى حتي اصبحت امامها تمامًا، لتتفحصها نبيلة بعينيها كالصقـر، لمحت رضوى السخرية في عينيها، وكادت تتفـوه بشيئً ما حتي قاطعتها نبيلة بتهكم واضـح :
    _ اية الي انتِ عاملاه ف نفسك ده، للدرجة دى فرحانة كدة !
    قالت جملتها وهي تشير لها من اعلاها الي امحص قدماها، ربما كانت تخفـي غيظها الذى ان خرج يكاد يأكل اى شخص امامه خلف هذا القنـاع الساخـر، بينما رمقتهـا رضوى بغيظ قبل ان تعقد ساعديها وهي تقول ببـرود ظاهرى :
    _ عاجبني انا يا طنط، واه مبسوطة جدًا
    رفعـت نبيلة كتفيها بلامبالاة ثم قالت بصوت أجش :
    _ مش موضوعنا، انتِ كنتِ عايزة اية ؟
    اقتـربت رضوى تجلس بجوارها، ثم مدت يـدها لتتناول من " اللُب " الذى كان موضوع علي المنضدة، ثم وضعتـه في فاهها قائلة وهي تنظر لنبيلة :
    _ اه صحيح يا حبيبتي، كنت عايزة اسألك انتِ اتصلتي بكل قرايبنا تعزميهم ولا لا ؟
    جـزت نبيلة علي أسنـانها بغيـظ، كلما تذكـرت أن سفينـتها التي جعلتها ترسـو علي شاطئ الحياة بعد عناء، تحركت لتغرق بسهولة هكذا تشعر بالشياطين تتقافـز امامها، أفاقت من شرودها وهي تقول بغيـظ :
    _ اه اتصلـت بيهم
    أبعدت رضوى خصلات شعرها عن عينيها ثم نظرت لها وقالت متساءلة بتأكيد :
    _ وقولتى لخالـو مسعد ؟
    اومـأت نبيلة بهدوء وهي تسخر بداخلها :
    _ خالو مين ان كان انا مش امك
    عادت تسألها رضوى مرة اخرى :
    _ وشهد ؟ ، قولتى لشهد ومحسن ولا قولتى لخالو مسعد بس
    مطـت نبيلة شفتيها بعدم رضا، ثم قالت بلامبالاة :
    _ قولت لمسعد وهو اكيد هيقولهم
    تأففـت رضوى بضيق، ثم قـالت بحنق :
    _ طب ما تقوليله يجيبهم معاه، ولا دول مش ولاد اختـك يعني ولا عشان امهم ماتت، وإن كان ،دول زى ولاده هو علي الاقل !!
    *********
    كـانت شهـد تجـلس علي احدى المقـاعد امام غـرفة العمليـات، تقدم جسدها للأمام وتضع وجهها بين راحتي يدهـا، ولم تستطـع منـع صوت شهقاتها من الصدور، شعرها الذى كام مهندم منذ دقائق اصبح متناثر علي وجههـا الأبيض الذى ازداد احمرار من كثرة البكـاء، وجسدها ينتفض بقوة كلما تذكرت استكانته بين يديهـا، وكان محسـن يقف بجوارها يتبعه " مسعد " ونادى، التـوتـر والصدمة الجامحة يشوبـان المكـان، الاجواء محملة بالخوف وسط بكاء شهد الذى يقطع نياط القلب، اقترب محسن منها يربت علي كتفـها برفق، ثم هتف بخفـوت :
    _ شهد اهدى مينفعشى كدة يا حبيبتي
    ابعـدت يدها ونظـرت له، فوجئ بوجهها الشاحـب، وعينيها الحمراء المبللة بالدموع، وشفتيها الزرقـاء المرتجفتين من الخوف، خفق قلبه بحزن علي زهرته التي كانت متفتحة مسبقًا، لتزمجر هي فيه :
    _ عايزنى اهدى ازاى يا محسن وجوزى بين الحياة والموت جوة
    اطـرق رأسه بأسي، قبل ان يكمل برجاء :
    _ طب علي الاجل عشان خاطر الي في بطنك دِه ملهوشي ذنب
    أغمضـت عينيها بألم واطبقت علي جفنيها بقوة، وآآه من طفلها الذى لم يُولد، جملته لم تصيب المكان الصحيح، جعلتها تشعر انها تفتقـده وبشدة كلما تذكرت ذاك الطفل الذى كان ينتظره بفارغ الصبـر، أصابها بمقتل شعورها ان طفلها سيولد دون أب !!
    لا لا سيصبـح بخير تمامًا ..
    قالت لنفسها هكذا بأصرار وهي تنهض لتقف امام الغرفة، ثم نظـرت من خلف الزجـاج لتجـده جثة هامدة تمامًا، والأطباء يحيطون به من كل الجهات، لم ترى سوى وجهه الذى هـرب الدماء منه، ملست علي هذا الزجاج اللعين الذى يمنعها عن زوجها وحبيبها بإشتيـاق، ولاحت نظرة الحزن والضعف الأفق في عينيها البنيـة، لم تـراه ضعيف ومتهالك هكذا من قبل، ولا تريد أن تراه ابدًا، حتي وإن كان يمارس قوتـه عليهـا، اقترب منها خالها هذه المرة يحاوطها بذراعيه قائلاً بصوت اجش :
    _ حبيبتي انتِ مؤمنة بجضاء ربنا صح
    اومـأت شهد ونظرها معلق بعمر، ليتابع هو بهـدوء قائلاً :
    _ يبجي تدعي له وتهدى إكدة عشان اكيد لو كان معانا دلوجيتي كان هيزعل علي حالك دِه
    حاولت التمالك قـدر المستطـاع وهي تومئ موافقـة، ليقول خالها بتمني :
    خليكِ واثجـة فـ ربنا وهو مش هايخيبك ابدًا
    غمغمت هي بألـم يتملكها مرة اخرى :
    _ كان قلبه حاسس، كان بيتكلم بغرابة الصبح
    صمتت لثوانٍ تتذكر لتنهمر الدموع من لؤلؤتيها مرة اخرى، لتستطرد بلوم لنفسها:
    _ كنت مستغربة كلامه بس دلوقتي فهمت، انا الي غبية عشان مخلتهوش جمبي
    هـز رأسه نافيًا ثم قال مسرعًا بوهن :
    _ ده جضـاء ربنا يا بنيتـي .
    ***********
    وفي الهدوء، كـانوا في احدى المطاعـم الشهيرة الفاخمـة، مكان كبير نظيف علي منضدة متوسطة، تحاوطهم الشموع ويغطيه الضوء الخافـت، مزينـة بشكل مُبهـر، تجلس مها التي لم تختفي الابتسامة من علي ثغرها وهي تضع يدها اسفل ذقنـها، تنظـر لأحمد نظرات سعيدة .. حالمة، وكان احمد يبادلها النظرات العاشقـة، ولكن يشوبها نظرات متأسفة الي حدًا ما، تجهل هي سببهـا ..
    قطـع احمد حديث الأعين وهو يتنحنح قائلاً بهدوء حذر :
    _ اية يا مها كُلي يلا بقا عشان نمشي
    قال ذلك وهو يشير للطعام الموضوع امامهم بتنظيم، لتومئ هى بأبتسامة :
    _ منا باكل، كل انت كمان
    أمسكت بالملعقة لتضع الطعام في فاهها علها تدارى احراجها، سمعت احمد يقول بغمـوض لأول مرة تلحظه في نبرته :
    _ مها هو انتِ لو لاقيتي حاجة ف حياتي متعرفيهاش، هاتفضلي موافقة صح ؟
    رفعت رأسها لتقابل عينيه السوداء، ثم سألته بأستفسار :
    _ ع حسب اية هي الحاجة دى ؟
    تنهـد بقوة قبل أن يترك الملعقة ويقول بصوت قــاتــم :
    _ حاجة كنت هأعملها بس انتِ ظهرتى تاني فجأة ف حياتي
    دق قلبهـا بخـوف، وهددت حصونها بالأنهيـار، لتردف بتوجـس :
    _ ما تقول يا احمد اية دى، لية كل الألغاز دى ف كلامك !؟
    هـز رأسه نافيًا، ثم قال بصوت حازم :
    _ كل حاجة بأوانها احسن
    عقـدت حاجبيهـا بضيق، ما لبث أن مـرت بضع ثوانٍ لتجـد فتاة في العقد الثاني من عمرها، ترتدى بنطال جينـز وتيشرت احمر نصف كم، تصفف شعرها الأسود بشكل منظم، وتضع بعض مساحيق التجميل، تقف امامهم وهي تنظر لأحمد هاتفة بدهشة :
    _ اييية ده احمد انت هنا
    حدقـت بها مها بقـوة، وهمست فاغرةً شفتيها :
    _ انتِ مييين انتِ ؟
    لم تعطيـها الفتاة اى اهتمام، بل ظلت ناظرة لأحمد الذى بدأ الارتباك يهز كيانـه، لتكمل بنزق :
    _ طب ماقولتليش لية كنت جيت معاك
    هب احمد واقفًا بثبات مزيف، ثم إبتلـع احمد ريقـه بإزدراء، ثم همس بقلق :
    _ معلش يا رودينا مرة تانية، روحى انتِ دلوقتي وهانبقي نتكلـم
    اومـأت " رودينـا " موافقة علي مضض، ثم عانقـته بأبتسامة قائلة بصوت مسموع :
    _ Ok , see you soon babe .. Love you so much . ( أراك قريبًا حبيبي، احبك جدًا )
    غلي الـدم في عروق مها، ثم نهضت وهي تصيح بها بحدة :
    _ انتِ مين يا مجنونة انتِ
    ابتعدت رودينا قليلاً عن احمد، لتنظر لمها شرزًا، ثم قالـت بحنق :
    _ No no, this you, I will be his future wife . ( انا اكون زوجته المستقبلية )

    ***********
    استمر الوضع كما هو عليه، شهد تنتظر بالخـارج، تنتظر خبر بقاءها هي علي قيد الحياة ام موتهـا، نعم ، فموت عمر لن يهز كيانها فقط بل ليس من المستحيل أن تنتحر بعده، لم تتخيل الحياة من دونه يومًا، قلبها ليس بحمله بل معه بالداخل، واعدًا اياه ان لا يتركه اينما ذهب، والجميع من حولها يحاولون مواستها، وهم بالأصل خائفـون وبشدة، واخيرًا خـرج الطبيب بعد ساعتـان تقريبـًا من غرفـة العمليـات، كان طبيب يبدو عليه كبر السـن، ركضوا يقفوا امامه بسرعة وامامهم شهد، ليبعد الطبيب الكمامة عن وجهه وقد بدى عليه الإرهـاق، لتهتف شهد بلهفة :
    _ طمنى يا دكتور
    اغمض عينيـه بقوة، ثم قال مهدئـًا اياه :
    _ انتِ تقربي له اية ؟
    اجابته شهد مسرعـة :
    _ انا مراتـه، هو عامل اية دلوقتي ؟
    تـابع " مسعد " متساءلاً بجـدية :
    _ خير يا داكتور اية الي حُصل
    نظـر الطبيب لشهد بهدوء، ثم قال بغموض :
    _ اهدى يا مدام، وكونى قوية وارضي بقضاء ربنا دايمًا
    نظـرت له بطرف عينيهـا، وهرب الدم من وجهها، وبدأت تتراجع للخلف بخوف رهيب، ثم عادت تسأله بهلـع :
    _ عمر حصله اية يا دكتور ؟؟؟؟
    ****


    الفصل التـاسع والخمسون ( الجزء الأول ) : 

    تنتظـر بكل جوارحهـا هذه الكلمة التي تطيب خاطرها، تنتظر إخبـاره انه بخير تمامًا، هي اساسًا لن تسمع سوى هذه الكلمة، أذنـيها قبل عقلها لن يسمعوا غير ذلك، وقفـت في عرض البحـر منتظرة قدوم قـارب النجـاة، تنهد الطبيب تنهيدة طويلة حـارة قبل أن يـتـابع بجدية : 
    _ احنا شيلنا الرصاصة خلاص، كانت جمب القلب بالظبط وربنا سترها معاه لأنه لما اخد الرصاصة علي ما اعتقد كان بيتحرك وده حظه أنه الي ضربه ماعرفش يجيبها عند القلب بالظبط والا كان هيبقي في كلام تاني
    تنهـدت بأرتيـاح شديـد، وانفرجت اساريرها بسعادة، تشعر كما لو أنه ازاح جبلاً ثقيلاً من علي قلبها، واين قلبها اساسًا، قلبها معه هو، ربما رحم جسدها ولو قليلاً لتهدأ وتستريـح، همسـت بسعادة وإمتنـان :
    _ الحمدلله الحمدلله يارب، الحمدلله
    أبتسـم محسن بسعادة، في حين أكمل الطبيب بأكثر جدية :
    _ بس في حاجة يا مدام
    إبتلعت ريقها بصعوبة ومن ثم سألته بتوجس :
    _ خير يا دكتور في اية ؟
    أجابـها بهدوء حذر قائلاً :
    _ هو دخل في غيبوبـة، وف العناية المركزة والمفروض انها غيبوبة مؤقتـة، ادعى له بقا يفوق منها بسرعة
    تقلصـت حدقتي عينيها بصدمة، ولكن صدمة عن صدمة تختلف، الغيبوبة تعد أفضل بمراحل عن .. الــمـوت !
    عاد يضـع بعضًا من الحمل الثقيل مرة اخرى، ولكنه عطف عليها هذه المرة وكان أخـف قليلاً، انتشل منها سعادتها فجأة، فيما استطرد هو بنفس هدوءه :
    _ بس مفيش خطر علي حياتـه، احمدى ربنا انها جت علي اد كدة
    يتلاعـب علي اوتارها الحساسة ببرود دون أن يشعر، لم تشعر بحياتها يومًا أن مشاعرها متخبطة مثل اليـوم، غمغمت بهدوء حذر :
    _ الحمدلله ع كل حاجة
    اومئ الطبيب ثم استـدار يغادر علي عقبيـه مرددًا بصوت اجش :
    _ شفـاه الله وعفـاه
    همس محسن بأمتنـان وبعضًا من الحزن :
    _ امين، شكرا يا دكتور
    نظـر " مسعد " لشهد بهدوء ثم ربت علي كتفيها وهو يقول مهدئـــًا :
    _ الحمدلله يابنيتي، الضامن ربنا بس دلوجتى احنا اتطمنا انه هيبجي معانا، جضي اخف من جضي
    اومـأت شهد موافقـة بأقتنـاع، ثم استدارت وجلسـت علي الكرسي مرة اخرى بهمدان، ترمى بثقل جسدها وهمومها عليه، أقتـرب منها محسن، يطالع هيئتها المرزية، وملابسها المليئة بالدمـاء، زفر بقوة قبل ان يقول بحـزم :
    _ يلا بجا عشان نروحوا تغيرى هدومك
    هـزت رأسها نافية بسرعة وانتفضت كأن سلك كهرباء عارى لمسها، ثم اردفت مسرعة بنفي تام :
    _ لا ابدًا، مش هاتحرك من هنا غير مع عمر
    اجابهـا بصوت آمــر :
    _ لا ماهينفعشي، روحى غيرى هدومك وهجيبك تاني
    نظرت له بأستعطاف كأنها تتوسلـه ان يتركهـا، ثم هتفـت برجـاء وإصرار :
    _ محسن لو سمحت سيبني، انا كدة مرتاحة جدًا، لكن مش هابقي مطمنة لو مشيت، ارجووك
    أمسـك وجههـا بين كفيـه بهدوء، ثم تـابع بحنان قائلاً :
    _ حبيبتي انا حاسس بيكِ وعارف، بس عاجبك منظـرك دِه والناس تتفرج عليكي وانتِ جاعدة إكدة بالهدوم الي فيها دم
    نظـرت لملابسـها بحـزن، دماؤوه عليها وكأنها وشـم وُضـع عليها للأبد لا تريده أن يزول، هـزت رأسها موافقـة علي مضض، ثم نهضـت متجـهة للخـارج بجوار محسن بخطي هادئـة، بينما أشـار له خاله ان يذهـب وهو سيظل في المستشفي لحين عودتهـم، مع بعض الرجال للحراسة .
    **********
    كـانت رضوى تسعـي لإنهـاء كل شيئ بسرعة وعلي أكمل وجه، تـوضـب المنـزل بسرعة وبجهـد، ولم تشعر بالتعب ولو للحظة، لحظـات تعبها تذهب في ثوانٍ بمجرد أن تشعر انها قاربـت علي الانتهـاء، انها تفعل ذلك من اجلـه هو، انتهت من كل شيئ واشتـرت ما توجب شراؤوه ولم تجلس لثوانٍ، كانت نبيلة تجلس امام التلفـاز ببرود، لا تساعدها في حمل كرسي حتي، تعمـدت جعلها تفعل كل شيئ لتشفي غليلها منها، ولكن تشعر أنها هبطت لأخـر ارض بمجرد ان ترى تلك السعادة التي تشـع من أعيـن رضوى، وفي المساء كانت قد انتهت من كل شيئ، جلست علي الأريكة بجوارها، تتنفس الصعداء، بدى عليها الأرهـاق، جلست بهمدان تريـح جسدهـا، بينما كانت نبيلة تجـلس وقد بدى الحزن علي محياها بعض الشيئ، قطبـت رضوى جبينها بتعجب، لقد تغيـر حالها عن منذ ساعات تمامًا، لابـد أن هناك شيئً ما ومهم جدًا، هو ما استطـاع تغير حالها هكذا، قطعـت نبيلة شرودها بصوت قاتم :
    _ شهد ومحسن وخالك محسن مش جايين
    جحظـت عينيها بصدمة، ثم سألتها ببلاهـة :
    _ لييية !!!
    ضـربت علي فخذيـها بقوة الي حدًا ما وبغلب، وبدأت الشفقة والعطف يتغلغلوا لنبرتهـا القاسيـة ويسيطروا عليها رويدًا رويدًا وهي تجيبهـا :
    _ شهد بنت خالتك يا حبت عيني مابتلحقش تفرح، كل ما تخرج من مشكلة تقع في الاكبر منها
    بـلغ القلق ذروتـه لدى رضوى التي قطبت جبينها بخوف، ثم عادت تسألها بتوجس :
    _ مالها شهد يا طنط ما تقولي ع طول
    زمـت نبيلة شفتيهـا بحزن، ثم اردفت :
    _ جوزها يا حبيبتي اتضرب بالنار وف المستشفي في العناية المركزة
    شهقـت رضوى بصدمة، ووضعت يدها علي فاهها بحركة مباغته، تحاول السيطرة علي شهقاتها التي صدرت بصدمة رغمًا عنها، فهي تحب شهد وبشدة، قضت معها سنين من عمرها قبل ان ينتهوا من تعليمهـن، إن كان اى شخص مكانها كانت ستحزن عليها، ما بالك بصديقة طفولتها !!
    استـدركت نفسها سريعًا، ثم نهضت وهي تقول لنبيلة متساءلة بجدية :
    _ ماقالكيش انهي مستشفي وفين
    رفعـت كتفيهـا بمعنى لا، ثم استطردت بصوت أجـش :
    _ لا بس هما في البلد، يعني المستشفي في الاقصـر
    ثم نظرت لها بطرف عينيها متساءلة بعدم فهم :
    _ لية بتسألي يعني انتِ ؟
    تابعت رضوى مسرعة دون تفكيـر :
    _ هنروح لهم اكيد مش هاسيب شهد لوحدها دلوقتي
    أجـفـلت نبيلة بتعجـب، ثم رفعت حاجبيها بدهشة قائلة :
    _ بجد ، عايزة تروحى لشهد !!
    اومـأت رضوى مؤكدة ببساطة، فيما قالت نبيلة بجديـة يشوبها الحزن :
    _ تمام يبقي يلا، بس كتب الكتاب !؟
    يبدو انها لن تكف عن إدهاشها اليوم، اولاً حزنها علي شهد، فقد كانت تعتقـد انها مثل الجـدار الصلب لا يؤثر به اى شيئ، ولكن اليوم ترى الجـدار يحزن ويُشفق ويتساءل عن ما يهمها هي !!
    أبتسـمت نصف ابتسامة، ثم اراحت ظهرها للخلف وهي تتشـدق بــ :
    _ لما هأقول لعبدالرحمن اكيد مش هيعارض يعني
    اومـأت " نبيلة " بخفـة، ثم تمتمت بخفوت :
    _ ربنا يسعـدك يا رضوى
    لا لا هذه المرة سمعتهـا بالفعل، تدعو لها !!
    أتـدعو لها حقًا من اعماقهـا الحنونـة، ام ان امنيتها فى ذاك الحنان اثـرت علي اذنيهـا، شعرت بقلبها يرفرف عاليـًا بسعادة، فقـالت بأبتسامة حالمة :
    _ ياارب يااارب
    اخلتطـت نظرات رضوى السعيدة مع نظرات نبيلة الشـاردة، استشعرت فيهم نبيلة مدى خطـأها في الحكم علي رضوى، بينما نهضت رضوى ومازالت غير مصدقـة لما يحدث، ثم استطردت بهدوء حذر :
    _ انا هأروح اقول لعبدالرحمن، عقبال ما انتِ تكلمى خالو تقوليلي يحجز لنا
    ثم استـدارت لتغادر لغرفتها علي عقبيهـا، تحاول إجبـار عقلها علي إستيعـاب ما حدث، علي استيعاب ان جلاده مْل من كثرة تعذيبها وقرر العفـوا ..
    ***********
    كـان الجـو مشحـون بالتـوتـر، والخوف سيد الأفـق في المطعم الذى سيصبح حتمًا بعد دقائق ساحة لمعركة نسائيـة داميـة، ولكن رد فعل الحاكم بينهم قد تكون ليست عادلة بعض الشيئ نسبـةً " لمها " ، التي اقسمت في هذه اللحظة انها ان امسكت بها لن تتركها إلا بعدما ترفع راية الأستسلام، كان عينـيها توحـي ببدأ إندلاع ثورة غاضبة تكاد تحرق من امامها، وتشجنت عضلات وجهها وهي تزمجر فيها غاضبـة :
    _ نعمممم يا حبيبتي، زوجته المستقبلية ده اية، روحى لقطي اكل عيشك بعيد
    كان أحمـد يضع رأسـه بين يـديه، لقد تدمر كل ما كان يفكر به، كل ما بنـاه هو في اخر الايام، هدمتـه " رودينـا " بلحظة واحدة، بينما نظرت لها " رودينا " نظرة ذات مغزى، ثم غمغمت بجـزع :
    _ يـاآآى، You are not polite، بيئة اوى
    إتسعـت حدقتـا عينيهـا وإشتعلت بالغضب، نهضت وهي تصيح فيها بحدة :
    _ انا بردو الي مش مؤدبة يا زبالة، ولا انتِ الي جاية تحضني جوزى ادامى
    _ What !!
    فغرت شفتـاها هي الاخرى بصدمة، بينما كان احمد يدب علي رأسـه بغلب، بدأ عداد عمره بالعد الان، وإنفجـرت القنبلة التي اكملت علي تدمير كل شيئ، شعر بخطورة الموقف فنهض الان، ليجـد اعينيهم مصوبـة نحوه كالمدافع القاتلة، فسـارع بالتبرير مهدئــًا من روعهم :
    _ اهـدى بس يا رودى وانا هأفهمك كل حاجة بس روحى دلوقتي
    رمقتـه مها بنظرات حارقـة حادة، ليكمل مسرعًا :
    _ انتِ كمان مش فاهمة حاجة يا مها
    لم يعطى كلاً منهم الفرصـة للرد، واقترب من " رودينـا " يمسك يدهـا ليتجه للخارج بخطوات سريعة وهو يلعن اليوم الذى قرر فيه القدوم لهذا المطعم اللعيـن ..
    بينما كانت مها تكاد تأكل اظافرها من الغيظ، احمر وجهها من كثرة احتقانـه معلنًا عدم قدرته علي تحمل هذا الكم من الغيظ والحقد اكثر من ذلك ..
    وأحمد في الخارج يركب السيارة الخاصة بـ رودينـا وهو يحاول ترتيب الكلام الذى سيقوله لكلاهما الان، دبت " رودينـا " بقدمها علي ارض السيارة بقوة وهي تقول متزمـرة :
    _ كنت سيبتني للبنت اللوكال دى
    نظـر لها بنصـف عين، نظرة جعلتها تبدو حمراء من الأحراج، نظرة بمعني " من كاد يفتك بمن ! " نظرت للأسفل تحاول إستعادة جديتها وحدتها مرة اخرى، إلا انه لم يمهلها الفرصة حيث قال مسرعًا بتبرير :
    _ رودى انتِ عارفة انى كنت متجوز ومخلف صح
    اومـأت هي بغيظ مكبوت، في حين اكمل هو كمحاولة ليستعطفها :
    _ طلبت اننا نتقابـل، واتكلمنا عشان اخد ابني، انا بعدت عن ابنى بما فيه الكفاية يا رودينا، فأتكلمنا وقررنا انى اخد ابنى
    صمت برهه لينظر لها ليستشف رد فعلها، ليجدها منسجمة مع كلامه الكاذب، ليتابع بأسف مصطنـع :
    _ والظاهر كدة انها فهمت اننا هانتجوز، لكن انا مش ممكن اتخلي عنك
    بـدأت عصبيتها وقلقها يذهبوا ادراج الريـاح، استطـاع بمهارة إسكاتهـا، ليمسك بيدهـا بحنان زائـف، ثم قال بأبتسامة :
    _ لسة زعلانة يا رودى ؟
    هـزت رأسهـا نافيـة وقد بادلتـه الابتسامة، فشعر هو بالأنتصار، ها هى قد مرت اول مهمة، وما اصعب التالية .. !
    هبطت برأسـه يطبـع قبلـه هادئة علي يدها واصابعها التي تخللت اصابعه الرجولية السمراء، ثم عاد ينظر لها مثبتًا انظاره في عينيها الزيتونية الخضراء، ثم اردف بصوت اشبـه للهمس :
    _ معلش يا حبيبتي انا مضطر ارجـع لها، عشان متشكش بحاجة وترفض تديني ابني بحجة انى هاتجوز
    مطت شفتيها بأعتراض شديد، ثم اومـأت دون تنظر له علي مضض، لتتسـع ابتسامته تدريجيًا، ثم قـال معتذرًا :
    _ متزعليش يا رودى، هابقي اكلمك، باى
    استـدار ليغـادر بعدما اغلق الباب وإتجه للداخل بسعادة داخلية تغمره، ليجد مها كما تركها بل اصبحت حالتها اسوء، اقترب منها ثم جلس علي الكرسي متنحنحًا بحـرج :
    _ مها بجد انا مش عارف اعتذرلك ازاى، بس حقيقي انا اتفاجئت بيها
    رفعت " مها " حاجبها الأيسـر ثم تابعت قائلة بإستنكـار :
    _ اتفاجئت بيها !! لا والله
    إرتسم علي ثغرها ابتسامة ساخرة، لتكمل بتهكم مريـر :
    _ اتفاجئت بيها طب من حيث اية، من حيث انها موجودة ولا من حيث انها قالت انها مراتك المستقبلية !؟
    إبتلـع غصة مريرة في حلقـه، ثم نظر له وقال مترجيـًا :
    _ مها حبيبتي انتِ عارفة إنى كنت هاخطب، ودى رودينا الي كنت هاخطبها
    لم تـُظهـر اى رد فعل واكتفت بالنظر للجهـة الاخرى، فأكمل هو بنفس النبرة :
    _ مكنتش عايزها تفهم اننا اتجوزنا لانها لو فهمت هاتخلي والدتها تفض الشغل الي مع والداتي لانها بنت صاحبة امى
    لم تكن " مها " مثل " رودينـا " بالمعنى الحرفى لتصدقه بهذه البساطة، كانت ترمقه بنظرات مكذبة وحانقـة، مما جعله يشعر بالإحبـاط من إكمال ما اراده، فأستطرد بيأس مصطنـع :
    _ بردو مش مصدقانى ، للدرجة دى مابتثقيش فيا ابدًا
    لم يجـد منها استجابـة ايضًا، وكأنه يخـدش في جـدار صلب لا يتأثـر، فقرر اخـراج اخر فرصة يمكن استسماحها بها، فقال بجدية :
    _ مها انتِ سيبتيني عشان سبب كل ما بفتكره بأحس إني عندى نقص، بس كان حبي ليكي اكبر واقوى من اى شيئ، ناس كتير استحالة تسامح ان مراته تتطلق منه عشان تروح لحبيبها، بس انا قولت ربنا بيسامح وبيدى فرص، انا مش هسامح لية يعني ده انا عبـد
    بالفعل سهـم حديثـه الخبيث اصاب الوتـر الحساس الذى اراده، نظرت اليه مها بحـزن، ثم زمت شفتيها بضيق طفولي قائلة :
    _ خليني وراك لحد مانغرق سوا يا احمد
    غمـز له بطـرف عينيه، ثم هتف بخبث دفين :
    _ ولسة الي جـاى احلي يا زوجتى العزيزة
    **********
    _ لا لا انا ايقنـت ان انا فقرى، او عمر ده محظوظ جدًا كمان

    هتـف فـارس بهذه الجملة وهو يجلس في الحديقة المجاورة لقصـر " حاتـم " الخضراء ذات الزهور المتفتحه، تحت اضواء القمر الذى انار الأرض جميعها، يجلس علي كرسي خشبي متوسـط وامامه منضدة صغيرة عليها زجاجات من المشروبـات واثار السجائر، وعلي الجهة الاخرى يجلس حاتم والسيجار في يده كعادتـه، ويضع قدم فوق الاخرى بغروره وبروده المعتـاد، في حين فارس يشعر ان الشيطان تتراقص امامه علي خيط انتقامه السميـك، أحتقـن وجهه بغضب واضـح، وحاتم يستمع له بآذان صاغيـة مهتمة، قطـع الصمت الذى دام لثـوانٍ قائلاً ببرود :
    _ معرفش، بس الظاهر فعلاً انك فقرى يا فارس
    اومـأ فارس بغيظ، ثم كور قبضـة يـده حتي ظهرت مفاصله تحت يده السمراء، ليردف وعينيه ظهر فيها شعـاع غامض حاقد :
    _ بس انا وهو والزمن طويل، انا مبزهش
    رفـع حاتم حاجبه الأيسر ثم قال بسخرية :
    _ لا ماهو واضح انك مابتزهقش يا فارس
    ثم صمت لبرهه ينفث الدخان، ليتـابع بجدية :
    _ انا مش قولتلك ان عمر مش حد سهل، سيبوا بقا وفكك منه
    هـز فارس رأسه نافيًا، ثم جز علي اسنانه بغيظ، وراح يفكر بخبث، ثم استطرد بنبرة غليظة :
    _ انا اصلاً مش عارف انت ازاى سايبه كدة، ده مابيشتغلش بقاله شهرين تقريبا
    رفع حاتم كتفـه بلامبالاة، ونظر امامه وهو يتشـدق بغموض :
    _ انا سايبه شوية، بريك يعني
    زفـر فارس بقوة، ثم اراح ظهره للخلف قائلاً بنبرة لاذعة :
    _ لا لا فعلاً مش فاهم، ده تقريبًا تالت واحد ابعته له وبردو يفشل
    اجابه حاتم بصوت قاتم :
    _ مش ضربه ودخل المستشفي ؟
    تأفف فـارس بضيق، كلما تذكر يجتاحه شعور بالغيظ والحنـق، وكأن شخصًا ما يضربه بمطرقة في منتصف رأسه كل دقيقتيـن، قال بنـزق :
    _ بس لسة عايش وهايطلع صاغ سليم، وخاله ده حط حراسة عند البيت وعند المستشفي يعني الوضع زاد سوءً
    قهقه حاتم عاليًا، فبكل مرة يكتشف ان عمر يتفـوق بمراحـل عن فارس، ثم غمغم بغرور :
    _ انا نظرتى ما تخيبش ابدًا
    قطب " فارس " جبينـه متساءلاً :
    _ مش فاهم يعني قصدك اية يا ريس ؟
    لم يستطـع حاتم اجابتـه حيث سمعوا صوت سيارة الشرطة يدوى، وما لبث ان مرت ثوانٍ فقط حتي وجدوا الشرطة من حولهم، والضابط ينظر لهم بتشفي قائلاً :
    _ والله وجه يووومك يا حاتم بيه
    ***********

    الفصل التاسع والخمسون ( الجزء الثانى ) :

    إتسـعت حدقتـا عينيه بصدمة بدت جلية عليه، وسقـط قلبـه ارضـًا من الخوف، هرب الدماء من وجهه ليعطيه مظهر مثير للشفقة، شعر ان الدنيـا تدور من حولـه، سقطـت كل الحصون الباردة الجامدة التي يبنيها دائمـًا في حديثه وتعابير وجهه، إنقلب المنضدة عليه كما يقولون واصبح بدلاً من الحاكم المحكوم عليه، تجسـد امامه كل الفسـاد الذى سببه، وكل من قتلهم، وكأنهم يعودوا لينتقموا علي هيئة ذاك الضابط، بينما كان فـارس قد تبلد جسده مكان، كان كالطفل الذى يصعب عليه إستيعاب قدوم الشرطة والسبب مؤكد ومعروف، هتف الضابط امرًا للعساكر من حوله :
    _ فتشوا القصر، وانتم اقبضوا عليه
    افـاق حاتم من صدمته سريعًا، ليقول بغضب مصطنـع :
    _ انت مجنوون، يقبضوا علي مين انت مش عارف انا ميين !؟
    اومـأ الضابط بلامبالاة، ثم اجابه ببرود :
    _ ايوة طبعًا عارف، حاتم مهران، اكبر تاجر مخدرات وقتال قتلة في تاريخ البلد
    حـاول الحفاظ علي ثباتـه قدر الإمكان، قبل ان يخدعه ثباته وتنهار حصونه، فتابع بجديــة :
    _ عندك دليل علي كلامك ده ؟
    اومـأ مؤكدًا، ثم استطردت بخبث :
    _ يووووه، ده انا عندى دلائل مش دليل واحد بس يا حاتم باشا
    إبتلع " حاتم " ريقه بإزدراء، قبل أن يقول متساءلاً بتوجـس :
    _ دلائل اية دى الي عندك ؟
    زفـر الضابط بضيق مصطنـع، بينما هو في الحقيقة يشعر بالتسلية، وكأنه يلعب احدى الالعاب القتالية الشيقـة، ثم رفع يده يشير له وهو يقول :
    _ بص الظاهر ان حبايبك كتيير، حد بلغنا بمكان البضاعـة ولاقيناها، ده غير إن لحد دلوقتي اترفع ضدك 3 قضايا، بمجرد ما اتعرف اننا رايحين نقبض عليك، ده غير الفيديوهات الي اتقدمت ضدك وانت بتأمر رجالة من رجالتك بقتل ناس
    صمت لبرهه يتفحص ملامحه قبل ان يردف بصوت اشبه لفحيح الأفعي :
    _ يعني كدة يا باشا اضمنلك الاعدام وبجدارة
    كان كلاً من " حاتم " و" فارس" في عالم اخر، لم يدروا أن كل هذا الشر يحيط بهم كالبحر الغدار، ينتظر غفوة منهم حتي يغرقهم دون رحمة !!
    اقتـرب بعض العساكر يحيطـون بهم ثم اخرجوا السلاسل الحديدية يضعونها في يديهم بهدوء، ثم اتجهوا جميعهم للخارج وسط زهـول حراس حاتم، فيما سيطرت حالة من الهلع علي فارس الذى اصبح يصيح فيهم بحدة :
    _ سيبونى انتم واخدنى ع فين، سيبونى انا مليش دعوة
    رمقـه الضابط بنظرات باردة قبل ان يقول :
    _ هو انا مقولتلكش ان احنا عرفنا انك دراعه اليمين، يا .. يا ابو الفراس
    هـز رأسه نافيًا بسرعة، ثم وجه نظره لحاتم الذى بدى الشرود عليه، وزمجر فيه ولأول مرة غاضبـًا :
    _ اية ده انت هتسيبهم يا حاتم هتسيبهم ياخدونا كدة
    لم يـكن حاتم ليصمت هكذا إلا انه يعلم أنه لم يعد لديه اى شخص يستند عليه سوى فارس الذى اصطحبته الشرطة معه، و.. وعمر، هل من امل في مساندة عمر له !؟
    نظـر لفارس بحدة ليصمت، إلا انه اكمل بغيظ :
    _ لا ماهو انا مش هقع لوحدى يا باشا
    جـز حاتم علي اسنانه كاملة بغيظ، لا يريـده أن يضيـع اخر امل في إنقاذهم، ولكن فارس لم يأبـه وهو يتابع :
    _ انا هأقولهم، ماهو انا مش هروح انا كبش فدى يعني
    **********
    وصلـت شهد مع محسن الي المنزل، كانت في حالة يرثي لها، وكأنها تقريبًا لا تشعر بما حولها، تسير كالمصيرة لا مخيرة، تتنفـس فقط لتكمل هذه الحياة التي تعاندها دائمًا، لم تتفوه طول الطريق ببت كلمة، كان وجهها الشاحب وعينيها الحمراء كافية للتعبير عن مدى حزنها وكسرتها، بالرغم من انه علي قيد الحياة إلا انه لم يصبح معها مثل سابق، تنهـدت بيأس وهي تتجه للداخل، ثم اتجهت لغرفتها علي الفور، لم تتحدث مع اى شخص، وبالطبع هم لم يجبروها علي اى شيئ الان، اغلقت باب الغرفة خلفها بهدوء ثم إرتمت علي الفـراش تبكـي بحـدة، تمسك بالوسـادة تدسها بجوار انفهـا لتشتم رائحتـه التي اشتاقـت لها، تشعر ان عينيها جفت من كثرة البكاء، همسـت بإشتياق :
    _ وحشتني اوووى يا عمر، اول مرة تقعد يوم كامل بعيد عني
    اصدرت انينـًا خافتًا بألم، ثم وضعت يدها بجوار بطنها تتحسسها بأبتسامة هادئة :
    _ كنت متأكدة ان ربنا مش هايخيب ظنى، ومش هيخليك يتيم من قبل ما تيجي
    اومـأت بخفة ومن ثم نهضـت واتجهت لخزانتها واخرجت منها تيشرت طويل يصل للركبة وبنطال جينـز، ثم اتجهت للمرحاض لتغتسل من اثار دماء زوجها الحبيب، وتوضأت لتصلي شكر لله بعد قليل انتهت ثم خرجت مسرعة للعودة مرة اخرى، مرتدية ملابسها ثم جففت شعرها، وعقصتـه كذيل حصـان، ثم اخرجت طرحة صغيرة من خزانتها وبدأت تصلي، تدعو الله بخشوع ان يخرج عمر من محنته سالمًا معافيًا، انتهت من صلاتها ثم خرجت من الغرفة واتجهت للأسفل لتجد محسن يجلس بجوار زوجته بهدوء ينتظرها، وصلت امامهم، لتقول زوجة محسن بعطـف :
    _ معلشي يا حبيبتي، الحمدلله انها جات علي كد إكدة، ربنا يجومهولك بالسلامة
    تمتمت بخفـوت مرددة :
    _ امين يارب
    نهض محسن ثم سـار بجوارها دون كلمة، حتي وصلوا امام المنزل من الخارج، وقفت شهد متعجبة من تواجد الحرس امام باب المنزل، فعقدت حاجبيها متساءلة بحيـرة :
    _ لية الحراس دول، انا وداخلة ماخدتش بالي منهم
    زفـر محسن بضيق، ثم اجابها بهدوء حذر :
    _ دول خالك جابهم عشان يحرسوا البيت
    اومـأت ثم قـالت ببلاهة :
    _ منا عارفة بس لية جابهم يعني !؟
    اردف " محسن " بجديـة :
    _ نبجي نتكلم بعدين يا شهد مش وجته دلوك
    هـزت رأسهـا نافيـًة بإصرار، واجفلت بتعجب ثم قالت متساءلة ببعضًا من الصدمة :
    _ دول عشان الناس الي ضربوا عمر
    اومأت محسن دون ان يـرد، في استطـردت هي بحنق :
    _ انتم عارفين مين الي عمل كدة يا محسن صح ؟!
    تقـدم محسن للأمام بخطى سريعة، ثم قـال بنبرة غليظة :
    _ واحنا هانعرف منين يعني، ده احتياط بس يا شهد
    ركضـت خلفـه تغمغم ببعض الكلمات الحانقـة، ثم ركبـوا السيارة سويـًا، ليدير محسن المقود، ونظر لها جادًا :
    _ هوصلك المستشفي واروح احجز لرضوى بت خالتك وخالتك عشان هيجوا بكرة الصبح
    اومـأت شهد بأبتسامة مشتاقة، اخذها حنينهـا لذكرى صديقة طفولتها التي لم تعرف عنها شيئ منذ مدة .
    *********
    كانت رضـوى جالسة علي فراشهـا بهدوء، وعينيها توحى بالحزن علي الفتاة التي اعتبرتها شقيقتها يومًا، تشعـر انها تود احتضانها وبشدة، تنهدت تنهيدة طويلة حارة ثم امسكت بهاتفها الموضوع بجوارها واتصلت بعبدالرحمن، ثم وضعت الهاتف علي اذنهـا منتظرة الرد، وبعد ثوانٍ اتاها صوت عبدالرحمن الفرح قائلاً :
    _ يااه، رضوى بتتصل بيا مرة واحدة
    ضحكـت بخفة، ومن ثم اجابته بهدوء :
    _ اه عادى يعني
    _ لا لا ده احنا نولنا الشرف خلاص
    _ مش للدرجة يعني
    _ هههههه ماشي يا زوجتى العزيزة
    _ لسة
    _ لسة اية ؟
    _ لسة مابقتش زوجتك
    _ كلها بكرة بس وتبقي زوجتي وزوجتى ونص كمان
    _ ماهو انا متصلة بيك عشان كدة
    _ خير يا رضوى في اية
    _ احنا مضطرين نأجل كتب الكتاب
    _ اية ، لية يا رضوى قلقتيني حصل حاجة عندك ولا اية ؟
    _ لا لا بس شهد بنت خالتي وصديقتي الصدوقة، جوزها في المستشفي وتعبان جدًا وكان مضروب بالرصاص، وانا كنت عايزة اروح لها انا وماما
    _ اه اكيد تمام
    _ شكرًا يا عبدالرحمن
    _ شكرًا علي اية بس، وممكن اجى معاكم كمان عشان متبقوش لوحدكم
    _ لا لا مش عايزة اتعبك
    _ تتعبيني اية بس، انتِ دلوقتي ف حكم مراتى، وانا بصراحة صعيدى ومابخليش مراتى تروح حته من غيرى
    _ احم احم ، طب تمام ماشي
    _ ماشي يا حبيبتي، انتم حجزتوا ؟
    _ ايوة خالو قال هيحجز من هناك، وهنمشي النهاردة بليل خالص يعني تقريبًا الساعة 12 او 1 كدة
    _ طيب، هحاول احجز معاكم، او نروح بالعربية بتاعتي
    _ شوف الي يريحك
    _ تمام هأكلمك تاني
    _ ماشي سلام
    _ مع السلامة يا ملكتي

    أغلقـت وهي تتنهـد من اعماقها، تشعر ان قلبها يكاد يتوقف من كثرة دقاته بسرعة، السعادة والراحة تجتاحها بمجرد الحديث، يذهب حزنها ادراج الرياح بمجرد ان تسمع صوته وكأنهم يهابـونه وبشدة ..
    نهضت متجهة للخارج بخطى ثابتـة، لم تجد " نبيلة " في الخارج ورأت الضوء ينير غرفتها فعلمت انها بهـا، اتجهت لها ثم طرقت الباب بهدوء لتأذن لها بالدخول، دلفت لتجد الحقيبة الجلدية السوداء، نظرت له قائلة بتعجب من لهفتها :
    _ اية ده انتِ خلصتي شنطتك !؟
    اومـأت نبيلة بهدوء، ثم جلست علي الفراش بجوارها، لتتابع بأبتسامة :
    _ اصلك متعرفيش انا بحب شهد دى ازاى، دى عندى زى مها واكتر كمان
    شعـرت رضوى بغصة في حلقها، شعرت انها هي المنبوذة وسطهم، هي من كانت تكرهها فقط، ابتسمت بحزن رغمًا عنها، وكأن نبيلة شعرت بها لتقترب منها وتربت علي كتفهـا بحنو وهى تقول :
    _ وانتِ طبعًا خلاص زى بنتى يا حبيبتي
    من المؤكـد ان السعادة تطرق بابها اليوم عن قصد، بعدما قررت اعطاءها بعضًا من هذه السعادة التي لطالما حُرمت منها، عبـرت عينيها عن تلك السعـادة التي تتقافز داخلها، لتقترب منها نبيلة ببطئ وتحتضنها بحنان، حنان لم يسبق لها ان شعرت به لرضوى، حنان احكمته داخلها بقوة واغلقت عليه منذ زمن، ولكن الان لا تعرف ما يقودها .. قد يكون السبب مجهول .
    ***********
    وصلت شهد امام المستشفي، واتجه محسن عائدًا مرة اخرى ليحجز لرضوى و" نبيلة " بينما كانت شهد تسير بخطوات اشبه للركض، تشعر ان حنينها له هو من يقودها، تلهث اثر انفعالاتها، وصلت امام غرفة العناية المركزة، لتجد خالها ونادى كما تركتهم، تقدمت منهم تسأل " مسعد " بلهفة واضحة :
    _ الدكتور ماقالكوش اى حاجة يا خالي ؟
    هـز رأسه نافيًا ثم اجابها بجدية :
    _ لا ماجالشي حاجة تاني
    اومـأت بهدوء ثم اقتـربت من الباب تستند علي الزجـاج بحزن، تطالع الهيئته التي كرهتها فيه، تشعر انها تود اختراق كل هذه الحواجز وتطير كالفراشة لتحلق فوقه وتحتضنه بأريحية، تنهدت قبل ان تعود لمكانها مرة اخرى، وتكاد تشعر ان صبرها نفذ، وجدت الممرضة تدلف، ظلت تنظر للباب، وبعد دقائق وجدتها تخرج وهي تنادى بصوتٍ عالٍ :
    _ دكتور يا دكتور
    اصابهـا الهلع وانقبض قلبها بخوف، نهضت بسرعة واتجهت لها متساءلة بتوجس :
    _ في اية ، عمر حصله حاجة ؟
    هـزت رأسها نافيـة ثم قالت مسرعة :
    _ مش عارفة مش عارفة
    ثم ركضت بسرعة، تاركـة شهد تشعر انها تكاد تختنق من كثرة الخوف، ومن دون تردد دلفت الي الداخل بسرعة، لتجد الجهاز ينذر بسرعة، وعمر حالته غير مستقرة، اجفلت بخوف، وتلقلقت الدموع في اعينهـا البنيـة، لتهمس بألم :
    _ عمر
    دلف الطبيب ثم اشار لها بسرعة قائلاً بصوا امر :
    _ اخرجى يا مدام لو سمحتي
    وجدت نادى يسحبها من يدها بهدوء للخارج، ونظراتها متعلقة بعمر الذى بدى كالجثة الهامدة، خرجت فأغلقت الممرضة الباب، ظلت تفرك اصابعها بتوتر وقلق جامح، وهي تسير ذهابًا وايابًا في الممر، دقائق مروا عليها كالدهر، تشعر ان احدًا ما اصابها هي هذه المرة، عاد القلق يجتاحها مرة اخرى بل اصبح مضاعف ..
    انتهت دقائق الانتظـار وخرج الطبيب من الغرفة، لتركض بأتجاهه ثم سألته بخوف :
    _ في اية يا دكتور عمر ماله
    هز رأسه نافيًا ثم اجابها بهدوء حذر :
    _ متقلقيش دى حالة حصلت له فجاة، لكن هو تقريبًا كدة بيبتدى يستعيد وعيه
    استـردت روحها مرة اخرى، عادت المياة لمجاريها ثانيـًا، ارتوت من ظمأها وخوفها، ومن دون وعى سألته :
    _ طب ممكن اشوف يا دكتور ؟
    اشـار لها بتردد :
    _ ولانى شايفك خايفة جدًا، هدخلك بس خمس دقايق وياريت متعمليش ازعاج
    ثم اشار للمرضة واكمل بجدية :
    _ هي هتديكي اللبس الي مفروض تلبسيه
    اومـأت شهد موافقة بسعادة انارت وجهها الذى شحـب، بدى الفارق بوضوح، سارت مع الممرضة وارتدت كل ما يجب ارتداؤوه، ثم اتجهت لغرفة العناية المركزة وهي تكاد تسير علي اطراف اصابعها، وقفت تتأمله عن قـرب، تشبع عينيها في التطلع لملامحه الرجولية الجذابة، تهدأ كم المشاعر التي اجتاحتها، جلست علي الكرسي بجواره، ثم امسكت بكفه، هبطت دموعها دون ارادة منها، كأنها لن تنتظر الاذن بعد الان، فهي اصبحت بجوار معشوقها، غمغمت بحزن تجلجل في نبرتها المختنقة :
    _ علي فكرة انت عمرك مابعدت عنى كدة من ساعة ما عرفتك، ومش متعودة عليك كدة، قوم بقا انا تعبت والله
    وضعت رأسها علي يده برفق تبكي، تبكي بحدة، تحاول اخراج كل الحزن من داخلها علي هيئة تلك الدموع، فجأة سمعت صوته الذي اشتاقت له يقول بوهن :
    _ انتِ مفكرانى هأسيبك تربي حزمبل لوحدك ولا اية يا شهدى
    **************
    كان كلاً من حاتم وفارس يجلسـون امام مكتب الضابط، الذى كان يجلس علي الكرسي الخاص به علي مكتبه ببرود المعتاد منذ ان رآهـم، وكأنه يأخذ بثأر كل من اذوهم بجرحه لكرامته، وخاصةً انه يعلم ان حاتم يتكبر ويكره ان يتكبر عليه اى شخص، كان حاتم وجه واجم شارد، يصعب التعبير عن ما يشعر به الان دون ان يبوح به، وفارس اقل ما يقال عنه انه قط خائف مم براثن الاسد، بالفعل هو قط خائف من العدالة والمحاكمة التي تكاد توديه الي .. المـوت
    هتف حاتم بصوت هادئ ولكنه غامض :
    _ انا من حقي اتصل بالمحامى بتاعي
    اومـأ الضابط بسخرية، ثم اشار علي الهاتف قائلاً ببرود ثلجي :
    _ ايوة طبعًا، احنا حقانين جدًا
    ثم اقترب منه ونظر له بطرف عينيه هامسًا بخبث :
    _ بس مش لما يكون في حد.برة ينفع يساعدك
    ابتلع حاتم ريقه بإزدراء ثم سأله بتوتر :
    _ قصدك اية يعني
    مط شفتيـه بضيق مصطنع، ثم قال :
    _ قصدى ان تقريبًا كدة الدايرة بتاعتك كلها هتلاقيها في التخشيبة معاك جوة
    هنا صاح فارس بأرتباك بدى علي محياه :
    _ انا ايش دخلنى انا يعني
    نظر له الضابط بحدة، ثم زمجر فيه غاضبًا :
    _ منا قولت لك ان في دليل ضدك انت كمان، اخرسوا بقا عشان هنبدا في التحقيق
    ان كان سيقـع فلن يقع وحده ابدًا ويتركه سعيدًا بعد كل هذا، ان كان رجاله فشلوا في التخلص منه فالشرطة لن تفشل، وبالقانون ..
    قال فارس لنفسه هكذا، قبل ان يقول موجهًا حديثه للضابط :
    _ طب انا عايز اعترف علي واحد شريكنا اسمه عمر مالك ..... !!
    ********** 


    الفصل الستـون والأخير ( الجزء الاول ) : 

    قهقهـه الضابـط عاليًا وبشدة، كأنه قال له مزحة، مما جعل الدم يتصاعد في عروقهم بغيظ، هدأ قليلاً ونظر لفـارس ثم رفع حاجبه الأيسر وقال مصطنعًا الجدية : 
    _ انت متأكد من كلامك ؟ 
    اومـأ فارس بتأكيد، ثم تابع بثقة زائفة : 
    _ ايوة، واكيد لاقيتوا دليل عليه هو كمان 
    هـز الضابط رأسه نافيًا، ثم اردف متهكمًا : 
    _ هو انت متعرفش أن استاذ عمر مالك هو الي مبلـغ اصلاً !؟ 
    جحـظت عينيـه، لم يتخيـل أن الأسد يهدأ في عرينـه ويخطط لتلك المواجهة الحاسمة، فكر في الكثير والكثير، ولكنه لم يتخيل أن عمر سيودى بحاتم للتهلكة، حاول إخراج الكلمات من بين شفتيـه المرتعشة اثر الصدمة قائلاً : 
    _ ا آآ ازاى يـ يعني !! 
    نظر الضابط لحاتم الذى كان يجلس صامت.. شارد.. ساكن، ولكن هدوءه مخيف، اشبه بهدوء ما قبل العاصفة، ثم قال بتوضيح بارد : 
    _ بص يا سيدى رغم ان ده مش المفروض تعرفه لكن بما انك غالي عليا هاعرفك 
    صمت لبرهه يستعـد لقذفهم بما سيصدمهم صدمة العمر، ثم تـابع بجدية : 
    _ عمر مالك يا سيدى الظاهر انه كان بيخطط لده من بدرى جدًا، او يمكن ماكنش بيخطط بس كان بيسجل لكم كل حاجة، تقريبًا كدة عشان لو غدرتوا بيه يبقي مأمن نفسه، في طرف تانى متعاون معاه، لكن مش هاقدر اقولك او اوضح عنه، لكن الظاهر ان حبايب حاتم باشا كتير، ولما الي ضرب عمر مالك بالنار
    وشدد علي جملتـه الأخيـرة بدقـة وهو يرمق فارس الذى بدأ يرتبك بنظرات ذات معني، ثم اكمل : 
    _ الطرف التاني ده راح وسلم كل الدلائل الي ضدكم والي هي عمر مالك ملهوش يد فيها اصلاً، الفيديوهات بتجمعك انت وحاتم وانتم بتسلموا البضاعة، بتأمروا بقتل حد، كدة يعني انتم ادرى بشغلكم، ده غير القضايا الي اترفعت ضدكم وبشهادة الشهود، يعني من الاخر انتم كان مجهزلكم الوقعة دى من بدرى 
    كان فـارس مذهول مما يسمعه، دقـات قلبه توحى بالخطر، منذرة انها ستتوقف حتمًا من الخوف، نعم .. الخوف من الاعدام !! 
    بينما تأفف الضابط وهو يتشدق بـتهكم بـ :
    _ حتى لو كلامك صح وعمر الي هو اصلا شاهد ملك ف القضية شريكم، يبقي هو سلمكم وطلع منها، والقانون لا يحمي المغفلين 
    هنا نطـق حاتم وقد نفذ صبره وقال بحده : 
    _ ازاى، انا بأعترف علي عمر ده انه معانا 
    اجابه الضابط برسميـة : 
    _ والله يا فندم الادلة الي معايا ما بتدينش استاذ عمر مالك ابدًا، بل بالعكس ده شهد عليكم وهو الي قالنا ع مكان تخزين البضاعة، يعني لو كلامك صح انا عايز ادلة وشهود، القانون مش عواطف 
    أطـلق حاتـم زافـرة قوية وعاد يفكر في حل لهذه المعضلة، ولكنه فشل فشل زريع في ايجاد اى حل، وجد كل الابواب مغلقة في وجهه، كل نفوذه وسلطاته وامواله لن تنفعه الان !! 
    قال الضابط بجدية : 
    _ يعني انتم اعترفتوا انكم فعلا كنتم بتتاجروا ف المخدرات وقتل و .. الخ 
    هـز فارس رأسه نافيًا بسرعة ثم قال بهلع : 
    _ لا لا اعترفت اية انا معرفش حاجة 
    تقوس فمه بأبتسامة ساخرة، وهو يقول متساءلاً بتهكم : 
    _ انت مش لسة من دقيقتين قايل انك بتعترف ع عمر شريككم، يعني بتعترف ع نفسك قبله من دون قصد 
    خبـط جبينـه بطرف يده بصدمة، بالفعل خانـه لسانه واعترف علي نفسه، من دون اذنـه صرح بما لا يجب ان يصرح به، ذهب لحبل المشنقة بقدمـه !! 
    تنحنح الضابط بجديـة معتادة موجهًا حديثه للكاتب بجواره : 
    _ اكتب يابني، قررنا نحن وكيل النيابة / اكمل زهير، بحبس كلا من المتهم حاتم مهران، وفارس كمال مهران 15 يوم علي زمة التحقيق مع مراعاة التجديد . 
    **********
    أسـدل الليل ستـائـره، وذهبت الشمـس علي وعد بأن تشرق مجددًا، وحـل القمـر مكانها لينيـر الأجواء بضوءه السـاطـع، الذى يدوى علي جميـع المناطق يعطيها مظهر جذاب، انتهـت رضوى ونبيلة من اعداد كل شيئ، كانوا يجلسـوا في الصالة في انتظـار قدوم عبدالرحمن الذى سيأخذهم الي المحطة ويسافـر معهم، ومما ادهش رضوى اكثر ان نبيلة لم تعارض عندما علمت بقدوم عبدالرحمن معهم كعادتها، لم تصيح بها وتنهرها ككل مرة، بل وافقت بصدر رحب، من يراها يعتقد انها تبدلت كليًا، وكأنها أُهلكت من كثرة الصراخ والغضب، وقررت تغيير تعابير وجهها الحادة ولو لفترة قليلاً، ولكنها حقــًا لم تشعر يومًا انها اخطـأت في الحكم علي رضوى، هى شخصيًا حتى الان لم تعرف ما سر تغيير شعورها المفاجئ تجاه رضوى، لم تتخيل يومًا انها يمكن أن تكـن لها شيئً سوى الكره، ولكن اليوم، مشاعر جديدة بنظرة مختلفة تطرق بابها لتحل محلها في قلبها تجاه تلك المسكينة، تشعر لو انها تعوضهـا بدلاً من مهـا .. وآآه من مها التي اشتاقت لها ولكن كبرياؤوها يمنعها وبشدة من زيارتهـا، زيارتها .. !! 
    اى زيـارة وهي خرجت من تلك القضيـة وذهبت مع زوجها دون الرجوع اليهـا ركضًا، نعم .. نبيلة كانت تعلم كل شيئ عن مها، كانت تسأل المحامى الذى وكلته رضوى لمها عما حدث، شعور الأمومـة وعطفها لم يسمحوا لها ان تبتعد عنها للابد كما ارادت، تغلبت تلك المشاعر الحانيـة علي غضبها وثوارانها لتغلق عليه جدران متينـة صلبـة، ولو مؤقتًا لحين الاطمئنـان علي ابنتهـا الوحيدة، كانت لا تريد ان تصبح الجـلاد والحنونة في آن واحد !! .. 
    قطـع ذلك الصمت الذى دوى صوت سيف الطفولى وهو يقـول بتساؤل رقيق : 
    _ احنا رايحين فين يا خالتو رضوى 
    استـدركت رضوى نفسها سريعًا، ثم مدت يدها تحيط كتفيـه برقة، ثم اجابته بهدوء حذر : 
    _ مسافرين يا حبيبي 
    زم شفتيـه بضيق طفولى، ثم زمجر قائلاً : 
    _ هانروح من غير ماما يعني !؟ 
    صمتت لبرهـه، فهي نفسها لا تعرف اجابة ذاك السؤال، السؤال الذى تسأله لنفسها مرارًا وتكرارًا، الي متى سيذهبوا بدون مها؟! ، تشعـر ان بداخلها جزء مفقود يجب البحث عنه، وان كان ذاك الجزء يحدث لها صخب وازعاج .. وبعض الألم، ولكنه يظل جزء منها، لا تقدر علي التخلي عنه دون ارادة منهـا .. 
    إبتلعت تلك الغصة المريرة في حلقها، ورسمـت ابتسامة صفراء لتخفي ذاك العبوس الذى كاد يظهر بوضوح علي محياها، ثم اردفـت بجدية :
    _ حبيبي ماما مستحيل تسيبك لوحدك، هي بس بتعمل حاجات عشان تيجي تاخد سيف معاها بس 
    كـانت " نبيلة " تتابعهم بأعينهـا، وكأن عينيها تجبرها علي النظر لهم لتؤكد لها ان رضوى لم تكن يومًا سيئة، وانها هي من كانت سيئة معها، من اجل شعور الغيظ بالفطرة من درتهـا !! 
    سمعـوا طرقـات هادئة علي الباب، لتنهض رضوى وتتجه للخارج بخطى هادئة، ثم فتحت الباب بأبتسامة علي اعتقاد منها ان هذا عبدالرحمن، إلا انها اختفت تدريجيًا وهي ترى مها بجوار أحمد، لم تشعر انه حان وقت تلك المواجهة الان !! 
    بـدت مها مشرقـة، ملامحها تشربتها الفرحة، اشبعت شعورها بالأشتيـاق من اول فرد من تلك العائلة، لأول مرة تشعر انها تحب رضوى بصدق، ابتسمت بسعادة، ثم تنحنحت قائلة بحرج : 
    _ رضوى، ازيك وحشانى اوووى 
    كلماتهـا كافيـة لخروج رضوى السريع من صدمتهـا، جعلتهـا تستدرك نفسها علي شعور الاشتياق لاختها الوحيـدة، بدأ الجزء المفقود بداخلها يعود رويدًا رويدًا، لم تمنع مها نفسها من الاقتـراب منها، ثم احتضنتها بقوة، طبقت علي ظهرها تتأكد انها اصبحت مع اختها الوحيدة، ولم تعارض رضوى علي احتضانها، ثم همست بما رد لها روحها المحرجة بجوار اذنيها : 
    _ وانتِ كمان وحشتيني اوى يا اختى، اسفة اوى مكنتش بزورك بس حصلت حاجات كتير منعتنى والله 
    إبتعدت عنها مها بهدوء، كلما تمعنت النظر لها اكتشفت الفـارق الشاسع بينها وبين رضوى، فهي مسبقًا لو كانت مكانها لكانت طردتها سريعًا دون اى رحمة، هزت رأسها نافية بأبتسامة حانيـة : 
    _ ولا يهمك يا حبيبتي، كفاية المحامى الي عينتيه لي 
    ابتعدت رضوى عن الباب قليلاً ثم اشـارت لهم وقالت بهدوء : 
    _ طب اتفضلوا ادخلوا سيف وماما جوة 
    " سيف " .. مجرد ذكر اسمـه واعطاؤوهم الاذن جعلها تكاد تركض كالأطفال لتلحق بأحدى الهدايا التي جلبها لها والدها، ولكنه حقًا هدية اهداها لها الله يتبعها احمد، وجدوا سيف يجلس علي الاريكة بجوار نبيلة، من دون سابق انذار تقدمت بسرعة واحتضنته بلهفة، بادلها هو العناق بفرح طفولى، يشاهدهم احمد بحماس، واخيرًا التم شمل عائلتـه، فيما كانت نبيلة تتصنع الصدمة، كانت متوقعة زيارتها تلك، ولكن غضبها يمنعها عن ركضها هي واحتضان مها، اخذت مها تحتضن كل جزء فيه بشوق، وتلقلقت الدموع في عينيها، دموع بسبب غباءها اللانهائى علي بعدها بإرادتها سابقًا عن ذاك الطفل الملائكى، هنا تنحنحت نبيلة وهي تصيح بغضب : 
    _ اية دة، انتم داخلين فين، وازاى تدخلي كدة من غير احم ولا دستور 
    ابتعدت مها عن سيف بهدوء، ثم اطرقت رأسها ارضًا بخزى، فيما قال احمد بجدية : 
    _ معلش، حضرتك عارفة اد اية مها كانت مشتاقة لسيف 
    إرتسمت ابتسامة ساخرة علي ثغـر نبيلة، ثم رفعت حاجبيها قائلة بأستنكار : 
    _ والله .. طب الحمدلله 
    لم تتعجـب مها ولم تندهـش، اكتفت بالصمت، ولكن نظرات احمد الموجهه نحوها ذكرتها بما يجب عليها فعله، رفعت ناظريها لتواجه نظرات نبيلة الحادة، فقالت مسرعة بأسف : 
    _ ماما انا عارفة انك مستحيل تسامحيني بعد كل الي عملته، لكن انا عشمانة في حنانك وقلب الام 
    قالت نبيلة بصوت قاتم من دون تفكير : 
    _ عشمانة ع اية ولا اية ولا اية ، علي ثقتي فيكي الي ضيعتيها، ولا ثقة احمد فيكي وفي تربيتنا وكونى مش قادرة ارفع عيني فيه، ولا بعدك عن ابنك، ولا خيانتك، ولا محاولة قتلك لحبيب القلب 
    اغمضت مها عينيها بألم، تشعر بحجم الفجوى التي اصبحت بينها وبينهم بسبب كل ما حدث، وهي تعلم جيدًا انها غاضبة وبشدة، ولكن ما كانت لا تعرفه ان تتقبلها رضوى بشوق ووالدتها لا !! 
    حاول احمد تخفيف حدة الموقف، فقال بهدوء ورقة :
    _ احم، ممكن اقول حاجة، مها كان شيطانها مأثر عليها، واتغيرت وعرفت غلطها وتقصيرها في حق كل واحد في حياتها، واتكلمنا انا وهى كتير، وانا الجزء الي بيحبها جوايا قدر يتغلب علي الجزء الغضبان منها، وانا متأكد انك هاتعملي كدة 
    هزت رأسها نافية بسخرية واضحة، ومن ثم تابعت بصوت اجش : 
    _ انت الزمن قدر يداوى جرحك وغضبك، لكن انا امها، خانت تربيتي وتعبي عليها مش مجرد ثقة، انا المفروض اكون اقرب واحدة لها مش ابعد واحدة 
    غمغمت مها بصوت اشـبه للبكاء : 
    _ انا بجد اسفة اوووى اووى، سامحيني ارجوكِ يا امى 
    مطت شفتيها بعدم رضا، ثم قالت بتهكم :
    _ كويس انك افتكرتى ان ليكي ام 
    تنهـدت مها بقوة، قبل ان تقول بصوت يكاد مسموع : 
    _ ماما، انا واحمد رجعنا لبعض 
    هـزت رأسها بسخرية، ثم استطردت بجزع : 
    _ بقيت اتوقع منك اى حاجة، بس كويس انه قدر يسامحك هو ع الاقل
    في هذه اللحظة سمعوا صوت طرقات علي الباب، فسارت رضوى مسرعة لتفتح، بالطبع وجدت عبدالرحمن فقابلته بوجه واجم، دلف عبدالرحمن لينصدم، ولم يستطع منع نظراته المذهولة من الظهور، تنحنح قائلاً بحرج لنبيلة : 
    _ خلصتم يا حماتى ولا لسة ؟ 
    شعـر ان سؤاله احمق بالفعل، ليس هو الوقت او الظرف المناسب، كان يشعر بالتوتر المحمل في الجو، ففضل الصمت، إلا ان نبيلة اجابته بجدية : 
    _ ايوة يا عبدالرحمن يلا 
    قالت مها متساءلة بلهفـة : 
    _ ماما انتم رايحين فين وواخدين سيف !
    لم ترد نبيلة، فأجابتها رضوى بدلاً منها بهدوء حذر : 
    _ احنا مسافرين للأقصـر عشان شهد 
    سألتها مرة اخرى بتوجس : 
    _ مالها شهد يا رضوى ؟ 
    قصت رضوى عليها كل ما عرفـوه، فصُدمت مها للغاية، ولم تعرف ما الذى جعلها تطلب من القدوم معهم دون تردد، تعجبت رضوى الي حدًا ما، ولكن مع اصرار مها علي ان يلحقوا بهم هى وسيف واحمد بسيارة احمد، جعل نبيلة ترد عليها ببرود ظاهرى : 
    _ براحتك مليش فيه اعملي الي عاوزاه 
    ركضت مها تبدأ بأعداد حقيبتها واحمد قرر الذهاب بالملابس التي يرتديها ويشترى بعضًا من هناك ان اطالوا الاقامـة، فأنتهوا جميعهم وأتجهـوا معًا الي الاقصـر .. 
    ***********
    شهقـت شهد من الصدمـة، وابتعدت عنه بسرعة تنظر له لتتحقق ان كانت تتخيل او ان ما سمعته حقيقي، استعاد وعيـه، استعاد وعيـن بالفعل، ترى غابتها الغامضة الان بين جفونـه الثقيلـة، ترى ابتسامته التي رسمت الخطوط حول ثغـره المتعب، يدوى صوتـه كالعـزف الرومانسي، علي اوتـار قلبها المشتاقة بهدوء، اختفت الدموع سريعًا، وتقوس فاهها بأبتسامة مصدومة، شعرت وكأن قلبها يدق بصوت عالٍ مسموع محـرج، تابع عمر بصوت ضعيـف لأول مرة يطرب علي اذنيها : 
    _ مالك يا شهدى منهارة كدة لية 
    زمت شفتيهـا بضيق طفولي اعطاها مظهر جذاب، ثم قالت بصوت متحشرج : 
    _ والله يعني مش عارف، اسكت بقا 
    نهضـت بسرعة ثم اتجهت للخارج، ونظرت حولها قبل ان تنادى بجدية : 
    _ دكتوور يا دكتور 
    كان الطبيب بالقرب منهم فتقدم منها سريعًا، وسألها بتوجس : 
    _ خير حصلت حاجة جوة ولا ؟ 
    هـزت رأسها نافيـة، ثم اجابته بأبتسامة زينت وجهها الواجم مسبقًا : 
    _ لا بس فاق وبيتكلم معايا 
    اومـئ الطبيب ثم دلف الي الداخل بسرعة، واشار لها ان تنتظـر، فأنتظرت للخارج، وتغيرت ملامحها للغاية، وكأن شفاء عمر له مفعول سحرى عليها، اقتربت منها نادى ومحسن ومسعد بأبتسامة، فربت مسعد علي كتفها قائلاً بجدية فرحة : 
    _ الحمدلله يابنيتي، ربنا ما يجعلنا ندخل المستشفيات دى تانى الا ف الخير 
    رددوا خلفه بهدوء : 
    _ امين يااارب 
    كانت سعادتها لا توصف، من كثرة سعادتها تشعر انها علي حافة الموت، نعم .. فهي تشعر بقلبها ودقاته لم يعد قادر علي التحمل اكثر من ذلك، تشعر بكل ذرة في كيانها تهلل وترقص فرحًا الان بأستعدادة محبوبـها، فلم يكن ما مر بالهيـن .. 
    بعد دقائق خرج الطبيب بهدوء، فأتجهت له شهد ومن دون ان تسأله قال بجدية : 
    _ الحمدلله، رغبته في الحياة خلته ماقعدش في الغيبوبـة غير ساعات، وربنا سترها معاه وان شاء الله هيبقي كويس ف اقرب وقت لانها اصبحت مجرد اصابة، لا تمس القلب بأى سوء، وهننقله لأوضة عادية بعد شوية وتقدروا تشوفوه 
    تنهـدت بأرتياح شديد يجتاحها، فتمتمت بأمتنـان : 
    _ شكرًا جدًا يا دكتور 
    اومـأ الطبيب بأبتسامة هادئة ثم استدار وغادر علي عقبيـه ..
    وبعد نصف ساعة تقريبًا تم نقل عمر لاحدى الغرف العاديـة، وبالطبع كانت شهد ونادى ومحسن ومسعد بجواره، ما ان دلفوا للغرفة، حتي قال مسعد بصوته الاجش لعمر : 
    _ الحمدلله علي سلامتك يا ولدى، كدة تجلجنا عليك 
    ابتسم عمر بخفـة، ثم اجابه بخفوت : 
    _ الله يسلمك يا خال، كنت بأشوف معزتى عندكم بس 
    قال كلماتـه الاخيرة وهو ينظر لشهد التي كانت تقف في اخر الغرفة تتأمله بشرود، وكأنها حتى الان غير مصدقة انه اصبح معها، فيما ردد كلاً من محسن ونادى الامنيات بالشفاء لعمر والحديث العادى علي محور الحياة، حتي اردف محسن بجدية لـ مسعد : 
    _ طب يلا يا خال روحوا انتم ارتاحوا كفاية عليك إكدة عشان ماتتعبشي بجا يا خال 
    هـز رأسـه نافيًا وهو يتشدق بـ : 
    _ لآآه، ماهمشيشي من هنا من غير بتى وجوز بتي 
    هـز عمر رأسـه ثم اكمل بهدوء : 
    _ لا حضرتك اكيد بقالك كتير وتعبان، روحوا ارتاحوا يلا 
    فقالت شهد متدخلة لتؤيدهم : 
    _ ايوة يا خالو، الاجهاد غلط علي صحتك
    اومـأ مسعد بأستسلام، ثم هتف بتساؤل جاد : 
    _ مين هايجعد طيب ؟ 
    اجابه محسن مسرعًا بهدوء : 
    _ انى هاجعد مع شهد، والرجالة برة متجلجشي 
    اومـأ موافقًا بهدوء ثم إتجـه للخارج مع نادى، عائديـن للمنزل بخطى مرهقة .. 
    فيما تنحنح محسن لشعوره برغبتهم في الانفـراد ببعضهم بهدوء : 
    _ انا هأروح اجيب اكل اكيد هتاكلوا 
    اومأ عمر بهدوء، فأتجـه محسن للخارج، وشهد كما هى لا تتحرك، فقط تتأمله تشبع رغبتها في التمعن لقسمات وجهه، فنظر لعينيها، ذاك البحر الذى يذيبـه، وهمس بصوت شبه جـاد : 
    _ شهدى، تعالي قربي، عايزك جمبي 
    لم تقدر علي تحديد شعورها في هذه اللحظة، شعرت بكم مشاعر متخبطة تجتاحها، الاشتياق لكلماته، والفرح، والحزن علي ذاك اليوم الذى كان من اسوء ايام حياتها، والخوف .. الخوف من تكرار ما حدث .. 
    اقتربت منه بخطى مرتبكة، جلست علي الكرسي المجاور للفراش، ولم تنظر له، فمد يده بصعوبة، تحامل علي شعوره بالألم بسبب الاصابـة، ومد يده يرفع ذقنها لتنظر له، فشعوره بالأشتياق لها اقوى الان، غمغم بخفوت وهو يهز رأسه نافيًا : 
    _ لا، تعالي اقعدى هنا 
    ثم اشار بنظره علي الفراش بجواره، واكمل بهمس مشتاق : 
    _ في حضـني 
    توردت وجنتاها بخجل، ونهضت بخفة تجلس علي الفـراش بجواره، ليلف يده حول خصرها يحيطه بأبتسامة تملكية سعيدة، فيما كانت شهد مازالت شاردة بعض الشيئ، فشدد علي ضمها بخفة وهو يقول مداعبًا : 
    _ مالك يا حبيبتي، سرحانة ف مين 
    اجابتـه مسرعة دون وعي : 
    _ فيك، حاسه انى باحلم وانك لسة في الغيبوبة مش معايا 
    وجه نظره لشفتيها المنتكزة الكرزيـة برغبة واشتيـاق ونظرات متيمة بعشقها، نظرات اربكتهـا وجعلتها حمراء كحبه الطماطم، فقال عمر بخبث : 
    _ ممكن اثبتلك انك مش بتحلمى بس بطريقة تانيـة 
    لم يعطيهـا فرصة لتعترض او تسأله او تندهش حتى، وابتلع كلماتها بين شفتيه، يبث لها شوقـه لها ورغبته المميتة فيها، يؤكد لها بطريقته الخاصة انه معها !! وكانت مستسلمة هي، فهي تشتاق له الضعف .. 
    ابتعد عندما شعر بالألم يزداد بمكان الاصابة، وبحاجتهم للهـواء، نظر لها وقال وهو يلهث : 
    _ لسة مش مصدقة بردو 
    لم تستطـع الرد واكتفت بالصمت والنظر للأرضية الرخامية بخجل، مما جعله يبتسم بتسلية ويمتع عينيه بالنظر لها وحدها.. ! 
    **********
    كـان فارس وحاتم يجلسوا في السجن، وسط اناس لم يعرفوهم بحياتهم كثيرًا او يقتربوا منهم لهذا الحد، يقيموا معهم في مكان واحد، غريبة بعض الشيئ ان يجتمع افراد عائلة مهران المعرفة ببعض الاناس اقل ما يقال عنهم انهم بقايا افراد المجتمع، تظهر بعض الندبات علي وجههم، روائحهم كريهه مقززة، ملابسة تكاد تكون ممزقة، الارضية نفسها لا تشجعك علي الجلوس عليها اطلاقًا، كان فارس يفرك يديه بتوتر وهيستريا، ثم صاح فـ حاتم بتساؤل مرتعد : 
    _ هانعمل اييية ها هانعمل اية 
    اطلق حاتم زافرة قوية قبل ان يجيبه بحيرة : 
    _ مش عارف، عمرى ماحطيت ف حساباتي كل الي حصل، حتي المحامى اتقبض عليه ف قضية اختلاس 
    جز فارس علي اسنانه بغيظ، وعاد يقول بنبرة غليظة : 
    _ يعني اية يعني هنقضي باقي عمرنا في السجن ولا اية 
    هـز حاتم رأسه نافيًا، ثم اردف بشرود : 
    _ اكيد لا هاتصرف بس سيبني افكر 
    اومـأ فارس ثم غمغم بسخرية : 
    _ فكر يا عمي فكر فكر يلا 
    تقـوس فم حاتم بشبح ابتسامة شيطانية وهو يقول بصوت اشبه لفحيح الافعي : 
    _ تقريبًا كدة عرفت بس ياريت ينفع 
    نظر له فارس بلهفة، ثم قال متساءلاً بترقـب : 
    _ اية اية قول بسرعة ؟! 
    ********* 
    الفصل الستون والأخير ( الجزء الثانى ) :

    كان بريـق الامل امامـه في لحظـات، ظهر من بين شفتي حاتم من دون ان يشعر، كـان حاتـم يفكـر بخبث، يضع الخيوط اينما اراد وينصبها وقتما يشاء دون ان يحذر مما يمكن ان يحدث عكس ما يريد، هتـف بنبرة اشبه لفحيح الافعـي : 
    _ عمر هو الي هيساعدنا نخرج
    عقـد "فارس" حاجبيه ثم سأله بعدم فهم :
    _ ازاى يعني عمر !!
    اجابـه ببرود وهو يرفـع كتفيـه :
    _ يعني عمر، بس ياريت يطلع زى منا متوقع ميعملش غير كدة
    تأفف "فارس" ثم قال بنفاذ صبر :
    _ ماتعرفني هتعمل اية علي طول من غير لف ودوران يا عمى
    نظـر له "حاتم" ثم تابع بصوته الأجـش :
    _ عمر من ساعة ماعرفتوا مابينكرش فضل حد عليه، وانا كان ليا فضل عليه كبير كمان، يعني لو اقنعته انى ندمان وتوبت، وطلبت منه، مش هيرفض، وخصوصًا ان انا ليا تأثير كدة عليه
    ضحـك "فارس" بسخرية مريرة، سخرية علي الأمل الذى انطفئ لتـوه، الان فقط فهم فارس ان عمر كان يعمل معهم لهدف يعلمه هو وحده، وانهم كانوا مجرد وسيلة مؤقتـه، بينما عقد حاتم حاجبيـه متساءلاً بضيق :
    _ اية الي بيضحك كدة !!
    تنهـد "فارس" بقوة، تنهيـدة تحمل كل معانـي الأسي، تنهيدة لو اخرجها امام احدى الزهور الصغيرة لسقطت من شدتهـا، ثم رمقـه بنظرات متهكمة وتابع بصوت قاتم :
    _ الي بيضحك انك لحد الوقتى مفهمتش عمر كان بيعمل كدة لية، عمر كان عايز ينتقم مننا عشان عرف ان احنا الي قتلنا هند، وكان بيدبر من بدرى ولما جتله الفرصة نفذ، ده كمان لسة معرفش ان هند كانت ميتة من بدرى واننا كذبنا عليه، امال لما يعرف بقاا
    رفـع "حاتم كتفيـه" بلامبالاة، ثم قال ببرود :
    _ عارف، خلاص خلينا ف السجن لحد ما نموت
    جـز "فارس" علي أسنـانه بغيظ، ثم هز رأسه نافيًا بأعتراض شديد، واكمل بــ :
    _ لا مش هاقعد هنا لحد ما اموت
    نظر له "حاتم بتساؤل"، ليستطرد هو بزافـرة قويـة اخرج بها كل المشاعر المختلطة المشحونة بداخلـه :
    _ انا هأعترف بكل حاجة، يمكن ساعتها القاضي يراعى ويخفف الحكم
    إتسعت حدقتـا بصدمة جليـة، من يراه يعتقـد انهم سحبـوا منه الأكسجين عنوة، نعم.. فأخـر شخص كان معـه في نفس الدائـرة، الان ينسحب بكل هدوء، ليتركـه وحده يختنق رويدًا رويدًا ..
    نظر له بحدة قبل ان يمسكـه من ذراعـه بقوة، ويقول بتحذيـر :
    _ علي الله اعرف انك اعترفت يا فارس، هايكون اخر يوم ف عمرك
    ضحك "فارس" بسخرية، ثم ابعد يده ونظر له شرزًا، ثم قال متهكمًا :
    _ متقدرش، ماتنساش ان محدش هيساعدك ولا هيبص ف خلقتك، الاول كانوا تحت طوعك عشان فلوسك، انما دلوقتى فلوسك بح، يعني هما كمان بح
    شعـر حاتـم بحواسـه جميعـها تشجعـه علي قتـله، توقف عقله عن التفكيـر وهرب هدوء عينـاه السوداء، ليحل محله شرارات غاضبة ساخنة تتطاير منهـا، همس بجوار اذنـه بصوت مسمـوع :
    _ وانا مش محتاج حد، ايدى موجودة يا ابو فراس .
    **********
    في نادى شهيـر .. كـانت رودينـا تجلس علي مقعد امام احدى المنضـدات الخشبيـة الصغيرة، تحت ضوء الشمـس الساخنـة، ترتدى نظاراتها الشمسية السوداء لتخفي عينيها الخضراء اسفلها، وملابس تثيـر غرائـز من يراهـا، تهـز قدمها بعصبيـة جلية علي ملامحهـا، وامامهـا تجـلس والدتهـا التي كانت تجلس ببرود، ممدة ظهرها للخلف بأريحيـة، تنفث السجائر بلامبالاة، وترتدى بنطال جينـز ضيق وتيشيرت اخضر نصف كم، من يراها يظنها في عمر ابنتهـا، ولما لا فهى "مشيرة زهران" سيدة الاعمال الشهيـرة، تهتم برشاقتهـا وانوثتها اكثر من اى شيئ، ثم عملها.. واخيرًا ابنتها، تأففت "رودينـا" ثم قالت بملل :
    _ يا مامى انا مش متخيلة انى ممكن اكون زوجة تانية، او حتى his mother لطفل عنده لسة 7 سنين
    نظرت لها "مشيرة" بهدوء تام، قبل ان تقول بخفـوت :
    _ easy يا رودى .. انتِ مش بتقولي عايزة احمد، وعشان هيعيشك العيشة الي انتِ عايزاها، خلاص يبقي هتستحملى عشانه
    زمـت شفتيهـا بعدم رضـا، لم تكن هذه الفتاة التي يمكن ان تصبـح كالجدار لمنزل صلب لا يتأثـر بأى شيئ، بل هي راغبـة فـي اشيـاء مهمة في حياتهـا هى ليس إلا، ومن الممكن ان يكون اخر سبب هو اعجابها بأحمد، هو ما يجعلها تنطـلق كالسهم من القوس لتتبع كلام والدتها لتجعله كالخاتم في اصابعها كما يقولون ..
    ابعـدت مشيرة السيجـار عن فاهها ببرود، ثم نظرت "لرودينـا" وتابعت بصوت رقيق :
    _ يا حبيبتي احمد مش الـ man الي يتخلي عن ابنه بسهولة، وبعدين فيها اية ماهو قالك ماتجوزهاش
    نظـرت لها "رودينـا" بضيق، ثم قالت بتأفف :
    _ maybe mam maybe
    قالت " مشيرة " وهي تشير بإصبعها بجدية هذه المرة :
    _ انتِ عايزة احمد ولا لا ؟
    اومـأت رودينـا بكل تأكيد، لتستطرد " مشيرة" بصوت آمر انتبهت له جميع حواس " رودينـا " :
    _ يبقي تسمعي كلامي وبس، promise you في خلال ايام احمد هيكون ليكِ انتِ وبس حتى لو اتجوز الف واحدة
    ***********
    وصلـوا جميعـهم الي المستشفي التي يقطـن بها عمر، بمشاعـر متضاربة مختلطة، وافكار مشحونة مختلفة، كلاً منهم يشعر ويفكر بشيئ مختلف، رضوى ومها ونبيلة يجتاحهم شعور بالرهبة والقلق علي ابنة خالتهم الوحيـدة، اما عن عبدالرحمن فهو يفعل ذاك من بـاب الرجولة فقط، بما انه لا يعلم من هي شهد من الاساس، اما عن احمد، فكان معهم مثل المجبـور، ولما مثل فهو بالفعل مجبور، فجأة وجد نفسـه بين دائـرة من العائلة تخشي علي فرد اخر، تقـدم عبدالرحمن ورضوى للأستقبـال يسألوا عن غرفـة عمر، واتجهـوا لغرفته علي الفـور، وجدوا محسن في طريقه للداخل، هتفت رضوى بصوت هادئ :
    _ محسن
    التفت لهم بذهـول، لم يتوقع قدومهم جميعًا، من يوم مولده وعلاقتهم مشتتـة، الان يأتـوا جميعهم ويصلوا الروابط، يضعوا النقـاط علي الحروب الان !!
    اقتربـوا منهم، لم تمهلهم نبيلة الفرصة حيث سألته متلهفة :
    _ شهد عاملة اية وجوزها اية اخباره الوقتي يا محسن ؟
    تنهـد محسن تنهيدة طويلة حارة، يحاول استعادة رباط جأشـه، ثم اجابها بهدوء حذر :
    _ الحمدلله يا خالة، خرج من العناية المركزة والدكتور جال انه بقي كويس وهو موجود علشان الجرح بس، وشهد معاه جوة
    تنهـد الجميـع بأرتيـاح، بينما اشـار لهم محسن علي الكراسـي الحديدة الموضوعة امام الغرفة، ثم هتف بصوت اجش :
    _ اتفضلوا اجعدوا ارتاحوا من السفر
    لاحـظت رضوى نظراتـه المريبة حول عبدالرحمن واحمد، فسارعت بالقول مبررة بهـدوء حذر :
    _ ده عبدالرحمن خطيبي يا محسن، وده احمد جوز مها متهيألي عارفه
    اومـئ محسن موافقـًا ولم يتفوه بشيئً اخر، في حين تابعت رضوى بشوق :
    _ انا عايزة اشوف شهد يا محسن لو سمحت
    اتـجه للداخـل وهو يقول بخفـوت :
    _ هأدخل اشوفهم
    استـدار واتجـه للداخـل، طرق الباب بهدوء ثم دلف ليجـد عمر يجلس علي الفراش كما هو، وشهد تجلس علي طرف الفراش والصينينة المحملة بالطعام بينهم، شهد تطعمه كالطفل الصغير، نظراتـه محملة بجميع معانى العشق، اما هى فالأبتسامة لم تختفي من علي ثغرها ولو للحظـة، وكأنها بدلتهـا بالدمـوع وللأبـد، تقابلـه بنظرات حانيـة .. حامـدة، قطع لحظاتهـم الفريـدة بنحنحة رجولية هادئة :
    _ ولاد خالتك جم من مصر يا شهد وعايزين يشوفوكى
    تهللت أساريرهـا، ولمعت عينيها البنيـة ببريق خافت فرح، كلماتـه انـارت وجهها الابيض، كالضوء الخافت الذى وُضع وسط الظلمـات فجأة، انفجرت شفتيها بأبتسامة سعيدة ونطقت دون وعيـًا منها :
    _ بجد يا محسن ولا بتهـرج !؟
    ضحـك محسن بخفـة، ثم اومئ مؤكدًا :
    _ ايوة والله كُلهم جُم برة، وعمتك نبيلة
    ثم ضرب جبينـه بطرف يديه برفق وعاد يقول بمـرح :
    _ يـووه، لحد الوجيتي مابعرفشي اجول خالتك دى
    ابتسمت شهد ثم نظرت لعمر لتجـده ينظر لها بأبتسامة مشرقة، يرى شمسـه تظهر رويدً رويدًا من بين الظلام، علي كل آمـد يكتشف ركنًا ينير ببطئ بداخلها، قالت له بهدوء وابتسامة :
    _ هأروح اشوفهم يا عمر
    اومئ بتأكيد قبل ان يقول بنبرة حانيـة :
    _ اكيد يا حبيبتي روحى، وابقي دخليهم عايز اشوفهم
    اومـأت ثم سـارت للخارج بخطى اشبه للركض، ليصيح عمر مشاكسًا :
    _ براحة علي حزمبل يا ام حزمبل
    ضحكت شهد ومحسن علي ذاك اللقب، ليتجهوا للخـارج، قابلتهم شهد مقابلة حارة، وخاصة رضوى التي ركضت لاحتضانها علي الفور، تشعر بالنصف الناقص بداخلها يكتمل الان، رددوا التحية المحملة بالأشـواق والترحاب لأحمد وعبدالرحمن، دعتهم شهد للداخل بهدوء، فأتبعوهـا ببطئ، ليدلفوا علي عمر، وبالفعل لم تخلـو الجلسة من التمنيـات بالشفـاء، حتي قـالت لهم شهد بسعادة مشيرة لعمر :
    _ ده بقي اهو ياستي عمر، جوزى .. وابو ابنى الي جاى
    قالت الاخيـرة وهي تتحسس بطنهـا بأبتسامة حالمـة، لتحدقها رضوى بصدمة، قبل ان تهتف فاغرةً شفتيهـا :
    _ انتِ حامل يا شهد
    اومـأت شهد بتأكيـد، لتستطرد رضوى بمرح :
    _ جه اليوم يا طفلة الي هتبقي فيه ام
    ضحكت شهد بهدوء ثم نهضـت متجهه لسيف الذى كان يجلس بسكون بجوار والده ووالدته، ثم داعبت وجنتيه وقالت بحب :
    _ حبيبي انت سيف صح
    اومـأ سيف ثم قال بفخر طفولى :
    _ ايوة انا ثـيف، انتِ خالتو شهد ؟
    ضحكت شهد علي لفظه بأبتسامة، لتسارع مها قولها بأبتسامة :
    _ لسانه مش عايز يتعدل ف الـ س ، وبيتضايق جدًا لما حد يضحك ع الاسم
    وضعت شهد يدها علي فاهها بصدمة مصطنعـة، لتنظر له بطرف عينيها معتذرة :
    _ معلش يا ثيف مكنتش اعرف انك بتتضايق بقاا
    انتهـت الجلسـة القصيرة واستأذنوا ليغادروا بالطبع لمنزل مسعـد، وسار معهم محسـن ليوصلهم بنفسـه، علي وعد بأن يجلسوا جميعهم بمجرد شفاء عمر، وعودة شهد ومحسن وعمر معهم لحضور زفاف رضوى ..
    جلست شهد بجوار عمر، ليحتضنها بين ذراعيه برفـق متجاهلاً الالم الطفيف الذى شعر به، فقربها منه هو من يسكن جراحه، كانت تنظر امامها بشرود، تفكر بكل ما هي فيه، تعيش مع من تحب، وتحمل منه طفلاً قادم، ووسط اهلهـا، ماذا تريد اكثر !؟
    لا لا ليست هي هذه الحيـاة التي شعرت لأيام انها لا تريدني بها، ولكن حقًا الصبر له لذة خاصـة ..
    اقتـرب منها عمر يسرق قبلة طويلة عميقـة علي شفتيها المنتكزتيـن، لتفيق من شرودها وهي تشهق بصدمة وقد صبغت وجنتاها بحمرة الخجل، لتهمس بخفوت :
    _ عمر، خضتني
    ابتسم بنظرات عاشقة علي خجلها الذى يجعله يروى عطش ناظريـه من حمرته، وراح يقول مداعبًا :
    _ سلامتك من الخضة يا قلب عمر
    ابتسـمت بهدوء، وحاولت التملص من بين ذراعيـه بخفـة ولكن مثبت يده حول خصرها بقوة رغم ضعفه الجسدى، ليتـآوه ويقول بألم مصطنع :
    _ آآه وجعتيني يا ام حزمبل ينفع كدة
    رمقـته شهد بنظرات متلهفة خائفة، ولكن سرعان ما اردفـت بغيظ :
    _ بطل تقول حزمبل، ده ابنى هسميه حسام مش حزمبل
    ضحـك عمر علي غيظهـا، ثم عاد يقترب منها هاتفًا بخبث :
    _ طب اية رأيك عايز اسلم علي حزمبل
    ابتعدت عنه شهد قليلاً لتتنحنح بحرج :
    _ عمر، محسن ممكن يجـي
    هز رأسـه نافيًا، وراح يقترب اكثر وهو ينظر لها برغبـة، ثم استطرد بأبتسامة شيطانيـة :
    _ تؤتؤ محسن لسة هيوصلهم ويقعد معاهم شوية ويجي، ومابيدخلش غير ما بيخبـط وبعدين انتِ مراتى
    وقـفت الكلمات في حلقهـا وتحدتها الحروف، ليبتعد هو عنها ثم قال بجدية مصطنعة :
    _ ولا اقولك، قومى اقفلي الباب ده بالقفل
    هـزت رأسها نافيـة بأعتراض شديد، ثم قالت بإصرار :
    _ مينفعش، الجرح لسة جديد
    سحبهـا بيده بقوة لتسقط عليه، شهقت بصدمة، وشعر هو بالألم، ولكن تحامل علي نفسـه وشدد قبضته علي خصرها، اردفت هي بقلق :
    _ عمر سيبني اقوم مينفعش كدة
    لم يرد عليها، وانما اوصلها رده بقبلة عميقـة حانية راغبـة، يلتهم شفتيـها بشوق يكاد يفتك كلاً منهما، بعد قليل ابتعد لشعوره بحاجته للهواء، ثم قال وهو يلهث:
    _ عايزة تقومـي بردو
    كادت تجيبـه الا انه ابتلع حروفها بين شفتيـه يروى عطشـه منها .. رغبته .. عشقه، تسللت يده لأزرار قميصهـا البني، لتوقفه وهي تحاول الابتعاد بنبرة مصطنعة الجدية :
    _ لا ، عمر مينفعش احنا ف مستشفي، مينفعش بجد، سيبني اقوم بقا حد هيجي
    ابتعد عنها برفق، يحاول تهدأة نفسـه وانفاسه اللاهثـة، يروض كم المشاعر المضطربة التي اجتاحته، نظر لها وهو يغمـز لها بطرف عينيه قائلاً بتوعد :
    _ مسيرى هخرج من هنا، وساعتها هردلك كل الي بتعمليه فيا ده ..... !
    **********
    وفي سجن النسـاء، كانـت " مريهـان " تجلس علي احدى الفرش علي الارضيـة الخشنة البـاردة، تضم ركبتيهـا الي صدرها، جفونها تغطي عينيها السوداء الحمراء، اصبح وجهها الانوثي الصارخ شاحب منذ دخولها السجن يثير الشفقة، جسدها اصبح نحيل، قليلاً ما تأكل او تشرب شيئ، تقريبًا لا تشعر بمن حولها، بعد اعتراف " ابراهيم " صديق حسن ان حسن كان يقصد مريهان وليس مها، واكتشاف الطب الشرعى لبصماتها علي جثمان حسن، وان موتـه كان قبل طعنـه بالسكيـن، تم جلب مريهان للتحقيق معها، وهي لم تكن خائقة من الاساس، فقد حققت انتقامها منه ولن تهتم بأى شيئ بعد الان، كل ما كان يهمها هو الانتقام لأخيها الذى اعطـاه حسن جرعة زائدة من الهيروين فمـات في نفس اللحظات، ليمنعه من سجنـه بإيصالات الامانة التي تدينـه، ولم تكن مريهان بالشخص الهين لتصمت عن موت اخيها الوحيد بهذه الطريقة، حققت انتقامها واعترفت علي نفسها بكل شيئ، ليتم الحكم عليها بتحويل اوراقها لفضيلة المفتـي، تقبلته بصدر رحب، تسطحت علي الفرشة بهدوء، لتنظر امامها بشرود، ثم همست بصوت ظنته في خواطرها :
    _ جياالك قريب ياخويا
    صمت برهه ثم ابتسمت بأشتياق مكملة :
    _ وحشتنى اوى اوى
    اغلقـت جفونهـا بإرهـاق، تحلم بعائلتها التي تركتها وحيدة في هذه الدنيـا، تركتها لتنتقم وتفسد فقط ..... !!
    *****

    الفصل الستـون والأخير ( الجزء الثالث ) ... الخاتمة : 

    منذ وصولهـم رحب بهم مسعد ترحيب حـار، وكانت ابتسامتـه الحانية ترتسم علي ثغره، لتظهر مدى سعادتـه بأجتماع شمل عائلتـه الغائبـة عنه منذ مدة طويلة، يرى احفـاده وينتظـر الاخر من دون علمه، شعور بالراحة التي لم يعهدها منذ زمن يجتاحها الان، يشعر بهم كالفراشات السعيدة تحلق من حوله، امر علي الفور بتحضير غرفة لكلاً من عبدالرحمن والاخرى لرضو
    ى والاخرى لمها واحمد وطفلهم، وغرفة لنبيلة، شقيقتـه التي طال اشتياقـه لها، جلسـوا جميعهم بعد فتـرة في الاسفل ينتاقشوا في شتي امور الحياة، يسألهم مسعد بلهفة عن احوالهم، تقريبًا عن كل ما يخصهم، وبالطبـع لم يجلبوا له سيرة عن سجـن مها، فلا يريدوا ان يعكروا صفـو جلستهم الهادئــة، هتف مسعد بأبتسامة :
    _ نفسي اروح احب علي يد جوز بتي ده
    نظـر الجميـع له بتعجب وتساؤل، ليكمل بنبـرة تحمل السعادة في طياتها :
    _ لانه هو السبب في اننا نتجمع دلوجتي
    ابتسـم الجميـع بسعادة، ومنهم مجاملة كأحمد الذى تنحنح قائلاً بتعب مصطنع :
    _ انا اسف بس عايز ارتاح حاسس انى تعبان اوووى
    اومأ مسعد بهدوء لينهض متجهًا للأعلي، فنهضت مها تقول بأبتسامة تخفي بها حرجهـا :
    _ معلش يا خالي اصل احمد تعبان اليومين دول والسفر جه فجأة
    هز مسعد رأسـه نافيـًا ثم تابع بأبتسامة هادئة :
    _ ولا يهمك يابنيتي، روحى شوفى جوزك
    انطلقت مها خلف احمد تعض علي شفتيها بغيظ، ترغب في احراقه بالنار التي تشتعل بداخلها الان، دلفوا الي الغرفة ليشير لها احمد بيده قائلاً بجدية :
    _ مها انا فعلاً تعبان ومش قادر اتناقش
    فوجـئت من حدة زكاؤوه، يستطيع بمهارة معرفة ما يدور برأسها بسهولة وكأنها شفافة امامه، زمت شفتيها بأعتراض ومن ثم غمغمت بضيق :
    _ ماشي يا احمد ماااشي
    ألقـي بجسده علي الفـراش، ثم غرز اصابعه السمراء بين خصلات شعره الاسود، يتنهد بقوة، تنهيدة حاول اخراج كل ما بداخله فيها ولكن فشل فشلاً زريـع، مازال في حيرة من امره، هل يتزوج تلك التي تدعي رودينـا ويحصل علي سخط وغضب زوجته مها .. والادهى انها يمكن ان تطلب الطلاق، يضحـي بسعادة طفله الوحيدة ويلقي بكل شيئ في المياة المعكرة، ام تسخط وتغضب عليه والدتـه، آآه من كل شيئ، يشعر لو انه انتقام، ولكنه سيفعل ما يجب فعله مهما كانت العواقب..
    دثرت مها نفسها بالغطاء بجواره، تتأفف كل ثانية بضيق كأنها تنذره انها بجواره، ولكنه يعطيها ظهره، لاحـت علي شفتيه شبح ابتسامة خبيثة وهو يستدير ليعطيها وجهه، ثم قال متساءلاً بخبث :
    _ انتِ زعلانة يا قلبي ؟
    اومـأت مها ثم تمتمت بضيق طفولى :
    _ جدًا جدًا جدًا يا احمد
    قربهـا منه يحيط خصرها بيديه القوية كالسلاسل تقيدها، شهقت مها بصدمة بينما اكمل هو بهمس خبيث :
    _ وانا هأصالحك بطريقتي يا حبيبتي
    هم بتقبيلها وهى مغمضة العينين مستسلمة بين يـديه، ولكن فجأة تراجع وابتعد عنـها، هب واقفًا اما الفراش، فجأة شعر بإهانة في رجولته تجتاحه لتخنقـه، تذكر سبب تركها له، تخيل انها كانت تستلم لذاك الرجل كما تستسلم الان بين يديـه، يداعبها مثله .. يحتضنها .. يقبلها .. اقسم انه رُحم والا كان قتله بنفسـه، لم يتخيل ان الماضي خاصها سيرافقه دائمًا، اعتقد انه سينسي بسهولة، ولكن الماضي مثل السراب لا نهاية له ولا يستطع الانسان التخلي عنه، كانت الدموع عرفت طريقها لعينين مها المتألمتين، برغم توبتها الا انها ستشفع لها عند الله، ولكن هذا بشر !!
    تنحنح احمد بصوته الاجش وقال :
    _ اعذريني يا مها، مش قادر انسي، بفتكر كل حاجة عرفتها، محتاج وقت انسي
    اومـأت مها ولم تنظر له، كانت دموعها تسقط بكثرة، تشعر بالضعف والكسرة، بالتقزز من جسدها وهي تتذكر كل لمسة لحسن ذاك الملعـون، خرج احمد من الغرفة بأختناق تاركًا اياها تجنى ثمار ما حصدته .
    **********
    بـدأت الشمس تختفـي رويدًا رويدًا، ليحل محلها القمر بضوءه الذى يبعث الطمأنينة في روح كلاً منهم، تجلس رضوى في الحديقـة الخضراء علي احدى المقاعد الصغيرة، تنظر للأعلي بشرود، وابتسامتها الهادئـة تجذب الانظار دون ارادة منهم لها، تفكر بالغـد، تنتظـر ذلك اليوم علي احر من الجمـر، طالعـت القمر بسرحان كأنها تحدثـه،فجـأة سمعت نحنحته الرجولية التي اثـارت القشعريرة المرتجفة في جسدهـا، لتنظر له قائلة بنزق :
    _ قول احم ولا دستور خضتني يا اخي
    اقترب منها عبدالرحمن يجلس علي بعد مسافة، يطالعها بأبتسامة عاشق ولهان، ثم قال زهو يرفع احدى حاجبيه :
    _ لا والله، وانتِ كنتِ عايزانى اسيبك تنفردى بالقمر لوحدك يا خاينة
    ضحكت رضوى علي مزحه، ثم ردت بخوف مصطنع :
    _ لا لا اوعى تفهمني صح يا عبدالرحمن انا مقدرش اعمل فيك كدة
    هز رأسه نافيًا بأسف مصطنع ثم قال :
    _ خلاص يا رضوى كل شيئ قسمة ونصيب
    قهقت رضوى علي مزاحـه، بينما شرد هو في ضحكتها الساحـرة، اقترب منها ببطئ من دون وعي منه، حتي اصبح لا يفصلهم سوى بعض السنتيمترات، همس وهو يقتـرب منها :
    _ رضوى .. انا .. بحبك
    إبتلعت ريقها بإزدراء، وشعرت بسخونة في وجنتاها تكاد تنفجـر من شدتهـا، بللت شفتيها بطرف لسانها، مما اثار رغبته بها اكثـر، نظر علي شفتيـها بشوق، لاحظت هي نظراتـه فنهضت مسرعة وقالت بأرتبـاك :
    _ آآ عـ عبدالرحمن
    كان كالمغيب عن الوعـي، عينيها الساحرة وابتسامتها هم من يقودانه للجنون، تحكمت به مشاعره المشوقة لرضوى، وازاح كل الحدود بينهما، ود لو يحضنتها في هذه اللحظة ويتأكد من انه تخطى كل الحصون التي بنتهـا هي، مد يـده يمسك بيدها، حاولت إفلات يدها ولكن فشلت، ظل يقترب منها ببطئ، دفعتـه هي عنها بكل قوتها ليترنج للخلف، وظلت تنظر للأرض بخجل واضح، فيما استفاق عبدالرحمن وكأنه استعاد وعيه الان، اغمض عينيه يستعيد نفسه سريعًا ثم قال مسرعًا بتبرير واعتذار :
    _ رضوى انا اسف بجد مش عارف مالي
    سارت رضوى متجهة للداخل بسرعة، شعرت لو انها ظلت امامه اكثر لأعترفت هي بحبها له وليحدث ما يحدث، بينما هو شعر بالضيق الشديد، مسح علي شعره بغيظ ثم غمغم بغيظ لنفسه :
    _ يعني مش قادر تستنى كام يوم، اية الغباء ده
    **********
    انتقـال سريــع .. مرت الايـام سريعة علي البعض وبطيئة جدًا علي البعض الاخر، كان كلاً منهم يسير في الطريق الذى اختـاره وحدده منذ فتـرة، بدأ عمر في التعافي بالكامـل، وخرج من المستشفي، وقضوا جميعهم ايام ممتعـة في منزل " مسعد " ايام لن تمحـوا من ذاكرتهم ابدًا، وبالطبع لا تخلو من بعض المشادات، حاول احمد التأقلـم علي الوضع مع مها، وبالفعل بدأ في التعامل معها بطبيعتـه ومع عائلتها ايضًا، يشعر بالسعادة لاجتماعه بطفله، ولكن ما يعكر صفوه احيانًا هو ان رودينـا مازالت اسمها بجوار اسمه، خطيبتـه !!
    لم ينهي تلك الخطبة، ارضاءً لوالدته الحبيبة، وبالطبع لن يخبر مها بأى شيئ الا في الوقت المناسب، ربما ليس احمد من يعاقبها ولكن ربما الله، أليس كل مخطئ له عقـاب، وان كانت تابت ولكنها لا تعلم ما يخبأه لها القدر، اما عن شهد وعمر فكانوا يعيشون اجمل ايـام حياتهم بطفلهم القادم، " حزمبل " كم تثير تلك الكلمة جنون شهد، اما رضوى وعبدالرحمن بالطبع يعيشون بسعادة، وما اجملها سعادة وزفافهم اليـوم !!
    نعم اليوم زفاف كلاً منهم، ستحبس عصافيـر الحب داخل قفصهم الذى اختاروه، وبالطبع لن يخرجوا منه حتي الممات، سافروا جميعهم الي القاهرة لاتمام زفاف رضوى، وتم تغيير الاتفاق لان يصبح كتب الكتاب والزفاف في يومًا واحد، وعانى عبدالرحمن بالطبع لاقناع والدته ولكن والده سهل عليه الكثير، كانت رضوى في البيوتي سنتـر، بحجابهـا الابيض وفستـان زفافها الاسلامى الرائع، يسر الناظرين، بأكمام طويلة، مزين عند منطقة الصدر، وهادئ من الاسفل، تزيد جماله طرحتها التي تنير وجهها الابيض الملائكـي، تقف جوارها مها وشهد، كلاً منهم يجتاحهم شعور بالسعادة لسعادة اختهمـا، انتهت رضوى ونهضت تطالع نفسها في المرآة، لم تصدق عينيها، اهى حقًا ستزف لحبيبها الوحيد الان ؟!
    سؤال اجابته شهد دون قصد قائلة بأبتسامة :
    _ يلا يا حبيبتي خالو مستني ادام الكوافير عشان عبدالرحمن جه ومستني
    ابتسمت بسعادة، ثم تقدمت لخالها الذى ردد بأبتسامة بمجرد رؤيتها :
    _ بسم الله ماشاء الله، تبارك الخلاق، زى الجمـر يا حبيبتي
    تمتمت رضوى بخجل :
    _ ربنا يخليك ليا يا خالو
    تأبطـت ذراعـه وساروا متجهين للخارجين بخطى هادئة يتبعهم الجميع بالزغاريد، لمعت عينـا عبدالرحمن ببريق غير مفهوم للبعض، تنهـد تنهيدة طويلة حارة وهو يتمعن النظر لحبيبتـه بفستانها الابيض، تعالت الزغاريـد وانطلقوا جميعًا حيث القاعة التي سيقام بها الزفـاف، بعد قليل وصلوا جميعهم ثم جلسوا لكتب الكتاب، فيما كانت نظرات كلاً من رضوى وعبدالرحمن متعلقة ببعضهم، كأنها رسالات عشق صامتـة، افاقوا علي صوت المأذون وهو يقول بهدوء :
    _ بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في الخيييييير
    هنا تراقص قلب عبدالرحمن بسعادة بالغة، من فرط سعادته شعر انه ربما يتخيل، نهض بسرعة ثم وقف امامها يطالع هيئتها الخجولة تلك، ثم احتضنها بحنان، اصدر انينـا خافتًا يعبر عما يجيش في صدره، واخيرًا استطاع ان يأخذها بين احضانه يخفي وجهها بيت ضلوعه، يثبت لنفسه انه لم يتخيل وانها بالفعل اصبحت زوجته، اصبحت ملكية خاصة به !!
    دهش الجميع واولهم رضوى، وسرعان ما شددت من احتضانه، فهى كانت تنتظر ذاك الحضن بفارغ الصبر، تنتظر الاحتواء والحنان، تعالي التصفيق الحار، وبدأ الفرح والرقص الهادئ العفوى، كانت نبيلة تشاهد الجميـع بعيون ممتلئة بالدمـوع، لا ترغب في شيئ اكثر من ذلك، اولادها امامها ومعها ويعيشون بسعادة .. ماذا اكثر ؟!
    كانت شهد تقف في احدى اركان القاعة متأبطة ذراع عمر، تشاهد رضوى وعبدالرحمن بأبتسامة، ولكن عمر يشاهدها هي، يطالعها بشدة ممزوجـة بالسعادة، تلمع عينـاه بسعادة غريبة، وهو يرى فستانهـا الذهبي الواسع الطويل الذى يغطيها حتى امحص قدميها، وحجابها المتوسط الذى بعطيها مظهر جذاب اكثر، نعم فالان شهده تقف امامه تغطى كل جزء من جسدها، وتغطى شعرها الذهبي الذى لن يراه غيره بعد الان بكامل ارادتها، استدرك نفسه علي صوته الهامس :
    _ مالك سرحت ف اية ؟
    اجابها بخفـوت وهيام ولو يبعد نظراته عنها :
    _ فيكي طبعًا يا حبيبي
    ابتسمت بهدوء، ليسألها هو بحيرة :
    _ الا قوليلي هو مين الي اقنعك بالحجاب
    اجابته مبتسمة بفرح :
    _ رضوى اتكلمت معايا كتير، وانا اقتنعت وكنت مستغربة ازاى بأعمل كل حاجة حلال ومش محجبة، بس الحمدلله
    احتضنها بحنان وهو يردد خلفها بخفوت :
    _ الحمدلله .. يا ام حزمبل
    ضربتـه شهد بقبضتها الصغيرة برفق، في حين نظر هو علي مريم ونادى الذى كان يقفون ويصفقون بسعادة، نعم .. فقد وافق عمر علي ارتباطهم وتأكد من عدم تآمر مريم او نادى، وانما هما بالفعل يعشقون بعضهم، عشق جمع الشرق والغرب، انتهى الزفـاف، وانتهت معه فترة انتظار عبدالرحمن، ليستقلوا سيارتهم وينطلقوا الي منزلهم وكل شخص الي منزله، وصلوا امام المنزل، وترجلوا من السيارة، اقترب عبدالرحمن من رضوى ثم حملها فجأة فشهقت هي بصدمة ومن ثم صاحت فيه مفتعلة الجدية :
    _ عبدالرحمن مينفعش كدة نزلنى
    ضيق عبدالرحمن عينيه وقال بضيق مصطنع :
    _ يووه، هو انتِ قبل الجواز مينفعش وبعد الجواز مينفعش، امال اية الي ينفع معاكِ
    ضحكت بخفة علي كلامه، فهمس هو بجوار اذنيها بتحذير مصطنع :
    _ ليلتك مش فايتة النهاردة، اياكِ اشوفك بتضحكي في الشارع
    انزلها امام غرفتهم، ليدلفوا سويًا، وتبدأ رضوى تفرك اصابعها بتوتر، اتجه عبدالرحمن للمرحاض ليغستل ويبدل ملابسه، وبدأت هي الاخرى بتبديل ملابسها لقميص نوم احمر قصير يصل الي الركبـة، مفتوح من الاعلي، يبرز معالم جسدها بوضوح، خجلت من الظهور امامه هكذا، ارتدت الاسدال الخاص بالصلاة بسرعة، خرج هو فدلفت هي لتتوضئ، انتهت ثم خرجت وبدأ عبدالرحمن يصلي بها ركعتان شكر للمولى، انتهوا فنهض عبدالرحمن وحملها بسرعة متجهًا لغرفتهم، ووضعها علي الفـراش ثم اشار لها علي الاسدال، فتنحنحت بخجل ثم خلعته ببطئ، رأت لمعت عينـاه الراغبة والمشتاقة، اقترب منها ليقبلها بشوق، ليبث لها مدى عشقه لها، يخبرها بكل ما اراد اخباره بها ولكن بطريقته الخاصة، تناثرت قبلاته علي رقبتهـا ويدها و ..
    اخذها في عالمهم الخاص، عالم لا يوجد به سواهم وعشقهم فقط .. !
    ************
    تم الحكم علي كلاً من فارس وحاتم بالسجن المؤبد، وقاطع حاتـم فارس بسبب عدم استطاعته لقتله دون ارادة وعاش باقي عمره مذولاً فقط ..
    كما تزوج احمد برودينـا وبعد فترة اخبر مها وبالطبع لا تخلو الحياة من المناواشات *********
    بعد مرور تسعـة شهور ..
    في احدى المستشفيـات الخاصة بالقاهرة، تحديدًا في غرفة متوسطة تتسطح شهد علي الفراش الوتير، يبدو عليه الارهاق، الطرحة الصغيرة موضوعة بأهمال لتخفي شعرها الذهبي ولكن ليس كله، وجهها شاحب بعض الشيئ، فتحت جفنيها بتثاقل، لتجد امامها جميع افراد عائلتها، خالهم واولاد خالها وزوجة خالها، ومها ورضوى وسيف واحمد وعبدالرحمن، وعمر .. ومولدها الجديد .. حسام، كان عمر يحمل طفله بين يديه المرتعشتين، ينظر لها بعشق دفيـن، هتفت بوهن :
    _ عمر هاته، نفسي احضنه اوى
    اقترب منها ببطـئ ثم اعطاه لها، احتضنته بشغف واصبحت تقبل كل جزء فيه، لم تصدق انه بين يديها الان، طفلهم الذى كانت تنتظر بفارغ الصبر، جلس عمر بجوارها ثم احاطها بذراعيه قائلاً بحنان :
    _ واخيرًا، حسام عمر مالك، حته منى ومنك، ده الي هيجمعنا للأبد
    اومأت شهد بخفوت، تلقلقت دموع الفرحة في عينيها البنيـة، هنا قال محسن بمرح ليخفف من الجو المشحون بالعواطف :
    _ تعبتونا ياخيتي بصراحة من كتر السفر
    ضحكت شهد بخفـة، ليكمل عبدالرحمن مصطنعًا الجدية وهو يشير لبطن رضوى المنتفخة :
    _ وانا مراتى حامل ومينفعش الحركة والمجهود الكتير ده
    قال عمر بضحك :
    _ معلش كله يهون عشان حسام باشا
    ابتسمت مها ثم اقتربت منهم قائلة بصوت هادئ :
    _ الف مبروك يا شهد مبروك يا عمر
    ردد كلاً منهم بسعادة :
    _ الله يبارك فيكِ
    نظرت للمرضة التي تمر وقالت برجاء :
    _ لو سمحتى ممكن تاخدى الكاميرا دى وتصورينا كلنا
    اومأت الممرضة ثم اخذت منها الكاميرا، واشارت لهم مها ان يقفوا جميعًا، فأعترضت شهد بتعجب :
    _ لا مستحيل اتصور وانا كدة
    والتقطت لهم الممرضة صورة جماعية سعيدة، تعبر عن نهاية سعيدة، بمشاعر يملؤوها السعادة، لا وجود بينهم للحقد او الكره .. فقط العشق، وحان وقت الاستسلام الان ، فقد فات وقت .. مواجهة الاسد .
    **********

    تمت بحمدالله 














    إرسال تعليق

    أحدث أقدم

    نموذج الاتصال